تطور التجربة الديمقراطية في الجمهورية اليمنية
السبت, 04-أغسطس-2007
الرئيس علي عبد الله صالح يقترع
الميثاق إنفو - نزار العبادي -

لا يمكن لأي كاتب أو مؤرخ أو محلل يستطيع اليوم تصفح أوراق التاريخ السياسي اليمني دون أن تستوقفه صفحات المسيرة الديمقراطية في دولة الوحدة بشيء من الانبهار والانشداد إلى معرفة أدق تفاصيل تلك المسيرة الرائدة، والوقوف على أسرار الإرادة السياسية الخلاقة التي فجرت كوامن الحس الديمقراطي المغروس في أعماق الإنسان اليمني رغم عهود الظلم والاستبداد والتسلط الديكتاتوري، ليجدد ذلك الحس انبعاثه ثانية على يد الرئيس علي عبد الله صالح، وبأسلوب التدرج المنطقي الرائع بدخول عقد التسعينيات بخطى ديمقراطية واثقة، وبحلل التعددية الحزبية والحريات العامة، وبإرادة الإنسان الواعي بمسئولياته للمرحلة المقبلة.

  أثر الديمقراطية في الحياة اليمنية
الحديث عن الديمقراطية في دولة الوحدة (الجمهورية اليمنية) هو في حقيقته حديثاً ليس بالجديد وغير المطروق، بقدر ما هو استكمال لمراحل متقدمة في مشروع عمل سياسي طويل كان الرئيس صالح قد وضع حجر الأساس له في بداية توليه مقاليد السلطة، وراح يرفع أساساته لبنة بعد أخرى، حتى بلغ النضج، والمراتب الواعية والمسئولة من الممارسات الحية والمؤطرة بمسمياتها العصرية الحديثة.
كانت الديمقراطية وقيام الجمهورية اليمنية حدثان متلازمان لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، ومثلا منعطفاً تاريخياً هاماً أحدث تحولات جذرية في حاضر ومستقبل الشعب اليمني، وكانت أولى ثمار الديمقراطية والتعددية السياسية والحزبية واخلاق الحريات العامة هو صدور القانون رقم (25) لسنة 1990م بشأن الصحافة والمطبوعات وحرية المعرفة والفكر والتعبير والإتصال، والحصول على المعلومات.. الأمر الذي نقل التجربة الإعلامية اليمنية إلى واقع متفوق على محيطه الإقليمي، ومتحرر من كل عقد الماضي ومواريث عهود الاستبداد والقمع وكبت الحريات.. إلى الدرجة التي أتاحت أمام الشارع اليمني فرصة تداول ما يزيد عن (200) صحيفة ومجلة مختلفة الاتجاهات ومتعددة الغايات.

 الانتخاباتالرئاسية اليمنية

وقد أعقب ذلك صدور القانون رقم (66) لسنة 1991م بشأن الأحزاب والتنظيمات السياسية وإجراءات وقواعد تأسيسها وحقوقها وواجباتها، وبعد إصدار القانون مباشرة أعلن عن إنشاء (46) حزباً وتنظيماً سياسياً عشية صدور هذا القانون في 6 أكتوبر 1991م( ).. ومثل التحول نحو التعددية الحزبية والحريات العامة المرافقة لمناخاتها السياسية الجديدة قفزة تاريخية وحضارية كبيرة في مسار الثورة اليمنية الخالدة التي يستمد منها النظام السياسي الحاكم مناهجه الفكرية ومحاور إرتكاز خططه الاستراتيجية وبرامجه العملية.
فالديمقراطية في هذه المرحلة، وكما يتحدث عنها الرئيس صالح: (الديمقراطية مدرسة يتعلم منها الجميع، وأخطاؤها مهما كانت لا يمكن تصحيحها إلا بالمزيد من الديمقراطية)، وهي لابد أن تكون مرتكزاً وأساساً لأي حركة إنمائية، بما يجعل البرامج الحكومية رهينة سعة المساحة الديمقراطية التي يقف عليها المجتمع، ويشارك من خلالها في صياغة الأولويات النهضوية وإدارة شئون السلطة وفق التفويض الديمقراطي والإرادة الشعبية، والمصلحة الوطنية التي تتقدم على كل المصالح الأخرى.. وعلى هذا الأساس نجد أن الديمقراطية اليمنية في هذه المرحلة وإن كانت تتخذ صورها الطبيعية المألوفة في كل مكان من العالم- ظلت تؤطر نفسها بمحددات أخلاقية وعقائدية وفكرية تشكل.. بمجموعها.. سماتها العامة المميزة لهويتها.. ومن جهة أخرى حافظت على هامش مناسب من الخصوصية اليمنية جاعلة من هذا الأسلوب الرديف الملازم للمتطلبات الوطنية وحاجة المجتمع اليومية، الأمر الذي جعلها (ديمقراطية منتجة) وليست ديمقراطية استهلاكية كتلك التي تتعامل معها بعض المجتمعات الكبيرة الفضفاضة.
