مستقبل العروبة سياسة ولغة
الجمعة, 24-مايو-2013
إبراهيم سعيد الظاهري -

ما من شك في أن علاقة اللغة العربية، بالأمة، علاقة وثيقة ومتجذّرة تتجسد وفق منطق الدوائر الثلاث التي لها مركز واحد بدءاً بدائرة الوطن . فكل إنسان له مكان يولد ويعيش فيه، ويحمل جنسيته وينتمي إليه، ولغة يتحدث فيها يتميز بها عن غيره، يعرف بها، وثقافة يتربى عليها، وتُعدّ حاملة لنسق القيم الاجتماعية، كالدين والأدب والفن والعادات والأعراف، وهذا يعني أن لكل إنسان، مكاناً، ولساناً، وثقافة .

ولأهمية موضوع العروبة بالنسبة إلى العالم العربي، انعقدت العديد من المؤتمرات واللقاءات، لمناقشة قضايا العروبة ومستقبلها، وتأثيراتها في مستقبل المشروع العربي، في ظل التحولات التي يشهدها عالمنا العربي . ويأتي انعقاد مؤتمر اللغة العربية الذي نظمته وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع بالتعاون مع المجلس الدولي للغة العربية ومنظمة ال”يونيسكو” في الفترة من 7 10 مايو/أيار 2013 وبرعاية كريمة من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، تقديراً من قيادة الإمارات لمكانة العروبة في الفكر والسياسة والتخطيط ولعلاقة اللغة بالإبداع والابتكار والفنون، وقدم فيه الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير الثقافة والشباب وتنمية المجتمع رؤية نقدية واضحة المعالم لامست كل مايتعلق بمكانة العروبة ودورها في بناء الأمة فكرياً وسياسياً وعلمياً، وحظي بمشاركة كبيرة من جميع أنحاء العالم، وباهتمام المختصين والباحثين .

ومن هنا علينا الاعتزاز بالعروبة كمشروع وهوية، وتعظيم مكانتها كلغة حية وعالمية، قادرة على العطاء في مجالات، التدريس والتعامل اليومي . فدول العالم التي حققت تقدماً ونهضة حديثة . وأسهمت في الحضارة المعاصرة، اعتمدت على لغتها القومية، فالعروبة مفهوم أكثر رحابة وقادر على التواصل مع حضارات وثقافات العالم المختلفة، في مختلف مجالات الحياة، الفكرية، والسياسية، والاجتماعية، واستطاع الشعراء التعبير عن هذا المعنى باعتبار اللغة شعراً، والشعر خيال، وعبّر القرآن الكريم عن اللغة والشعر فقال الحق “وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين” وكانت معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم “بإعجاز القرآن وسحره البلاغي إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة”، وأصبح القرآن الكريم تعبيراً عن الوجدان العربي .

والحديث عن العروبة ومستقبلها سيظل شاغلاً لقيادات عالمنا العربي ونخبه السياسية والفكرية، رغم كل التحديات التي تواجه المشروع العربي، والعمل للخروج به من حالة الاستسلام لمنطق التفكك والضعف، وإعادة الثقة لوحدة الأمة وتماسكها، بعد أن وصل الحال إلى مستوى قاس وصعب، حيث تلاحقت الفتن والزلازل، وتعددت مسارح التمزق العربي، وبتنا ندعو في صلواتنا لتبقى الدولة القطرية متماسكة، لا تتفتت إلى فيدراليات أو بين شمال وجنوب، بعد أن اختار العرب المشي بمحاذاة الجدران المتداعية، وانتهوا إلى شبه استقالة من التاريخ، وغيبوبة قومية، وحالة نفسية قابلة للتدجين .

وطال ليل حال الأمة، وازداد ضعفها ليشمل السياسة والثقافة والدين وصولاً إلى الشارع، وبات الحديث عن العروبة، مرتبطاً بما يجري حولنا من تحولات وتغييرات، تمس أمن الوطن العربي ومستقبله، وبالتطور الديمقراطي والحداثة، فالعروبة ليست مفهوماً جامداً، بل هي ثقافة إنسانية تشكّل منطلقاً لحداثة أصيلة، وتؤصّل لهوية ثقافية وحضارية لمنطقتنا العربية، وترمز إلى الوطن والإنسان، والأمة والشعب والتاريخ، والوجدان والوجود العربي .

