ما يَعِدُ بِهِ "المجتمع المدني العالمي"
الخميس, 20-ديسمبر-2007
المجتمع المدني
محمد سيف حيدر - محمد سيف حيدر

تعود أفكار المجتمع المدني إلى القرن السادس عشر، غير أن الإشارة إلى المجتمع المدني العالمي لم تظهر إلا في تسعينيات القرن العشرين. فبعد سقوط الشيوعية وانهيار القطبية الثنائية، تراجعت إلى حدٍ كبير أهمية العقائد والمذاهب الفكرية التي تأسست عليها الأحزاب السياسية، وهو ما جعل المنظمات غير الحكومية تحتل مركزاً يفوق الأحزاب كقنوات فعالة لمشاركة المواطنين والتأثير في السياسات الحكومية، وبدأ السياسيون يتحدثون عن عصر العولمة باعتباره عصراً يتكون فيه "مجتمع مدني عالمي"، خصوصاً وأن كثيراً من الجماعات المكونة للمجتمع المدني في عديد من الدول بدأت الدخول في تحالفات وروابط مع المنظمات العالمية خارج الحدود.

مفهوم جديد، وظائف جديدة
ولتعريف ظاهرة المجتمع المدني، من المهم العودة إلى تعريف المجتمع المدني في إطاره القومي، فالمجتمع المدني هو "مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها أو تحقيق منفعة عامة، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإدارة السلمية للتنوع". وثمة تعريف آخر يرى أن المجتمع المدني هو "مجموعة من الأبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية تنظم في إطارها شبكة معقدة من العلاقات والممارسات بين القوى والتكوينات الاجتماعية في المجتمع. ويحدث ذلك بصورة ديناميكية ومستمرة من خلال مجموعة من المؤسسات التطوعية التي تنشأ وتعمل باستقلالية عن الدولة".
وبعبارة أخرى أكثر بساطة، يمكن القول إن المجتمع المدني، أو الفضاء المدني، يشغل أرضاً وسطاً تقع بين الحكومة والقطاع الخاص. فهو ليس موجوداً حيثما نُدلي بأصواتنا، ولا نجده في أماكن بيعنا وشرائنا؛ إنه حيثما نتحدث مع جيراننا حول إحدى مشاكل الحي الذي نقطن فيه، أو نخطط لإقامة مشروع خيري يستفيد منه المعوزين، أو ننظم دورة صيفية للكرة يشارك فيها أطفالنا. في هذا المجال نحن كائنات "مدنية" ونشارك الحكم/الدولة الإحساس بالعمومية والاهتمام بالمصلحة العامة والمال العام. ولكننا، بعكس الحكم/ الدولة، لا نطالب بأي احتكار للقهر المشروع، بل إننا نعمل هنا طواعية، وبذلك نشغل منطقة "خاصة" مكرسة للسعي التعاوني (غير القسري) من أجل المصالح العامة. وهذا المجال الجواري والتعاوني الخاص بالمجتمع المدني يشارك القطاع الخاص نعمة الحرية: فهو تطوعي ويتكون من أفراد وجماعات اجتمعوا برغبة منهم، إلا أنه على عكس القطاع الخاص يستهدف أرضاً مشتركة وأنماط عمل تقوم على التراضي (أي أنها تكاملية وتعاونية)، وبذا يكون المجتمع المدني عاماً دون أن يكون مخصخصاً. إنه ذلك المجال الذي تنتمي إليه مؤسساتنا المدنية التقليدية كجمعيّات البِرّ، والمدارس، والمساجد، والأوقاف، والمصلحة العامة، وغيرها من الجمعيات المدنية التطوعية، انتماءً حقيقياً، ووسائل الإعلام هي الأخرى جزء من المجتمع المدني، إن هي تحملت مسؤولياتها العامة بجد وأخضعت احتياجاتها التجارية لالتزامات المجتمع المدني ومقتضياته.