وعليه، فإن الديمقراطية اليمنية لم تجعل التعددية الحزبية قوامها الوحيد- وإن غلب هذا المفهوم عند الكثيرين- وإنما كان لمفاهيم العدل والتكافؤ نصيب وافر من العمل الديمقراطي( ). فهناك خطوات جبارة على مستوى المشاركة المتكافئة بين الجنسين في فرص الحياة أو العمل السياسي، فتحت آفاقاً رحبة أمام المرأة اليمنية لتوسيع مساهمتها وإدماجها ضمن المؤسسات السياسية، فسجلت حضوراً جيداً في الانتخابات النيابية الأولى عام 1993م، ومتميزاً في الانتخابات النيابية الثانية عام 1997م، بينما بلغ عدد المسجلات في كشوفات انتخابات 2003م ما يقارب نصف العدد الإجمالي للمسجلين وتقدمت حوالي (15) امرأة لترشيح نفسها للانتخابات، وشقت طريقها إلى مجلس النواب لأول مرة في تاريخ الدولة اليمنية، ثم ما لبثت أن كسرت الاحتكار (الذكـــوري) للسلطة بانتزاعها حقيبة وزارية في حكومــة عبد القــــادر باجمـــال عام 1999م حيث أسندت إلى الدكتورة وهيبة فارع وزارة حقوق الإنسان ثم آلت هذه الوزارة إلى أمة العليم السوسوة في التشكيلة الوزارية التي أعقبت انتخابات 2003م، وهي من أوائل الإعلاميات اليمنيات وشغلت مؤخراً منصب سفيرة اليمن لدى دولة هولندا.
وفي السياق ذاته، شهدت فترة التسعينيات تنشيطاً محموماً لبرامج تعليم الإناث وللمؤسسات الاجتماعية المعنية بحقوق المرأة ورعايتها، وإيلاء عناية كبيرة بالبرامج التي تشكل الأنسجة التكوينية للبناء السياسي في مجال حقوق الإنسان، فتم إنشاء (اللجنة الوطنية العليا لحقوق الإنسان) عام 1998م، وإنشاء وزارة دولة معنية بحقوق الإنسان، وفي الجهاز التشريعي هناك لجنتان لدعم مسار حقوق الإنسان هما (لجنة الحريات العامة وحقوق الإنسان) و(لجنة رفع المظالم).
وأتاحت المناخات الديمقراطية فرصاً واسعة لنشوء عدد كبير من مؤسسات المجتمع المدني الراعية لحقوق الإنسان مثل (المجلس الأعلى للأمومة والطفولة) و(اللجنة الوطنية لرعاية شئون اللاجئين) و(اللجنة الوطنية لتطبيق القانون الدولي الإنساني) ووقعت الحكومة اليمنية على أكثر من 29 إتفاقية دولية لحماية العمال، وصيانة أجورهم وغيرها( ).. إلى جانب اتفاقيات مكافحة التمييز وتحديد سن الزواج، واتفاقية حقوق المرأة.. الخ.
مما سبق يمكن القول أن الديمقراطية في دولة الوحدة لم تتخذ طابعاً صورياً تقليدياً جامداً على غرار ما هو سائد في أغلب دول العالم النامية، وفي الوقت نفسه لم تطلق عنان الحريات العامة إلى أقصاها لتتحول إلى فوضى تتصدع بممارساتها القيم الفكرية والعقائدية والأخلاقية للمجتمع- كما هو الحال مع تجارب بعض الدول المتقدمة.. بل سلكت الديمقراطية اليمنية خطاً معتدلاً، وسطاً بين الحالتين يجعل من ممارساتها سلوكاً تنموياً مساهماً بالجزء الأساسي في قيادة التحولات الوطنية الاستراتيجية، وليس مجرد وجوداً فضفاضاً على هامش التجربة السياسية، متقوقعاً داخل قالب التعددية والصحافة الحزبية.
