تركيا والعالم العربي: أطرٌ جديدة
السبت, 25-أكتوبر-2008
محمد عبدالله محمد -

في منتصف القرن التاسع عشر، بعث دبلوماسي تركي بارز في فيينا برسالة عاجلة إلى الباب العالي في إسطنبول جاء فيها: "ثمة وليمة دولية كبرى قيد الإعداد. وما لم تجهد الدولة العثمانية لتشارك فيها، ستوضع على لائحة الطعام" واليوم، هل اشتمّ الأحفاد السياسيون لهذا الدبلوماسي المعتق، كرجب طيب أردوغان وعبدالله جول، روائح وليمة كبرى جديدة مشابهة في القرن الحادي والعشرين، فاندفعوا بكل طاقتهم ليفرضوا وجودهم فيها كضيوف لا كمواد غذائية؟
وهذا يفسّر الحيوية الدبلوماسية الكبرى التي تشهدها تركيا منذ سنوات ست في المنطقة الشاسعة التي ستطاولها هذه الوليمة، والممتدة من سواحل المنطقة العربية إلى سهوب جنوب القوقاز، مروراً ببحر قزوين وآسيا الوسطى وإيران. إنها مجدداً "اللعبة الكبرى" التي تحدث عنها ضابط الإستخبارات البريطاني آرثر كونولي في توصيفه للصراع المرير بين الامبراطورتين الروسية والبريطانية للسيطرة على آسيا الوسطى قبل قرنين، والتي خلدّها الأديب الإنكليزي روديارد كيبلينغ في روايته الشهيرة "كيم" العام 1901. وهي لعبة تصطرع فيها معركة "الحياة والموت" للسيطرة على النفط الذي بات سلعة نادرة في عالم مدمن على إستهلاكه بكثافة، والحروب الإيديولوجية، والسباق على الزعامة الإقليمية؛ وتغذيها المخاوف من تقسيمات وخرائط جديدة للشرق الأوسط.
والواضح أن تركيا تتبع الآن سياسة خارجية تختلف اختلافًا كبيرًا عن السياسة الخارجية التركية التقليدية. فتركيا "الجديدة" بزعامة التيار الإسلامي تبدو ناشطة دبلوماسياً وإستراتيجياً عبر التحول الناشط لإعادة التموضع بعد سقوط دور القاعدة الغربية المتقدمة في زمن الحرب الباردة، لمصلحة دور الجسر بين الشرق الإسلامي الآسيوي الواسع والجديد، والغرب المتجدد والمتغير. وهذا هو ما يفسر الاهتمام التركي الكبير بالشرق الأوسط وبإنهاء حالة العداء الأيديولوجي مع العالم العربي، إضافة إلى مساعي تركيا إلى تثمير خيارات أخرى إسلامية وآسيوية أوسطية، ويرى غراهام مولر نائب رئيس مجلس الاستخبارات الوطنية التابع لـ"سي آي أيه" أن تركيا الجديدة تسعى إلى ترسيخ علاقات جيدة مع محيطها بحيث تشمل جميع الدول واللاعبين، وهي تلعب دور الوسيط في الشرق الأوسط لإدماج الراديكاليين في السياسة.
ولا يبدو الحِراك التركي الجديد مستغرباً، إذ أن "تركيا في طريقها للتحوّل من قوة محلية إلى قوة عالمية"، مثلما أعلن وزير الخارجية التركي علي باباجان في الـ 16 من تموز/يوليو الماضي أثناء حضور حوالي مائة وعشرة سفراء أتراك جاءوا من جميع أرجاء العالم للاجتماع في أنقرة. غير أنَّ تركيا لن تستمد - حسب تعبير الوزير - أهميتها السياسية بالدرجة الأولى من نفوذها العسكري؛ بل إنَّ تركيا تسعى إلى المزيد من العمل في المستقبل باعتبارها "سلطة مدنية".