وليس "المجتمع المدني العالمي" بعيداً عن هذا المفهوم، وهذه الفكرة، بأي حال بقدر ما يُضفي عليهما أو يأخذ طابعاً عالمياً؛ وعليه فيمكن تعريف المجتمع المدني العالمي بأنه "ذلك القطاع من المجتمع المدني القومي الذي يتسم بالفعل الإداري الحر الطوعي، وهو منظم يعمل بالإذعان لقواعد مؤسسية حدث تراضٍ حولها، وهو يتبنى ثقافة مدنية تحترم الاختلاف والخلاف والتنوع ويحترم الحقوق الأساسية للإنسان، وهو ذلك القطاع من المؤسسات المدنية القومية التي يتجاوز نشاطها وعملها الحدود الجغرافية والسياسية، ويتوجه نحو التضامن والتشابك مع مؤسسات مدنية أخرى خارج الحدود، ليدافع عن قضايا لها سمة عالمية، أو يدافع عن مصالح فئات مهمشة، أو مصالحه الخاصة (الاتحادات العمالية، والجماعات المهنية الدولية)، منطلقاً من مبادئ وآليات تتوافق حولها كل الأطراف الدولية".
لقد ولد مفهوم المجتمع المدني من رحم النشاطية أو الكفاحية (المنطلقة من الإيمان بقيم عالمية وبوحدة المصير البشري على الأقل بالنسبة لموضوعات أو قضايا حاسمة مثل السلام والعدالة والتنمية والبيئة وحقوق الإنسان) والثقافة المدنية القومية ثم أخذ يمد هذه النشاطية على مستوى عالمي أو كمستوى نضالي عالمي يشتق طاقته وعناصره البشرية من مختلف القوميات وينظم عمله عبر روابط واتحادات عالمية أو متعددة الجنسيات أو عبر تقنيات الحركة الاجتماعية. وحتى تكون ولادة المجتمع المدني العالمي ممكنة، تبلورت/ اجتمعت ثلاثة عناصر أساسية، وهي: الثقافة المدنية العالمية، والنسق الاتصالي الحديث المتنامي الانتشار والأُطُر والأوعية التنظيمية الجديدة، وهوامش الاقتصاد والتمويل الضرورية لتفعيل مختلف صور النشاط الذي يميز ممارسة الروابط والهيئات والاتحادات والشبكات المدنية العالمية لنشاطاتها عبر الحدود.
ويمكن القول أن فكرة المجتمع المدني العالمي ترتبط بالفهم الجديد للمجتمع المدني ووظائفه والذي يتجسد في الانسحاب من الدولة والانتقال إلى الأنظمة العالمية والمؤسسات العالمية. ومن ثمّ، فقد ارتبطت بتبلور ظاهرة العولمة ارتباطاً وثيقاً، ولما كانت الأخيرة - أي العولمة- قد قضت على النزعة الإقليمية (وهو الظرف الذي يمكن فيه للفضاء الاجتماعي أن يتحول إلى مجرد إحداثيات إقليمية)؛ فإنه يمكن القول إن المجتمع المدني العالمي ينطوي على النشاط المدني الذي (أ) يعالج القضايا العابرة للعالم، و(ب) يشمل الاتصالات العابرة للحدود، و(ج) له تنظيم عالمي/ كوني، و(د) يعمل طبقاً لفرضية التضامن المتعدي للأقاليم. وغالباً ما تسير هذه الصفات الأربع جنباً إلى جنب، إلا أن الجمعيات المدنية يمكن أن تكون ذات طابع عالمي كذلك في جانب واحد فقط أو أكثر من هذه الجوانب. فعلى سبيل المثال، قد تعتبر الجماعات المحلية التي تقوم بحملة من أجل إحدى المشاكل المتعدية للأقاليم مثل التغيّر المناخي جزءاً من المجتمع المدني العالمي وإن نقص الرابطة التنظيم العابر للحدود، وربما كان اتصالها نادراً بالجماعات المدنية في أماكن أخرى في العالم. وعلى العكس من ذلك فقد تُحشد الشبكات المدنية العالمية فيما يتعلق بتطور محلي مثل الابادة المحلية في راوندا عام 1994.
إن أهم مكونات أو تشكيلات المجتمع المدني العالمي، هي المنظمات غير الحكومية والتي من أبرز سماتها:
1- إنها منظمات تطوعية إرادية.
2- لا تسعى إلى الربح.
3- لا توزع الأرباح إلا من خدمات تقوم بها على مجلس الإدارة أو الأعضاء.
4- لها إدارة ذاتية مستقلة عن الحكومة.
5- لها هيكل رسمي منظم.
