الجغرافيا السياسية الجديدة والعنف في العالم العربيد
الاثنين, 07-يناير-2013
د.كمال السعيد حبيب -
تبدو الثورات العربية،‮ ‬في بعض جوانبها،‮ ‬تأسيسا لجغرافيا سياسية جديدة للعالم العربي،‮ ‬فهناك نظم تسقط،‮ ‬وأخرى تولد‮. ‬وبين السقوط والميلاد،‮ ‬تحدث توترات عنيفة،‮ ‬مصحوبة بالضرورة بقدر من العنف‮. ‬وبين ذلك كله،‮ ‬يمكن للباحث أن يخلص إلى أننا في العالم العربي نشهد تشكل جغرافيا سياسية جديدة لهذا العالم‮.‬

ولهذه الجغرافيا السياسية الجديدة ملمحان بدآ يبرزان ويتصاعدان بقوة خلال الأشهر الماضية،‮ ‬الملمح الأول يشير إلى أن هذه الجغرافيا السياسية الجديدة تؤسس لعنف ذي أبعاد جديدة‮. ‬أما الملمح الثاني،‮ ‬فيشير إلى تجزئة محتملة على أسس طائفية‮. ‬هذان الملمحان يبدو كذلك أنهما قد يكرسان التحاق عالمنا العربي بالغرب،‮ ‬وتحقيق مطامعه ومخططاته من حيث لا ندري‮. ‬في هذا المقال التأسيسي والاستشرافي لتلك الجغرافيا السياسية الجديدة،‮ ‬يمكننا الحديث عن موضوعين رئيسيين،‮ ‬هما أولا‮: ‬نماذج التغيير في العالم العربي والجغرافيا السياسية الجديدة للعنف،‮ ‬ثانيا‮: ‬العلاقة مع الغرب وسياق التأسيس لتلك الجغرافيا السياسية الجديدة للعنف‮.‬

أولا‮- ‬نماذج التغيير والجغرافيا السياسية الجديدة‮:‬

يمكننا القول إن هناك نماذج ثلاثة للتغيير في العالم العربي،‮ ‬سترسم ملامح الجغرافيا السياسية للعنف فيه،‮ ‬وهذه النماذج هي‮:‬

1-الثورة والعنف في مصر وتونس‮:‬

ثورات الربيع العربي في تونس ومصر تتسيد المشهد فيهما قوي اجتماعية وسياسية تنتمي للطبقة الوسطي الباحثة عن نظام أكثر حرية وعدلا‮. ‬ورغم التحولات الكبيرة التي حدثت في المشهد السياسي العربي،‮ ‬فإن الجماهير لم تلجأ إلى العنف‮.‬كان لدينا ما أطلقت عليه‮ "‬نموذجا جديدا مختلفا للتغيير‮"‬،‮ ‬هذا النموذج قوامه الملايين من البشر،‮ ‬تتدفق إلى الميادين،‮ ‬يقودهم شباب مستخدمين للإنترنت وللشبكات الاجتماعية الحديثة‮. ‬قوة البشر في مواجهة القمع أسقطت نظما من أعتى نظم الاستبداد في المنطقة،‮ ‬بداية من نظام بن علي،‮ ‬وحتى نظام مبارك‮.‬

الآمال الكبيرة المعلقة على الثورات العربية تراجعت بعد تعثر مسار الثورة في مصر على مدي عام ونصف عام،‮ ‬وبينما كان مسار الثورة أكثر يسرا في تونس،‮ ‬واجهت مشكلات بين الترويكا الحاكمة حول قضايا متصلة بالدستور،‮ ‬وسيطرة حركة النهضة،‮ ‬وظهور التيارات السلفية الجديدة كتحد‮. ‬وفي كل الأحوال،‮ ‬فإن الدول التي لديها مؤسسات سياسية وطبقة وسطي واسعة،‮ ‬كان التحول السياسي فيها من الثورة إلى الدولة أكثر أمانا وبعدا عن العنف السياسي‮.‬

هنا لدينا نموذج للثورة وللتحول السياسي،‮ ‬يشير إلى أن العنف لم يكن حاضرا في المشهد الثوري،‮ ‬وإنما قوة الشعب والشباب والجماهير في مواجهة الطغيان والاستبداد طلبا للحرية والديمقراطية،‮ ‬والعدل الاجتماعي،‮ ‬والكرامة الإنسانية‮.‬

