جمهورية إصلاحون الفاضلة
الثلاثاء, 08-يناير-2013
إبراهيم محمد الهمداني -
تعددت النظريات والفلسفات التي حاولت صياغة وتنظيم الحياة الإنسانية، انطلاقا من تحديد موقع الإنسان وعلاقته بمحيطه العام والخاص، وقد سعت تلك الفلسفات جاهدة لاكتشاف المجهول وتفسير المشكل والغامض الكامن في الإنسان وغيره على السواء، وكان الدافع الرئيس وراء تلك الجهود الفكرية التأملية، هو تجاوز وتفادي المآزق الحياتية السائدة والطارئة، والوصول إلى صياغة حياتية جديدة خالية من السلبيات والأخطاء، الناتجة عن الجهل الذي يبنى – بدوره – الظلم بمختلف أنواعه، الأمر الذي يجعل وجود مثل تلك الرؤى والتصورات الفلسفية ضروري جدا، بوصفها حاجة ملحَّة وأمرا حتميا لابد منه، من أجل إنقاذ الحياة الإنسانية وإعادتها إلى طبيعتها الأصلية وحقيقتها السامية، ولتحقيق ذلك تأسست وقامت معظم الفلسفات اعتمادا على المبادئ الإنسانية الثلاثة – الحرية والعدالة والمساواة – أو ما يمكن تسميته بـ ثالوث الحياة الإنسانية الكريمة، وغالبا ما يكون مبدأ الحرية أكثرها بروزا وحضورا في الخطاب الفلسفي، وذلك لأنه يعد السلاح الفعَّال والمناسب لمواجهة أيديولوجيات القمع والاستبداد، ولأنه – أيضا – يعد منظومة قيمية تختزل العديد من المبادئ والقيم السامية النبيلة، والتي من ضمنها العدالة والمساواة.
ربما أمكن القول إن الطرح السالف يُبيِّن إلى حدٍ ما طبيعة الفلسفات الإصلاحية وأبعاد صورتها وملامحها البارزة، التي حاول أربابها الفلاسفة – من خلالها – هدم/ رفض الواقع المأساوي السلبي، واستبدالها بصورة واقع آخر يستمد وجوده من عالم المُثل ويتأسس على الفضيلة والأخلاق، وهذا هو ما فعله أفلاطون – على سبيل المثال – حين بنى جمهوريته أو مدينته الفاضلة، ولكنه كان أول مخالف لآرائه ومنكر لنظريته، فقد وقع في العديد من الأخطاء والمزالق، حيث كرَّس مفهوم التمييز الطبقي والعرقي، وأشاع صورة لا تحتمل من الظلم بحق المرأة، ومارس الإلغاء والمصادرة والنفي ضد الشعراء ومن على شاكلتهم ممن لا يُتوقع أو لا يُرجى أيّ نفع منهم، وبذلك خابت آمال الجماهير وأخفق أفلاطون في مشروعه التنويري التحرري.
الأمر ذاته تكرر مرة أخرى وكان فلاسفته هذه المرة قيادات حزب الإصلاح اليمني، الذين ركبوا موجة ثورة الشباب، رغم كونهم من أقطاب النظام الذي نادى الشعب بإسقاطه، فانظموا إلى ثورة الشباب واعلنوا أنفسهم قادة ليس للثورة فحسب، بل قادة للشعب – بأكمله – يملكون بأيديهم مفاتيح الخلاص والسعادة الأبدية، وكانوا يُروجون لحقهم السلطوي عبر كافة منابرهم الإعلامية، ويعلنون صراحة – وبثقة مطلقة – أنهم سيحكمون الشعب بعد زوال النظام، وسيمنحون هذا الشعب المنكوب حياة سعيدة رغدة تفوق المستوى المعيشي والحياتي العام في دول الخليج وأمريكا وأوروبا، وسيحققون كل ذلك وأكثر من خلال استغلال الثروة السمكية فقط ولا غير، بينما باقي الثروات – كالنفط والمعادن – والضرائب والجمارك والزكاة وغيرها، ستشكل فائضا ماليا كبيرا زائدا عن الحاجة، وبالإمكان استثماره في البلدان الأخرى، وستصبح اليمن البلد الأول في تقديم المعونات والمساعدات والقروض لدول العالم الأخرى كلها.
ولكن ما حدث بعد تحقق حلمهم السلطوي كان عكس ذلك تماما، إذ لم يجد المواطن اليمني غير الفقر المتزايد والجوع المتفاقم والخوف المتنامي والبطالة المتفشية إلى حد الجنون وغلاء المعيشة والارتفاع المهول في الأسعار بشكل عام، والأدهى والأمرّ من ذلك أنهم يعرفون حالة المواطن البسيط ووضعه المأساوي المتردي، ورغم ذلك لم يفعلوا شيئا سوى أنهم لعبوا نفس الدور الذي لعبه النظام السابق ضد الشعب، بل زادوا وتفوقوا عليه في ابتزاز واستنزاف الشعب ماديا ومعنويا، بكل أنانية متعالية وغطرسة وتسلط وتبجح بمنصبهم الجديد، دون وضع أدنى اعتبار للشعب الذي علق عليهم الآمال، وبوأهم المكانة التي طالما حلموا بها، والتي لم ولن يتمكنوا من وصولها لولا ثورة الشباب الشعبية، وهكذا أصبح الشعب كالمستجير من الرمضاء بالنارِ.
لعل من الإنصاف الاعتراف بأن الواقع شيء والنظريات شيء آخر، وأن الواقع لا يسمح بتطبيق النظريات المثالية كاملة، مهما كانت الجهود الرامية تحقيق ذلك، ولكن على الأقل يجب أن يلمس المواطن المسحوق شيئا من الإصلاحات التي تعيد ثقته وحبه للحاكم، ولو بتخصيص جزء يسير من الثروة السمكية لذلك، أم أن الأسماك كانت جزاء من النظام وقد رحلت تضامنا معه؟ وهل أصبحت جميع الثروات وكل مصادر الدخل الوطني عاجزة عن تحقيق أدنى الإصلاحات والمتطلبات المعيشية والأمنية الضرورية؟ أليس بإمكان تلك الثروات على الأقل إعادة الوضع الحياتي والمعيشي إلى مرحلة ما قبل ثورة الشباب؟!
إن الشعب اليمني خاصة لا يهمه من الذي يحكمه بقدر ما يهمه من الذي سيحقق له الرخاء المعيشي والأمن، وفي حال فشل حكومة النظام المشترك الحالية، وإخفاق جمهورية إصلاحون التي يبدو أنها قاحلة جدا، فإن ذلك سيكون مدعاة للبحث عن قائد بديل قادر على فعل ذلك، والشعب الذي اعتاد تقديم التضحيات لن يتوانى عن تقديمها مرات أخرى في سبيل حريته وكرامته وتحقيق طموحاته، مهما بلغت قوة القمع والبطش وخبث المؤامرات الولية والإقليمية.