6- غير سياسية، بمعنى أنها غير حزبية ولا تخضع في نشاطها لمرشحين سياسيين أو أحزاب سياسية، ولكنها قد تنشط في قضايا ذات صبغة سياسية كالدفاع عن حقوق الإنسان، ونزوع الأسلحة والدفاع عن الديمقراطية.
وبفعل التطورات التي رافقت ظاهرة العولمة، تزايدت أعداد المنظمات غير الحكومية بشكل كبير؛ فمع فجر القرن العشرين تم إحصاء 180 منظمة غير حكومية، وفي عام 1960 وصل عددها إلى 1255 منظمة، وفي بداية التسعينيات من القرن نفسه بلغت 6000 منظمة، ولم ينتهِ ذلك العقد إلا وقد تضاعف عددها أربع مرات ليصل إلى 26000 منظمة غير حكومية. وفي خطٍ موازٍ، أخذت عضوية هذه المنظمات في التوسع حتى انتشرت ظاهرة المنظمات غير الحكومية العالمية التي تضم أعضاء من مختلف أنحاء العالم كما تضم أيضاً منظمات غير حكومية محلية، بل وأخذ بعضها شكلاً شبكياً بحيث أصبح لها فروع في مختلف دول العالم، كما هو الحال بالنسبة لمنظمة الشفافية العالمية، وقد تراوحت هذه المنظمات من حيث الحجم من "الصندوق الدولي للطبيعة" وفيه خمسة ملايين عضو إلى منظمات صغيرة في الشبكة. والحقيقة أن أسلوب تكوين الشبكات الذي تلجأ إليه منظمات المجتمع المدني العالمي، يُعد من السمات الأساسية لهذا المجتمع البازغ، وهو في الوقت نفسه إحدى السمات البنيوية الحاسمة للبيئة الجديدة العالمية والإقليمية. وفي عصر المعلومات في وقتنا الحاضر – على حد قول مانويل كاستيلز – " تشكل الشبكات شكلاً اجتماعياً جديداً لمجتمعاتنا، ويعدّل بث منطق الشبكات تعديلاً كبيراً تشغيل ونتائج عمليات الإنتاج والخبرة والسلطة والثقافة". وهو يضيف: "إن الشبكة هي مجموعة من نقاط تقاطع متواصلة في ما بينها. ونقطة التقاطع هي النقطة التي عندها يدخل مُنحنى ليصنع نفسه فيها. أما ما هي نقطة التقاطع – بتعبير حسِّي – فأمر يتوقف على نوع الشبكات الحسية التي نتحدث عنها... الشبكات بنيات مفتوحة، قادرة على التوسع بلا حدود، تدمج نقاط جديدة طالما أنها قادرة على التواصل داخل الشبكة، أي طالما أنها تشارك في رموز الاتصالات ذاتها (مثلاً، قيم أو أهداف الأداء)". إن الشبكات – بهذا المعنى - شكل أفقي من أشكال التنظيم يتسم باللامركزية وغياب القيادة. وقد تكون العديد من الشبكات العالمية، سواء للدعوة لقضية بعينها وهو ما يتجلى في شكل الحملات العالمية مثل حملات القضاء على زراعة الألغام أو حملات إلغاء الدَّين أو مناهضة إنشاء السدود الكبرى، أو في شكل شبكات دائمة تتكون من منظمات تعمل في مجالات متشابهة. وعادة ما تعمل الشبكات من خلال أسلوب تبادل المعلومات، وهو ما يطلق عليه سياسات المعلومات أو أسلوب الإحراج عن طريق كشف حقائق عن بعض الممارسات السلبية التي تتورط فيها الحكومات أو المنظمات الدولية، أو عن طريق السياسات الرمزية وذلك برسم إطار رمزي لبعض القضايا كوضع قضية بناء السدود الكبرى في إطار حقوق السكان الأصليين، أو عن طريق ممارسة الضغط على الحكومات لتبني خطاب مؤيد لبعض القضايا مثل حقوق الإنسان أو الحفاظ على البيئة ثم كشف المفارقة بين الخطاب والممارسة.

إعادة تشكيل السياسة
والحال أن المجتمع المدني العالمي اتجه نحو التأثير في المواطن العادي في السياسات والقيم، فهو:
- يطرح فرصاً للتعاون الدولي الأفقي بين المواطنين.
