الإسلام السياسي والعنف: القتل في سبيل الله!
الاثنين, 07-يناير-2013
عبد الجليل معالي -
إن الراصد للتجارب السياسية للتنظيمات الدينية الإسلامية يلحظُ دون شكّ ارتباطها بممارسة العنف: أداة لفرض الأفكار ولإنجاز التغيير. فمع ظهور اول تيار إسلامي سياسي معلن في العالم ممثل في تيار الإخوان في مصر والذي توسع في مختلف أرجاء العالم العربي بدأ تاريخ العنف السياسي، وشمل لاحقا أقطارا عديدة "جغرافيا العنف"

تاريخ العنف

يكفي إلقاء نظرة سريعة على علاقة الإخوان المسلمين وغيرهم من تنظيمات الإسلام السياسي بالأنظمة القائمة في الأقطار التي نشط فيها هؤلاء لنكتشف أن ممارسة تلك الجماعات كانت تتراوح بين العنف وبين المناورة. اغتال اخوان مصر خازندار باشا في آذار/مارس 1948 الذي أصدر ضدهم أحكاما بدت لهم قاسية "زمن الملك فاروق" على خلفية اعتدائهم على جنود انجليز.

ثم اغتالوا النقراشي باشا في نفس العام أي 1948 بأنه أصدر قرارا بحلّ الجماعة وكان القاتل "عبد المجيد أحمد حسن" ينتمي أيضا للجماعة. ومنذ ذلك التاريخ "واظبت" الجماعة على ممارسة العنف قتلا وتفجيرا واغتيالا في سياق طالَ الجميع: ساسة ورجال علم وفكر وثقافة وأجانب وغير ذلك. كما تواصلت التعبيرات العنيفة في العقود الموالية وكانت تعبّر وتعكس علاقة الإخوان مع النظام الحاكم، فحاولوا اغتيال جمال عبد الناصر في حادثة المنشية الشهيرة في تشرين الاول/ اكتوبر 1954، ثم كرروا محاولة قلب النظام عام 1965 في اوج الضغوط الموجهة على مصر. في 6 تشرين الاول/اكتوبر 1981 أقدم خالد الاسلامبولي الذي ينتمي إلى منظمة الجهاد الإسلامي على اغتيال أنور السادات احتجاجا على اتفاقية السلام التي أبرمها السادات مع اسرائيل وأيضا على موجة الاعتقالات التي أطلقها السادات بداية من أيلول/ سبتمبر من العام نفسه.

لا يكفي الحيز هنا لاستعراض كلّ تمظهرات العنف السياسي الذي تعتمده الجماعات الدينية المتشددة، ولكن بين اغتيال احمد الخازندار واغتيال المفكر فرج فودة عام 1992 توجد عشرات المحطات والدلائل على التصاق التيارات الدينية المتشددة بالعنف السياسي.

توسع جغرافيا العنف

مع توسع فكرة الجماعة إلى أقطار عربية وغير عربية أخرى، انتقلت ممارسة العنف إلى فضاءات أخرى تبعا للتماهي بين "الفكر" الذي يحرك الجماعة وبين العنف كأسلوب تغيير. فظهرت جغرافيا جديدة للعنف شملت أغلب الأقطار الاسلامية، من أفغانستان وباكستان وصولا إلى نيجيريا ومالي مرورا باليمن ومصر ولبنان والجزائر وغيرها، ولا يوجد قطر واحد عربي او إسلامي واحد كان في منأى عن عمليات عنف إسلامية التخطيط والتنفيذ.

الملاحظُ هنا أنه كلما "ازدهرت" جماعة دينية ما في قطر عربي او إسلامي إلا وارتفع منسوب العنف ونسقه، وللتدليل على ذلك نستحضر المثال الجزائري خلال عشرية التسعينات الدموية، والمثال النيجيري والمالي والعراقي "بعد مفصل 2003" وغيرها. كما مثل وصول بعض الجماعات الدينية إلى السلطة انطلاقا لمرحلة يعاد فيها القطر برمته إلى زمن آخر اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا، ولنا في امثلة أفغانستان وباكستان والصومال وغيرها من التجارب أقوى دليل.

ربط الحقّ بالعنف

يعود استعمال العنف لدى تيارات الإسلام السياسي إلى تضافر أسباب عديدة، منها ما هو موضوعي عميق ومنها ما هو مباشر يرتبط بالظروف السياسية القائمة.

