الأزمات الاقتصادية.. المدخل الجديد «للفوضى الخلاقة»!
الجمعة, 06-مايو-2011
عمر نجيب -
على مدى التاريخ كانت الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في كل الدول والمجتمعات محكومة بحتمية الانتقال من مرحلة إلى أخرى وذلك طبقا لنظريات التطور والتحول التي تحكم الجنس البشري.

كتّاب التاريخ كانوا في أغلب الأحيان هم من يحكمون على نجاعة أو فشل هذه التحولات في تحقيق أهداف الذين يقودون عملية التطور والانتقال والتغيير، أو من حيث تمكنها من خلق مجتمعات أفضل أولا بالنسبة لمواطنيها ثم بعد ذلك لجوارها الإقليمي.

كذلك على مدى التاريخ وخاصة منذ أن تشعبت وتعقدت تركيبات المجتمعات والدول وقامت الإمبراطوريات وتزايدت الصراعات بينها، تولدت عملية تداخل التأثير على حركة التطور من خارج محيطها. هذا التدخل الخارجي كانت له جوانبه السلبية أحيانا والإيجابية أحيانا أخرى. التأثير السلبي حسب حكم التاريخ كان أخطر خاصة عندما تعلق الأمر بتدخل القوى الأجنبية ذات الأطماع الاستعمارية والتوسعية لتوجيه عملية التطور الطبيعية في مجتمع ما أو دولة في الاتجاه الذي يخدم هذه القوى الطامعة.

خلال القرنين الماضيين شهد العالم تدخل العديد من القوى الاستعمارية في مسيرة التطور أو التحول خاصة تلك التي كانت تتعثر في عدد من دول العالم، وباسم التحديث وسداد الديون ونشر الثقافة وإنهاء عصور الظلمات، أو حماية التجارة والأجانب الذين يحلون أو يعملون في دول العالم التي وصفت بالمتخلفة، تدخلت الدول الاستعمارية لفرض استعمارها أو حمايتها، محللة سلوكها بأنها تريد الخير للشعوب ولتقدم الإنسانية، وضمان الاستقرار والأمن العالميين!

تجربة الحرب العالمية الأولى وتنكر فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة لتعهداتها للعرب الذين تمردوا على الإمبراطورية العثمانية مثال حي لذلك، وقبل ذلك كان حال الولايات المتحدة في بداية نشأتها، عندما استغلت سكان البلاد الأصليين "الهنود الحمر" لضرب بعضهم ببعض على أسس قبلية، ثم استعانت بهم لاحقا في حروبها ضد إسبانيا والمكسيك، وبعد أن انتصرت تنكرت لهم، بل أبادت من طالبها بتنفيذ وعودها.

التجربة الاستعمارية تمت إعادتها بأساليب مختلفة بعد الحرب العالمية الثانية، من الصين في أقصى شرق آسيا مرورا بالهند الصينية والهند والمنطقة العربية الوسطى وشمال أفريقيا وكل القارة السمراء؛ غير أن وجود قوة منافسة للهيمنة الغربية وخاصة الأمريكية، أي الاتحاد السوفييتي، سهلت عملية التطور الذاتية وانتصار حركات التحرير.

وهكذا انتصرت الثورة الصينية وهزمت فرنسا في الهند الصينية وتحررت الدول العربية تباعا واستقلت الهند، وتواصل التطور الطبيعي لحركة الشعوب بحد أدنى من التدخل الخارجي.

حدثت نكسات في مسار انعتاق دول العالم الثالث، جزء من هذه الانتكاسات كان بسبب التدخل الأجنبي.

التدخل الأجنبي

الكثير من القوى الأجنبية عملت وتعمل على ركوب حركة التطور التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط الكبير خاصة منذ بداية سنة 2011، وهذا التدخل يمكن تحميله الجزء الأعظم من الإسقاطات السلبية، اقتصادية وسياسية وإجتماعية. ويقدر العديد من المحللين أنه لو تركت عملية التحول بدون تدخل خارجي ومساعي فرض أجندات معينة لكانت الأحداث أقل إيلاما على جميع الاصعدة.

