"الإخوان" ووهم العودة إلى الحكم
الجمعة, 19-يوليو-2013
محمد محمود -

في الوقت الذي تنظر فيه جماعة الإخوان المسلمين إلى الوراء في غضب، يبدو أنها وحسب تقارير أمنية واستخباراتية مصرية تعاني انهياراً داخلياً ومعنوياً كبيرين، في أعقاب عزل الرئيس محمد مرسي والمضي قدماً في خارطة المستقبل التي يرعاها الجيش وانحازت إليها القوى الرئيسة في المجتمع المصري، ورغم ذلك فمن غير المستساغ أن يكون قادة الجماعة بالسذاجة السياسية التي تجعلهم يتصورون أن اعتصام عشرات الألوف في التقاطع المروري المهم بشرق القاهرة بجوار مسجد رابعة العدوية، سوف يؤدي إلى عودة محمد مرسي لمنصب الرئيس الذي تم عزله منه، ولا هم في وارد العيش في الأوهام حتى يعتقدون أن تسيير التظاهرات في شوارع القاهرة المكتظة بالسكان وتعاني إشكاليات مرورية متعددة، يمكن أن يعيد إليهم السلطة التي فقدوها بغبائهم السياسي منقطع النظير .

يريد قادة الجماعة لهذه الفعاليات أن تستمر أطول فترة ممكنة، حتى تنفتح مسارات تفاوض مع السلطة، بهدف الحصول على قدر أدنى من المكاسب القانونية والسياسية، ومن جانب آخر فإن مقاصد لعبة الحشود تشمل توجيه رسالة للعالم الخارجي، تهدف إلى التأكيد على وجود نوع من الانقسام في المجتمع المصري ما بين مؤيد ومعارض، ما قد يؤدي إلى تأثير ما في المعادلة، ولكن يبقى أن الأهم من كل ذلك لدى قادة الجماعة أن يتمكنوا من ترسيخ فكرة الضحية وموقع المضطهدين التي قد تؤثر في نفوس قواعد الجماعة، حتى تبقى فكرة “الجماعة” قائمة في مواجهة انهيارها المحتمل بعد فشل القادة في الحفاظ على أفضل ما حققته خلال السنوات الثمانين الماضية .

لعبة عض الأصابع تحكم المشهد اليوم بين جماعة تبدو غير قادرة على وقف مسيرة الانتحار العام، وبين سلطة قررت التعامل بحكمة وطول النفس مع تلك الحشود حتى تصل إلى نهايتها المتوقعة من الانفضاض، بعد أن ييأس المحتشدون من الحصول على أي نتيجة وييأس القادة من إمكانية تحقيق أي اختراق يحقق لهم الحد الأدنى من المكاسب السياسية والأمنية، سياسة النفس الطويل هذه تضغط على أعصاب قادة الجماعة، خاصة هؤلاء الذين يحتمون بهذه الحشود من قرارات القبض الصادرة من النيابة العامة بحق الكثيرين منهم للتحقيق معهم في قضايا عدة، وقد يدفع هذا الضغط على أعصابهم إلى الإقدام على استخدام الجموع المعتصمة في عملية ذات طابع انتحاري، كما حدث عند مقر نادي الحرس الجمهوري وأسفرت عن 45 قتيلاً، أو مساء يوم الجمعة الماضي، حين حاولت جموع متظاهرة أن تقطع الطرق وتعتصم في مناطق مختلفة لشل الحركة في القاهرة، ولم تستطع الصمود أمام الرفض الشعبي لمثل هذه الممارسات التي ملها الناس وباتوا يواجهونها بطرق عنيفة، خلافاً لأن البيئة المحيطة بالمعتصمين من بقية سكان مدينة نصر ومنطقة رابعة العدوية هي بطبيعتها رافضة وتريد أن تستعيد حياتها العادية ولن تظل هكذا حبيسة المعتصمين طويلاً .

الانفراد بالقرار

عبر تاريخها الطويل تنتقل جماعة الإخوان المسلمين من لعب دور الضحية إلى ملاعب الانفراد بالقرار والاستحواذ على الصدارة، لم تعرف خلاله أساليب الاندماج الطبيعي مع مكونات المجتمع الوطنية، نافست الوفد في الأربعينات على الموقع الأول بين صفوف الشعب، ومن بعد ثورة 23 يوليو 1952 حاول “الإخوان” في البداية الاستحواذ على قرار الضباط الصغار، ثم انقلبت لعبتهم عليهم بعد حادث المنشية الشهير في العام 1954 الذي استهدف حياة جمال عبدالناصر، فحصروا أنفسهم في دور الضحية، وهم اليوم بعد وصول ممثلهم إلى سدة الرئاسة الأولى في مصر وفشلهم البادي للعيان خلال عام، استطاعوا خلاله أن يجيشوا ضدهم كل قوى المجتمع الحية ليجدوا أنفسهم مرة في وضع أكثر مأساوية مما سبق، يلوّحون بالعنف والاحتراب الأهلي في سبيل استعادة موقعهم الذي فقدوه بفعل يوم الثلاثين من يونيو الحاشد، بينما يحاولون في الوقت نفسه الظهور بمظهر الضحية من جديد، ويتلبسون دور الإرهابي والضحية في آن معاً، وتلك قمة التراجيديا .