ظهر العنف لاحقا في حالة مصر وتونس،‮ ‬متخذا من لافتة‮ "‬السلفية الجهادية‮" ‬تعبيرا له‮. ‬وهنا،‮ ‬يثور التساؤل‮: ‬هل فتحت حالة التفكك والانهيار في الدولة القديمة،‮ ‬سواء في مصر أو تونس،‮ ‬الباب أمام القوي الإسلامية المتخذة من العنف سبيلا لها لتجد لنفسها موطئ قدم في المشهد الجيواستراتيجي الجديد؟
صحيح أن هذه القوي لم تشارك في الثورة مع الجماهير والناس،‮ ‬وإنما كانت موجودة على هامشها تراقب وترفع أعلامها،‮ ‬وتجمع قواها‮. ‬

وبشكل عام،‮ ‬فإن انهيار النظم السياسية القديمة،‮ ‬وعدم اكتمال بناء النظم السياسية الجديدة فتحا الباب للقوي التي تتبني الفكر السلفي الجهادي لتتخذ لنفسها موطئ قدم،‮ ‬وتمثل تحديا حقيقيا للوافدين الجدد للسلطة،‮ ‬وهنا نجد أنفسنا أمام استقطاب إسلامي‮ - ‬إسلامي‮. ‬فالسلفية الجهادية ترفض الديمقراطية وتراها كفرا‮. ‬ومن ثم،‮ ‬فإن الإخوان الذين يحكمون في مصر،‮ ‬وحركة النهضة التي تحكم في تونس يمثلان خروجا عن المسار الإسلامي الصحيح في طريقة وصولهما إلى السلطة من منظور السلفية الجهادية‮.‬

في مصر،‮ ‬حيث كان الرافد الجهادي السلفي لا يزال قويا،‮ ‬فهناك إسلاميون جهاديون رفضوا المراجعات،‮ ‬ومن ثم ظلوا متمسكين بالفكر السلفي الجهادي،‮ ‬وقد خرجوا من السجن،‮ ‬كما أن صلاتهم بروافد القاعدة مفتوحة‮. ‬وقد تبدي فائض القوة والعنف لديهم في عمليات عسكرية بأطراف الدولة المصرية في منطقة سيناء،‮ ‬حيث تغيب السلطة المركزية،‮ ‬ويتفشي الشعور بالتهميش والتمييز،‮ ‬وحيث تسود الروح القبلية ذات الطابع البدوي المتماهية مع منطق السلفية الجهادية الأقرب إلى الفكر الخوارجي في التاريخ الإسلامي والفكر الفوضوي في التاريخ الغربي،‮ ‬وهو فكر يرفض السلطة والدولة،‮ ‬ويسعي لحالة أقرب إلى العودة لحالة البداءة الأولي منها إلى دولة حديثة‮.‬

في هذا السياق،‮ ‬برز الحديث عن الإمارة الإسلامية في سيناء،‮ ‬والهجوم على مقار الشرطة في العريش،‮ ‬وتفجير خط الغاز لمنعه من الوصول لإسرائيل‮. ‬بيد أن عملية رفح،‮ ‬التي قُتل فيها ‮ ‬16 جنديا مصريا وهم يفطرون في رمضان،‮ ‬كانت ناقوس الخطر الأكبر في بلوغ‮ ‬التيار السلفي الجهادي في مصر حدا لا يمكن السكوت عنه من قبل الدولة المصرية التي يحكمها تيار إسلامي أيضا،‮ ‬وهم الإخوان المسلمون‮. ‬وحين تفجرت مشكلة الفيلم المسئ للنبي‮ - ‬صلي الله عليه وسلم‮ - ‬فإن السلفية الجهادية اقتحمت أسوار السفارة الأمريكية في مصر،‮ ‬ورفعت علم السلفية الجهادية مكان العلم الأمريكي في الذكري الحادية عشرة ليوم‮ ‬11 سبتمبر‮. ‬وهنا،‮ ‬انتقل التحدي السلفي الجهادي من الدولة المصرية إلى الولايات المتحدة،‮ ‬وأصبحت السفارة الأمريكية عنوانا للجهاد العولمي للتيار السلفي الجهادي في قلب القاهرة‮.‬