والمهندس الرئيسي للسياسة الخارجية التركية الجديدة، الأكاديمي والأستاذ الجامعي أحمد داود أوغلو الذي يعتبر ممثلاً للمدرسة الواقعية - يؤدّي أدوارًا عديدة منها دور رئيس مستشاري رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان. وأحمد داود أوغلو يعمل من أجل ترسيخ نفوذ تركيا باعتبارها "قوة ناعمة" في السياسة العالمية؛ ولكن في الوقت نفسه يسعى داود أوغلو إلى حصول تركيا على هذا النفوذ من خلال قيامها بدور الوسيط، لا سيما في العالم العربي، الذي أخذ المشروع التركي الجديد يظهر بشكل أكثر وضوحاً في السنوات القليلة الماضية؛ وقد أتت أولى المؤشرات بنشوء أشكال جديدة للعلاقات بين العرب والأتراك من أوساط الاقتصاد التركي. فقد غزت المنتجات الاستهلاكية المناسبة سعراً وذات الجودة العالية المصنوعة في تركيا الأسواق العربية، ابتداءً من بنطلونات الجينز والبسكويت وصولاً إلى أجهزة التلفزيون والثلاجات والمسلسلات الدرامية الطويلة. وقد أزال ذلك في أذهان العرب صورة "التركي القبيح"، لكن القنوات الإخبارية العربية لم تغط وقائع الأحداث في تركيا حتى عام 2002 إلا بصورة هامشية بحتة، وفي حال قيامها بذلك كانت تتناول في المقام الأول العلاقة القائمة بين أنقرة وإسرائيل. ولقد تغير هذا الأمر حالياً؛ فباتت القنوات العربية تحيط المتفرجين يوميا تقريباً علما بوقائع الإصلاحات السياسية المتخذة في أنقرة وبالنهضة الاقتصادية في استانبول. مدلول الخطاب الأيديولوجي في هذا السياق هو أن المسلمين يقومون في تركيا "من الداخل" بنشر الديموقراطية في نظام دولة متآكل ويناضلون على سبيل المثال من أجل تكريس المزيد من حرية التعبير عن الرأي. وقد هيمنت الدهشة على نفوس المواطنين العرب المحكومين من أنظمة استبدادية عندما بلغ إلى سمعهم في أول مارس/آذار 2003 بأن قيادات بلادهم بايعت بناء على إلحاح من قبل الولايات المتحدة الحرب ضد العراق فيما رفضتها تركيا الديموقراطية وفقا لقرار صدر بهذا الشأن عن برلمانها.
والحقيقة أن تركيا أضحت تستند في تقديم مشروعها للمنطقة العربية إلى العديد من الأسس، أولها؛ الأساس التاريخي- الديني؛ حيث تربط الجانبين علاقات تاريخية منذ عصر الامبراطورية العثمانية، كما أن المذهب السني الذي تتبناه تركيا هو المذهب الذي تتبعه الدول العربية. أما الأساس الثاني فسياسي؛ حيث تقدم تركيا نفسها إلى المنطقة كنموذج سياسي علماني بخلفية إسلامية معتدلة، يمكن أن يمثل حلاً للعلاقة المتوترة بين الدين والسياسة في كثير من البلاد العربية، أما الأساس الثالث؛ فهو اقتصادي مصلحي؛ حيث تنبع من الأراضي التركية مياه نهري دجلة والفرات اللذين يمدان العراق وسورية بالمياه، وهناك مشروع تركي كان قد طرح منذ سنوات لنقل المياه إلى الخليج العربي يعرف باسم "أنابيب السلام" ويتأسس على مبدأ "المياه مقابل النفط"، كما أن هناك مصلحة مشتركة بين الطرفين، العربي والتركي، تتمثل في الحرص على عدم قيام دولة كردية مستقلة في المنطقة. ومن أهم ملامح المشروع التركي الجديد في المنطقة أنه يقوم على العلاقة الطبيعية مع إسرائيل، والتحالف مع الولايات المتحدة، والتعاون في المجال الاقتصادي والحرب ضد الإرهاب. وقد ظهرت خلال الفترة الأخيرة العديد من تجليات ومظاهر هذا المشروع، أهمها؛ الوساطة بين سورية وإسرائيل من أجل تحقيق السلام بينهما، وتطوير العلاقات التركية مع كثير من الدول العربية، وفي مقدمتها السعودية ومصر وسورية، إضافة إلى التحرك التركي الملحوظ تجاه دول الخليج العربي سياسياً واقتصادياً، ومحاولة التدخل على خط الأزمة النووية الإيرانية.
ولا شك في أن دور "حزب العدالة والتنمية" الحاكم راجح في انتهاج تركيا نهج الديبلوماسية، وتحولها قوة "لينة" أو قوة إقناع بالمنطقة؛ فبلوغ "حزب العدالة والتنمية" سدة الرئاسة ألقى الضوء على تطور حركة الاسلام السياسي بتركيا، وهو قرينة على نجاح الجمع بين الديموقراطية والاسلام. وانتهج «حزب العدالة والتنمية» نهجاً معتدلاً غير اسلامي، هو أقرب الى الاحزاب الديموقراطية الاوروبية المحافظة منه الى الاحزاب الاسلامية. ورفضت النخب التركية التقليدية أن تكون تركيا نموذجاً يحتذى في هذه المنطقة، ونظرت بعين الريبة الى إدراج تركيا في مشروع "الشرق الأوسط الكبير". وعلى خلاف هذه النخب، بدا أن "حزب العدالة والتنمية" يسعى، منذ 2003 الى اليوم، انتصاب تركيا نموذجاً يوفق بين الاسلام والديموقراطية، ويتولى دعوة العالمين العربي الإسلامي الى الإصلاح وإرساء الديموقراطية. ويُعلي أداء تركيا دوراً بارزاً في الترويج للديموقراطية بالشرق الأوسط شأنها، ومكانتها الاستراتيجية في سياسات الاتحاد الاوروبي وأميركا.
