القرصنة البحرية في خليج عدن والمحيط الهندي: ما العمل؟
الثلاثاء, 21-أكتوبر-2008
محمد سيف حيدر -

"القراصنة قادمون" صرخة دوّت مؤخراً وأخذت تترد بقوة، مُكتسبةً طابعاً طناناً، ليس فقط في وسائل الإعلام والأقنية الإخبارية المختلفة حول العالم، وإنما تكاد، بالنظر إلى مضامينها الأمنية والإستراتيجية المهمة، تقضّ مضاجع صُنّاع السياسات ومسئولي الأمن في منطقة القرن الأفريقي وجنوب البحر الأحمر.
فعلى امتداد السواحل الصومالية في المحيط الهندي وخليج عدن، أخذت موجة متزايدة ومتسارعة من أعمال وأنشطة القرصنة في تهديد خطوط الملاحة العالمية وسلامة الأمن البحري بالمنطقة على نحوٍ غير مسبوق، وبانتهاء شهر أيلول/ سبتمبر الفائت تم تسجيل أكثر من 60 هجوماً تعرضت له السفن التجارية وسفن الاصطياد وناقلات النفط الأجنبية، العابرة لخطوط الملاحة الدولية في المحيط الهندي وخليج عدن والبحر الأحمر عبر مضيق باب المندب، على أيدي القراصنة الصوماليين، الأمر الذي حدا بالمكتب البحري الدولي (IMB) إلى تصنيف هذه المياه بأنها "أخطر منطقة شحن بحرية" في العالم، مُتخطية بذلك كل من إندونيسيا ونيجيريا، اللتين كانتا في الصدارة.
وفي ضوء الإدراك المتزايد بخطورة هذه الظاهرة الإجرامية، لاسيما وأنها من أكثر دول المنطقة تضرراً من عمليات القرصنة البحرية المتزايدة، اتخذت اليمن العديد من الاجراءات والتدابير العاجلة للحدّ من أنشطة القرصنة في خليج عدن وباب المندب. فبدأت البحرية اليمنية بتكثيف وجودها ودورياتها الأمنية في المياه الإقليمية، ونشرت مصلحة خفر السواحل نحو ألف جندي وعدداً من الزوارق الحربية المجهزة في خليج عدن وباب المندب، وفي اتجاه موازٍ بدأت في إجراء عمليات تنسيق مع القوات المشتركة للقرن الأفريقي وماليزيا واليابان بهدف إنشاء مركز إقليمي لمكافحة القرصنة، وتعزيز جهود حماية الطريق الملاحي الدولي المار عبر خليج عدن.
على أن هذه الجهود، في النتيجة، قد لا تُجدي نفعاً مع "شياطين البحر" الجُدد من الصوماليين، وبرغم أهميتها فإن تأثيرها سيظل محدوداً، خاصةً إذا علمنا أن هذه العصابات تقوم بأعمال القرصنة وهي لا تخشى الملاحقة؛ فالصومال تملك أطول ساحل في شرق إفريقيا، وعلى مسافة قريبة من أهم خطوط الملاحة البحرية، ولكنها تفتقد لسلاح البحرية أو خفر السواحل، كما أن الحكومة الصومالية الانتقالية تزداد ضعفاً يوماً بعد يوم، وهي غير قادرة على تحمل هذه الأعباء.
وفي ضوء المعطيات المذكورة، أصبح التفكير بإستراتيجية أكثر شمولاً وفعاليةً لمكافحة القرصنة البحرية، تشترك اليمن في صياغتها مع المجتمع الدولي، أمراً ملحّاً وذا أهمية كبرى، وفيما يلي محاولة لبلورة بعض الأفكار في هذا الاتجاه في صيغة توصيات محددة ومباشرة لصّناع السياسات.

[1] الاستمرار في التشديد على ضرورة حلّ المشكلة الصومالية حلاً جذرياً، وعدم التواني في الانخراط في أي جهود إقليمية أو دولية تهدف إلى بلورة مثل هذا الحل.