في تونس،‮ ‬ظهر عنف التيار السلفي الجهادي في البداية محتجا على عدم السماح للطالبات المنتقبات بدخول الجامعة،‮ ‬و على قناة‮ "‬نسمة‮" ‬التي شخصت الذات الإلهية،‮ ‬ويدعو التيار إلى إقامة إمارة إسلامية في تونس هو الآخر‮. ‬كما أن تيارا لأنصار الشريعة في تونس،‮ ‬يتزعمه سيف الله بن حسين المكني بأبي عياض،‮ ‬وهو قاتل في أفغانستان،‮ ‬سعي لتأسيس ما يطلق عليه‮ "‬الجماعة الإسلامية المقاتلة في تونس‮"‬،‮ ‬وقد فتحت أجواء ما بعد الثورة في تونس،‮ ‬كما هو الحال في مصر،‮ ‬السبيل لقادة التيار السلفي الجهادي للخروج من السجن كما هو الحال في مصر‮.

‬بيد أن الفيلم المسئ للنبي‮ - ‬صلي الله عليه وسلم‮ - ‬فتح الباب واسعا لبروز تحدي التيار السلفي الجهادي لحكومة حركة النهضة الإسلامية،‮ ‬حيث حاول التيار السلفي الجهادي في تونس اقتحام السفارة الأمريكية،‮ ‬وهو ما أدي لقتل عدد من الأفراد‮. ‬إن هذا جعل الزعيم التونسي لحركة النهضة،‮ ‬راشد الغنوشي،‮ ‬يقول إن التيار السلفي الجهادي في تونس يمثل خطرا على الدولة،‮ ‬ولابد من اتخاذ الخطوات اللازمة لمنع هذا الخطر‮. ‬وفي مصر،‮ ‬قال زعيم التيار القطبي،‮ ‬عبد المجيد الشاذلي،‮ ‬إن التيار السلفي الجهادي في مصر هو تيار خوارجي وعبثي،‮ ‬ولابد من استئصاله‮.‬

انتقل فائض المقاومة في‮ ‬غزة إلى سيناء،‮ ‬حيث هناك تجاور بين التيار السلفي الجهادي في سيناء وغزة‮. ‬وفي تونس،‮ ‬سوف نجد التجاور بين التيار السلفي الجهادي في تونس من ناحية الغرب،‮ ‬والفضاء الواسع الذي تتحرك فيه تنظيمات التيار السلفي الجهادي في منطقة المغرب العربي والصحراء،‮ ‬وهو ما قد يعني فائضا للقوة يمثل ظهيرا محتملا لدعم التيار السلفي التونسي في المستقبل في مواجهة الدولة والمصالح الأمريكية والغربية معا‮. ‬كما أن التجاور الجغرافي مع ليبيا لا يمكن نكران تأثيره في التيار السلفي الجهادي في تونس أيضا‮.‬

2- العنف والحرب الأهلية والتدخل الدولي في ليبيا‮:‬

ليبيا نموذج مختلف للتغيير،‮ ‬فالطريقة التي سقط بها نظام القذافي كانت حربا أهلية،‮ ‬حمل فيها الشعب الليبي السلاح،‮ ‬وتدرب عليه بدعم‮ ‬غربي وعربي،‮ ‬وهو ما خلق بيئة مهيأة لانتشار العنف،‮ ‬خاصة مع‮ ‬غياب مؤسسات الدولة الليبية في عهد القذافي،‮ ‬وضعف الطبقة الوسطي الليبية،‮ ‬والمؤسسات الأهلية والمدنية المعبرة عنها‮. ‬بدأت الاضطرابات في ليبيا في منتصف شهر فبراير في عام‮ ‬2011 واستمرت لثمانية أشهر كاملة،‮ ‬حتي انتهت في النصف الأول من شهر أكتوبر‮ ‬2011 وتدخل المجتمع الدولي بصدور قرار دولي من مجلس الأمن بتدخل قوي الناتو،‮ ‬وفرض مناطق حظر جوي على نظام القذافي‮. ‬وظهرت قوة الإخوان المسلمين،‮ ‬كما شاركت وبقوة الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة،‮ ‬التي كانت قد أعلنت أنها تحولت للحركة الإسلامية الليبية‮. ‬وظهر المجلس الوطني الانتقالي كهيئة وحيدة معبرة عن الدولة الليبية،‮ ‬إبان الثورة وبعدها،‮ ‬والذي ضم إسلاميين من الإخوان،‮ ‬ومن الجماعة الليبية المقاتلة‮.‬

