المنطقة العربية في قلب الصراع الدولي
الأحد, 06-أكتوبر-2013
الميثاق إنفو -



في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي مع نهاية الثمانينات من القرن المنصرم، أعلن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الأب عن مولد النظام العالمي الجديد، وفيه كانت واشنطن تنفرد بالمقدرات العالمية، وبدا كأن موسكو قد غابت عن الخريطة العالمية مرة وإلى الأبد، أما الصين القطب القادم وبقوة فلم تكن بارزة على سطح الأحداث الدولية وقتها، وربما كانت مشغولة في الإعداد والتجهيز لما هو آت .


هذا الوضع لم يطل به المقام أكثر من عقدين وبدا كأن العالم في مرحلة غير مسبوقة من حيث تعدد الأقطاب، فقد استيقظ الدب الروسي من سباته وأطلق البعض عليه لفظة “التحول إلى الثعلب الروسي”، الذي يجيد القفز فوق الحواجز، بعد أن نفض عنه جسم الدب الثقيل الذي كان يعوق حركته ولا شك .


أما التنين الصيني فقد بدا واضحاً أنه استغل جيداً فترة الفوضي التي انتابت موسكو من جهة، ونشوة الفوز التي أخذت أمريكا من جهة أخرى، وبات يمد أطرافه المختلفة حول العالم القديم والجديد، ليضحى الصراع العالمي في حقيقته يدور بين ثلاث قوى، موسكو وبكين وواشنطن . . ما هي ملامح هذا الصراع الثلاثي بداية وما هي تقاطعات وتشابكات هذا الصراع الدولي الجديد مع واقع حال ومال المنطقة العربية؟ وهل ستسعى هذه القوى الثلاث من جديد لتقسيم النفوذ العالمي فيما بينها ليفاجأ العرب بين عشية وضحاها بتحول الحديث عن سايكس بيكو الثانية من باب التوقعات إلى حيز الأفعال؟


علينا أن نفكك هذا الصراع الثلاثي بداية، ولتكن البداية بين واشنطن وموسكو ولتعظيم فائدة التحليل فإننا سنختار منطقة الشرق الأوسط على نحو خاص كمجال عملي للبحث في آفاق الصراع والانعكاسات على أحوال الدول العربية .


ونذكّر بارتباط عدد كبير من دول المنطقة العربية بفلك الاتحاد السوفييتي حتى حرب أكتوبر ،1973 ولاحقاً تغير المشهد ليضحى النفوذ الأمريكي هو الأوسع انتشاراً وسيطرة بل وهيمنة من دون مغالاة، غير أن المشهد بدأ ومنذ ثورات ما عرف بالربيع العربي ينمو مرة أخرى لجهة الشرق الآسيوي عموماً، وناحية روسيا بوتين بوجه خاص، لاسيما بعد أن اكتشف العرب أن واشنطن صديق يجيد التخلي عن حلفائه المقربين في الحكم .


وعليه فإن دائرة الصراع الآنية بين موسكو وواشنطن تتضح بأقوى صورة في الشرق الأوسط والعالم العربي بامتياز . . كيف ذلك؟


في أحد أعدادها الأخيرة أشارت مجلة “الفورين بوليسي” الأمريكية ذائعة الصيت إلى أن “الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استطاع تحويل موسكو إلى قوة داخل الشرق الأوسط، فمن خلال مزيج من المكر والدين والتعثر سحب نظيره الأمريكي بعيداً جداً” . . لماذا تنحو المجلة الأمريكية هذا النحو؟


حكماً أن أزمة الصراع الدائر في المنطقة من حول سوريا هو السبب المباشر، وقد جاء الاقتراح الروسي بتخلي سوريا عن أسلحتها الكيماوية ليدعم الجهود البناءة التي تبذلها موسكو وبهدوء من القاهرة إلى بيروت وصولاً إلى دمشق .


والمؤكد أن الصراع القطبي الأمريكي - الروسي بشكل خاص لم يكن ليتجلى في سوريا فقط، بل سبق وظهر في شاشة أحداث مصر، فقد رفعت وللمرة الأولى منذ عقود طوال صورة للزعيم الروسي فلاديمير بوتين في ميدان التحرير بجانب صور الزعيم جمال عبد الناصر، والفريق أول عبد الفتاح السيسي، والدافع الأول كان بعث رسالة للولايات المتحدة الأمريكية على نحو خاص مفادها أن القاهرة لن تعدم أصدقاء دوليين حال أراد الأمريكيون الضغط عليها، أو إجبارها على الرجوع عن خطتها الجديدة “خريطة الطريق”، التي وضعتها بعد ثورة 30 يونيو الأخيرة .