إن إحدى الحقائق التي لا يمكن تجاوزها في أي إستراتيجية إقليمية أو دولية تهدف إلى إنهاء خطر القرصنة قبالة السواحل الصومالية، أن هذه الظاهرة تبقى، وستستمر - إن قُيّض لها الاستمرار -، واحدة من النتائج المباشرة لانهيار الدولة الصومالية وإحدى تجلياتها الرئيسية. وتجاوز هذه الحقيقة الجوهرية لا يعد انتكاسة في التفكير الإستراتيجي وحسب بل وفي التدبير السياسي والأمني أيضاً.
لقد نشطت عمليات القرصنة البحرية بخليج عدن والبحر العربي والمحيط الهندي في الأساس بسبب القلاقل الداخلية التي تشهدها الصومال‏، حيث تطل السواحل الصومالية التى يبلغ طولها 3700 كيلومتر وهى واحدة من أطول السواحل فى العالم، على ممرات مائية إستراتيجية تربط بين البحر الأحمر والمحيط الهندي‏، مما جعل السفن التجارية وسفن الصيد التي تمرّ بها على مدى السنوات الأخيرة عُرضة لهجمات القراصنة، وبدلاً من أن تكون سواحل الصومال بمثابة وسيلة مضمونة للحصول على مساعدات دولية وإغاثية في بلدٍ دمرته تماماً الحرب الأهلية التي اندلعت عقب سقوط نظام الرئيس محمد سياد بري سنة 1991، فإن المساعدات الغذائية الضرورية تكاد تتوقف تحت تأثير الضربات المتوالية للقراصنة، الأمر الذي فاقم من حدة الأزمة الإنسانية الخطيرة في هذا البلد المنكوب.
وبطبيعة الحال، فإن الأمور لن تتحسن ما لم يحصل تغيير نحو الأفضل في الصومال نفسها، وهذا الأمر لن يتأتى إلا من خلال تسوية سياسية شاملة تُنهي الحرب الأهلية المستمرة في هذا البلد. ومن المتوقع أن تركز الأمم المتحدة بصورة أكثر فاعلية في الأيام المقبلة على تحقيق المصالحة الصومالية لمواجهة القرصنة البحرية التي تستفيد من غياب حكومة مركزية قوية هناك‏.‏ وإذا كانت اليمن قد حرصت على تأييد مساعٍ كهذه، من منطلق إدراكها أن الحل الجذري لظاهرة القراصنة الصوماليين، يكمُن في تدخلٍ آخر للمجتمع الدولي ما انفكت صنعاء تدعو إليه "للأخذ بيد الحكومة الصومالية الانتقالية من أجل بناء الدولة الصومالية، وحتى لا يكون الصومال وكراً أو محطة أخرى مثل أفغانستان لتصدير الإرهاب" حسب تعبير الرئيس علي عبد الله صالح، في محاضرة ألقاها بداية آذار/مارس الفائت بمقر منظمة "فريدريش إيبرت" الألمانية في برلين؛ فإنه يجب عليها، والحالة هذه، الاستمرار في التشديد على ضرورة حلّ المشكلة الصومالية حلاً جذرياً ومتوازناً يرضي القوى المحلية الرئيسية، في جميع المحافل الدولية بما فيها تلك المخصصة لمناقشة التحديات الأمنية الراهنة وطبيعتها المتغيرة، والانخراط في أي جهود إقليمية أو دولية تهدف إلى بلورة مثل هذا الحل الذي بات تحقيقه اليوم أكثر ضرورة وحيوية من أي وقتٍ مضى.

[2] الدعوة إلى (والمساهمة في) تأسيس نظام أمني بحري جماعي في منطقتي القرن الأفريقي والبحر الأحمر، يبدأ بقضية القرصنة البحرية ولا يقف عندها بل يشمل مختلف القضايا والهواجس الأمنية المشتركة.