- يقوم بتعزيز مشاركة المواطن وتفعيل قدراته على المشاركة.
- يُسهم في تهيئة المناخ السياسي والتشريعي بفعل أعمق من المجتمع المدني.
- يسهم في تشكيل رأي عام عالمي حول مختلف القضايا.
- يسهم في المعرفة وتدفق المعلومات.
- يقدم خدمات إنسانية ويدعم التنمية والعدالة الاجتماعية.
- يشجع العطاء والعمل التطوعي.
- يفتح فرص الحوار مع المنظمات العالمية أو المؤسسات الاقتصادية الدولية.
إن هذا الدور المتصاعد للمجتمع المدني العالمي يرتبط بسياق سياسي واقتصادي وثقافي شامل، ويعكس لحظة من لحظات تطور تاريخ العالم تتميز بتبلور نظام حكم عالمي (حوكمة) يضم في عباءته كل الدول والمؤسسات في هذا العالم. وهذا النظام العالمي ليس دولة منفردة، وإنما منظومة محاصرة باطراد بعدد من الاتفاقيات والنظريات والقوانين ذات الطبيعة الشاملة. وهذه القوانين لا تقوم فقط على الموافقة بين الدول بل على الدعم الشعبي في رحم المجتمع المدني العالمي.
وينطوي المجتمع المدني العالمي على العديد من التضمينات والتبعات السياسية التي غيِّر، عبرها، أسلوب عمل السياسة، لعل أبرزها: الحكم المتعدد الطبقات، وبعض خصخصة الحكم، وإجراءات إعادة بناء الهوية والمواطنة والديمقراطية. وهي التطورات التي أسهمت معهاً في القضاء على سيادة الدولة أو على الأقل تقليصها إلى حد كبير.
فإذا ما بدأنا بالنقطة الأولى لوجدنا أن النشاط المدني أسهم في كثير من الأحيان في الاتجاه المعاصر نحو الحكم متعدد الطبقات. فقبل العولمة المتسارعة – وعلى الأخص في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين- كان التنظيم مُركزاً بشكل يكاد يكون حصرياً حول القوانين والمؤسسات الخاصة بالمستوى القومي (أي الدولة الإقليمية المركزية). غير أن العقود الأخيرة جاءت بتراجع عام عن الحكم ذي الصبغة القومية مع اتجاهات مصاحبة من التنازل عن السلطة والأقلمة والعولمة، ونتيجة لذلك حصلت هيئات على المستويات التي دون الدولة والمتعدية للدولة على مبادرة وأثر أكبر حجماً في السياسة، وانتقل الحكم من أحادية البعد الخاصة بالدولة إلى الأبعاد الخاصة بطبقات التنظيم المحلية والإقليمية والعالمية.
وفيما يتعلق بالتَّبِعة الثانية، وهي الخاصة بالحكم المخصص، فكثيراً ما يصبح المجتمع المدني مشاركاً بشكل مباشر في وضع التنظيمات وتنفيذها. ولم يصبح الحكم المعاصر منتشراً في أنحاء المستويات الجغرافية وحسب، بل امتد كذلك إلى ما بعد القطاع العام، ومن ثمّ اكتسب العديد من الهيئات الرسمية وظائف تنظيمية وأدى هذا الاتجاه إلى الحد من مركزية الدولة في السياسة. أسهم المجتمع المدني العالمي في هذا التطور من عدة نواحي: فمن ناحية، لجأت الهيئات الرسمية إلى الجمعيات المدنية للمساعدة في تنفيذ السياسات العامة، وخاصة برامج الرعاية الاجتماعية. ومثال ذلك تدفق جزء كبير من الإغاثة الإنسانية من خلال المنظمات العابرة للحدود مثل "كير" (التي بلغ دخلها 586 مليون دولار في عام 1995)، و"أطباء بلا حدود" التي هي اسم على مسمى (بلغ دخلها 252 مليون دولار عام 1996). كما دخلت جمعيات المجتمع المدني في عدد من المناسبات، القنوات الرسمية الخاصة بوضع السياسات، مما أدى إلى المزيد من عدم وضوح الحد الفاصل بين الحكم العام والخاص. ومثال ذلك قبول بعض المنظمات المدنية من دول كأستراليا وهولندا لشغل أماكن في وفود حكومية إلى مؤتمرات عقدت تحت رعاية الأمم المتحدة.
