العالم يفقد توازنه في ظل الصراع بين الشرق والغرب
الأربعاء, 06-مارس-2013
محمد الحمامصي -

يفتتح أمين معلوف كتابه "اختلال العالم" بجملة تلخص رؤيته لما جرى للعالم غربه وشرقه من اختلال فكري وأخلاقي واقتصادي وجيوسياسي، يقول "دخلنا القرن الجديد بلا بوصلة"، لينطلق في قراءة ما جرى ويجري في العالم كاشفا عن أن أوروبا قد تعرف من أين أتت لكنها لم تعد تعرف جيدا وجهة سيرها، والعالم العربي، الإسلامي يغوص أكثر فأكثر في بئر تاريخية يبدو عاجزا عن الصعود منها وهو "حاقد على الأرض كلها وعلى ذاته بالدرجة الأولى"، والبلدان الأفريقية باستثناء حالات نادرة غارقة في حروب أهلية وأوبئة وتفكك للنسيج الاجتماعي والبطالة والقنوط، وروسيا تبحث عن دواء يشفيها من آثار 70 عاما من الشيوعية وأميركا بعد أن صرعت عدوها العالمي، الاتحاد السوفيتي، وجدت نفسها تخوض غمار مشروع "أن تروض بمفردها أو تقريبا بمفردها كوكبا يستحيل ترويضه" وينهكها ويدفع بها إلى التيه، والصين "لا تزال تمسك ببوصلة يمكن الوثوق بها تقريبا، إلا أنها تقترب بسرعة كبيرة من بقعة لن تعود آلته هذه بذات نفع".

جميع شعوب الأرض، حسب معلوف، في مهب العاصفة و"سواء كنا أغنياء أو فقراء، مستكبرين أو خاضعين، محتلين أو تحت الاحتلال، فنحن جميعا على متن زورق متصدع، سائرون إلى الغرق معا، ولكننا مع ذلك لا نكف عن تبادل الشتائم والمشاحنة غير آبهين بتعاظم أمواج البحر".

القضايا التي تحمل الأسباب والدوافع لهذا الوضع متداخلة وذات علاقات متشابكة، حيث لا يمكن فصل ما يجري في العالم، غربيا كان أو شرقيا، هناك أطماع وعداءات وتخوفات، لذا لم يعالج معلوف قضايا ملفاته بشكل منفصل،وإنما برؤية بانورامية، تحلل ما جرى خلال القرن العشرين وانعكاساته على القرن الحادي والعشرين، فعلى إثر سقوط جدار برلين استشرت الانتماءات ومن بينها تلك المتعلقة بالدين "بحيث أن التعايش بين مختلف الجماعات البشرية بات يزداد صعوبة يوما بعد يوم، وحيث أمست الديمقراطية تحت رحمة مزايدات الهوية على الدوام".

ويؤكد معلوف أن هذا الانزلاق من الأيديولوجيا نحو فكر الهوية كان له عواقب مدمرة على الكوكب بمجمله، لكن "هذا الدمار لم يبلغ في أي مكان القدر الذي بلغه في المحيط الثقافي العربي الإسلامي، حيث اكتسبت الأصولية الدينية التي ظلت أقلية ومضطهدة زمانا طويلا، جماهيرية داخل معظم المجتمعات، وراحت هذه الحركة تعتمد خلال صعودها نهجا شديد العداء للغرب".

ويحمل معلوف انهيار المعسكر الشرقي مسؤولية ظهور الحركات الإسلاموية فـ "الاخفاقات المتعاقبة التي منيت بها الأنظمة القومية العربية أدت إلى انحدار كامل لقيمة هذه الأيديولوجية، وإلى إعادة مزيد من المصداقية للذين كانوا دائما يقولون إن فكرة وجود أمة عربية بالذات هي بدعة مستوردة من الغرب، وإن الأمة الوحيدة الجديرة بهذه التسمية هي الإسلام".

من العالم العربي والإسلامي، إلى روسيا والصين والدول الغربية وأميركا، من التاريخ إلى الواقع الحالي يقرأ معلوف الاختلالات دون انحياز سوى محاولة إطلاق صرخة تحذير في وجه البشرية من الغرق، "ما أؤاخذه على العالم العربي اليوم هو فقره الخلقي، وما أؤاخذه على الغرب هو ميله إلى تحويل وعيه الخلقي إلى أداة للسيطرة".

يطرح معلوف تفسيرين للتاريخ الحديث في إطار علاقة العالمين الغربي والعربي الإسلامي تبلورا حول مفهومين لـ "العدو"، الأول "يرى أن الإسلام أظهر عجزه عن تبني القيم المسكونية التي نادى بها الغرب"، والثاني "يرى أن الغرب يطمح خصوصا إلى سيطرة عالمية يجهد المسلمون في مقاومتها بما بقي لديهم من وسائل محدودة".

ويقول "إذا سلمنا بمقولة أن بلية عصرنا هي بربرية العالم الإسلامي فلا يمكن لما نشهده في العراق إلا أن يعزز هذا الانطباع، لقد كان هناك طاغية حكم البلاد طوال ثلث قرن، وأثخن شعبه بالجراح، وبذر أموال النفط في نفقات عسكرية، وغزا جيرانه، وتحدى الدول وأكثر من العنتريات وسط تصفيق الإعجاب من جانب الجماهير العربية، قبل أن ينهار دون قتال حقيقي، وما كاد الرجل يسقط حتى غرقت البلاد في الفوضى، وراحت الطوائف المختلفة تتذابح، كما لو كان يراد القول: انظروا، كان لابد من حكم ديكتاتوري لضبط شعب كهذا".