تُظهِر مشكلة تفاقم عمليات القرصنة البحرية في خليج عدن وباب المندب والمحيط الهندي الحاجة الشديدة لدول الدول المطلة على البحر الأحمر والقرن الأفريقي إلى تأسيس نظام للتعاون الأمني البحري الجماعي في المنطقة، واليمن بوصفها لاعب أساسي في أي ترتيبات أمنية إقليمية في هذا الجزء من العالم وإحدى أكثر الدول استفادة من مثل هذه الترتيبات، يُنتظر أن تُساهِم بقوة في خلق نظام إقليمي شامل للتعاون الأمني البحري.
لقد ظلت قضية الأمن في منطقة جنوب البحر الأحمر وتأمين المياه اليمنية المشاطئة للساحل الأفريقي هاجساً يمنياً طوال السنوات الماضية، خاصة بعد دخول مُعطى الإرهاب في المعادلة الأمنية للمنطقة، واستمرار دوامة العنف في منطقة القرن الأفريقي، ومحدودية قدرات اليمن على تأمين شريطها الساحلي. وربما أن الوقت قد حان لتقود اليمن مشروع إقليمي لتحقيق الأمن في منطقة جنوبي البحر الأحمر والقرن الأفريقي بالاستفادة من الموقف الدولي والأميركي تحديداً المؤيد لأية جهود من شأنها تعزيز الأمن في المنطقة لدعم جهود محاربة الإرهاب، غير أن الاتفاقية التي سيوقّع عليها ممثلو ‏20‏ دولة من دول غرب المحيط الهندي وخليج عدن ومنطقة البحر الأحمر أواخر تشرين الأول/ أكتوبر الجاري (2008) في صنعاء، والمخصصة حصراً لمكافحة القرصنة والسطو المسلح ضد السفن، لا تكفي لبلورة "المشروع الأمني" الذي تطمح اليمن لإنجازه مع دول الإقليم.
صحيح أن الاتفاقية المشار إليها، والتي ستوقع عليها كل من اليمن - أكثر الدول تضرراً من عمليات القرصنة - ومصر التي تخشى أن تؤثر هذه العمليات في حركة السفن التي تمر عبر قناة السويس‏،‏ كما ستوقع عليها السعودية والإمارات وعمان وجيبوتي والأردن والصومال وجزر القمر وفرنسا وإثيوبيا وكينيا ومدغشقر وجزر المالديف وموريشيوس وجزر سيشل وجنوب إفريقيا وتنزانيا وإريتريا وموزمبيق‏؛ تُعد مدخلاً مناسباً لتأسيس نظام أمني بحري جماعي بين هذه الدول، تشكل فيه هذه الاتفاقية نقطة ارتكاز أساسية ‏لمثل هذا النظام الأمني، إلا أنه ينبغي التركيز على تطوير ترتيب جماعي للتعاون في مجموعة من المشروعات والقضايا الأمنية البحرية ومكافحة الإرهاب الإقليمي بحيث لا يقتصر على قضية أمنية بعينها، وإنما تنطلق منها وتؤسس عليها.
وهذه الخطوة الأوسع، متى تتحقق، ستُشكل نقطة البداية الصحيحة لبلورة إجراءات لبناء الثقة بين دول المنطقة تعود بالنفع أيضاً حتى على أطراف دولية عديدة، نظراً إلى الأهمية الأمنية والاقتصادية التي تتمتع بها هذه المنطقة الاستراتيجية من العالم. ولئن دأب بعض المحللين على التشكيك في جدوى إجراءات بناء الثقة كتدبيرٍ مُستدام أو فعّال بدعوى أنها مجرد أداة لإدارة الأزمات وليس لحلّها، إلا أنها أثبتت نجاحها في الغالب كأداة عملية مهمة لتطوير التعاون الأمني البحري بين الدول. فتطبيق إجراءات بناء الثقة في مجال التعاون البحري كوسيلة لحل الخلافات والنزاعات ومنع الحوادث البحرية ذات التداعيات الخطيرة، فضلاً عن معالجة الهواجس الأمنية المتعلقة بعمليات البحث والانقاذ وحماية البيئة البحرية ومراقبة صيد الأسماك بطريقة غير مشروعة، أثمر بالفعل منافع جمّة على نطاق واسع.