ومما تجدر ملاحظته، في هذا الإطار، أن بعض المنظمات غير الحكومية العالمية تملك ميزانية أكبر مما تتوفر لدى المنظمات الحكومية؛ فمنظمة العفو الدولية، مثلاً، تتصرف في ميزانية ومصادر مالية أكثر أهمية مما يملكه مركز الأمم المتحد لحقوق الإنسان (وهي منظمة حكومية تابعة لمنظمة الأمم المتحدة)، كما أن هذه المنظمات غير الحكومية تقدم حالياً الدعم للتنمية أكثر مما تقدمه الأمم المتحدة. ففي عام 1992 رصدت المنظمات غير الحكومية لمساعدة الدول النامية مبلغ 2.8 مليار دولار، وهو رقم يفوق ما حوّله نظام الأمم المتحدة لهذه الدول.
وفي مناسبات أخرى، شجّع المجتمع المدني العالمي خصخصة واسعة المدى للحكم، يكون فيها للهيئات الرسمية قدر قليل من المشاركة أو لا تشارك بالمرة. مثال ذلك إصرار "مؤسسة فورد" على عدم خضوع منحها للتمحيص والموافقة من قبل سلطات الدولة. وفي التمويل الكوني، فإن "اتحاد البورصات"، و"اتحاد الأسواق الدولية"، و"الرابطة الدولية لأسواق الأوراق المالية" قد شغلت فيها بينها، وبشكل فضفاض، دور لجنة الأوراق المالية والبورصات، ووضعت "اللجنة الدولية لمعايير المحاسبة" و"الاتحاد الدولي للمحاسبين" معايير المحاسبة والمراجعة الدولية الأساسية المُستخدمة حالياً، وقد بلغت هذه الأنشطة الحد الأقصى بما أسماه آخرون "الحكم بدون حكومة".

توسيع الممارسة الديمقراطية
تتصل الطريقة العامة الثالثة التي غيّر بها نمو المجتمع المدني العالمي تضاريس السياسة بالهويات الجماعية، أي الطرق التي يشكل بها الناس الانتماءات الجماعية والتضامن العام. فقد أسهم النشاط المدني العالمي بوضوح في اتجاه هذه الهويات الجماعية نحو التعددية، ووحدت جمعيات كثيرة عابرة للحدود الناس على أساس من الهوية غير الإقليمية، كالعمال أو الملونين أو المسلمين أو الشواذ؛ وكمثال محدد واحد لسياسة الهوية المتغيرة هذه، نجد أن 30 ألف امرأة في المجتمعات المدنية حضرن منتدى المنظمات غير الحكومية ومؤتمر الأمم المتحدة للمرأة الذي عقد في بكين عام 1995، بينما نجد أن هيئات مثل "المنتدى الاقتصادي العالمي" و"معهد التمويل الدولي" (الذي يربط ما يربو على 300 جهة توفر الخدمات المالية، توجد مقارها الرئيسية في 56 دولة) ساعدت في تشكيل ما يمكن أن تكون الطبقة الإدارية الكونية.
وفي حالات عديدة شجعت الجمعيات العابرة للحدود نمو الهويات العِرقيَّة. فعلى سبيل المثال، أيدت عدد من المنظمات غير الحكومية المدافعة عن البيئة حركات الشعوب المحلية في أفريقيا والأميركيتين وشبه القارة الهندية. كما ساعدت الشبكات العابرة للحدود شتات الأرمن والايرلنديين والأكراد والفلسطينيين والسيخ والتيموريين في الحصول على قوة سياسية، وبعد ذلك شجع المجتمع المدني عبر الدول وداخلها التنوع في الهويات الذي يُحفّز العمل السياسي ويُشكِّله.
كما برز المجتمع المدني العالمي بروزاً كبيراً في إعادة ترتيب سياسة المواطنة، إذ أن الكثيرين من النشطاء المتعديين الحدود يعتبرون أنفسهم مواطنين عالميين بالإضافة إلى كونهم مواطنين في دول قومية. وعلى سبيل المثال، ساعد هذا المفهوم الذاتي على تشجيع المدافعين عن حقوق الإنسان وترويجهم للاتفاقيات العالمية الخاصة بحقوق الطفل والمرأة والعامل. ومنذ فترة قريبة قادت الجماعات المدنية حملة لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وشجعت منظمات الإغاثة الإنسانية وجماعات التعاون الإنمائي والمدافعين عن البيئة، والعديد غيرهم من جمعيات المجتمع المدني – تصريحاً أو تلميحاً- فكرة أن على الناس واجبات مدنية كونية.