يمكن أن نتبين ملاحظة أساسية تربط وتوحّد أغلب تيارات الإسلام السياسي وهي فكرة "ربط الحق بالعنف"، فإذا تماهى التفكير مع الدين وأصبح يرى أنه على حقّ وغيره على "ضلالة" فإن المسافة تنحسر وتتقلص بين ادعاء الحق "كفكرة" وبين استعمال العنف "بوصفه سعيا لفرض ذلك الحق أو الدفاع عنه"، وعندما يتصور فرد أو جماعة أنه يمتلك الحقّ فانه لن يتورع عن السعي إلى فرضه بكل الطرق بدءا من النهي عن المنكر وصولا إلى استعمال السلاح ورفع لواء الجهاد ضدّ الكفار أو ضد الحاكم الجائر أو المارقين عن الدين. ولا شكّ أن اختزال المسافة الفاصلة بين تصوّر امتلاك الحق وبين المرور إلى فرضه واقعا، يتناقض مع الطبيعة البشرية القائمة على الاختلاف والتنوع، لأن الله خلق البشر ألوانا ومللا مختلفة.

ذوبان فكرة الوطن

الدافع الثاني لاحتواء تيارات الإسلام السياسي على بذور العنف منذ نشأته، هو أنها تيارات لا تعترف بفكرة الوطن والدولة، وحتى إن اعترفت بها في ظرفيات معينة فهو اعتراف مرحليّ آني يمثلُ" تحريفا" أو انزياحا عن نصوصهم وأدبياتهم الفكرية المؤسسة. ما تزال أغلب تيارات الإسلام السياسي تستند وتدافع عن مفاهيم "الأمة الإسلامية" وضرورة إرساء الخلافة الإسلامية رغم ضبابية هذه المفاهيم وتعدد معانيها وتعريفاتها.

تحيلُ المفاهيم المشار إليها إلى فترة ذهبية في التاريخ العربي الإسلامي، لكن ذلك لا يعني إمكان إعادة إنتاجها، فالدعوة إلى ارساء الخلافة الإسلامية والدولة الإسلامية تمثل صدى لنظرة نقية جدا للتجربة التاريخية الأولى، فالإخوان والسلفيون ينظرون إلى عصر الصحابة نظرة لا تاريخية ويرفعونه من مثال للاستئناس إلى نموذج يقاس عليه ويرادُ إعادة إنتاجه.

من ناحية ثانية أصبح العالم الإسلامي يتشكل من دول عديدة سمتها العامة –بتفاوت- أنها دول حديثة تقوم على مفاهيم مغايرة لما تقوم عليه المفردات التاريخية الأولى، فالدولة الحديثة تقوم على الوطن والدولة والمواطنة والقانون والديمقراطية وهي مقولات تغيبُ او تختلف في التجربة التاريخية الأولى لعصر الصحابة. تغيب فكرة الوطن لدى تيارات الإسلام السياسي لتحلّ محلها فكرة الأمة الإسلامية، ويختفي لديهم مفهوم الدولة ليتحول إلى مقولة الخلافة، والحال أن المتابع البسيط للواقع السياسي يوقنُ باستحالة الحديث عن توحيد عالم إسلامي يضمّ دولا مختلفة ومتباينة الثقافات واللغات والقيم والانتماءات، إضافة إلى أنها دول أرست كياناتها السياسية بناء على مراكمة تاريخية امتدت على قرون عديدة، وهي دول وكيانات تفخر بهوياتها السياسية الحديثة مع اعترافها بالرافد الديني الإسلامي كرافد مساهم في تشكيلها وليس محددا لها.

هذا الاختلاف بين دول حديثة وبين أمة إسلامية تستحضرُ عنوة في أذهان اتباع الإسلام السياسي، ينتج تصادما بين زمنين وبين فكرتين، لذلك يسعى أتباع التيارات الإسلامية عند كلّ احتكاك مع الدول الحديثة –مع الإقرار هنا بان أغلبها كانت كليانية شمولية- إلى فرض ما يرونه بالعنف والقوة فيترجمُ ذلك تفجيرا وقتلا واغتيالا.

لاشك ان ظاهرة "العنف السياسي" ليست مقصورة على التيارات الدينية المتشددة، وهي ظاهرة عانى العالم منها كثيرا، حيث نذكرُ جنوح بعض التنظيمات اليسارية الراديكالية إلى العنف الثوري في عديد الأقطار مثل تنظيم الدرب المضيء الماوي في البيرو، وحركة توباماروس في الأوروغواي والإيتا الإسبانية وغيرها، لكن هذه التنظيمات وإن حاربت انظمتها القائمة وسعت إلى التغيير الاجتماعي إلا أنها لم تستعض عن الوطن بأفكار مفارقة وهلامية، إضافة إلى انها أدمجت مؤخرا في العملية السياسية المدنية واختارت الانتظام المدني.

نختمُ بأن تيارات الإسلام السياسي في كل الأقطار التي نشأت ونشطت فيها، ارتبطت بالعنف ارتباطا وثيقا تبعا لانها تقيّم الواقع الحالي وتشخصه "بكل تعقيداته" بأدوات قديمة لا تنتمي البتة للزمن المعاصر الذي يفرضُ على كلّ القوى السياسية تحيينا دائما لمقولاتها وأفكارها، ولكن الإسلام السياسي يتعاطى مع القضايا المعاصرة كمن يفكك المعادلات الرياضية بقواعد النحو.



*. نقلاً عن صحيفة العرب اللندنية.