الأمة التي كفّتْ عن القراءة
السبت, 16-مارس-2013
الميثاق إنفو -

ربما يتبادر إلى الذهن، أن المقصود هو الأمة العربية، ولكن الأمر ليس كذلك . فالمعني هو الشعب المكسيكي، كما يشرح الروائي، وأحدُ أهم الأصوات الأدبية في المكسيك، ديفيد توسكانا، ضمن مقالة منشورة في صحيفة “نيويورك تايمز”، (5-3-2013) .

كتب توسكانا: في وقت سابق من هذا الأسبوع، استرعى انتباهي في باب الإعلانات عن وظائف في صحيفة “ريفروما”، إعلان لمطعم في مدينة المكسيك، يطلب موظفين لغسل الصحون . وكان المؤهل المطلوب: شهادة الدراسة الثانوية .

ويمضي الكاتب قائلاً: قبل سنوات، لم تكن المدرسة متاحة لكل أحد . وكانت غرف الصفّ أماكن للانضباط والدراسة . وكان المعلمون شخصيات محترمة . وأولياء الأمور يأذنون لهم بمعاقبة أبنائهم بصفعهم، أو شد آذانهم . ولكن المدارس في تلك الأيام، كانت تهدف على الأقل، إلى توفير حياة أكثر كرامة .

وفي هذه الأيام - يقول الكاتب - يذهب إلى المدرسة تلاميذ أكثر من أّي وقت مضى، ولكنهم يتعلمون أقلّ بكثير . إنهم لا يتعلمون شيئاً تقريباً . نسبة السكان المكسيكيين المتعلمين ترتفع، ولكن بالأرقام المطلقة، يوجد في المكسيك أمّيّون الآن أكثر مما كان فيها قبل 12 عاماً . حتى وإن كانت نسبة التعليم في حدّه الأدنى، أي القدرة على قراءة لافتة على الطريق، أو نشرة أخبار، آخذة بالارتفاع، فإن ممارسة قراءة كتاب فعلي ليست كذلك . والمكسيك، البلد الذي كان جيد التعليم إلى درجة معقولة ذات يوم، احتل المرتبة قبل الأخيرة، بين 108 دول، في تقدير للعادات القرائية أجرته اليونسكو قبل بضع سنوات .

ولا يسع المرء، إلاّ أن يسأل نظام التعليم في المكسيك، “كيف يُعقل أن أسلّم طفلاً، ليدرُس ستّ ساعات في اليوم، خمسة أيام في الأسبوع، فتعيدونه إلي شخصاً أمّياً بدرجة أساسية؟” .

ويضيف الكاتب: على الرغم من المكاسب الأخيرة في التنمية الاقتصادية، وزيادة أعداد الخريجين المهندسين، فإن المكسيك تتخبط على الأصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لأن عدداً كبيراً من مواطنيها لا يقرأ . وعندما تولّى رئيسُنا الجديد، إنريك بينا نيتو، مهامّ منصبه في ديسمبر/ كانون الأول، أعلن على الفور برنامجاً لتحسين التعليم . وهذا أمر مألوف، فكل الرؤساء يفعلون ذلك، عندما يتولون مناصبهم .

والخطوة الأولى في خطته لتحسين التعليم؟ وَضْعُ زعيمة نقابة المعلمين، إلبا ايستر غورديللو، في السجن، وهو ما فعله الأسبوع الماضي . وغورديللو، التي قادت النقابة التي تضمّ 5 .1 مليون عضو على مدى 23 عاماً، متهمة باختلاس نحو 200 مليون دولار .

ويقول الكاتب، إنها ينبغي أن تكون وراء القضبان، ولكن إصلاح التعليم بالتركيز على المعلمين بدلاً من الطلاب، ليس شيئاً جديداً . فمنذ سنوات عدة، ظلت مهمة وزير التعليم، لا تعليم المكسيكيين، بل التعامل مع المعلمين وقضاياهم العمالية . ولا أحد في المكسيك ينظم من الإضرابات بقدر ما تنظمُ نقابة المعلمين . ولكنْ، للأسف الشديد، كثير من المعلمين الذين يشترون وظائفهم على الأرجح، أو يرِثونها، يفتقرون إلى التربية والتعليم، هم أنفسهم .

ويقول الكاتب، أثناء إضراب عام 2008 في اوكساكا، أذكر أنني ذرتُ موقع المخيم المؤقت بحثاً عن معلم يقرأ كتاباً . ومن بين عشرات الألوف، لم أجد واحداً . وجدتُ أناساً يستمعون إلى الموسيقا الصاخبة، أو يشاهدون التلفزيون، أو يلعبون الورق، أو الدومينو، أو يتسكعون بخمول . ورأيت بعض مجلات نشر الشائعات، أيضاً .