ويضيف "وإذا سلمنا على العكس بمقولة وقاحة الغرب فيمكن تفسير الأحداث على نحو مماثل من التماسك: كان هناك في البداية حصار أوقع شعبا بأكمله في البؤس، وأودى بحياة مئات الأطفال، دون أن يحرم الدكتاتور من تدخين سيكاره، ثم كان هناك غزو تقرر تحت ذرائع كاذبة ولم يأبه الرأي العام ولا المؤسسات الدولية، وكان من بين دوافعه الطمع بالسيطرة على الثروات النفطية، وما كاد النصر الأميركي يتحقق حتى تقرر التعجيل بشكل اعتباطي في حل الجيش العراقي وجهاز الدولة، وأدخلت الطائفية صراحة إلى قلب المؤسسات، كما لو تعمدوا إغراق البلاد في حالة دائمة من عدم الاستقرار، من ذلك أعمال التنكيل في سجن أبو غريب، والتعذيب المنهجي والإهانات المتواصلة والأضرار الناتجة عن ذلك، والتجاوزات العديدة التي ظلت بلا عقاب وأعمال النهب والفساد الإداري والمالي".

ويوضح معلوف "يرى البعض أن حالة العراق تثبت عدم قابلية العالم الإسلامي للديمقراطية، ويرى الآخرون أنها تميط اللثام عن حقيقة وجه نشر الديمقراطية حسب الطريقة الغربية، حتى في شريط موت صدام حسين يمكن أن نرى مدى ضراوة الأميركيين والعرب على السواء".

ويرى معلوف أن الخطابين صائبان كما أنهما باطلان "فالكل يدور في مداره أمام جمهوره الذي لا يسمع الخطاب المضاد".

ويؤكد معلوف أن تقديم الديمقراطية الأميركية إلى الشعب العراقي هدية مسمومة تكرّس الطائفية وهي ببساطة خزي وعار، وإذا كانت قد فعلت هذا عن جهل فتلك مصيبة وإن فعلته بقصد لئيم فتلك جريمة. "البربرية في الغرب ليس قوامها التشدد والظلامية بل الغطرسة وقسوة القلب، فالجيش الأميركي تدفق على بلاد ما بين النهرين العريقة كفرس ماء يسرح ويمرح وسط حقل الخزامى وباسم الحرية والديمقراطية راح يهدم ويقتل".

ما ارتكبه الأميركان في العراق ليس بعيدا في رؤيته عما ارتكبوه في أندونيسيا منتصف القرن العشرين، وإن جاءت في سياق مختلف لكن برأيي هناك اختلاف في التوجهات والأهداف، إذ دبرت مجزرة النخبة الحداثية حيث كان يحكم الحزب الشيوعي مع الرئيس القومي أحمد سوكارنو صانع الاستقلال و"كانت الولايات المتحدة الأميركية مغتاظة بسبب تأميم المناجم الأندونيسية كما بسبب العلاقات التي أقامتها جاكارتا مع بكين وموسكو، وهي كانت قد بدأت تغرق في وحول حرب فيتنام، فقررت استعمال الوسائل الكبيرة، وكان نجاحها كاملا، ففي ختام سيناريو بارع لم يتم الكشف عن تفاصيله إلا بعد عقود، اعتبر الشيوعيون والقوميون خارجين على القانون، فاعتقلوا وذبحوا بأعداد كبيرة، في الجامعات والإدارات وأحياء العاصمة وحتى في القرى النائية، إذ تتحدث التقديرات الأكثر جدية عن ستمائة ألف قتيل بين أكتوبر-تشرين الثاني 1965 و 1966 وسلم الحكم إلى الجنرال سوهارتو الذي أقام طوال أكثر من عشرين عاما ديكتاتورية ظلامية وفاسدة".

ويشير إلى إن المسألتين الغربية والشرقية تعيشان مأساة "وإذا كانت مأساة العرب هي كونهم فقدوا مكانتهم بين الأمم، وشعورهم بعدم القدرة على استعادتها، فإن مأساة الغربيين هي اضطلاعهم بدور عالمي مبالغ فيه باتوا غير قادرين على المضي في ممارسته بشكل كامل، ولكنهم عاجزون أيضا عن التخلي عنه".

يحلل معلوف التجربتين التركية ممثلة في الأتاتوركية والمصرية ممثلة في الحقبتين الناصرية والساداتية وانعكاساتهما وذلك في إطار قراءته لمفهوم الشرعية غربيا وعربيا، ليخلص إلى أن غياب الشرعية بالنسبة إلى كل مجتمع بشري، شكل من أشكال انعدام التوازن الذي يخلخل كل السلوكات "فمتى كانت أية سلطة، أية مؤسسة، أية شخصية، لا تستطيع أن تحوز صدقية معنوية حقيقية، ومتى بلغ حد الاعتقاد بأن العالم غابة يسودها الأقوى وكل الضربات فيها مباحة، لا يعود هناك بد من الانجراف نحو العنف القاتل والطغيان والفوضى".

ويطالب معلوف العالم اليوم بالخروج من الشرعيات السابقة والعقد النفسية التي تم اكتسابها والتي تترائ كارثية في ظل الوضع الراهن، "فلنخرج نحو الأعلى لا نحن الأدنى، وليكن ذلك نحو استنباط سلم للقيم جديد يتيح لنا أن نتعامل تعاملا أفضل مما فعلنا حتى الآن مع تنوعنا وبيئتنا ومواردنا ومعارفنا وأدواتنا وقدراتنا وتوازناتنا وبتعبير آخر، مع حياتنا المشتركة وليس نحو نبذ كل سلم للقيم".

*. نقلاً عن صحيفة العرب اللندنية