نحو اهتمام أكبر بلغتنا الجميلة
الثلاثاء, 10-يوليو-2012
يوسف مكي -

اللغة بشكل مبسط، نظام له وظيفة وغاية محددتان هما التعبير والتواصل، وتعتمد على وسائل معينة لبلوغ أهدافها . وحين ناقش أفلاطون موضوعها تصدى لمعالجة علاقة الأشياء بالأسماء، فأكد أن الاسم انعكاس وتعبير عن المسمى، وهو مشتق من مكوناته وتركيباته، بمعنى أن الدال باستطاعته محاكاة المدلول والتعبير عنه، وذلك يعني أن علاقة اللغة بالناطقين بها ليست مجرد عرف وعادات وتقاليد، ولكنها علاقة عضوية، إذ إن الجمل في حقيقتها تعبير غير ساكن، لأنها تعبر عن صورة الأشياء في زمان ومكان محددين، وبالتالي فإن اللغة هي تعامل مع بيئة محددة بذاتها .

إذاً، فاللغات ليست سابقة على التاريخ، أو صانعة له، بل هي نتاجه، ذلك أن المجتمعات التي تشعر بهوية واحدة تقوم بصياغة لغة خاصة بها، تحقق من خلالها تواصلها، وتمكنها من التعبير عن ذاتها، كي تمارس إبداعاتها وعطاءاتها الإنسانية ولتميز بين هويتها وهويات شعوب الأمم الأخرى .

لكن ذلك ليس نهاية المطاف، ذلك أن التفاعل الإنساني الذي يحدث بسبب من تمازج الحضارات بعضها مع بعض، بطريق الاتفاق أو القسر، يمكن أن يؤدي إلى انتشار لغة الحضارة المهيمنة في بقاع جديدة، غير تلك التي انبثقت منها، مسهماً في خلق واقع موضوعي جديد، ينتج منه هزيمة البيئة الاجتماعية السائدة من قبل، وقيام أخرى على أنقاضها، وهذا بالدقة هو ما حدث في كثير من البلدان التي شملها الفتح العربي الإسلامي، منذ الخلافة الراشدة إلى ما قبل تداعي الخلافة العباسية .

ولا شك أن التفاعل بين الحضارات الإنسانية من شأنه أن يخلق حالة من التلاقح بين اللغات بما يؤثر في بنيتها الأصلية، بما في ذلك اللغة المهيمنة . في هذا السياق، تعلمنا في الكتب المدرسية، ونحن صغار، أن أجدادنا اعتادوا التحدث بالفصحى، من غير أخطاء لغوية، وأنه لم تكن هناك قواعد مكتوبة لهذه اللغة، إلا في مراحل لاحقة، بعد بزوغ رسالة الإسلام وتمدد الفتوحات العربية، إلى مناطق شاسعة من الأرض، شملت شعوباً من غير الناطقين بلغة الضاد .

ولا شك أن نزول القرآن الكريم بهذه اللغة منحها صفة القداسة لدى المسلمين عامة . وقد أضاف نزول القرآن الكريم بهذه اللغة دوراً مركزياً للعرب في نشر رسالة الإسلام لسائر أمم الأرض، ذلك أنه من غير الممكن، خاصة في المراحل الأولى لبروز الدعوة، أن يتم تبليغها بلغة غير تلك التي جاء بها القرآن الكريم . وكانت الإشارة القرآنية في ذلك واضحة بالآية الكريمة: “وأنذر عشيرتك الأقربين” .

والتبليغ هو مخاطبة للقلب والعقل، ودعوة للإيمان بالواحد الأحد . وأداته الرئيسية هي اللغة، التي لا تشكل مفردات مجردة فحسب، بل تعبير عن مستوى ثقافي وحالة اجتماعية، وقيم أخلاقية وروحية للمجتمع الناطق بها . ومن الحقائق التي لا جدال حولها، أن القرآن الكريم جسد تلك الفضائل بأجمل صورها في نصوصه .

وفي سياق علاقة العربية بالإسلام، أشار الصحابي الجليل، عبد الله بن عباس، إلى علاقة القرآن الكريم بالشعر العربي، فقال: “إذا قرأتم من كتاب الله شيئاً فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب، فإن الشعر ديوان العرب” . أما الشيخ ابن تيمية فقال: “إن الله لما أنزل كتابه باللسان العربي وجعل رسوله مبلغاً عنه الكتاب والحكمة بلسانه العربي، وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به، لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان، وصارت معرفته من الدين” . أما الشيخ محمد رشيد رضا فيؤكد: “أن معرفة العربية من ضروريات دين الإسلام” . ويشاطره العلامة ابن خلدون بالقول: “إن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم، فكلهم يفهمونه ويعلمون ما في مفرداته وتراكيبه” .