والحقيقة أن الحاجة لتطوير نظام أمني بحري جماعي في منطقتي القرن الأفريقي والبحر الأحمر (اللتين تشكلان في الواقع منطقة أمنية عضوية واحدة)، تجد مسوغاتها من خلال ثلاثة أسباب رئيسية:
أ. الأهمية الجيوستراتيجية للمنطقة.
ب. عدم استقرار المنطقة وانكشافها المتواصل إستراتيجيا وأمنياً.
ج. غياب أيٍّ من أنواع الحوار أو المبادرات الإقليمية الفاعلة في مجال الأمن البحري.
وعلى الرغم من أن التنفيذ الناجح والامتثال المنظم للتدابير الخاصة بتعزيز الأمن البحري ظل مُكلفاً لغالبية دول العالم، وذلك بسبب ضعف العامل الدولي المشترك الخاص بجمع وتقييم وتبادل المعلومات على نحو مبكر، ناهيك عن غياب مستويات التنسيق الضرورية المرتبطة بتزويد السفن العالمية بالمعلومات المتعلقة بالوضع الأمني، وذلك وفقاً لاتفاقية "سلامة الأرواح في البحار" (SOLAS) و"المدونة الدولية لأمن السفن والمرافئ" (ISPS)، فإن على السياسة اليمنية استغلال الظروف القائمة وحالة الهلع الإقليمي والدولي من خطر القرصنة وتهديدها المتفاقم لخطوط الملاحة البحرية الدولية قبالة السواحل الصومالية، ومن ثمّ العمل بشكل دءوب على تحفيز دول الإقليم كافة ودفعها باتجاه إقامة نظام إقليمي شامل للتعاون البحري يبدأ بقضية القرصنة البحرية ولا يقف عندها بل يشمل مختلف القضايا والهواجس الأمنية المشتركة، مع الأخذ في عين الاعتبار أن الدعوة إلى تأسيس مثل هذا النظام لن تتعارض بحالٍ مع إلتزامات اليمن الإقليمية المُعبّر عنها في أُطُرٍ أمنيةٍ أخرى كتجمع صنعاء، الذي يشمل كذلك كُلٌّ من إثيوبيا والسودان والصومال، بل تعد تطويراً لها.
علاوة على ذلك، يمكن لمثل هذا النظام الأمني الإقليمي - لحظة تبلوره - تبني معايير حلف الناتو الخاصة بمراقبة قوات البحرية لخطوط الملاحة/ وتعاون البحرية وتوجيه حركة الملاحة حيث تتوافر المفاهيم والأساليب الإدارية الملائمة والتدريبات بالفعل. والمعروف أن هناك منظمتان دوليتان تعملان في مجال حماية حركة الملاحة البحرية وتعرفان باسم "مجموعات العمل البحرية" وهما الناتو ومنظمة المحيط الهادئ والهندي اللتان تحرصان على إطلاع أعضاء كل مجموعة على رؤية المجموعة الأخرى إزاء حماية حركة التجارة؛ وذلك من أجل بلورة مفاهيم إستراتيجية مشتركة من الناحية الإستراتيجية والعملياتية واختبار علاقات الاتصال بين الطرفين بشكل سنوي. ويمكن استخدام أي من أسلوب الناتو أو منظمة المحيط الهادئ كآلية إدارية لتطبيق هذه المعايير على أرض الواقع. بينما يمكن وضع إطار عمل ينظم التدريبات الخاصة بتولي المناصب القيادية بهدف اختبار المهارات الإدارية ووضع السيناريوهات المحتملة لتعاون البحرية وتوجيه حركة الملاحة في المنطقة.