ولذلك السبب تعددت ألوان الممارسات الديمقراطية على أرض الواقع بين انتخابات نيابية، ثم انتخابات رئاسية، وصولاً إلى التحول نحو النظام اللامركزي من خلال توسيع رقعة المشاركة الشعبية عبر المجالس المحلية وانتخاباتها التي شملت أصغر التقسيمات الإدارية.. فضلاً عن ما سبق ذكره على صعيد ما تحقق في مجال الحريات العامة كحرية الصحافة وإبداء الرأي والاستدلال على المعلومات، ومساءلة الجهات الرسمية، وتنظيم المسيرات والتظاهرات، وتأسيس الاتحادات والجمعيات والمنظمات الجماهيرية باختلاف أنشطتها إلى جانب الحقوق والحريات الممنوحة للمرأة وتوسيع مشاركتها الوطنية سياسياً واجتماعياً وتنموياً، وكذلك تنشيط وتفعيل العمل المؤسسي في مجالات حقوق الإنسان.. فكان أن قادت هذه الممارسات -بمجموعها- إلى إحداث نهضة تنموية حقيقية في مختلف قطاعات الدولة كونها استندت إلى مناخات وطنية ديمقراطية هيأت لها أسباب الاستقرار، وحفزت قواعدها الإنتاجية، وفعلت غاياتها على نحو غير مسبوق تأكدت فيه حكمة قيادة الرئيس علي عبدالله صالح، وقوة إرادته الوطنية، وبعد نظره في هندسة المسارات الآمنة لأهداف الثورة اليمنية الخالدة.
وفي الحقيقة، مثلت التجربة الديمقراطية اليمنية في دولة الوحدة كلمة المرور السحرية التي تجاوز بها الرئيس صالح مختلف التحديات التي كانت تعترض طريق مشاريعه السياسية الطموحة من حين لأخر. فالديمقراطية كانت الاختبار الأصعب الذي وجدت بعض القيادات الإنفصالية للحزب الاشتراكي فيه أثناء المرحلة الانتقالية، حيث أسقطت ذرائعهم وبدون ريح أزماتهم المفتعلة وكشفت الحجم الحقيقي لكل حزب ومدى جماهيريته، ولاشك أن الديمقراطية وحرية الكلمة هي من كفلت للرئيس صالح ذلك التلاحم الجماهيري الكبير مع قيادته السياسية وأكدت له أسباب الانتصار في معركة تثبيت الوحدة.
وكذلك كانت الديمقراطية بشفافيتها السياسية الأداة الأقوى في حسم الخلافات الحدودية مع دول الجوار، وإعادة إرتيريا إلى صوابها فيما أقدمت عليه من فعل عدواني على الجزر اليمنية.. بالإضافة إلى أن سلوك التحاور الإيجابي على طاولة المفاوضات ظل يمثل الأسلوب الأمثل في سياسة الرئيس صالح الخارجية لتنقية الأجواء مع الأشقاء في دول الخليج العربية بعد ما عكرتها ظروف أزمة الخليج الثانية.
ولم يقتصر أثر التجربة الديمقراطية اليمنية على الجانب السياسي فحسب، بل أن الرئيس صالح استطاع من خلالها إنقاذ اليمن من أزمة اقتصادية خانقة كانت آخذة بإطباق فكيها على الساحة اليمنية إثر قيام دولة الوحدة وما عكسته الظروف والمتغيرات الإقليمية والدولية على الاقتصاد اليمني بعد أحداث الثاني من أغسطس 1990م.. إلا أن الانفتاح الديمقراطي الواسع الذي إرتبط بالعمل السياسي اليمني قد جمّل صورة اليمنيين كثيراً في الخارج، وعزز الثقة بقدراتهم الخلاقة، وبصدق توجههم نحو غد أفضل وعالم فاضل مفعم بالأمن والسلام.. وهذه النظرة نحو اليمن ولدت قناعات خارجية بضرورة مساعدة اليمن ودعمها، والأخذ بيد تجربتها الديمقراطية لتتحول إلى عنصر فاعل في المنظومة الدولية.. وساد الرأي في أوروبا والولايات المتحدة بأن تقديم أي دعم سخي للمشاريع التنموية اليمنية مكافأة لتوجهاتها الديمقراطية يمكن أن يكون محفزاً قوياً لدول الإقليم أولاً ولدول العالم النامية ثانياً لاقتفاء الأثر اليمني في ذلك، وبالتالي تحسين أوضاع حقوق الإنسان في العالم وزيادة فرص التعايش السلمي بين الشعوب، وتخفيف التوترات الدولية، والحد من الأزمات والحروب التي غالباً ما تترك أثارها السلبية على النشاط الاقتصادي وأسواق المال، ليس لتلك الدول وحسب بل وعلى الدول الصناعية المتقدمة على حد سواء..
