سياساتُ المَلْبَس وتمثيلاته (اليمن موضوعاً)
الثلاثاء, 02-ديسمبر-2008
محمد سيف حيدر - ثمة مقولة لماكس فيبر، عالم الاجتماع الألماني الشهير، مفادها أن "الإنسان كائن يتشبث بشبكة المعاني التي نسجها بنفسه"، ولعل من يقرأ كتاب "رداء الدولة: دلالات الزيّ السياسي اليمني من 1948 إلى 2004"، يهزّ رأسه موافقاً فيبر، كل الموافقة فيما ذهب إليه.
الكتاب الذي يجمع بين دفتيه وثائق الندوة الدولية الثانية حول "تمثيل الرجولة والأنوثة في المجال العام"، التي جرت وقائعها في العاصمة صنعاء منتصف شهر شباط/ فبراير 2005، يذهب إلى تأكيد أهمية الملابس كواحدة من أبرز مكونات "شبكة المعاني" التي نسجها، وينسجها، الإنسان بنفسه.
وإذا كان الفيلسوف الإنجليزي توماس كارلايل قد لاحظ قبل أكثر من قرن من الزمان "أن الملابس هي التي تجعل الفرد منا إنساناً، وهي التي تُنذر اليوم بجعله مشجباً تُعلَّق به الثياب وتُعرض عليه الأردية"، فإن ما نستقرئه في صفحات هذا الكتاب يُظهر أن النقيض تماماً هو الصحيح. فالإنسان (خاصةً إذا كان – كما هو الحال هنا – صاحب مكانة ودور) هو الذي أنطق الملابس، وجعل لوجودها معنى، أي وضع لها صيرورتها الخاصة. وكثيراً ما ارتبط ذلك بتحول مهم يتغيّاه شخص ما أو حتى أمة ما من الأمم. وسبق للمفكر الجزائري مالك بن نبي أن لاحظ في كتابه "شروط النهضة"، أن الملبس يسير مع أهله في تطور التاريخ وتبدُّل الأزمان، وتغيُّر الوجهة الحضارية. فعلى سبيل المثال، بدأ الشعب الياباني بتغيير ملبسه عندما دقّ بابه "الكومودور بيري" قائد الأسطول الأميركي عام 1853، لأنه أدرك أن لا مناص له من الخروج من ذلك الطور العتيق إلى الحضارة الحديثة، وفَهِمَ أن ذلك يقتضيه التخلي عن عباءته الحريرية المسماة بـ"الكيمونو"، لكي يرتدي ذلك اللباس الأزرق القطني الذي يناسب عامل الميكانيكا. وبالمثل، فإن الدول المتقدمة ما فتئت تُغيّر أزيائها الرسمية حسب تغيرات التاريخ وتحولاته الكبرى، وخاصة بعد الهزائم والنكبات الحربية؛ فإذا ما شوّهت هزيمةٌ كرامة زيٍّ من الأزياء العسكرية، نرى الدولة المهزومة، ووفق نظرية ابن خلدون الشهيرة "المغلوب مولعٌ أبداً بتقليد الغالب ومحاكاته"، كثيراً ما تقتبس أزياء الدولة المنتصرة. ومن الشواهد البارزة على ذلك، ما قام به الجيش الروسي بعد عام 1917، والجيش الفرنسي الذي اقتبس من الأزياء العسكرية الأميركية ما يُعرف بزي (M.P)، وصيّره زياً له مُعرّفاً برمز (P.M). أما الشاهد الأكثر حداثة، فهو الذي حصل مع الجيش وقوات الأمن في العراق، عقب غزو هذا البلد واحتلاله أميركياً في عام 2003؛ فهذه القوات حاكت في ملابسها وأرديتها الجيش الأميركي بشكل ملفت للغاية، حتى لا يكاد المرء يفرق بين الجانبين.
وفي ضوء حقائق كهذه، تتجلى أهمية الكتاب الذي نتناوله في هذه العجالة. والكتاب، في المُجمل، يتضمن بالإضافة إلى ديباجة وتوطئة ومقدمة وملحقات ثلاث، قسمين رئيسيين: أولهما يبحث في "دلالات الزي السياسي اليمني من 1948 إلى 2004"، وتتخلله أحدى عشر ورقة عمل والكثير الكثير من التعقيبات. أما القسم الثاني فيتكون من ورقة عمل واحدة وتعقيبات عدة، تبحث في دلالات الزي الرئاسي العسكري وارتباطها بجدلية التغيّر في اليمن خلال الفترة التي يغطيها موضوع الندوة/ الكتاب.