وعلى أية حال، يظل تعبير اليمن العلني والجهوري عن إيمانها بأهمية تأسيس نظام إقليمي شامل للتعاون البحري، وأنه سيمثل خطوة مهمة نحو تطوير إجراءات فعّالة لبناء الثقة بين دول المنطقة تعود بالنفع عليها جميعاً خصوصاً في أوقات الأزمات، يظل حاسماً في إضفاء المصداقية والجدية اللازمتين على هذه الدعوة أمام دول المنطقة المعنية الأخرى. إن على دول المنطقة التفكير من اليوم وصاعداً، وانطلاقاً من أهمية التعاون في قضية تفاقم القرصنة البحرية في مياهها، بأن مثل هذا النظام سيُمثل أرضية صلبة لتعزيز الثقة المتبادلة وتعميق إدارك دول الإقليم كافة للهواجس والضرورات الأمنية المشتركة، مما قد يُمهِّد السبيل أيضاً لمزيد من التعاون في مجالي الدفاع والقضايا البحرية.

[3] في كفاح اليمن ضد القرصنة البحرية، يفترض التركيز دوماً على الاستخدام الأمثل لسلاح المعلومات، وتنسيق جهود المؤسسات الأمنية المعنية بشؤون الأمن البحري وتطوير قدرتها على العمل معاً.
بما أن معظم الهجمات التي قام بها القراصنة الصوماليون تم التخطيط لها على أساس معلومات تم جمعها مسبقاً عن السفن والناقلات المستهدفة (إذ يستعملون لهذا الغرض نظام تحديد المواقع العالمي والهواتف التي تعمل بالأقمار الاصطناعية، ولديهم شبكة نشطة من الجواسيس في موانئ مجاورة مثل دبي وجيبوتي وعدن لرصد ضحاياهم)، فإنه لا مناص للدول المعنية بمحاربتهم، ومنها اليمن طبعاً، من استخدام سلاح المعلومات نفسه لهذا الغرض. ولأن البيئة البحرية لا تزال أقل مناطق العالم انضباطاً من الناحية الأمنية في الوقت الراهن، فإن الوعي بالمجال البحري يُعد ذا أهمية كبيرة من أجل التنبوء بالوقت والمكان المحتملين لتنفيذ هجمات القرصنة والإرهابيين، وهذا يتطلب الاستعانة ببيانات المراقبة والمعلومات الاستخباراتية، وتوفير هذه المعلومات للأطراف التي تحتاج إليها.
واليمن، كبقية الدول التي تواجه تهديد القرصنة البحرية والإرهاب البحري، ينبغي أن تولي هذا الجانب اهتماماً متزايداً؛ فتبادل المعلومات يلعب دوراً جوهرياً في تحسين الأمن والسلامة البحرية. ومن هنا تبرز الحاجة، ليس إلى إنشاء أربع مراكز إقليمية لمكافحة القرصنة البحرية في عدن والحديدة والمكلا وصنعاء فحسب، بل كذلك إلى تكوين خلية لإدارة الأزمات المتعلقة بالأمن البحري، بالتوازي مع إقامة مركز عمليات مشترك يجمع بين المعلومات الاستخباراتية وبيانات المراقبة، ويتولى عملية تخطيط وتنفيذ التدريبات والمناورات والتخطيط للعمليات، وهذا الأمر يستلزم بدوره تعاوناً وثيقاً وتنسيقاً نشطاً بين المؤسسات والهيئات المعنية داخل الدولة (خفر السواحل والقوات البحرية بصفة خاصة) وهو أمر يمكن أن يتطور بمرور الوقت إلى أنشطة تتم على مستوى دول الإقليم والقوى العالمية الكبرى المهتمة بأمن الملاحة البحرية في هذه المنطقة.
