هل يبدأ الدولار رحلة صعود جديدة؟
الاثنين, 14-يناير-2013
ناصر التميمي -


سيطر الدولار الأمريكي على المعاملات المالية واحتياطيات النقد الأجنبي في العالم لأكثر من نصف قرن، ولا تزال العملة الاميركية تعتبر بمثابة "الملك" المتوج على عرش العملات على الرغم من تراجع قيمتها منذ عام 2003. لقد هزت الأزمة المالية العالمية الأخيرة الثقة بمكانة العملة الخضراء بشكل واضح وسلطت الأضواء على دور الدولار كعملة دولية مع استمرار الازمة الاقتصادية في الولايات المتحدة.

من وجهة نظر مؤشرات الاقتصاد الكلي للولايات المتحدة، فإن الوضع يبدو مخيفا، أرقام الدين فلكية، حيث بلغ حجم الدين العام أكثر من 16 تريليون دولار، فضلا عن ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض النمو الاقتصادي. ومع ذلك، ليس هناك ما يدل على أن الدولار قد ينهار. في الواقع، يمكن وصف الانخفاض في قيمة العملة الأمريكية بأنها "منظمة" حيث ليس هناك أي علامات دامغة على أن الأمور قد تخرج عن نطاق السيطرة أو أن قيمة الدولار ربما تتدهور بشكل خطير. على العكس من ذلك، فإن جميع المؤشرات تشير إلى أن قيمة الدولار قد تبدأ رحلة صعود تدريجي مرة أخرى.
الانظار تتجه نحو "الصخري" الاميركي
في الوقت الحالي سوف يستمر الدولار التربع على "عرش" ملك العملات، ومن المتوقع ان تحافظ العملة الاميركية على مكانتها القوية لسنوات قادمة. لا بل من المرجح ان يبقى الدولار كعملة مهيمنة للعقد القادم على الأقل للأسباب التالية: (1) العملة الصينية اليوان او الرنمينبي حاليا لا يتم تداولها دوليا، ويمكن أن تأخذ ما لا يقل عن عقد آخر لتصبح عملة قابلة للتحويل في الأسواق العالمية أو حتى يصبح الاقتصاد الصيني اكثر انفتاحا ونظام سعر الصرف أكثر تحررا. (2) المشاكل التي تواجه الاتحاد الأوروبي حاليا والتي ألقت بظلالها على اليورو، (3) صغر حجم أسواق اليابان والعملة البريطانية. و (4) حقوق السحب الخاصة التي يصدرها صندوق النقد الدولي لا تتمتع أيا من السيولة ولا الثقة لتكون قادرة على العمل كعملة عالمية.

وربما ان العامل الاهم كما يقول المؤرخ الشهير وأستاذ جامعة هارفارد، نيال فيرجسون، أن توافر كميات وفيرة من الطاقة المحلية غير التقليدية أو الوقود الصخري (نفط وغاز) قد يشعل "العصر الذهبي" لحقبة اقتصادية جديدة في الولايات المتحدة. في الواقع، لقد كانت أكثر التأثيرات المباشرة لطفرة الوقود الصخري في أمريكا نفسها. وهو الامر الذي يؤكده فاتح بيرول، كبيرالاقتصاديين في وكالة الطاقة الدولية ، الذي ذكر مؤخرا "هذا يعني أن العديد من المراقبين الذين قد شطبوا الاقتصاد الأمريكي قد ارتكبوا خطأ كبيرا (...) عجز الحساب الجاري الأمريكي آخذ في الانخفاض، سيكون هناك ضغط هبوطي على التضخم سوف يعزز الدولار" ونتيجة لذلك؛ فان المستثمرين في اسواق صرف العملات الأجنبية يتعين عليهم إيلاء اهتمام عن كثب لنهضة الوقود الصخري في أميركا خلال السنوات القليلة المقبلة، واتخاذ المزيد من التوقعات الايجابية للدولار على المدى الطويل.

العلاقة بين الدولار والنفط قد تتبدل
من المعروف تقليديا انه اذا هبط سعر الخام النفط ارتفعت قيمة الدولار، ولكن التأثيرات العالمية قد تغيرهذه العلاقة. إذا كانت الولايات المتحدة ستصبح أقل اعتمادا على واردات النفط، ينبغي للعلاقة السلبية بين النفط والدولار أن تنتهي. فمن خلال تعزيز إنتاج النفط الخام المحلي بشكل ملحوظ على مدى العقد المقبل، فإن الولايات المتحدة ستكون قادرة على خفض اعتمادها على النفط الأجنبي وبالتالي دعم الدولار.