هل استفاد بوتين من أخطاء أوباما وإدارته في الشرق الأوسط؟


ذلك كذلك بالفعل وعلى غير المصدق أن يستمع إلى النقد الذي وجهه بوتين إلى الخطاب الذي ألقاه أوباما نهار العاشر من سبتمبر/ أيلول الماضي، أي في ذكرى مرور اثنتي عشرة سنة على أحداث الحادي عشر من سبتمبر . لقد كان حديث أوباما كفيلاً بأن يجعل مكانة أمريكا تتراجع في الشرق الأوسط والعالم العربي والآسيوي وعموم العالم، في ذلك الخطاب سعى أوباما إلى تبرير خرق واشنطن للقانون الدولي استناداً إلى فكرة “الاستثنائية الأمريكية”، فقد زعم أوباما أن سياسة حكومة الولايات المتحدة هي “التي تجعل من أمريكا أمة مختلفة، فهي التي تجعلنا استثنائيين” .


والمقطوع به أن الصراع بين موسكو وواشنطن كان لا بد له من أن يحتدم بعد ثورات الربيع العربي على نحو خاص، وهي ثورات أدخلت العالم العربي بين مطرقة واشنطن وسندان موسكو، إن جاز التعبير، وربما باتت المنطقة مسرح عمليات لحرب باردة أخرى، ويخشى معها أن تتحول إلى ساخنة حال انفلات الأعصاب في لحظة غير عقلانية . . ماذا يعني ذلك؟


من دون تطويل ممل لم تكن روسيا مرحبة بالفورات والثورات العربية الأخيرة، وقد اعتبرت أن السبيل لإحداث تغييرات لمصلحة شعوب المنطقة يبدأ بإجراء إصلاحات سياسية واجتماعية تتيح المجال لانتقال السلطة بشكل سلمي عبر الحوار والانتخابات . . هل ما يهم موسكو هو الدور الطهراني على صعيد الساحة السياسية العالمية أم أن هناك ما هو أبعد من ذلك؟


بالقطع وراء الأكمة ما وراءها، فهي تدرك أن واشنطن إنما كانت تشعل تلك المنطقة عبر استخدامها لورقة التيارات الأصولية الدينية وتصعيدها إلى مقاعد السلطة، من أجل غرض أبعد يتمثل في دور مرسوم لها ومحدد في استراتيجية واشنطن للقرن الحادي والعشرين أي :”الاستدارة نحو آسيا، فقد كانت روسيا ولا تزال قلقة من أن يسبب نجاح التيارات الإسلامية عربياً وشرق أوسيطاً، حدوث زخم مماثل لقوى مماثلة لها في جمهوريات سوفييتية سابقة ذات مسحة دينية إسلامية، كما الحال في الشيشان على سبيل المثال .


هل لهذا السبب لا تريد روسيا أن تكون خسارتها مزدوجة في الشرق الأوسط بمعنى أنها ترفض سقوط سوريا سواء في أحضان “الجهاديين الإسلاميين” أو في حجر الليبراليين الغربيين الأمريكيين على نحو خاص؟


بحال من الأحوال يبدو أن هناك اتفاقات ما جرت وراء كواليس “قمة العشرين” الأخيرة في مدينة سان بطرسبرغ الروسية العريقة، بين الأمريكيين والروس، كانعكاسات مباشرة لهذا الصدام، ولأن أياً من الطرفين لا يريد للمواجهات أن تتجاوز الخطوط المرسومة لها، فإن الظاهر للعيان أن هناك سايكس بيكو جديدة تتخلق في الكواليس بين موسكو وواشنطن، على غرار سايكس بيكو الأولى بين بريطانيا وفرنسا في أوائل القرن الماضي .


وعند القائلين بهذا الرأي فإن اتفاق كيري لافروف في جنيف سبتمبر/أيلول 2013 يحل واقعياً مكان اتفاقية سايكس بيكو القديمة (أيار 1916) كإطار لتقاسم النفوذ الأمريكي الروسي في الشرق الأوسط .