هناك أمثلة كثيرة رائدة على تحول آمن لدول بدون تدخل خارجي: بعد أن انتصرت قواته في الحرب الأهلية حكم الجنرال فرانكو اسبانيا من سنة 1939 حتى سنة 1975، وبغض النظر عن الأوصاف التي نعتت بها فترة حكمه، فقد انتقلت إسبانيا بدون صدمات إلى الحكم الديمقراطي بمفهومه الغربي بعد وفاته. ومن الأمانة التاريخية التذكير أن فرانكو أوصى أن يخلفه الامير خوان كارلوس ليكون ملكا على عرش إسبانيا بعد وفاته.

عرض البنك الدولي صورة قاتمة للوضع الاقتصادي في الدول العربية التي تشهد ثورات متنقلة، وأشار إلى أن النمو في دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط للعام 2011 قد يتراجع مقارنة بالعام 2010، بسبب الأحداث السياسية في المنطقة، مشيرا إلى أن النمو في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سيتأثر بالتطورات التي تشهدها دول المنطقة.

وخلال مؤتمر صحفي تم خلاله عرض نتائج تقرير جديد للبنك الدولي حول النزاعات والنمو، قال رئيس القسم الاقتصادي في البنك الدولي جاستن لين إن "تقديراتنا تشير إلى أن الانعكاسات بالنسبة لدول مثل مصر وتونس، قد تكون تراجعا بحوالي ثلاث نقاط" في النمو الاقتصادي.

وأضاف المسؤول الدولي في المؤتمر الصحفي الذي عقد يوم الأحد 10 أبريل ونقلته وكالة الأنباء الصينية "شينخوا" "فيما يتعلق بالمنطقة، أي دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط، فإن الانعكاسات قد تكون بحوالي 4.2 نقطة".

وكان البنك الدولي قد أشار في توقعاته الاقتصادية الصادرة في يناير قبل بدء الاضطرابات في المنطقة العربية، إلى نمو إجمالي الناتج الداخلي من 3.3 في المئة عام 2010 إلى 4.3 في المائة عام 2011، غير أن لين أضاف أن العواقب بالنسبة للنمو العالمي ستكون محدودة، لكنه أضاف أنه "إذا تأثرت أسعار النفط والإمدادات النفطية بشكل كبير، عندها قد نشهد انعكاسات أكبر".

وتوقع صندوق النقد الدولي انخفاض النمو الاقتصادي المصري بدرجة كبيرة هذا العام مقارنة بالنصف الثاني لعام 2010 حيث كان النمو قد وصل إلى 5.5 بالمئة.

ويقدر خبراء أن الموسم السياحي تلقى ضربة قاسية على الأقل لأشهر قادمة، وتدر السياحة حوالي 13 مليار دولار سنويا، ويمثل هذا القطاع نسبة 6 في المئة من إجمالي الناتج الداخلي، ويستخدم مباشرة أو بصورة غير مباشرة، 10 في المئة من اليد العاملة الفعلية في البلاد. وفي الإجمال، فقد خسر الاقتصاد 310 ملايين دولار على الأقل في كل من الأيام الثمانية عشر الأولى من حركة الاحتجاج.

والاقتصاد المصري الذي يستفيد من استثمارات أجنبية مباشرة كبيرة، شهد نموا بنسبة 3.5 في المئة عام 2010، بعد نمو نسبته 7.4 في المئة خلال 2008/ 09 في أوج الأزمة المالية العالمية، ومعدلات سنوية تقارب الـ7 في المئة في السنوات الثلاث السابقة.

فترة صعبة

نورييل روبيني، أحد أبرز خبراء الاقتصاد الرأسمالي في العالم والأستاذ في كلية ستيرن لإدارة الأعمال بنيويورك، شبه وضع الدول العربية اليوم بوضع دول شرق أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، قائلا إن الفترة المقبلة ستكون صعبة على مستوى الاقتصاد، بعد الثورات الجارية، وشدد على ضرورة وجود خطة دعم دولية للمنطقة.

وذكر روبيني، الذي يدير أيضاَ مؤسسة استشارية مالية، في تصريحات لشبكة "سي إن إن" الأمريكية،" أن الأوضاع في أسواق العمل بالمنطقة قد تؤدي إلى تضخم وارتفاع الأسعار وأضرار في الميزانيات وتزايد الدين السيادي العام. وأضاف: "هناك اليوم ضرورة لإجراء إصلاحات جدية وأساسية في أسس الاقتصاد بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وإلا فإننا أمام خطر الفشل الاقتصادي". وأوضح قائلا: "من الصعب زيادة فرص العمل ورفع معدلات النمو في أوقات قصيرة، ولذلك هناك دعم خارجي مطلوب لتخفيف وقع هذه الفترة والمساعدة على تطوير الاقتصاد وإلا فإن الضغط سيزداد ومن ثم ينفجر على شكل المزيد من الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية".