إن هذا الأمر يفسر نجاح اليمن في تجاوز أزماتها أزمتها الاقتصادية الخانقة، وارتفاع معدلات نمو قطاعاتها الصناعية والإنتاجية والزراعية والخدمية وغيرها.. ومن الجدير بالذكر أن الدعم الاقتصادي والسياسي الخارجي لليمن والتوسع في الممارسات الديمقراطية ارتبطا بعلاقة طردية مع بعضها البعض بحيث صار الرهان على الاقتصاد هو رهاناً على مسيرة الإنماء الديمقراطي أيضاً، لأن كثيراً من الدول والهيئات المانحة للمساعدات ظلت تربط مساعداتها للدول الفقيرة والنامية بحجم البرامج الديمقراطية المنجزة في تلك البلدان لذلك نجد أن مستوى المساعدات والدعومات والاستثمارات الخارجية الموجهة لليمن قد ارتفعت كثيراً في السنوات الثلاث الأخيرة من عقد التسعينيات وما تلاها نظراً لارتفاع معدلات الإنماء الديمقراطي في اليمن في هذه الفترة من خلال ترسيخ النهج الديمقراطي بانتخابات نيابية ثانية (27 أبريل 1997م) وإنشاء اللجنة الوطنية العليا لحقوق الإنسان بالقرار الجمهوري رقم (10) لسنة 1998م، وصدور قرار لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة (جنيف) بتاريخ 18 أبريل 1998م والذي أقر عدم استمرار النظر في حالة حقوق الإنسان في اليمن تقديراً لما قامت به على هذا الصعيد( )، وتأكد هذا الاعتقاد في إستضافة اليمن لمؤتمر الديمقراطيات الناشئة الذي انعقد في العاصمة التاريخية صنعاء في الفترة 27-30 يونيو 1999م، وشاركت فيه (16) دولة منها (6) دول أعضاء في رابطة الكومنولث( )، ونظر إلى إنعقاد المؤتمر في صنعاء بمثابة إعتراف دولي صريح بالدور الريادي الذي تمثله الجمهورية اليمنية في المجال الديمقراطي.
وخلاصة القول أن إصرار الرئيس صالح وتشبثه بالخيار الديمقراطي هو في حقيقته إصرار على إعطاء الأسبقية لاستراتيجيات بناء الفكر الإنساني، وتحريره من عقد الماضي، وإطلاق قدراته الإبداعية الخلاقة، وتقديم إرادته الوطنية الحرة على كل الإعتبارات السلطوية الأخرى.. وتلك هي نفسها محور المقومات الأساسية للنهضة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لا يمكن لها أن تشق طريقها إلى الواقع بنفس الجهد المطلوب منها، والقوة التي تحصنها من غير أن تجعل من العمل الديمقراطي منطلقاً لبرامجها وغاياتها المستقبلية، وحصانة أكيدة لكل ما تنجزه على طريق مشروع بناء الدولة اليمنية الحديثة.
للوقوف على حقائق تطور التجربة الديمقراطية في اليمن، نستعرض فيما يلي أبرز الممارسات الديمقراطية التي شهدتها الجمهورية اليمنية في ظل التعددية الحزبية.
 
الديمقراطية في فلسفة الرئيس علي عبد الله صالح
تحتل الديمقراطية في فكر الرئيس علي عبد الله صالح المساحة ذاتها التي تتوزع عليها فلسفة (الميثاق الوطني) من حيث الإيمان بالديمقراطية كضمانة أساسية للحريات العامة، وقيام علاقات سوية متطورة بين مؤسسات الحكم، وبين الشعب في إطار خصوصياتها اليمنية، وظروفها المرحلية التي تكسبها تميزاً عن ديمقراطيات العالم الأخرى..فالميثاق الوطني يعرفها (إن الديمقراطية التي نؤمن بها ديمقراطية إسلامية تعلو على مفهومي الفوضوية والديكتاتورية بجميع أشكالها.. ديمقراطية تتحقق بها كرامة الفرد، وعزة الجماعة..).