إن الولايات المتحدة أنفقت في عام 2011 ما يعادل أكثر من 2 في المائة (465 مليار دولار) من الناتج المحلي الإجمالي على واردات من النفط الخام والمنتجات البترولية الأخرى. وفي هذا الاطار، وفقا لتوقعات "دويتشه بنك"، فان تخفيض الاعتماد على واردات الطاقة قد يؤدي الى خفض العجز في الحساب الجاري الأمريكي بنحو 30 في المائة بحلول عام 2016. في حين أن بنك "يو بي أس"، أكبر بنك في سويسرا وواحد من أكبر المؤسسات المالية في العالم متفائل بشأن "ثورة" الوقود الصخر حيث أكد أخيرا ان انتعاش انتاج النفط الصخري في أميركا سوف يعزز الدولار عن طريق تضييق العجز في الحساب الجاري وتقليص المدفوعات النقدية المخصصة للواردات النفطية .

في الحقيقة ان استثمارات "ثورة" الوقود الصخري بالفعل غيرت مستقبل الطاقة أميركا، وربما تحقق فوائد هائلة لاقتصادها. مؤسسة "اي هتش أس IHS " تتوقع نموا كبيرا في النفقات الرأسمالية وفرص العمل التي قد تحدث نتيجة دعم التوسع في قطاع مصادر الطاقة غير التقليدية أو الوقود الصخري. تقرير IHS جلوبال انسايت الأخير يشير إلى أنه بالفعل في عام 2012، وفرت قطاعات الوقود الصخري بأكملها نحو 1.7 مليون وظيفة للأميركيين. ومن المتوقع أن ينمو هذا الرقم يصل إلى 2.5 مليون وظيفة مع نهاية عام 2015، و 3 ملايين وظيفة بحلول عام 2020.

بالإضافة إلى ذلك، في عام 2012، اسهمت نشاطات قطاعات الوقود الصخري بتوفيرما يقرب من 62 مليار دولار في عائدات الضرائب الاتحادية والمحلية. بحلول عام 2020، سوف تنمو إجمالي الإيرادات الحكومية الاميركية من تلك القطاعات إلى ما يزيد قليلا على 111 مليار دولار سنويا. وعلى أساس تراكمي، فان قطاعات الوقود الصخري في الولايات المتحدة سوف تقوم بتوليد أكثر من 2.5 تريليون دولار من عائدات الضرائب بين عامي 2012 و 2035. هذا إلى جانب ضخ أكثر أكثر من 5.1 تريليون دولار من النفقات الرأسمالية بين عامي 2012 و 2035 عبر كافة قطاعات الطاقة غير التقليدية (نفط وغاز).

في الوقت ذاته، ان انخفاض أسعار الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة، والتي تمثل ثلث تلك الموجودة في أوروبا واليابان، ساهم في استقطاب مليارات الدولارات من الاستثمارات في قطاع الصناعات المتقدمة في الولايات المتحدة الامر الذي قد مما يغذي قطاعات تصديرية جديدة في المستقبل. وفقا لشركة "داو كيميكال" للكيماويات، التي أعلنت مؤخرا عن خطة استثمارية بقيمة 4 مليارات دولار في مصانع البتروكيماويات في ولاية تكساس ولويزيانا، فان عدد الإستثمارات التي أعلنها المنتجين في القطاعات الصناعية التي لها علاقة بقطاع الوقود الصخري وصل إلى 100 مشروع بلغت قيمتها الاجمالية أكثر من 90 مليار دولار خلال السنتين الماضيتين أو نحو ذلك للاستفادة من أسعار الغاز الطبيعي المنخفضة داخل أميركا.