فتحت الحرب الأهلية في ليبيا الأبواب على مصراعيها على مخازن الأسلحة الليبية،‮ ‬والتي كانت فرصة ذهبية لتجار السلاح والمغامرين،‮ ‬وصناع الحروب،‮ ‬ومهندسي مناطق التوتر،‮ ‬وصانعي الجغرافيا السياسية للعنف‮.‬ عاد المرتزقة الذين كانوا يقاتلون إلى جانب كتائب القذافي بأسلحتهم إلى مالي،‮ ‬وتحالف الطوارق الموالين للقذافي‮ (‬حركة أزواد‮)‬،‮ ‬والعائدين بأسلحتهم مع تنظيم القاعدة‮ (‬حركة أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد في‮ ‬غرب إفريقيا‮)‬،‮ ‬حتي استطاعوا أن يسيطروا على شمال مالي تقريبا،‮ ‬ويربكوا دولا في إقليم المغرب العربي وغرب إفريقيا وحتي نيجيريا‮.‬

لم يقتصر أمر مخازن السلاح المفتوحة في تأثيره على منطقة الغرب الإفريقي وإنما امتد ليشمل منطقة المشرق العربي حتي سيناء وغزة،‮ ‬وبالطبع مرورا بمصر‮. ‬بيد أن منطقة سيناء كانت هي الأكثر استقبالا للسلاح القادم من ليبيا،‮ ‬عبر طرق ومسالك يعرفها تجار السلاح‮. ‬فتشبع قطاع‮ ‬غزة بالسلاح جعل سيناء أحد مصادر استقباله وتخزينه‮.‬

فتح ضعف بنية الدولة الليبية،‮ ‬وعدم استكمال بناء مؤسساتها،‮ ‬خاصة الجيش والشرطة،‮ ‬الباب واسعا لفراغ‮ ‬أمني،‮ ‬عبرت عنه بشكل واضح حادثة مقتل السفير الأمريكي‮ "‬كريستوفر ستيفنز‮" ‬وأربعة من الدبلوماسيين‮. ‬وهنا،‮ ‬فإن نموذج الحرب الأهلية في التحول نحو نظم جديدة،‮ ‬مع ضعف مؤسسات الدولة وقواها الاجتماعية والسياسية،‮ ‬خاصة طبقتها الوسطي،‮ ‬يفتح الباب على جغرافيا عنف سياسية في محيط تلك الدولة‮. ‬وهنا،‮ ‬فإن ليبيا بقدر ضعف التيار السلفي الجهادي فيها فإنها ذاتها‮ - ‬كحالة انتقال عسرة إلى نظام سياسي جديد‮ - ‬تفتح الباب واسعا لاحتمالات رسم حدود لجغرافيا سياسية للعنف‮. ‬وعلينا تذكر أن مقاتلين من مصر وتونس والجزائر قاتلوا في ليبيا ضد القذافي،‮ ‬وانتقلوا من ليبيا إلى سوريا بعد ذلك‮. ‬فحالة الحرب الأهلية الطويلة نسبيا هي عامل جاذب لبناء جغرافيا سياسية ذات طابع عنيف‮.‬

3- العنف الطائفي والحرب الأهلية في سوريا‮:‬

يمثل الاقتتال الدائر في سوريا،‮ ‬الذي يتخذ صورة الحرب الأهلية الطويلة التي لا أفق لها‮ - ‬أو ما يمكن أن نطلق عليه الصراع الاجتماعي الممتد‮ - ‬أحد مصادر ترسيم خرائط العنف في المنطقة العربية‮. ‬فهناك استقطاب طائفي سني‮ - ‬سلفي‮ - ‬شيعي يعيد تشكيل الجغرافيا السياسية للعنف في المنطقة،‮ ‬وهناك جذب لمنتمين لتيار السلفية الجهادية من الجزائر وليبيا وتونس ومصر‮. ‬كما أن معلومات تشير إلى انتقال نشاط تنظيم القاعدة في جزيرة العرب من اليمن إلى سوريا،‮ ‬برعاية مخابراتية أمريكية‮ - ‬سعودية‮. ‬وتشير المعلومات أيضا إلى أن العرب في منطقة وزيرستان،‮ ‬والمناطق التي تنشط بها طالبان باكستان،‮ ‬يغادرون إلى سوريا،‮ ‬حيث تغض المخابرات الباكستانية الطرف عنهم للتخلص منهم‮.