وذلك الفهم للديمقراطية لا يختلف بشيء عن النهج السياسي الذي إتبعه الرئيس صالح منذ بداية حكمه، بحيث إننا نجده في عام 1979م يؤكد على: (ضرورة الأخذ بالأسلوب الديمقراطي في الحكم وفي علاقة الشعب بقيادته) ويضيف (إن الديمقراطية التي نؤمن بها، فضلاً عن إنها تمثل المبدأ الرابع من مبادئ الثورة الستة، فهي ضرورة ماسة لإعطاء المواطنين فرصتهم الحقيقية وحقهم الطبيعي الذي حرموا منه طويلاً) وقد أخذت هذه القناعات تتجسد بخطوات إجرائية عملية في نفس العام1979م من خلال عدد من الممارسات التي تعمق مفاهيمها كانتخابات الهيئات التعاونية على مستوى الجمهورية، وانتخابات المجالس المحلية للمرة الأولى، ورفع أعداد أعضاء مجلس الشعب التأسيسي وتوسيع اختصاصاته وصلاحياته، ثم إنشاء المجلس الاستشاري، وتشكيل اللجنة العليا للتصحيح المالي والإداري وغيرها من الخطوات التي أخذت في هذه الفترة ترسي قواعد المؤسسات الديمقراطية وتنمي ممارساتها ضمن مشروع سياسي يمني كبير على صعيد التحول الديمقراطي الكامل الذي يعد شرطاً أساسياً لبلوغ صيغة الدولة اليمنية الحديثة.
إلا أن الجدير بالبحث في هذا المجال، أن الديمقراطية في فكر الرئيس علي عبد الله صالح تتبلور في فلسفة موضوعية رفيعة ذات صبغة يمنية إلى حد كبير.. من شأنها أن تمثل نموذجاً مثالياً للتجارب الديمقراطية العربية الإسلامية، لأنها لم تكن إسقاطاً سياسياً لقوالب فكرية جاهزة فهي لا تشابه الديمقراطية الاشتراكية التي تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية على حساب الحريات العامة.. وهي ليست كالديمقراطية الرأسمالية التي تضحي بالعدالة من أجل توسيع الحريات العامة للمجتمع.
الديمقراطية التي جسدها فكر الرئيس علي عبد الله صالح تستمد قوة فلسفتها من ثلاث حقائق رئيسية مبلورة لمحاورها الثقافية والأخلاقية والسلوكية والتي يمكن الحديث عنها في إطار ما يلي:
الحقيقة الأولــى: إنها ديمقراطية إسلامية تتمحور على عناصر فكرية مستمدة من روح الدين الإسلامي ومثله الأخلاقية، مما يجعل الحريات والأصول التي تتم ممارستها بها سلوكاً غير مطلق أو مباح للاجتهاد الفردي، بقدر ما تحدده الكثير من القيم الأخلاقية الدينية القادرة على موازنة الممارسة الديمقراطية بين سلوكياتها التحررية من جهة وبين وظائفها الإنسانية النبيلة.
الحقيقة الثـانيــة:  إنها ديمقراطية يمنية عربية تنفرد عن ديمقراطيات العالم بكونها منبثقة من أرض الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي للدولة اليمنية من جهة، وللمنطقة العربية من جهة أخرى، فالديمقراطية التي أرسى قواعدها الرئيس صالح جاءت مستوعبة لمفردات تجاربها التاريخية والحضارية، وتضع حسابات دقيقة لظروفها الداخلية والتكوين العام للمجتمع اليمني، من أجل ألا يكون تجاوز الواقع عبئاً على الديمقراطية، أو أن تتحول هي ذاتها إلى عبث في آليات المجتمع النفسية والثقافية.
الحقيقة الثالثـــة:  أن التدرج المنطقي في الممارسة الديمقراطية هي السمة الغالبة على فلسفتها العملية، إذ لم يكن ممكناً عبور مراحل التأهيل الديمقراطي للمجتمع، أو التدريب والتجريب لنماذج مصغرة وممارسات مبتدئة للعمل الديمقراطي حتى يتسنى للمجتمع التوسع في صيغها وإنماء تجاربها، وإقامة مؤسساتها الدستورية التي يمكن من خلالها الوصول إلى انفتاح واعي وناضج نحو التعددية الحزبية والحريات المفتوحة والقائمة على تكوينات قاعدية مؤسسية منظمة على النمط الذي تشكل عقب إعلان إعادة تحقيق الوحدة اليمنية.
