مصر وإسرائيل وجها لوجه
الأحد, 21-أغسطس-2011
بقلم: أحمد أبودوح -
لم تكن هذه هي العملية الأولى، ولكنها قد تكون الأخيرة.. فقد قرر النظام السابق من قبل أن يغض الطرف عن العديد من عمليات الإغتيال التي طالت الجنود المصريين المرابطين على الحدود مع إسرائيل دون أن يجرؤ حتى على مجرد دعاية الشجب أو الاستنكار التي كان لا يقوى على غيرها.

من الممكن أن يكون الهجوم الذي شنته مجموعة من المسلحين على حافلة إسرائيلية والتي راح ضحيته ما يقرب من الثلاثين بين قتيل وجريح هو السبب الرئيس للعنف الذي حدث على الحدود يوم الخميس الماضي، ولكن هذا لا يمحو الشكوك من أن إسرائيل تمتلك بالفعل مخططات مسبقة للسيطرة على شبه جزيرة سيناء، أو بعض أجزاء منها.

ينبغي إذن أن ننظر أولا إلى التطورات التي حدثت على مسرح الأحداث في سيناء عقب قيام الثورة، وما نتج عن فتح السجون وهروب الآلاف من عتاة الإجرام والمتطرفين وتجار البشر والمخدرات.. فمن المعروف أن النظام السابق قد حاول طوال فترة حكمه أن يجعل من سيناء ملفا أمنيا وسياحيا فقط، وتعمد إغفال مطالبات القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني المستمرة بضرورة البدء في وضع خطط مستقبلية تهدف إلى إنشاء مشروعات تنموية للنهوض بالمنطقة من الناحية الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، وتهدف أيضا إلى دمج القبيلة البدوية السيناوية وجعلها جزء لا يتجزأ من المجتمع المصري.. ومن ثم خلق عمق إستراتيجي مهم في المنطقة التي تعتبر خط الدفاع الأول للبلاد.

فبعد الانفلات الأمني الذي نتج عن انسحاب الشرطة – التي مازالت منسحبة حتى الآن – قامت هذه المجموعات بتكوين بؤر لها في وسط سيناء، وإتخذت من مغارات جبل الحلال القريب من منطقة الحسنة والمناطق المحيطة به نقطة إنطلاق لتنفيذ عملياتها الإجرامية في المدن، نظرا لوعورة التضاريس وتشعب الوديان في هذه المنطقة.. كما إستطاعت الجماعات الجهادية والتكفيرية تجنيد عدد كبير من الشباب وتسليحهم، حتى نجحت في تشكيل جيش من الميليشيات المجهزة بأحدث أنواع العتاد يصل قوامه إلى 6 ألاف فرد، إختاروا أن يعلنوا عن أنفسهم بقوة في عملية قسم شرطة العريش الأخيرة، التي أوضحت للجميع أن العقد بدأ في الانفراط في سيناء، وأيضا بعد ظهور تشكيل من التكفيريين يطلق على نفسه "تنظيم القاعدة في شبه جزيرة سيناء" الذي دعى وبكل وضوح إلى تحويل سيناء إلى إمارة إسلامية، والإنفصال بها عن باقي القطر المصري.

كانت إسرائيل تراقب عن كثب كل ما يحدث في سيناء، وكانت تعد الخطط التي من المحتمل اللجوء إليها في حالة فشل الجانب المصري في السيطرة على الوضع الأمني هناك، وبالطبع كان المجلس العسكري على دراية كاملة بنوايا الكيان الصهيوني الخفية تجاه هذه البقعة الإستراتيجية الهامة من أرض الوطن، ويدرك أيضا أن إسرائيل تنتظر الفرصة السانحة للانقضاض عليها، والتوغل ولو لبضعة كيلومترات بداخلها بحجة عدم قدرة الجانب المصري على السيطرة على الحدود وإقرار الأمن في المنطقة.. لذا قرر المجلس العسكري القيام بالعملية الأمنية "نسر" بهدف – معلن - وهو تطهير المنطقة ممن يهددون أمن البلاد القومي.

لا يجب أيضا أن نستبعد إحتمال أن عملية إيلات قد تكون مفتعلة من الجانب الإسرائيلي، حيث أنها تأتي بالتزامن مع تصاعد حدة الإحتجاجات داخل إسرائيل ضد الحكومة الحالية، لذا كان من الضروري اشغال الرأي العام الإسرائيلي وتهدئة الأجواء في الداخل، وهو ما نجحت فيه بالفعل عندما قرر بعض قادة الحركة الطلابية إلغاء بعض المظاهرات التي كان من المقرر خروجها يوم أمس بسبب هذه العملية.. ولكن بدلا من مجرد إلهاء المحتجين وصرفهم عن الإحتجاج ضد نتانياهو، فإن إسرائيل إرتكبت خطأ فادحا عندما قامت قواتها بإطلاق النار على خمسة جنود مصريين أثناء تتبع منفذي عملية الحافلة.

هذه هي الرواية التي تبناها عدد من المحللين الذين أختلف معهم بالطبع في طرحهم لهذه الفكرة، لأنني أعتقد أن إسرائيل قررت أن تفقد صوابها بشكل كامل وأن عملية قتل الجنود المصريين كانت متعمدة.

لعل السؤال الذي يدور في ذهن القارئ الآن هو: ما الذي يدفع إسرائيل على القدوم على مثل تلك الخطوة وخاصة بعد سقوط حليفها المخلوع الذي كان يتقبل مثل هذه الضربات ولا يبالي؟!

من الممكن أن تكون الإجابة محيرة إلى حد ما عندما تعلم أن السبب من وراء عملية كهذه هو بالأساس سقوط النظام السابق، فإسرائيل تتبع الآن سياسة جس النبض عن طريق إطلاق إحدى بالونات اختبارها المتمثلة في هذه العملية بهدف قياس ردة الفعل التي قد تصدر على المستوى السياسي والدبلوماسي والشعبي أيضا.