والحقيقة أن التطورات العديدة السابقة تثير أسئلة بشأن مفاهيم الديمقراطية وممارستها، وتشير إلى حدوث تغيرات فيها. وقبل العولمة المعاصرة واسعة النطاق، كان "الحكم بواسطة الشعب ومن أجله" يعني حكم الدولة بواسطة الأمة ومن أجلها. إلا أن الحكم في الوقت الراهن يشمل ما هو أكثر من الدولة، ويشمل المجتمع ما هو أكثر من الأمة، وتشمل المواطنة ما هو أكثر من الحقوق والواجبات القومية. وكذلك فإن قضايا الديمقراطية والتشاور والنقاش العلني والتمثيل والشفافية والمحاسبة لا تعالج المعالجة الواجبة فيما يخص المؤسسات والمجتمعات الإقليمية وحدها.
لقد وسّع المجتمع المدني العالمي مجال الممارسة الديمقراطية، وخلقت الجمعيات المدنية العابرة للحدود قنوات إضافية للمشاركة الشعبية وأنماطاً إضافية من التشاور الشعبي، ومنابر إضافية للنقاش الشعبي، ومواقع جديدة للتمثيل الشعبي بجوار المجالس المنتخبة والمجالس التشريعية، وضغوطاً شعبية جديدة من أجل وجود حكم منفتح ومسؤول. وكانت تلك المستحدثات على قدر كبير من الأهمية في جعلها المواطنين على اتصال أوثق بالهيئات التنظيمية الإقليمية العابرة للعالم، وبذلك لم يواجه المجتمع المدني العالمي بحالٍ من الأحوال الكثير من العجز الديمقراطي القائم في السياسة المعاصرة.
خلاصة القول إن النمو المعاصر للمجتمع المدني شجَع على العديد من التغيرات المهمة في المؤسسات والعمليات السياسية، غير أنه لا يجب المبالغة في مدى تلك التغيرات. وبشكل خاص يتضمن عالم ما بعد السيادة مساحة كبيرة للدول والأمم والأحزاب؛ فالمجتمع المدني العالمي لم يَحِل محل قنوات السياسة القديمة بقدر ما فتح أبعاداً إضافية. وتبقى الحقيقة التي لا تُنكر في هذا المجال، أن مكونات المجتمع المدني العالمي، رغم ما بلغته من قوة وتنوع، فإنها لا تُشكِّل سوى أداة للضغط، ولا تملك القدرة على منافسة الدولة/ الدول ندّاً لندّ؛ والشاهد أن هذه المكونات/ المنظمات لا تزال – على نحو أو آخر – تابعة للنظام القانوني للدول ولقواعدها الخاصة بالتعاون الدولي، وهي بحاجة دائمة إلى مساعدة الدولة/ الدول ودعمها ولا تستطيع أن تتطور من دون ذلك. ولعل أهم مثال هو المؤتمرات الدولية الكبرى التي نظمت تحت رعاية الأمم المتحدة خلال العقود الأخيرة (ريو دي جانيرو، بكين، القاهرة، ديربن، جوهانسبرغ...)، فما كان لمنظمات المجتمع المدني العالمي أن يكون لها صوت في هذه المؤتمرات والمنتديات الدولية لولا الدعم المؤسساتي والسياسي والمالي من الحكومات، ولاسيما حكومات دول الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأميركية. هذا النوع من المنظمات لا يمكن أن يتخلص من سيادة الدولة ونفوذها بشكل تام، ولا يستطيع أن يتحرر من مظاهر السلطة والهيمنة التي تطبع السياسة العالمية. كما أن تأثير المجتمع المدني العالمي يرتبط بالبنية السياسية والاجتماعية التي تمارس فيها مكوناته ومنظماته المختلفة نشاطها، وعليه فمن الطبيعي أن يكون التأثير السياسي لحركات "السلام الأخضر"، مثلاً، أقوى داخل الاتحاد الأوربي من آسيا وأفريقيا.