على أن حاجة الحكومة إلى جهود قوات البحرية وخفر السواحل معاً وفي نفس الوقت، تقتضي منها القيام بدراسة السُّبل المُثلى لتنفيذ العمليات المشتركة بين الجانبين. وأول خطوة يمكن اتخاذها في هذا الإطار هي توفير المعدات الأساسية والتواصل بين الطرفين ثم تقديم الدعم اللوجيستي والتدريب المشترك. ومن بين الخيارات المتاحة عند وجود كلا الجهتين في المكان نفسه، انتداب ضباط بحرية رفيعي المستوى لقيادة قوات خفر السواحل. فعلى سبيل المثال، يتولى ضابط بحرية هندي برتبة لواء قيادة حرس السواحل الهندية بينما يتولى ضابط بحرية أسترالي برتبة فريق قيادة قوات حماية الحدود الأسترالية. ويتم الاستعانة بكبار الضباط للاستفادة من خبرتهم الواسعة وقدرتهم على إيجاد تواصل فعال بين المؤسستين الأمنيتين.
وإذا كان التعاون بين القوات البحرية وخفر السواحل بات ضرورياً في هذه المرحلة، وبما أن قوة خفر السواحل تستخدم كثيراً من مهارات قوات البحرية، فلا بد من وضع آلية خاصة لإقامة تدريب مشترك متى أمكن. ولا شك في أن التدريبات والمناورات وتبادل المواقع والمسئوليات أمرٌ مهمٌ للغاية؛ إذ تسهم جميعها في الارتقاء بالمهارات الفردية ثم المهارات الجماعية داخل السفينة وبين السفن الأخرى، وقبل هذا كله ينبغي على الجهتين إقامة نوع من الاتصال، بناء على تنسيقٍ مُسبق عالي المستوى بين وزارتي الداخلية والدفاع وجهاز الأمن القومي، مع التأكيد على فهم كل منهما للطرف الآخر واستيعاب مبادئه وإجراءات التشغيل الخاص به.

[4] ضرورة مجادلة الأميركيين، بوضوح ودون مواربة، بأن مواجهة القراصنة الصوماليين ليست شأناً يمنياً أو إقليمياً فقط بل يقع في صميم مسئوليات الولايات المتحدة الأمنية العالمية، وحربها الكونية ضد الإرهاب.
تكمن إحدى المفارقات المثيرة للانتباه في قضية القرصنة البحرية على امتداد السواحل الصومالية في الدور الأميركي غير المباشر الذي ساهم في مفاقمة هذه الظاهرة الإجرامية إلى الحد الذي شكلت معه مصدر قلق عالمي جدّي ومتعاظم. وإذا استخدمنا تعبير مجلة نيوزويك الأميركية فإن "هوس واشنطن بالإرهاب كان نعمة بالنسبة إلى قراصنة المنطقة"، إذ أن حرب الولايات المتحدة على الإرهاب في المنطقة أدت إلى عواقب غير مقصودة؛ فخلال سيطرة المحاكم الإسلامية على الأوضاع في مقديشو وأجزاء واسعة من الصومال غابت القرصنة بصورة شبه كلية في منطقة القرن الأفريقي، ولم يشهد صيف العام 2006 أي عمليات قرصنة ضد السفن، لكن إدارة بوش بدعمها التدخل العسكري الإثيوبي في الصومال نهاية العام ذاته والذي قوّض حكم الإسلاميين ونفوذهم في البلاد، دفعت الصومال - وعن غير قصد، على الأرجح – إلى الغرق في الفوضى من جديد.