التراجيديا حسب تعريف أرسطو هي شكل من أشكال الدراما يشمل تغير الأحوال من سيئ إلى جيد، والأكثر تأثيراً أن يكون التغيير من الجيد إلى الأسوأ، ما يثير الخوف والشفقة في نفوس المتفرجين، والأمر على هذا النحو ينطبق بحذافيره على التراجيديا الإخوانية، ومن يطلع على تاريخ الجماعة عبر ما يزيد على ثلاثة أرباع القرن يجد التعريف الأرسطي منطبقاً تمام الانطباق على تلك الجماعة التي بدأت على يد فرد، وفي ظل ظروف ما بعد سقوط دولة الخلافة العثمانية، وعلى أرضية بدت عطشى لتجديد دور الدين في الحياة البشرية، وانتهت إلى جماعة كبيرة متعددة الفروع داخل مصر وخارجها، ومتعدية للأوطان والقوميات، ورغم ذلك دائماً ما كان ينتهي أمرها على التغيير من الجيد إلى الأسوأ، كأنه قدرها التراجيدي الذي لا فكاك منه .

أسوأ ما في تلك التراجيديا أننا نلحظ منذ البواكير الأولى لظهور الجماعة في مركز الحلبة السياسية المصرية ذلك التناقض بينها وبين حزب الوفد المعبر عن الأغلبية الوطنية، والذي مثل في فترات طويلة الجماعة الوطنية المصرية في مواجهة مزدوجة مع القصرين، قصر عابدين حيث مقر الحكم الملكي، وقصر الدوبارة حيث مقر المندوب السامي البريطاني والحاكم الفعلي للبلاد تحت الاحتلال .

ولقد كشفت تلك الفترة عن التناقض الأساسي بين الحزب والجماعة في محاولة من كل منهما احتلال صدارة المشهد السياسي، كما كشفت تلك الفترة عن تناغم وتنسيق بين الجماعة والقصر في مواجهة الوفد، ذلك التناسق الذي سرعان ما انهار تحت وقع أعمال العنف التي اتسع نطاقها وانتهت إلى اغتيال النقراشي باشا رئيس الوزراء المصري على يد أحد عناصر الإخوان المسلمين، وما أعقب ذلك من حل الجماعة واغتيال زعيمها حسن البنا بتحريض من السلطات الرسمية وانتهت تلك الفترة بقيام ثورة 1952 .

لحظتان متشابهتان

وفي تاريخ الجماعة لحظتان أكثر تراجيدية من غيرهما متشابهتان إلى حد التطابق وإن اختلفت الظروف والملابسات والأطراف، واتحدت بقية العناصر لتشكل دراما حقيقية تثير الخوف والشفقة في آن معاً، الأولى كانت في العام ،1954 والثانية تكررت على الوتيرة نفسها في العام ،2013 بعد حوالي ستين عاماً، وهو الأمر الذي حاولت قيادات إخوانية كثيرة أن تنفي احتمالية حدوثه منذ بداية الحديث عن صراع خفي بين موقع الرئاسة، وفيه محمد مرسي ممثل الجماعة المنتخب، وبين موقع القوات المسلحة، وعلى رأسها قائد جديد يعبر عن حيوية العلاقة بين الجيش والشعب المصري .

كانت الجماعة قد عملت بشكل سري لفترة قصيرة بعد قرار حلها الأول، ثم ظهرت بزعامة جديدة بعد ثورة 1952 وبهالة من الأهمية واضحة وجديدة نشأت من خلال العلاقة القديمة بين بعض الضباط الأحرار وبين الجماعة، وحسب دراسات كثيرة فإن العلاقات الطيبة بين الثورة والإخوان لم تكن في الواقع بالقوة التي ظهرت عليها في البداية، إذ سرعان ما تدهورت خلال فترة لم تزد عن عامين لتنتهي تماماً في أكتوبر ،1954 بمحاولة اغتيال قائد الثورة الزعيم جمال عبدالناصر رئيس الوزراء في ذلك الوقت، وحلت الجماعة مرة أخرى، وشنق ستة من قادتها في ديسمبر 1954 .

ما لا يدركه قادة الجماعة الذين تسببوا في خسارتها الفادحة طوال المسيرة من 25 يناير وحتى اليوم، أن الجيش المصري خاصة في العصر الحديث كان دائماً جزءاً لا يتجزأ من الحركة الوطنية المصرية، بينما ظلت الجماعة على ضفافها أو في مواجهتها في كثير من الأحيان .

هي فترات قليلة لا تكاد تذكر تلك التي ارتبطت الجماعة فيها بتيار الوطنية المصرية الغالية، وغالباً كانت تمارس خلالها دور الضحية، فهي كانت دوماً إما مع الحاكم حين تصفو لها الأجواء وتأتي سفن الأحداث بما يوافق هوى سفينتها، وإما في موقف الحذر والترقب من الجميع، والمعضلة الآن التي تواجه الجماعة كفكرة وكتنظيم هي البحث عن الكيفية الناجزة لتحقيق اندماجها في الجماعة الوطنية بدون تكفير ولا استبعاد، وبدون انفراد ولا استحواذ، لتدخل في الإطار الوطني لا تتعداه ولا تتعدى عليه .


*. نفلاً عن صحيفة الخليج الاماراتية.