هكذا أصبحت العربية هوية، وثقافة تميز الناطقين بها، وليتحقق من خلالها عرى لا تنفصم بين الإسلام، وقد أجمع كثير من علماء المسلمين على التلازم بين الإسلام والعربية، لكن بعضهم أقر بوجود نوعين من العلاقة بينهما، أحدهما ديني والآخر قومي . فالشيخ عبد الحميد بن باديس ميز بين رابطة الدين وطبيعة الرابطة الوطنية، فأشار إلى أن الأولى تربط بين عامة الناس، أما الثانية فهي رابطة دولة . وبهذا التمييز، عبر ابن باديس عن موقف حضاري برفضه أن يكون العرق عاملاً أساسياً في تحديد الانتساب إلى العروبة مشيراً إلى أنه تكاد لا تخلص أية أمة من الأمم لعرق واحد، وتكاد لا توجد أمة لا تتكلم بلسان واحد . وهذا اللسان هو الذي يكوّن الأمة ويربط أجزاءها ويوحد شعورها . وقبل أكثر من ألف عام ذكر أبو عثمان الجاحظ أن الموالي الذين تعربوا هم بالعرب أشبه، وإليهم أقرب، وبهم أمسّ، لأن السنّة جعلتهم منهم .

في عصر الأنوار الأوروبي، وبروز الأمم الأوروبية على أسس قومية، اعتبرت اللغة العنصر الرئيس الذي استند إليه تشكل الأمم الحديثة . وأصر المفكرون الأوروبيون على اعتبار عوامل الجغرافيا والتاريخ والثقافة عناصر ملحقة تحيل إلى الناطقين باللغات الحديثة التي شكلت أمم أوروبا، وليست عناصر مستقلة عنها .

حين احتل الفرنسيون القطر الجزائري، عملوا على طمس هويته الوطنية، من خلال التعرض لعنصري مقاومته، الدين واللغة . لقد أدركوا استحالة ترويض الشعب الجزائري وإخضاعه، ما لم يتخل الشعب عن هويته الوطنية . وهكذا عملوا على محاربة الدين الإسلامي واللغة العربية في آن معاً . وكان للدين الحنيف الدور الأساس في حماية اللغة العربية من الانقراض . وبقوة عمق حضورهما معاً في قلوب وعقول الجزائريين تمكن هذا الشعب من إشعال ثورته وإلحاق الهزيمة بالفرنسيين .

ما يحرض على طرح هذه المقدمة الطويلة، هو الوضع المأساوي الذي تعيشه لغتنا الجميلة . فبالكاد لا تجد إلا نسبة ضئيلة من المثقفين تتقن اللغة العربية قولاً وكتابة . وقد بلغت عدوى التخريب لهذه اللغة القنوات التلفزيونية، حيث يجري استخدام اللهجات المحلية في كثير من القنوات العربية، بديلاً عن الفصحى .

أما الذين يلقون خطاباتهم بالفصحى فأخطاؤهم لا تحصى . فهذا مرشح للرئاسة يتعمد رفع المجرور من باب التفخيم ونصب الفاعل، من باب التواضع . هذا عدا تعمد كثير من المثقفين الخلط بين العربية واللغات الأجنبية اعتماداً على الموروث الاستعماري . فالمناطق التي استعمرها الفرنسيون يخلط مثقفوها بين الفرنسية والعربية . وحيث استعمر الإنجليز تجد المثقفين يبرزون مهاراتهم في الخلط بين العربية والإنجليزية . وفي بعض المناطق تتداخل الفرنسية والإنجليزية والعربية، في خليط ناشز، ولكنه محبب للأسف لكثير من مثقفينا .

وتبلغ الصورة قمتها عند بعض خطباء المساجد، ومن ضمنها خطب الجمعة، حيث يصل الأمر في بيوت الله إلى حد الخلط المتعمد بين العامية والفصحى، أما الأخطاء اللغوية فحدث ولا حرج . أو لم يحن الوقت بعد لتقييم ما جرى، ومعرفة أسبابه، لنعيد الاعتبار مجدداً للغتنا الجميلة، وليعود للعربية ألقها وبهاؤها، ولتصبح هذه اللغة هويتنا الجامعة؟





نقلاً عن صحيفة الخليج الاماراتية