ولذلك، ما كان ينبغي لي أن أدهش من الجواب، عندما تحدثتُ في ندوة عُقِدتْ مؤخراً للتشجيع على القراءة، إلى جمهور يتكون من نحو 300 من الشبان في سن الرابعة عشرة والخامسة عشرة . سألتهم: “مَن يُحبّ القراءة؟” . ارتفعتْ يدٌ واحدة في القاعة . انتقيتُ خمسة أشخاص من الأغلبية الجاهلة، وسألتهم أن يخبروني سبب عزوفهم عن القراءة . كانت النتيجة متوقعة: تمتموا، وتلعثموا، وتبرّموا، وضاقوا ذرعاً . لم يكن أي منهم قادراً على التلفظ بجملة مفيدة، أو التعبير عن فكرة .

طلبْتُ من الحضور - وقد شعرتُ بالإحباط وخيبة الأمل - أن يغادروا القاعة، ويذهبوا للبحث عن كتاب يقرأونه . تقدّم مني أحد معلميهم، وهو في غاية القلق، وقال: “لا يزال لدينا 40 دقيقة” . ثم طلب من التلاميذ الجلوس، وشرع يقصّ عليهم حكاية خرافية عن نبتة لم تستطع أن تقرّر ما إذا كانت تريد أن تكون زهرة، أو رأس ملفوف .

همستُ في أذنه: “أستاذ، هذه الحكاية لأطفال الحضانة” .

ويتابع الكاتب قائلاً: في عام ،2002 شرع الرئيس فيسنت فوكس، بتطبيق خطة قومية للقراءة، واختار جورج كامبوس، لاعب الكرة الشعبي، ناطقاً رسمياً، وأمر بطباعة ملايين الكتب وبناء مكتبة ضخمة . ولسوء الحظ، لم يكن المعلمون مدربين على نحو مناسب، ولم يكن التلاميذ يُعطوْن الوقت للقراءة في المدرسة . وتركزت الخطة على الكتاب بدلاً من القارئ . وقد رأيتُ مستودعات مملوءة بمئات الألوف من الكتب المهملة، التي طُبعت للتوزيع على المدارس والمكتبات، تنتظر أن يحوّلها الغبار والرطوبة إلى نفايات .

قبل بضع سنوات، تحدثتُ إلى وزير التعليم في ولايتي، نيوفو ليون، عن القراءة في المدارس . نظر إليّ، وهو لا يفهم ما أريد . قال، “في المدرسة يتم تعليم التلاميذ أن يقرأوا” . أجبت: “صحيح، ولكنهم لا يقرأون” . وشرحت له الفرق بين معرفة كيفية القراءة، وبين القراءة الفعلية، بين فكّ رموز اللافتات في الشوارع، وبين قراءة الكتب الراقية . تساءلَ عن الفائدة في قراءة “دون كيشوت” . وقال، إننا في حاجة إلى تعليمهم قراءة الصحيفة .

يقول الكاتب، عندما كانت ابنتي في الخامسة عشرة من العمر، تخلصتْ المعلمة التي تدرسها مادة الأدب، من جميع الكتب القصصية في غرفة الصفّ . قالت: “سوف نقرأ كتباً مقررة في التاريخ والأحياء، لأنكم بهذه الطريقة، سوف تقرأون وتتعلمون في الوقت ذاته” . ويضيف الكاتب قائلاً: في مدارسنا، يُعلم التلاميذ ما هو سهلٌ تعليمه، بدلاً مما يحتاجون إلى تعلّمه . ولهذا السبب، تمّ تنحية المواد الإنسانية جانباً، في المكسيك - وفي العديد من الدول .

لقد حوّلنا المدارس إلى مصانع تنتج موظفين . ومن دون تحديات ثقافية، يستطيع الطلاب، الارتقاء من صفّ إلى الصف الذي يليه، ما داموا يواظبون على حضور الحصص، وإطاعة معلميهم . وبناءً على ذلك، يكون من الطبيعي أن نقوم في المدارس الثانوية، بإعداد سائقي سيارات، ونُدُل (جمع نادل)، ومنظفي الصحون .

ويقول الكاتب، إن الأمر لا يتعلق بتحسين الإنفاق . فالمكسيك تنفق أكثر من 5% من إجمالي ناتجها القومي على التعليم - النسبة نفسها تقريباً التي تنفقها الولايات المتحدة . كما لا يتعلق بالنظريات التربوية والتقنيات الجديدة التي تبحث عن أقصر السبل . فالآلة التعليمية ليست في حاجة إلى تنغيم دقيق، بل تحتاج إلى تغيير في الاتجاه تام . تحتاج إلى أن تجعل الطلابَ يقرأون، ويقرأون ويقرأون .

ولكن، لعل الحكومة المكسيكية ليست مستعدة لأن يكون شعبها مثقفاً حقاً . فنحن نعلم أن الكتب، تمنح الشعوب طموحات، وتوقعات، وإحساساً بالكرامة . فإذا كان لنا أن نستيقظ غداً، مثقفين كالشعب الفنلندي، سوف تمتلئ الشوارع بمواطنين ساخطين، وسوف تسأل حكومتنا المذعورة نفسها، أين حصل هؤلاء الناس على أكثر من تدريب غاسلِ الصحون .

إعداد : عمر عدس

* صحيفة الخليج الاماراتية.