وقد استغلت عصابات القرصنة هذه الفرصة أحسن استغلال، وبعد فترة من غيابها القسري عن المشهد الصومالي إثر هزيمتها على يد المحاكم الإسلامية عادت مجدداً إلى واجهة الأحداث، وبدعم من بعض زعماء الحرب الصوماليين المرتبطين بالحكومة الانتقالية، ولم تمضِ سوى أشهرٍ قليلة حتى أخذت عجلة القرصنة في الدوران من جديد ولكن بزخمٍ غير مسبوق هذه المرة. ففضلاً عن تقويض التجارة وتهديد خطوط الملاحة البحرية الدولية، أخذ القراصنة أيضاً بتهديد شحنات المساعدة الضرورية لإعالة ما يزيد على ثلث الشعب الصومالي (نحو 2.6 مليون شخص) يعيشون على شفير المجاعة.
والحال أن تغيّر المشهد الإستراتيجي والأمني في الصومال تحت وطأة التدخل الأميركي المنسجم مع إلتزام واشنطن المعلن بمحاربة ما تسميه "التطرف الإسلامي"، كان باهظ الثمن هذه المرة وبدأت فواتيره تظهر تباعاً. وفي حين شرعت العديد من دول المنطقة - واليمن في مقدمتها - في الدَّفع من خلال تحملها عبء مواجهة القرصنة البحرية المزدهرة في مياه المنطقة، الأمر الذي أثقل كاهلها بعبءٍ أمني آخر يضاف إلى قائمة أعبائها الكثيرة، ناهيك عن تأثرها المباشر والسريع بالتداعيات السلبية لظاهرة القرصنة على الصعيد الاقتصادي، والتي تجلت بعض مظاهرها مؤخراً في زيادة رسوم التأمين على النقل البحري عبر خليج عدن بنسبة عشرة أضعاف، وتصاعد احتمال توقف الملاحة عبر باب المندب وقناة السويس وتحول مسارها إلى طريق رأس الرجاء الصالح مرة أخرى؛ فإن الولايات المتحدة في المقابل، وبعكس قوى دولية أخرى كفرنسا التي تمكّنت مؤخراً (تحديداً في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري) من إستصدار القرار 1838 من مجلس الأمن الدولي، والذي يُشرِّع - في سابقة "تاريخية" هي الأولى من نوعها وبموجب الفصل السابع - استخدام القوة بهدف مكافحة القرصنة في الصومال؛ لم تُبدِ (أي الولايات المتحدة) حتى الآن تقديراً ملائماً وكافياً لجهة تعاظم تهديد القرصنة البحرية في منطقة القرن الأفريقي وجنوب البحر الأحمر، رغم أنها لاعب رئيسي في المنطقة ويعتد بدورها الأمني كثيراً.
ويبقى الرهان في سبيل تحفيز الدور الأميركي المنتظر واستنهاضه، وهو ما ينبغي أن يركز عليه صانعو السياسات في اليمن ويعملوا على إثارته في حواراتهم المختلفة مع الأميركيين، يبقى كامناً في حضور العامل الإرهابي في الصورة، وبعبارة أخرى أكثر صراحة فإن الطريقة الوحيدة لجذب اهتمام واشنطن هي إظهار أن هناك صلة ما بين القراصنة الأعداء والإرهاب الكوني.
وتنبع أهمية هذا الرابط من حساسية العامل الإرهابي ودوره المفصلي في توجيه سياسة أميركا الخارجية وتوجهاتها الأمنية الراهنة على المستوى العالمي. ومع أن هذا الرابط لم يفلح في استثارة الإدارة الأميركية في أوقات سابقة بحيث جعلها تنظر إلى القرصنة البحرية على أنها أولوية، رغم حاجة عالم الشحن بالسفن وقتذاك أيضاً إلى الحماية، لكن الوضع تغير بدءاً من شهر أيلول/ سبتمبر 2005 عندما أصدرت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش وثيقة أمنية إستراتيجية بعنوان "الإستراتيجية القومية لأمن الملاحة البحرية". وتشدد هذه الوثيقة على أن حماية البحار مهمة حساسة تواجهها الولايات المتحدة كجزءٍ من حربها على المتشددين الإسلاميين في أرجاء العالم لمنعهم من استخدامها كمسرح للهجمات، أو كوسيلة لنقل الأفراد والموارد، وخصوصاً من تنظيم "القاعدة".