أما الخلافات التي تظهر الآن وغداً بين واشنطن وموسكو فتنحصر حول كيفية تنفيذ الاتفاق ولن تؤثر في الاتفاق، بحد ذاته، ومن يراجع التاريخ يجد أن الفرنسيين والبريطانيين اختلفوا كثيراً بعد اتفاقية سايكس بيكو . يطول الحديث في تحليل المشهد الصدامي بين روسيا وأمريكا حول العالم، غير أن ما جرى في الشرق الأوسط على نحو خاص، مع عودة روسيا لتفعيل دورها، سيجعل دولاً عربية وشرق أوسطية عدة، تعيد قراءة أوراق تحالفاتها القديمة معها، بعد أن شعرت طويلاً بالعزلة والخوف من الخيانة الأمريكية والتنكر للأصدقاء قبل الأعداء أحياناً، وستبرز روسيا بنحو خاص على صعيد القوة الكبرى المدافعة عن الأقليات الدينية في الشرق الأوسط بعد أن اتضح الزيف الأمريكي في هذا الإطار، وبعدما أصبحت الدول الأوروبية بحكم إغراقها في العلمانية لا تقيم وزناً إلا للمصالح البرجماتية السياسية والاقتصادية على هدي واشنطن .


ماذا عن المواجهة القطبية من واشنطن إلى بكين؟


السردية الأمريكية الصينية في حاجة إلى رؤى وتحليلات قائمة بعينها، ومن عجب الأمر أن الشرق الأوسط يجد ذاته ومن جديد يظهر بين حجر رحي بكين وواشنطن من دون أن يسعى لأن يكون طرفاً في الصراع الدولي المحتدم والمحتقن بينهما . . كيف ذلك؟


منذ بضعة أسابيع كتب الأمريكي “إدوارد لوتاك” مقالاً اهتمت به وسائل الإعلام الأمريكية كافة وجاء عنوانه على النحو التالي: “لننس سوريا ونقلق بشأن الصين” . . ما الذي يجعل كلمات المقال مدخلاً لفهم مستقبل وخطوط وحظوظ العلاقات الأمريكية الصينية في قادمات الأيام؟


بحسب الكاتب وغيره من مراكز الفكر والبحث الأمريكية، فإن الصين هي التي تستدعي وتسترعي الانتباه الأمريكي، فهي المتهمة رسمياً بالتجسس الإلكتروني لاسيما على وزارة الدفاع وسرقة أحدث رسوم وتصاميم الأسلحة، وعليه فإن الصين وليس الشرق الأوسط هي المهدد الحقيقي للنفوذ والهيمنة الأمريكية حول العالم، وعليه فحتى تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من الرد بفعالية على بروز الصين يوصي الجميع بأن على واشنطن الابتعاد عما يطلقون عليه السعي العقيم وراء الاستقرار في شمال إفريقيا والشرق الأوسط وأفغانستان .


والمؤكد كذلك أن الصين وهي تسعى للقطبية الدولية، تدرك تماماً حاجتها إلى الموارد النفطية العربية والشرق أوسطية، وإلى المواد الخام الأولية المتاحة بوفرة في العالم العربي، وإلى الأسواق العربية كمجال لتصريف منتجاتها، ولهذا بدأ يظهر جلياً أن الصين لم تعد قانعة بالدور الحيادي السياسي لها في الشرق الأوسط . وكذلك لم تعد مهتمة فقط بالموارد الطبيعية للعرب بل باتت تتطلع للعب دور أكبر وأكثر نفوذاً في الشرق الأوسط . .


يعن لنا قبل الانصراف تساؤل: هل وصل الصراع القطبي الثلاثي منتهاه وغايته وبالتبعية تجاذباته وتأثيراته في العالم العربي والشرق أوسطي؟


الجواب المؤكد هو أن هناك حالة سيولة مواقف وتدافع أحداث متتابعة، ويخشى المرء أيضاً أن يقع العرب موقع قسمة الغرماء من قبل القوى الكبرى المتصادمة، والتي تسعى في كل الأحوال لتحقيق أهدافها الاستراتيجية عبر صراع دولي، وأن يحمل العرب في سلبيات الصراع، من دون إيجابياته، طالما كان طرح القضايا العربية الجوهرية يبدأ من الآخرين وليس من الذات، وهذه هي الكارثة وليست الحادثة .

أنتوني جورجي
* باحث في الشؤون الدولية


*. نقلاً عن صحيفة الخليج الاماراتية.