ورأى كثر في العالم العربي أن المفاوضات الاوروبية - التركية على عضوية تركيا في الاتحاد الاوروبي هي في مثابة "حلم" يتحقق. فلطالما حسبت المنطقة من العالم أن الاتحاد الاوروبي لن يضم أمة مسلمة إلى كنفه. ولا شك في أن رفض البرلمان التركي شن القوات الاميركية هجماته على العراق من الأراضي التركية، عزز صدقية تركيا بالعالم العربي؛ فهذا القرار نفض عن تركيا صورة الدولة التابعة. ورحّب الشارع العربي بالرفض التركي، في وقت انتقد المثقفون العرب إبرام حكوماتهم اتفاقات سرية مع الولايات المتحدة لدعم الحرب على العراق.
ومع هذا، فإن ثمة عقبات تعوق نجاح سياسة تركيا الخارجية اللينة، وتضعف فرص إرسائها على أسس ثابتة ودائمة. فهذا الضرب من السياسة يرتبط ارتباطاً وثيقاً باستقرار تركيا، وقدرتها على تذليل مشكلاتها الداخلية، ويقوض الاضطراب السياسي استقرار تركيا، ويقوض متانة سياستها اللينة بالشرق الأوسط، كما أن تعثر المفاوضات التركية - الاوروبية على عضوية تركيا في الاتحاد الاوروبي يخلف أثراً سلبياً في قوة تركيا اللينة، وقد يحول ميل العالم الاسلامي الى التطرف من دون نجاح مشروع السياسة التركية. ويتزامن الميل الى التطرف مع تنامي خوف الغرب من المسلمين، ومع دعوة "القاعدة" إلى مهاجمة تركيا.
والحق أن تركيا توسلت استراتيجيات مختلفة بالعالم العربي وعموم منطقة الشرق الأوسط. وعلى خلاف سياستها في الحرب الباردة وحيادها عن نزاعات المنطقة، قررت، أخيراً، انتهاج سياسة خارجية تمد الجسور بين الاطراف الإقليمية المتنازعة، وسعت الى بعث العلاقات الاسرائيلية - السورية، إثر انهيار المفاوضات الاسرائيلية - السورية في العام 2000، وتوتر العلاقات الاميركية - السورية، وتحسن العلاقات التركية - السورية بعد فتورها، إثر أزمة تشرين الاول/ أكتوبر 1998. وحاولت تركيا المشاركة في جهود ارساء السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأعدت مبادرة "توب بيس" الصناعية للسلام، وأشرفت على هذه المبادرة غرفة التجارة التركية، وأبرمت اتفاقاً مع نظيرتيها الفلسطينية والاسرائيلية. وكان من المفترض أن تفتتح منطقة صناعية على مقربة من معبر إيريز بين غزة واسرائيل، وأن توفر نحو 7 آلاف فرصة عمل للفلسطينيين. ولكن سيطرة "حماس" على غزة دعت المشرفين على المشروع إلى نقله إلى منطقة الترقمية بالضفة الغربية. ومنذ "بروتوكول باريس" في 1996، قدمت تركيا 10 ملايين دولار الى الفلسطينيين أُنفقت على قطاعات الصحة، والتعليم، والادارة العامة والأمن، والزراعة، والسياحة. وشارك خبراء أتراك في عملية الاصلاح الإداري والقانوني بأراضي السلطة الفلسطينية، كما شاركوا في برنامج تدريب عدد من الديبلوماسيين الفلسطينيين. وأنشأت تركيا "لجنة القدس التقنية" لتقصي ما إذا كانت الحفريات الاسرائيلية تتهدد الحرم الشريف، فضلاً عن مشاركتها في "الوجود الدولي الموقت" في الخليل، في 1997. وإثر فوز "حماس" في الانتخابات، استقبلت خالد مشعل، في خطوة أرادت بها تشجيع الحركة الاسلامية على انتهاج "سياسة مسؤولة". وفي خط مواز، شاركت تركيا في قوات "اليونيفيل 2" بجنوب لبنان، على رغم مواجهة القرار معارضة داخلية. وهذه المشاركة هي خطوة على طريق انعطاف السياسة الخارجية الجديد بالشرق الأوسط، وميلها الى التدخل في النزاعات الجيو سياسية بالمنطقة.
لكن تركيا، في الواقع وبالرغم من هذا كله، ليست مؤهلة بعد لأن تكون نموذجاً يتبناه العالم العربي بصورة متكاملة؛ فرواسب التاريخ تحول دون ذلك. وإن كانت التجربة التركية تُظهِر ما يمكن للمسلمين أن يحققوه من منطلق مبدئي. لهذا فحتى المثقفون العلمانيون العرب بدأوا يتطلعون إلى تركيا ويتحسسون مشاعر الاستياء المتزايد حيال احتمال رفض الاتحاد الأوروبي ضمّ أنقرة إلى صفوف أعضائه. وقد أوضح أحد المثقفين الكويتيين اليسارييين أسباب ذلك، بقوله إنه يخشى في حالة الرفض "أن ينمو نفوذ الإسلامويين الراديكاليين لدينا، وأن يتبجحوا بحجتهم المعروفة القائلة إن الاعتدال والتحول لا يؤتيان بثمار مما يجعلهم يضعون كل جهودهم مجدداً في سبيل تكريس الشريعة".