وتحتوي الوثيقة على عدد من البنود والالتزامات التي من شأنها تعزيز خطوات التعامل مع الأخطار التي تواجهها الملاحة البحرية، ويهم اليمن منها البند المتعلق بـ "عرض توفير عمليات التدريب في مجال أمن الموانئ والملاحة البحرية للدول المعنية، وإعطاء أولوية لبرامج الدعم الأمني بهدف تقديم المساعدة في ما يخص أمن الموانئ ونطاق الملاحة البحرية"، وكذلك البند الذي تؤكد فيه الولايات المتحدة على "تشجيع جميع الدول على زيادة نطاق الوعي بتعزيز قدراتها في مجال الملاحة البحرية، وهي القدرات التي يمكن في المقابل التشارك بها في المناطق المهمة ذات الحساسية العالية".
والحال أن هذه الوثيقة تتيح لليمن، وهي حليف رئيسي في الحرب على الإرهاب، طلب عون مباشر من الولايات المتحدة يساعدها في الحد من خطر القرصنة والسطو المسلح على السفن، وذلك من خلال تقديم المزيد من الدعم لمصلحة خفر السواحل، التي كانت واشنطن الراعي الأول والرئيس لإنشائها منذ سنوات قليلة خلت، وتوفير عمليات التدريب لعناصرها بما من شأنه رفع مستواهم المهاري والتقني وتطوير قدرتهم على مواجهة التهديدات المحتملة. وبالمثل، مساندة – لا عرقلة - توجهات اليمن الرامية إلى إطلاق حوار إقليمي يهدف إلى تطوير نظام أمني بحري جماعي يشمل جميع القضايا والهواجس الأمنية المشتركة، بما فيها قضية القرصنة البحرية.
على أن استمرار حالة التراخي الأميركية تجاه قضية أمنية مستجدة بالنسبة لها، كقضية تفاقم القرصنة البحرية قبالة السواحل الصومالية، سيظل كعب أخيل الجهود اليمنية والإقليمية والدولية التي ترمي لبناء إستراتيجية شاملة هدفها الحدّ نهائياً من خطر القرصنة في المنطقة واحتواء تداعياتها وأضرارها الأمنية كما الاقتصادية. وطالما استمر الشعور في واشنطن بأن هذه قضية هامشية، لا توازي في أهميتها وحجمها المعضلات الأمنية التي تواجهها الإدارة في العراق وأفغانستان أو الأزمة المالية المحتدمة التي زعزعت الاقتصاد الأميركي بشدة وألقت بظلالها على الاقتصاديات العالمية كافة، فإن العمل على تغيير هذه القناعة سيكون ضرورياً، والنقطة الجوهرية التي يجب التركيز عليها في هذا السياق، والتي قد تثير حماسة واشنطن وتوليها اهتماماً مضاعفاً، هي تذكير الأخيرة على الدوام بأن أيٍّ من أشكال التراخي في مواجهة القرصنة في القرن الأفريقي والبحر الأحمر من شأنه عرقلة الجهود الأميركية والدولية الخاصة بمكافحة الإرهاب خصوصاً مع ظهور بوادر تغيّر في اتجاهات القرصنة على المدى القريب والمتوسط؛ فإذا كان القراصنة الحاليين لا يطالبون إلا بفدية مالية، لكن المطالب قد تتغير إذا دخل أفراد من شبكة إرهابية، كالقاعدة أو مجموعات موالية لها، هذه الحلبة؛ إذ قد يحاولون إغراق سفينة كبيرة عند مدخل قناة السويس، كما أن حدوث كارثة بيئية ضخمة، نتيجة قيام القراصنة بإتلاف إحدى ناقلات النفط التي تمر عبر خليج عدن، يظل احتمالاً قائماً كذلك. 

* نقلاً عن موقع مركز سبأ.