ومما يمكن ملاحظته بهذا الصدد إن فلسفة الرئيس صالح في وسائل الإنماء الديمقراطي لم تجعل من المؤسسات الدستورية مرتكزها الوحيد لتطوير التجربة وتعميق ممارساتها، بل إنه ذهب إلى الربط القوي بين المشروع الديمقراطي وبين المشروع الإنمائي العام للدولة والمجتمع.. فهو لا يرى في غياب نهضة اقتصادية وثقافية واجتماعية للدولة إلا تكبيلاً قاسياً للممارسة الديمقراطية، وشلاً لقدراتها الحركية نحو ما هو مرسوم لها من نهج وطني تحرري.. لأن غياب الإمكانيات المادية والمؤسسات التنموية قد يجعل من السياسات الاقتصادية العامة للدولة سياسات تبعية، ومقيدة تتضارب مع برامج العمل الديمقراطي- المتصفة بالتحررية.. ومن هنا ساد الرأي في الوسط السياسي اليمني بأن الرهان على نموذج الديمقراطية المتكاملة هو بحد ذاته رهان على تنمية شاملة، ونهضة اقتصادية وطنية متميزة.
ولاشك أن تلك الرؤى تمثل قراءة واعية ومتقدمة جداً لمحاور البناء السياسي السليم للدولة.. وتعد تجربة الإنماء الديمقراطي في اليمن- على ضوئه- من أكثر التجارب استيعاباً لأدوارها السياسية، وللأهداف المتوخاة من إعتماد ممارساتها في العمل الوطني.. ولولا ذلك الأمر لكانت محض تقليد سياسي دعائي ليس إلا.
لكن تبقى هناك مسألة أخرى ظلت مرتبطة بالفلسفة الديمقراطية اليمنية الا وهي مسألة شفافية الممارسة الديمقراطية.. وبطبيعة الحال لن يكون هناك أثر ملموس للشفافية إلا من خلال أسلوب العمل السياسي عند المؤتمر الشعبي العام الذي يقوده الرئيس صالح، باعتبار حقوقه التاريخية في وضع حجر أساس المربع الأول من المسار الديمقراطي اليمني، والذي يحمله مسئولية ترجمة جميع مفرداتها الفكرية والسلوكية قبل الآخرين، وبما يجعله الأول في تمثيل مدرستها الفلسفية، وقدوتها الحركية في الساحة الجماهيرية.
لقد أضحت الممارسة الديمقراطية في اليمن ضرباً من الشفافية السياسية القادرة على التكيف مع حاجاتها المرحلية، ومتغيراتها الوطنية، بالمساحة الرحبة التي تتحرك عليها البرامج السياسية بحرية مناسبة إلى حد بعيد مع ظروف المجتمع اليمني وتراكيبه الداخلية، وتداعياته التاريخية.
تلك الصفة ظلت حاضرة على الدوام في جميع مواقف القيادة اليمنية من الإرهاصات والمنعطفات التي كانت تنجر إليها ساحة العمل السياسي الوطني للأحزاب والتنظيمات السياسية الوطنية.. ومن الممكن رؤيتها بتجلي في الحقبة الأولى من مسيرة دولة الوحدة التي شهدت توترات كبيرة وأزمات سياسية خطيرة انتهت بحرب الانفصال عام 1994م.
ولم تكن تلك الفترة هي الوحيدة التي تجسد شفافية الرئيس علي عبد الله صالح في العمل السياسي الديمقراطي، بل ظلت تمثل السلوك اليومي الأمثل الذي تغلق على طاولته العديد من الملفات والقضايا السياسية موضع الخلاف، سواء فيما يتعلق بالانتخابات أو التعديلات الدستورية، أو الموقف من بعض القضايا الوطنية.. ومن المؤكد أن  المرونة التي كان يتعامل بها الرئيس صالح مع القوى السياسية الوطنية الأخرى كانت مبنية على أساس الحرص على الوحدة الوطنية، وتقديمها على كل المصالح الحزبية الضيقة حتى لو تطلب الأمر تقديم بعض التنازلات غير الاستراتيجية مادامت تلك التنازلات قادرة على احتواء الخلاف وحفظ اللحمة الوطنية على غرار وثيقة (الاصطفاف الوطني) التي تم توقيعها مؤخراً مع أحزاب المعارضة في مارس 2003م.