وهكذا،‮ ‬يمثل الشحن الطائفي المذهبي أحد مصادر الجذب والحشد في المعركة الدائرة في سوريا اليوم‮. ‬نحن أمام حرب أهلية لا يريد الغرب أن يتدخل فيها،‮ ‬كما حدث في ليبيا،‮ ‬ومن المتوقع استمرارها،‮ ‬رغم أنها بدأت من مارس‮ ‬2011 ولا تزال مستمرة،‮ ‬فهي الحرب الأهلية الأطول في ثورات الربيع العربي‮. ‬ومن المتوقع أن تتخذ وجها طائفيا أعمق،‮ ‬كما يتوقع أن تظهر أدوار للتيارات السلفية الجهادية فيها أكبر،‮ ‬كلما طال عمرها‮.‬

هنا،‮ ‬العنف أكثر تركيبا،‮ ‬فهو عنف يتأسس على منطق طائفي،‮ ‬بحيث يكون القتل أو الحرب أو العنف على الهوية،‮ ‬وهو ما يهدد التركيبة الاجتماعية‮ - ‬السياسية للعالم العربي في مشرقه‮. ‬ولا يمكننا أن نفصل ما يجري في سوريا اليوم عما جري من قبل في العراق‮. ‬فالعنف الطائفي في العراق أدي إلى تفكيكه وضرب وحدته برعاية أمريكية‮. ‬واليوم،‮ ‬يجري في سوريا تطييف العنف برعاية أمريكية‮ - ‬خليجية‮ - ‬تركية‮.‬

لا أحب أن يفهم أحد من ذلك أنني ضد ثورة الشعب السوري في مواجهة حاكمه المستبد،‮ ‬ولكن ما يجري في سوريا ا ليوم هو تأسيس لعنف طائفي وحرب أهلية،‮ ‬تختبر فيها القوي الدولية والإقليمية ما يطلق عليه‮ "‬حروب ما بعد الحداثة‮". ‬هناك شعور بخطر تكرار التجربة الأفغانية في قلب عاصمة الأمويين،‮ ‬وهو ما سيقود إلى خطوط جغرافيا سياسية جديدة،‮ ‬ستعمدها الدماء والأفكار والعقول التي سترسم وجها عنيفا في العالم العربي لسنوات قادمة‮.‬

ثانيا‮ - ‬العلاقة مع الغرب وسياق رسم الجغرافيا السياسية الجديدة للعنف‮:‬

لا ترسم ملامح الجغرافيا السياسية ا لجديدة للعنف في العالم العربي في فراغ،‮ ‬وإنما هناك قوي ومصالح ونظم هي التي تؤسس لتلك الجغرافيا،‮ ‬والغرب الذي تقوده الولايات المتحدة وأوروبا هو الطرف الرئيسي في التأسيس لتلك الجغرافيا الجديدة‮. ‬صحيح أن الثورات في تونس ومصر بدأت شعبية ومفاجئة لأجهزة المخابرات الغربية،‮ ‬بيد أن الغرب سرعان ما حاول استيعاب تأثيرها والتكيف معها لتحقيق مصالحه‮. ‬وكان أهم ما عبر عنه الغرب في هذا السبيل هو التعامل مع القوة الإسلامية الجديدة القادمة إلى السلطة،‮ ‬بدلا من الأنظمة الاستبدادية البائدة‮.‬

كما تحدثت العديد من الدراسات الغربية عن أن النموذج الشعبي السلمي المتوافق،‮ ‬واسع التأييد من الجماهير،‮ ‬طرح بديلا عن الأصوات الجهادية التي تقصد المصالح الغربية بالاستهداف‮. ‬وأشارت إحدي تلك الدراسات‮ - ‬وهي دراسة ناثان شيلدز ‮ ‬Nathan E. Shields المنشورة في عدد ربيع‮ ‬2012 في مجلة ‮"‬Global Security Studies” تحت عنوان‮ "‬الاضطراب في الشرق الأوسط‮: ‬التداعيات السياسية بالنسبة للإرهاب الدولي وسياسة مكافحة الإرهاب‮"- ‬ إلى أن قوة الشعب وكسر الخوف في نفسه هما الضمانة لمنع الإسلاميين من أن يبقوا في السلطة للأبد،‮ ‬أو أن يتحولوا إلى نظم أوتوقراطية‮. ‬