وعلى الرغم من أن الكتاب يغوص في متابعات مضنية لعلامات التمثيل الرمزي للرداء في اليمن، خصوصاً في تجلياتها السياسية من خلال النخب اليمنية المتعاقبة والتي تسلقت هرم السلطة في البلاد منذ منتصف القرن الماضي وحتى اليوم، وعلاقات ذلك بهوية الدولة و/أو الأمة، إلا أنه، في الوقت نفسه، كشف بجلاء عن طبيعة وحجم الترهل والاهتراء المعرفيين اللّذين اكتنفا (ولا زالا يكتنفا للأسف) ساحة الدراسات الثقافية والسياسية والسيميائية (الدلالية) العربية واليمنية بوجه خاص. فهي علاوة على تأخرها في بحث وتحليل الدلالات والرموز المختلفة للزيّ ومدى ارتباط ذلك بتطور المجتمع/ الدولة وتحول بنيتهما القيمية كما السياسية والاجتماعية بمختلف مكوناتها، فإنها لم تخرج بعد من إسار الثنائيات المعهودة [أصالة – معاصرة، الأنا – الآخر، الأخيار – الأشرار، ...]. ولعل الحديث عن العولمة (بل "الإلماح" إليها وحسب، إن توخينا الدقة في التعبير)، كما ورد في ثنايا الكتاب، يبدو في ضوء الثنائيات المذكورة غير ذي "معنى"، في ذات الوقت الذي تحاول فيه فصوله وصفحاته – وهنا وجه المفارقة – الوصول إلى "معنى"، إن لم يكن "معاني"، يستطيع المرء معها أن يُعلن بحصافةٍ ولياقةٍ بالغتين أن ثمة قيمة لما قيل وما يقال!
والحق أنه لا يمكن تجاهل القيمة الحقيقية لما احتواه الكتاب، فهو بجهده التوثيقي الاستطلاعي الأولي يضعنا على بداية طريق البحث الشاق في موضوع مهم، وإن بدا للبعض – وهذا ما يُحزِن حقاً – "ساذجاً" و"سطحياً" و"غير ذي جدوى"!، وهو أيضاً يخترق بطروحاته البِكر الحُجُب الموضوعة أمامنا في موضوع يرتبط، كل الإرتباط، بتاريخنا المأسوف على شبابه، والذي ما انفكت أذرع الأيديولوجيات المتنافسة على اختلافها، تتناهب تفاصيله ودلالاته، فتلوي عنق ما تشاء منها وتُجيِّر لصالحها ما تشاء، وفق المصالح السائدة أو المرجوة.
ومما لاشك فيه (لدينا على الأقل) أن ما يطرحه الكتاب سيصدم (بالمعنى المعرفي/ الإيجابي لكلمة "صدمة") الكثير ممن لا يأبهون بعلامات وعلاقات التمثيل الرمزي للأشياء (الملابس تحديداً)، ومن ثمّ يدفعهم إلى إيلاء هذا الجانب المُغْفل حقه من الاهتمام والمتابعة، وهو ما سيشكِّل – بدوره – دفعة قوية لجميع القائمين على مشروع "التراث الرسمي"، والمهتمين من الباحثين الآخرين، للمضي في هذا المشروع بثقة وثبات، وهو ما سينعكس إيجاباً على هذا الحقل المعرفي، الذي شرعنا في استكشاف آفاقه مؤخراً، وبما يحقق تراكماً خلاقاً فيه يُسهم في دفع مجتمعنا قدماً إلى الأمام.

الكتاب: رداء الدولة: دلالات الزيّ السياسي اليمني من 1948 إلى 2004
تحرير: رؤوفة حسن الشرقي
الناشر: مؤسسة تخطيط برامج التنمية الثقافية، صنعاء
تاريخ النشر: 2005
عدد الصفحات: 268 صفحة.