بمناسبة الحديث عن ردة الفعل أعتقد أن إسرائيل لم تتوقع هذا الرد العنيف الذي صدر على جميع المستويات، وخاصة الرد الرسمي الذي تبلور بعد عدة إجتماعات ومناقشات في قرار سحب السفير المصري في تل أبيب، وإستدعاء السفير الإسرائيلي في القاهرة للتعبير عن الاحتجاج والتململ الذي أصاب القيادات العليا في الحكومة المصرية مما حدث على الحدود بين البلدين، وما تبعه من تصريحات هوجاء من قبل المسئولين الإسرائيليين تعقيبا على الحادث.

لا شك أن المجلس العسكري يمر الآن بمرحلة هي الأصعب منذ توليه إدارة البلاد بعد الإطاحة بالرئيس المخلوع ونظامه، ولا شك أيضا في أنه يعي تمام ماذا ينبغي عليه فعله في هذه الأوقات الحساسة التي تحتاج منه قدر كبير من الاتزان وضبط النفس.. فمع اقتراب الانتخابات التشريعية نجد أن البلاد مازالت تعاني انفلاتا أمنيا وسياسيا قد يكون السبب في تأجيل الانتخابات المزمع إنعقادها في نوفمبر المقبل إلى أجل غير مسمي، وخاصة مع إتساع الفجوة بين القوي المختلفة على الساحة السياسية، ومحاولات أذناب النظام الساقط المستمرة في الركوب على الثورة والرجوع بها إلى نقطة البداية.

أما على الصعيد الخارجي فحدث ولا حرج، فتشبث العقيد معمر القذافي بالسلطة قد أدى إلى نشوب حرب أهلية على حدود مصر الغربية، وبالتالي تأثر مصر إقتصاديا وسياسيا وأمنيا مع دخول كميات كبيرة من الأسلحة القادمة من الحدود الليبية إلى الداخل المصري. أما إنقسام السودان على الحدود الجنوبية فقد نتج عنه ضرب جميع مساعي التسوية التي تسعى إليها مصر مع دول حوض النيل في مقتل، وهو ما يترتب عليه تهديد أمن مصر المائي تهديدا مباشرا. وها هو العدو على الحدود الشرقية يقيس مدى الاستقلالية التي وصلت إليها البلاد بعد قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير، عن طريق النبرة الحادة في الخطاب الذي يصدر عن المسئولين هناك والذي تصاعدت وتيرته في الفترة الأخيرة، وإن كان لا يوجد هناك ما يمنع أيضا من قنص عدد من الجنود المصريين لقياس – كما أوضحنا من قبل – ردة الفعل التي قد تنتج للتنديد بهذه الأفعال.

أرى أن المجلس العسكري إذن قد أنجز الخطوة الأولى التي من المتوقع أن تصدر عنه في هذا الموقف العصيب، وهو الرد بشكل مناسب على مثل هذه الإستفزازات والتي جاءت في صورة سحب السفير المصري في تل أبيب، والاحتجاج الرسمي لدى الحكومة الإسرائيلية، وإصدار الفريق سامي عنان رئيس أركان حرب القوات المسلحة أمر مباشر بإطلاق النار على كل من يتخطى الحدود المصرية.

تكمن أهمية هذه القرارات في المغزى المراد من وراء إتخاذها وهو توصيل رسالة إلى العدو الصهيوني بأن مصر بدأت في أن تخطو خطا جدية بالفعل نحو تغيير شكل ومضمون العلاقة التي تجمع الطرفين، وإتخاذها منحا أخر يعتمد على التوازن والندية، بدلا من العلاقة المرضية التي رسمها الرئيس "النطع" حسني مبارك من قبل والتي كانت تقوم على التبعية وطاعة الأوامر.

أما الخطوة الثانية التي يجب أن يقوم بها المجلس العسكري الآن فهي محاولة الجلوس على مائدة الحوار وتقريب وجهات النظر بين القوى السياسية المتناحرة والوقوف على نقاط الاختلاف والسعي إلى التوصل إلى صيغة توافقية حولها في أسرع وقت ممكن، وهو الدور الذي يلعبه الأزهر في الوقت الحالي الذي يستمع بكل حيادية وموضوعية إلى جميع وجهات النظر حول وثيقة المبادئ الدستورية التي طرحها للنقاش العام.

أما من الناحية الإستراتيجية فإن مصر الآن تمتلك فرصة ذهبية تستطيع بها أن تقلب السحر على الساحر عن طريق إستغلال الإدعاءات الإسرائيلية حول غياب السيطرة الأمنية على سيناء بأن تسعى إلى زيادة عدد القوات والمعدات المتمركزة على الحدود، باعتباره أيضا حق أصيل في دفاع مصر عن أراضيها خاصة مع تصاعد حدة التوتر بين الجانبين.. فهل سوف تشهد الفترة القادمة تصعيدا عسكريا بين الطرفين قد يشكل الورقة الأخيرة التي تلجأ إليها حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية لتحقيق أهدافها في التدخل في سيناء؟.. أم أن هذه الفكرة تبدو بعيدة عن الحلول التي قد يلجأ إلى تطبيقها الجانبين على الأرض لتفادي الصدام العسكري، في ظل الثورات التي تعصف بالمنطقة المحيطة بهما، وتوقع أن تطال نسائم الربيع العربي دول أخري كانت ومازالت تعتقد أنها تقف على مسافة بعيدة عن هذه الأعاصير.. وفي مقدمتها الكيان الصهيوني نفسه؟!

ميدل ايست اونلاين