وتأسيساً على التجربة الديمقراطية التي عشنا مفرداتها كلها عن كثب في اليمن، يمكن القول إنها ديمقراطية النظام السياسي الواثق من نفسه، ومن أدواتها السياسية الوطنية، ومن جماهيره.. وهي ديمقراطية واضحة لا تخفي تحت عباءتها أنفاقاً تقتاد فيها السياسيين المعارضين.. وأننا نشك في أن نجد بلداً يخلو من المعتقلين السياسيين غير اليمن.. وربما ظل من أكثر ما يثير دهشة أخواننا العرب الوافدين على الجمهورية اليمنية هو أنهم أينما تجولوا وجدوا عشرات الصحف الحكومية والحزبية والمستقلة التي تخوض في شتى موضوعات السياسة اليمنية، وتوجه انتقادات أو تساؤلات علنية وصريحة لمختلف الجهات الرسمية دون أن يستنفر ذلك أجهزة الأمن فتحجب صدورها أو تعتقل القائمين عليها.
إن أساس الديمقراطية في فكر الرئيس علي عبد الله صالح هو أن توجه عملها من أجل البناء الوطني، والطرح المسئول والمثمر.. وأن يعمل ويتنافس الجميع، كل بطريقته الخاصة، ولكن دون السماح لأي كان تجاوز الثوابت الوطنية التي تجتمع عندها المصالح العليا للوطن والمواطن.
 
2004م- عام متميز في تاريخ الديمقراطية
يمكن وصف عام 2004م بأنه عام التتويج الديمقراطي للجمهورية اليمنية ،الذي حصدت خلاله قيادة اليمن الكثير جدا من ثمار مسيرتها السابقة .
فقد استهلت اليمن  العام 2004م باستضافة (المؤتمر العالمي للديمقراطية وحقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية ) الذي عقد في الفترة 10 - 13 يناير ليمثل أكبر تظاهرة ديمقراطية في تاريخ الشرق الأوسط، نظرا للأهمية التي اكتسبها المؤتمر ليس من حضور ما يزيد عن 150 وفداً عالمياً تمثل منظمات وهيئات وشخصيات رفيعة ، بل أيضا من اعتبارات أخرى مادية ومعنوية لفتت الأنظار نحو اليمن كدولة تهرول إلى الديمقراطية بخطى سريعة تحظى بمباركة وتشجيع المجتمع الدولي - خاصة الدول الكبرى.
فالمؤتمر يعتبر الأول من نوعه الذي يعقد في منطقة ساخنة ، يجتمع فيها البترول الذي يسيل لعاب الدول الصناعية ، مع الدين المتهم في نظر اللاعبين الكبار بالوقوف خلف التطرف والإرهاب ؛ فضلا عن كونه يمثل انطلاقة مشروع الشرق الأوسط الكبير والدعوات المنادية بالتغييرات السياسية نحو الحقوق الإنسانية والديمقراطية للشعوب .
من جهة أخرى أعطى المؤتمر لليمن بعداً تأكيدياً بأنها شريكاً دولياً موثوق به ، يناط به لعب أدوار إقليمية ودولية في رسم معالم الخارطة المستقبلية لعدد كبير من دول العالم التي تجد الدول الكبرى أن هناك حاجة ملحة لإحداث تحولات ديمقراطية في أنظمتها السياسية الحاكمة ، وأن بوسع اليمن أن تساعد في هذا الاتجاه. وهو الأمر الذي أخرج اليمن من دائرة الاتهام بالإرهاب الى لاعب بارز في مكافحة الإرهاب.
وقد اعتبر (إعلان صنعاء ) الصادر في ختام مؤتمر الديمقراطية وحقوق الإنسان بمثابة وثيقة دولية تستند إليها اتجاهات السياسة الدولية ، والدعم المقدم للدول الشرق أوسطية ، وكذلك المواقف الرسمية المعلنة من قبل الدول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وغيرها من دول العالم الديمقراطية.

وفد الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات الرئاسية الثانية

وقد ترجم الاتحاد الأوروبي هذا المنحى في السابع من يوليو 2004م حين أكد ( خافيير سولانا ) ممثل الشؤون الأمنية والسياسية في الاتحاد الأوروبي : أن الاتحاد الأوروبي يعتبر اليمن شريكاً فاعلاً في بلورة التطور الديمقراطي في المنطقة انطلاقا من إعلان صنعاء الصادر عن مؤتمر صنعاء للديمقراطية وحقوق الإنسان ". كما ترجمت واشنطن الاعتراف ذاته من خلال رفعها لحجم مساعداتها الممنوحة لليمن من 12 مليون دولار للعام 2004م الى 35 مليون دولار في موازنة العام 2005م.