وأشارت دراسات أخرى إلى ضرورة تخلي الغرب عن الحرب ضد الإرهاب،‮ ‬بحيث تتحول السياسة عبر العنف إلى الحرب بلا عنف للاستفادة من الربيع العربي،‮ ‬ويقول بات بروكتورPat Proctor في دراسته المنشورة في مجلة‮ ‬Strategic Security عدد صيف‮ ‬2012 تحت عنوان‮ "‬حرب بلا عنف‮: ‬الاستفادة من الربيع العربي للانتصار في الحرب على الإرهاب‮": "‬ على الغرب أن يحرر نفسه من الحرب على الإرهاب بدعم الأصوات التي لديها القوة والقبول والجاذبية،‮ ‬في مواجهة السلفية الجهادية في العالم العربي‮". ‬وأشارت الدراسة أيضا إلى مواجهة السلفية‮ - ‬الجهادية بدعم السلفية السياسية التي تتمتع بقبول واسع في الشارع العربي‮.‬

وأشارت دراسات أخرى‮ - ‬مثل دراسة ناهد كلباسي أناراكي ‮ ‬Nahid Kalbasi Anaraki "الفساد والإرهاب‮: ‬هل‮ ‬يقوضان الربيع العربي؟‮"‬،‮ ‬المنشورة في‮ "‬مؤشر الحرية الاقتصادية لعام ‮ ‬2012" (Index of Economic Freedom)- إلى العلاقة بين الفساد وتجذره وبين احتمالات انتشار العنف في العالم العربي،‮ ‬ومن ثم رأت أن القضاء على الفساد واعتماد التحول الديمقراطي ودعمه هي إحدي أدوات مقاومة العنف في العالم العربي‮.‬
هذه الدراسات تعكس الرؤي الغربية للثورات العربية وعلاقتها بالعنف أو الإرهاب،‮ ‬الذي يهدد الولايات المتحدة الأمريكية والغرب،‮ ‬وكيف يمكن حصاره،‮ ‬والقضاء عليه،‮ ‬والتخلص منه‮. ‬نقطة الانطلاق في الرؤية الغربية لعالمنا العربي هي أمن الغرب،‮ ‬دون النظر إلى علاقات اعتماد متبادل ترعي المصالح المشتركة بين العالمين المتجاورين‮: ‬الغرب والعالم العربي والإسلامي‮.‬

أحد مصادر الجغرافيا السياسية الجديدة للعالم العربي هي المقولات الغربية التي أطلقها المحافظون الجدد،‮ ‬ومفكرون‮ ‬غربيون كبار،‮ ‬أمثال برنارد لويس،‮ ‬وصمويل هنتنجتون،‮ ‬عن الإسلام،‮ ‬باعتباره عدوا بديلا عن الاتحاد السوفيتي القديم،‮ ‬وعن صراع الحضارات،‮ ‬وعن خطوط جديدة لجغرافيا العالم السياسية،‮ ‬ستكون خطوطا دموية على حدود الحضارات الكبري،‮ ‬و على رأسها الحدود بين الحضارتين الغربية والإسلامية‮. ‬ويري العالم الإسلامي أن الغرب يستخدم معايير مزدوجة في علاقته مع إسرائيل في مواجهة العالم العربي‮.

يعزز تلك الرؤية صعود الأصوليات في العالم الغربي‮ - ‬ممثلة في الأصولية‮ ‬الإنجيلية وتحالفها مع الأصولية‮ ‬اليهودية‮ - ‬وتوظيف المقولات الدينية في السياسية الخارجية،‮ ‬خاصة ما يتصل بدعم نوايا الكيان الصهيوني لهدم المسجد الأقصي وبناء الهيكل‮. ‬ويجب ألا نتغاضي عن العدوان الغربي على مقدسات العالم الإسلامي،‮ ‬خاصة النبي محمدا‮ (‬صلي الله عليه وسلم‮)‬،‮ ‬فقد اعتدت على حرمته صحف نرويجية وفرنسية،‮ ‬وكان الفيلم المسئ للنبي‮ (‬صلي الله عليه وسلم‮) ‬عنوانا للعدوان الغربي على مقدسات العالم الإسلامي،‮ ‬كل ذلك عزز للتيارات المتشددة،‮ ‬و على رأسها السلفية الجهادية،‮ ‬التي عجز الغرب طوال أكثر من عشر سنوات عن هزيمتها‮. ‬وهنا،‮ ‬فإن المصادر المغذية للعنف في العلاقة مع العالم الغربي لا تزال قائمة،‮ ‬حيث دعا تنظيم القاعدة مثلا إلى مهاجمة الولايات المتحدة والدول الغربية،‮ ‬وقتل من شارك في الفيلم المسئ للنبي صلي الله عليه وسلم‮.‬

