أيّ مستقبل للكتابة؟
الاثنين, 17-ديسمبر-2012
جودت فخر الدين -
هل سنفقدُ نهائياً ما اعتدْنا عليه وألفْناهُ من طقوس الكتابة؟ هل سيفقدُ الكاتبُ متعةَ أنْ يُمسكَ بالقلم ليُجريَهُ على الورق، ملتذّاً ومنفعلاً ومتوتراً، إزاء انتقال أفكاره وعواطفه من حالات إلى عبارات؟

قبل الكتابة، كان الكلامُ أكثرَ حرارةً وحيوية . وذلك في مراحلَ طويلةٍ من (الشفاهة) . الكتابةُ هيّأتْ للكلام أنْ يعرفَ قدْراً من البرودة والهدوء، ثم أسكنتْهُ في الكُتُب . وجاءت الطباعةُ لكي تزيدَ من تلك البرودة، ولكي تزيدَ من المسافة بين الكلام ومُنشئه، وإنْ كانت قد يسّرتْ وصولَهُ إلى القارئ .

غير أنّ الكتابة أقامت بين الكاتب وكلامه الذي يخطُّهُ على الورق علاقةً حميمةً جدّاً . جعلتْهُ يناغمُ كلماتهِ ويداعبُها ويتلاعبُ بها، غيرَ محكوم بما يقتضيه الارتجالُ من سرعة في القول القائم على البديهة والعفوية .

تورّطْنا في الكتابة وانغمسْنا عميقاً في تقاليدها . وها نحن اليومَ مدعوون إلى مغادرة تلك التقاليد والدخول في عالم جديد . ما أشبهَ هذه النقْلة بالنقْلة من الشفاهة إلى الكتابة . وفي النقلتيْن كلتيْهما توَخّ لمزيد من السرعة لا يلبثُ أنْ يؤدّيَ إلى مزيد من البرودة أو الفتور . وهذا ما نلاحظُهُ حاصلاً في كلِّ شأن من شؤون حياتنا الراهنة . فحيثما ازدادت السرعةُ خفّت الحماسة . كأنّ توازناً خفيّاً في مظاهر الحياة كان ولا يزال قائماً بين سهولة التعبير عن هذه المظاهر وبين حرارة الإقبال عليها . فحيثما برزت السهولةُ تراجعت اللهفة .

لقد سهّلت الكتابةُ سُبُلَ الاحتفاظ بالكلام بعد النطْق به، وهوّنتْ بذلك من دوْر الذاكرة . ولكنها في المقابل هيّأتْ كنَفاً بارداً للكلام، وخصوصاً لبعض أنواعه التي تصدرُ - أوّلَ ما تصدر - عن حرارةٍ في المشاعر أو المواقف أو التصوّرات . ويأتي الشعرُ في طليعة هذه الأنواع .

قبل الكتابة، لم تكن الكلماتُ سوى أصواتٍ تُسمَع . مع الكتابة، صارت الكلماتُ تُرى وتُسمَع . إلا أنّ إمكانيةَ رؤيتها أفقدتْها قدْراً من حيويتها . لقد اختزلت الكتابةُ والطباعةُ العالم الشفاهيَّ - السمعيَّ إلى عالمٍ من الصفحات المرئية .

لقد هيّأت الكتابةُ للقارئ إمكانيةَ النظر إلى الكلمات بدلاً من التلفُّظ بها . وهذا في حدِّ ذاته اكتفاءٌ بها خاليةً من الحيوية . فالكلمةُ المنطوقةُ هي حدَثٌ أو حركةٌ في الزمن، وهو ما يُفتقدُ إليه افتقاداً كاملاً في الكلمة المكتوبة أو المطبوعة .

الكتابةُ إذاً هي، على نحْو ما، موتٌ للكلام . ولكنه موتٌ هانئٌ، يُهدِّئُ الكلامَ من دون أنْ يُخرسَهُ . فإمكانيةُ نطْقه تبقى واردةً، وبأشكال متعدِّدة، تبْعاً لتعدُّد القرّاء . وهذا أيضاً من غرائب الكتابة وعجائبها . فكم هو طريفٌ أنْ تكونَ الكتابةُ سبيلاً إلى إقامة الصلة بين كاتب وقارئ لم يتعارفا، ولم يلتقيا أبداً .

كأنما الكلماتُ التي ماتتْ لدى الكاتب بعد كتابتها لم تلبثْ أن انبعثتْ لدى القارئ عندما قرأها . وكأنها لم تمتْ في الكتابة إلا لكي (تُكتبَ) لها الحياةُ هنا أو هناك - وبأشكال مختلفةٍ - عند هذا القارئ أو ذاك .

لقد وصلَ بنا الأمرُ إلى حديث عن موت الكلام أو حياته، ونحن لا نقصدُ سوى درجات من برودته أو حرارته . فاستعمالاتنا هنا لبعض الكلمات لا تؤدّي معانيَ (حرْفية)، وإنما تفتحُ مجالات لاستنباط المعاني . وقد مرّتْ الإشارةُ إلى أنّ الكتابةَ والطباعةَ اللتين أسكنتا الكلامَ في الكُتُب إنما أدّيتا به إلى نوعٍ من الموت أو البرودة، فيما كانتا تسعيان إلى الإبقاء عليه، أو منحه حياةً مديدة .

ماذا بعد الكتابة؟ بعد تراجع تقاليدها الموروثة أمام أساليبَ جديدةٍ قادرةٍ

على إزاحتها، أو في الأقلِّ على تهديدها .

نحن أمام مستقبل سيبتعدُ فيه التعبيرُ عن المباشَرة والعفوية، لأنه سيعتمدُ أكثرَ فأكثرَ على الأجهزة، وسيغدو الكلامُ أقلَّ حرارةً وأكثرَ انفصالاً عن الأشخاص، متكلِّمين كانوا أو متلقّين . ستنكمشُ المسافاتُ أكثرَ فأكثر، وستبلغُ الاتصالاتُ من اليُسْر ما لم يكنْ متخيَّلاً قبل سنين قليلة . ولكنّ الكلمات ستصبحُ أقلَّ حياةً، مهما قُيِّضَ لها أنْ تتلألأ على شاشات الأجهزة .

ماذا سنفعلُ بالأدوات التقليدية للكتابة؟ وماذا سنفعلُ بالكٌتُب؟ كيف سنقرأ الشعر والروايات؟ (على الشاشات؟) . هل سيجلبُ لنا المستقبلُ حنيناً إلى الكتابة في تقاليدها البسيطة؟ هل سيجلبُ لنا حنيناً إلى بعض تقاليد الشفاهة؟ أيُّ مصير ينتظرُ الكلامَ في ما بعد الكتابة التقليدية؟




*. نقلاً عن صحيفة الخليج الاماراتية