في 29 يونيو حضر الرئيس علي عبد الله صالح قمة دول الثمان الكبرى بولاية جورجيا بالولايات المتحدة الأمريكية  بناء على دعوة وجهها الرئيس جورج دبليو بوش ، وكان هذا تطوراً مهماً بالنسبة لليمن أن تحظى بهذه المكانة الرفيعة والثقة - أيضاً - إذ تم ضمها الى عضوية لجنة ثلاثية تشمل الى جانبها كل من تركيا وإيطاليا ، أوكلت إليها مهمة مساعدة دول الشرق الأوسط وأفريقيا على نشر وتعزيز الديمقراطية لدى أنظمتها السياسية ، كما تم اختيار صنعاء مقراً لمركز مساعدة الديمقراطية الذي تنطلق منه اللجنة المذكورة في مباشرة أعمالها بالمنطقة.
على صعيد آخر استضافت اليمن منتصف العام 2004م مؤتمر مجالس الشيوخ والشورى وما يماثلها في آسيا وأفريقيا ، ضمن تكتل إقليمي جديد تنطلق منه اليمن لممارسة وتأكيد دورها الإقليمي في تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتم اختيار صنعاء مقراً دائماً للمؤتمر.
وبشكل عام فان اليمن احتضنت خلال العام 2004م حوالي 14 مؤتمراً إقليميا ودوليا ، كما تم اختيار اليمن ( كهيئات أو شخصيات ) ضمن أكثر من 13 منظمة عربية ودولية ، ولعبت صنعاء دوراً مهماً في تفعيل ( تجمع صنعاء الثلاثي ) الذي يضم اليمن والسودان وأثيوبيا ، ويهدف توسيع وشائج العلاقة بين دول المنطقة وترسيخ فرص السلام الإقليمي والدولي ، بغض النظر عن الدور الذي لعبته اليمن في مساعدة الصومال وإحلال السلام بين فصائلها. يضاف إلى هذا أن اليمن تقدمت بمبادرة مهمة لإصلاح جامعة الدول العربية كان لها أثرها في بلورة اتجاه جديد إزاء تطوير منظومة العمل العربي المشترك.
لعل التحول الديمقراطي اليمني الذي توجته صنعاء خلال العام 2004م لم تقتصر تراجمه على مدى التطورات في الساحة الدولية بل أيضاً كان منطلقاً من كثير من التحولات الداخلية - سواء على صعيد منظمات المجتمع المدني التي بلغت إعدادها حتى نهاية عام 2004 ما يقارب (5000) منظمة وجمعية واتحاد ومركز مدني يعنى بالحريات والديمقراطية والحقوق الإنسانية، فضلاً عن تطورات كبيرة على مستوى برلمان الأطفال ، وتشكيل مجالس محلية له ، وعلى مستوى الحريات الصحافية حيث وجه الرئيس صالح الحكومة بضرورة استحداث صيغة لإلغاء عقوبة حبس الصحافي ، وتطوير قانون الصحافة لضمان المزيد من الحريات.
لا شك أن أحداث عام 2004 م كثيرة ، ولكن لو راجعناها بمجملها لنصل إلى حقيقة مفادها أن اليمن جنت أعظم ثمار مسيرتها الديمقراطية خلال هذا العام ، وهي حقيقة تؤكد أن اليمن ينتظرها مستقبل واعد رغم كل ظروفها الاقتصادية ، ومواردها الشحيحة ، وانفجارها السكاني الهائل الذي ربما يتجاوز اليوم العشرين مليون نسمة.
ولعل العبور إلى الانتخابات الرئاسية الثانية (20/ سبتمبر /2006م) كان انبلاجاً على أوسع ىفاق الديمقراطية التي عرفتها المنطقة العربية بفضل ما امتازت به التجربة من شفافية، ورقابة محلية وخارجية ، وحقوق انتخابية لم يحض بها منافس لزعيم عربي من قبل- كانت حقاً هي أكبر رهان كسبه الرئيس صالح على امتداد عهده السياسي بعد رهان إعادة تحقيق الوحدة اليمنية.