وهنا،‮ ‬فإن الحديث عن حلول ذات طابع اقتصادي‮ - ‬اجتماعي،‮ ‬مثل الفقر،‮ ‬والتهميش،‮ ‬والبطالة،‮ ‬وغياب التنافس الاقتصادي،‮ ‬أو الديمقراطية السياسية،‮ ‬يظل‮ ‬غير كاف في علاقة العالم الغربي بالعالمين العربي والإسلامي،‮ ‬ما لم يتم الحديث عن علاقة قائمة على الاحترام المتبادل،‮ ‬خاصة فيما يتعلق بالجانب الديني والعقدي والثقافي‮. ‬لا يكفي الحديث عن دعم الاتجاهات والأصوات النابذة للسلفية الجهادية في العالم العربي،‮ ‬والتي تستهدف المصالح الغربية،‮ ‬وإنما لابد من الحديث عن احترام العالم الغربي لثقافة العالم العربي،‮ ‬ولنظامه الاجتماعي والثقافي وتركه وما يختار ويدين‮.‬

لابد للغرب أن يتحرر من مركزيته وهيمنته الثقافية،‮ ‬وفرض نماذجه في حرية التعبير على العالم الإسلامي بالاستهتار بمقدساته،‮ ‬وبث الكراهية والتمييز ضد المسلمين في الغرب،‮ ‬فيما يعرف بظاهرة‮ "‬الإسلامو فوبيا‮". ‬فالعالم أصبح قرية واحدة،‮ ‬ولم يعد مقبولا الحديث عن الاستهتار بمقدسات أكثر من ألف مليون مسلم بحجة حرية التعبير‮. ‬فأحد مصادر العنف المشكلة للجغرافيا السياسية الجديدة للعالم العربي هو العنف الرمزي في مواجهة المقدس الإسلامي،‮ ‬في ظل شبكات تواصل اجتماعي تجعل من المشاهد مشاركا في الحدث‮. ‬فكما أن مصير العالم واحد فيما يتعلق بقضايا البيئة مثلا،‮ ‬فإن العالم مصيره واحد أيضا فيما يتعلق باحترام مقدسات كل أمة،‮ ‬وعدم ازدرائها،‮ ‬أو الاستهزاء بها‮.‬

على الغرب أن يدرك أن مصيره مرهون بمصائر الأمم الأخرى الكبري،‮ ‬مثل العالم الإسلامي،‮ ‬وفي القلب منه العالم العربي،‮ ‬ويكف عن التدخل في رسم خرائط جديدة لعالمنا العربي لإضعافه،‮ ‬وفرض الهيمنة،‮ ‬ومزيد من التجزئة عليه،‮ ‬فإن ذلك سيفتح الأبواب مشرعة علي حروب ونزاعات طائفية وعرقية وقومية،‮ ‬لن يكون الغرب ولا حلفاؤه بمنأى عنها‮.‬

الإحالات والمراجع‮ :‬


1- Proctor, Pat, “war without violence: leveraging the arab spring to win the war on terrorism” , Journal of Strategic Security, Volume 5 Issue 2 2012, pp. 47-64.
2- Alexander, Yonah, Special Update Report, “Terrorism in North, West & Central Africa: From11l9 to The Arab Spring”, the International Center for Terrorism Studies (ICTS), January, 2012.
3- Shields, Nathan E, “Unrest in The ME: Potential Implications for International Terrorism and Counterterrorism Policy”, Global Security Studies, Spring 2012, Volume 3, Issue 2.
4- Anaraki, Nahid Kalbasi, “Corruption and Terrorism: Will they Undermine the Arab Spring ”, in 2012 Index of Economic Freedom.
5- ناهض حتر،‮ ‬سوريا كنموذج قيد الاختبار،‮ ‬الامبريالية وحرب ما بعد الحداثة‮:‬
‮ ‬http://www.al-akhbar.com/node/166852
6- كمال حبيب،‮ ‬مصادر الإرهاب في مصر،‮ ‬دراسة‮ ‬غير منشورة‮.‬

تعريف الكاتب:
باحث متخصص في شئون الجماعات الإسلامية.




*. نقلاً عن صحيفة السياسة الدولية