توقعات ايجابية للعملة الخضراء
في اطار المعلومات السابقة، فإنه يمكن القول أن العلاقة الترابطية بين الدولار والنفط الخام ستتجه للنمو طرديا على مدى العامين القادمين، ما يعني، بحسب بنك "يو بي أس"، ان قيمة الدولار من شأنها أن تتعزز مع إرتفاع أسعار النفط. وفقا لإاستطلاع أجراه موقع بلومبيرغ فانه يتوقع أن تصعد قيمة الدولار بنحو 2 في المائة مقابل 46 عملة أخرى بحلول نهاية عام 2014. وعلاوة على ذلك، في دراسة حديثة عن إنتاج النفط المحلي في الولايات المتحدة، إستنتج محللون في "سيتي بانك" أن الأثر التراكمي لعمليات الإنتاج الجديدة، انخفاض واردات الطاقة، والنشاطات المرتبطة بقطاعات الوقود الصخري قد تزيد الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الولايات المتحدة بنسبة 2 إلى 3%، وخلق نحو 2.7 إلى 3.6 مليون وظيفة جديدة بحلول عام 2020. كما يمكن أن يتقلص العجز في الحساب الجاري الأميركي بنسبة 2.4% من الناتج المحلي الإجمالي، وتخفيض 60% في العجز الحالي، وذلك بحلول عام 2020. وهذا من شأنه، بحسب"سيتي بانك" أن يكون له اثار ايجابية على الدولار الأميركي، حيث من المرجح ان يساعد على تعزيز القيمة الحقيقة للدولار بنسب تتراوح بين 1.6 و 5.4 بحلول عام 2020، مما يوقف انحدار قيمة العملة الخضراء على المدى الطويل ويحافظ على مكانة الدولار باعتباره العملة الاحتياطية الأولىة في العالم. بالإضافة إلى ذلك، فان مؤسسة غولدمان ساكس متفائلة بشأن آفاق النمو طويلة الأجل حيث أشارت في أخر تقرير استثماري لها إلى أن: "هذه التحولات في إنتاج الوقود الصخري من المرجح أيضا أن تدعم تحسين وضع الحساب الجاري الأمريكي وقوة الدولار الأمريكي".

قبل كل شيء، لا يزال الدولار لم يفقد جاذبيته بعد ويمثل ملاذ آمن للمستثمرين. وفقا لبيانات وزارة الخزانة الامريكية ارتفع إجمالي المشتريات الأجنبية الرئيسية من سندات الخزانة الأمريكية في الاحصائيات (نهاية أكتوبر 2012) إلى نحو 5.48 تريليون دولار مقارنة مع ما يقارب 4.91 تريليون دولار في الفترة نفسها من عام 2011. البلدان المصدرة للنفط، ومنها طبعا دول الخليج، تقوم مرة أخرى بزيادة حصصها في شراء السندات الحكومية الأمريكية. لقد ارتفعت سندات الخزانة التي تملكها الدول المنتجة للنفط أو وكلاء يمثلون دول الشرق الأوسط بنحو 9.2 في المئة في عام 2012 (نهاية شهر سبتمبر) ، إلى634.8 مليار دولار ، بعد تراجع 11% في عام 2011، وفقا لبيانات وزارة الخزانة الأكيركية. وعلى مستوى الاحتياطات العالمية من العملات الاجنبية لا يزال الدولار هو سيد الموقف حيث بلغت حصته ما يقرب من 62 في المئة من الاحتياطيات الرسمية للعملات الأجنبية وفقا لآخر الأرقام (نهاية سبتمبر - 2012) من قبل صندوق النقد الدولي، ما يقرب من 2.5 مرة أكثر من احتياطات اليورو و تقريبا 5 مرات من ذلك من العملات الرئيسية الأخرى (بإستثناء اليورو) مثل الين الياباني والجنيه الإسترليني والفرنك السويسري.

لا يوجد "بديل" للدولار
في الوقت الحاضر ليس هناك عملة بديلة تنافس الدولار أو أنها سوف تتربع محل العملة الأمريكية على "العرش" الذي تجلس عليه حاليا. أما بالنسبة للمستقبل، أنه يمكن القول إن مركز ثقل الاقتصاد العالمي آخذ في التحول نحو الصين والهند والاقتصادات الناشئة والتي يمكن أن تشير إلى أن العالم قد يتحول إلى نظام متعدد العملات، ولكن حجم هذا التحول سوف يعتمد بشكل رئيسي على إيجاد منافس مناسب للدولار. باري أيكنغرين، أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، في كتابه الممتاز الصادر حديثا عن معهد المالية العالمية "هل عصر هيمنة الدولار يقترب من النهاية؟" يجادل بدون مواربة: "الأحداث الأخيرة في الاقتصاد العالمي قد عززت دور الدولار وعملت على تأخير ظهور اليورو كمنافس مع تسريع بروز العملة الصينية - الرنمينبي، الا أنها لم تفعل شيئا لتغيير الإستنتاجات المركزية (...) الدولار لا يزال العملة العالمية الوحيدة الحقيقية في الوقت الراهن. "

ولكن ما هو صحيح حاليا قد لا يكون صحيحا دائما. بول كينيدي، أستاذ التاريخ ومدير دراسات الأمن الدولي في جامعة ييل، ومؤلف الكتاب الشهير"ارتفاع وسقوط القوى العظمى" حذر "المتفائلين" مؤخرا: "على الرغم من اكتشاف مصادر الطاقة الجديدة داخل الولايات المتحدة قد يعزز قوة أميركا الاستراتيجية (...) إلا انها قد تحمل في طياتها العواقب غير المقصودة التي من شأنها أن تعود لتطارد الأجيال القادمة ".


* موقع العربية نت