وهي ليست منظومة أيديولوجية أو فكرية سياسية، وإنما ثقافة وطنية قومية تشكّل أساساً لوحدة الشعب في كل دولة عربية ولوحدة الأمة بشكل عام، تحتاج بالضرورة إلى طرح برنامج إصلاحي ديمقراطي اجتماعي يحقق تطلعات المواطن العربي المدنية والعدالة الاجتماعية، ويقف في وجه الفساد والاستبداد السياسي والاقتصادي، ويُعلي من قدر النقد الإعلامي والبرلماني في الموضوعات العامة التي تمس اهتمام الناس ومتطلباتهم الحياتية، فالانتصار للعروبة، يتطلب في هذه المرحلة الحرجة، تحديد العرب أهدافهم المشتركة، التي تحمي وتصون أمنهم الوطني .

فالعروبة كمفهوم مرتبط بالتطور والتقدم والحداثة، وتتعزز من خلال الممارسة والنقد، لاسيما في ظل مايواجه الأمة من أخطار تبدو وكأنها تدور حول نفسها، تضرب كفاً بكف وتستعيذ بالله من الشياطين، إنساً وجناً، سياسة واقتصاداً وأمناً، ولاغرابة في ذلك، لأن الانهيار العربي صار مفتوحاً على الغارب، ووصل الحال إلى مستوى دفع إلى استجلاب العون من الخارج، وأدى ذلك إلى التراجع، على مستوى التوحد بين دوله، وإخفاق مشروعه العربي الذي قام على تصور محدد للعقلانية، ما يستدعي ابتكار طرق جديدة، وتعظيم ثقافة الحداثة السياسية، ومعالجة أخطاء تجربة المشروع العربي، من واقع إعادة بناء مشروع التحديث السياسي، وتجاوز التراجعات من أجل المساهمة في إعادة النهوض به، وهو ما يحتاج إلى ممارسة فعلية في مجال التطور السياسي، في التاريخ الإنساني، للوصول إلى تحقيق مطلب الإصلاح المتدرج في أغلب المجتمعات العربية وفق أطر العلاقات الدولية التي تنشأ في التاريخ بين الأمم والشعوب من أجل تدبير أفضل لعلاقاتها ومستقبلها يكون ملبياً لآمالها وطموحاتها في التاريخ، وتحديث يتوافق مع إرادات الفاعلين وطموحاتهم المتغيرة ووفق معايير قابلة للتطوير، في ضوء تجارب أنجزت وأخرى مازالت تنجز حسب مصالح الدول ومن دون إغفال مقتضيات اللغة التاريخية .

فمستقبل العروبة سياسة ولغة، مرهون بتعزيز وترسيخ قيم الحداثة والتحديث وبناء مجتمع المواطنة، في عالمنا العربي، اعتماداً على مدخل الإصلاح السياسي، في ظل عالم يشهد حراكاً بين مختلف الحضارات، وتلعب فيه الثقافة والفنون دور القوة الناعمة، لما لهما من دور مؤثر في العديد من القرارات . ولقد تأخر العرب كثيراً في إصلاح منظومتهم الدينية والثقافية والسياسية، بل وفي إصلاح المؤسسات العربية عموماً، رغم مضي أكثر من قرنين من الزمان، ولايمكن أن يحدث تحول حقيقي واستراتيجي يحقق وحدة الأمة العربية والنهوض بها إلا بوجود قيادات عربية تؤمن بقيم العروبة ووحدتها .

وقد شكلت قيادة خالد الذكر المغفور له بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، نقلة نوعية في تاريخ المنطقة العربية، فمن بين تجارب عروبية عديدة سبقت تجربة الاتحاد، لم تنجح إلا تجربة زايد دون غيرها، فما هو السر في ذلك؟ . . السر في ذلك أن زايد كان محباً ومؤمناً ومخلصاً في حبه للعروبة فقرب إليه المفكرين والإعلاميين وشجع الشعراء والباحثين، وأيضاً في إيمانه بالوحدة العربية عموماً والوحدة بخاصة بين إمارات الخليج التسع ثم السبع وتحدى كل المعوقات، وتمكن من قيام دولة اتحادية قوية، وبناء تجربة ناجحة أشاد بها البعيد قبل القريب، وواصل سعيه إلى تحقيق وحدة أبناء العروبة بالخليج في تأسيس مجلس التعاون الخليجي في عام ،1981 وكان يحلم بتحويله إلى اتحاد خليجي لصد المؤامرات التي تحاك ضد دوله وللمنطقة بعامة . وتواصل قيادة الإمارات الشابة السير على نهج الآباء المؤسسين، والعمل مع قيادات الخليج لتحويل الحلم إلى حقيقة، لأن في الاتحاد والوحدة قوة لمنطقة الخليج العربي وللمنطقة العربية، بل وللمشروع العربي بكافة .

*. نقلاً عن صحيفة الخليج الاماراتية.