وحول التأثيرات الاقتصادية الممكنة لأحداث الشرق الأوسط على الاقتصاد العالمي قال روبيني: "التأثير الأساسي هو الانعكاس المباشر على أسعار النفط والتسبب برفعها إلى مستويات مضرة بالنمو العالمي، وكذلك تراجع ثقة المستثمرين والمستهلكين بالمنطقة بصورة تدفع إلى تصحيحات سعرية عنيفة بأسعار الأصول المالية حول العالم".

وبالنسبة للمستثمرين العالميين، قال روبيني إنه لو كان مكانهم اليوم لظل بعيدا عن المنطقة خلال الفترة المقبلة، نظرا لحالة عدم الاستقرار وارتفاع المخاطر. ورأى أن هناك أوجه شبه بين ما يجري في المنطقة وما شهدته روسيا وأوروبا الشرقية بعد انهيار النظم الشيوعية والاضطراب الذي شهدته تلك الأسواق وتخوف الاستثمارات الأجنبية من الدخول إليها لفترات وصلت أحيانا إلى عقد كامل من الزمن. ولفت إلى أن تلك الفترة آنذاك تخللتها "موجات من الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية".

فرار الاستثمارات

يقدر محللون اقتصاديون أن الاضطرابات في المنطقة العربية تدفع المستثمرين إلى تقليص مراكزهم، لكن دولا أكثر استقرارا، مثل الإمارات العربية المتحدة وقطر، قد تستفيد من تحول في تدفقات رأس المال.

وتسببت أسابيع من عدم التيقن الآخذ بالاتساع في ارتفاع تكاليف التأمين على الديون وعوائد السندات الحكومية في أنحاء الخليج أكبر منطقة مصدرة للنفط في العالم، في حين تشهد الأسهم والعملات ومعظمها مربوط بالدولار الأمريكي تقلبات. وقالت دينا أحمد محللة وسط وشرق أوروبا والشرق الأوسط وافريقيا لدى "بي. ان. بي باريبا" "تتعرض المنطقة ككل لدرجة من التدفقات الرأسمالية إلى الخارج.. من الصعب تقدير حجمها لأن البيانات تأتي متأخرة جدا".

وفي ذروة الاضطرابات السياسية في مصر خلال شهر فبراير 2011 قدر بنك "سيتي بانك" حجم التدفقات الرأسمالية الخارجة من أكبر بلد عربي من حيث عدد السكان في حدود 500 مليون إلى مليار دولار يوميا.

وحتى قطر التي تتمتع بأحد أكبر معدلات نصيب الفرد من الناتج الاقتصادي في العالم- يبلغ نحو 75 ألف دولار- والتي لم تشهد احتجاجات مناهضة للحكومة ارتفعت تكاليف التأمين على الديون لمدة خمس سنوات إلى أعلى مستوياتها في عام.

وقال سايمون وليامز كبير الاقتصاديين لدى بنك "اتش.اس.بي.سي" في دبي "رغم أن مخاوف "المستثمرين" ستنصب على الدول التي تشهد اضطرابات أتوقع أن يراجع البعض خططه للمنطقة ككل".

وتشهد أسواق الأسهم الخليجية توترات، وقد عاودت التراجع صوب المستويات المتدنية التي سجلتها في يناير مع اتساع نطاق الاضطرابات الشعبية لتشمل البحرين وليبيا بينما مرت الأسواق الآجلة للعملات بتقلبات حادة.

ويتوقع المحللون تفاقم الضغوط على العملات إذا استمرت المصادمات. لكن المخاطر السياسية المرتفعة في بعض أجزاء العالم العربي وأسعار النفط القوية البالغة نحو 120 دولارا للبرميل قد تجعل أيضا بعض المستثمرين يحولون استثماراتهم إلى الولايات المتحدة أو الدول الخليجية الأكثر استقرارا.

وقال مستثمر سندات مقيم في لندن "وجهة نظرنا هنا هي أن علاوة سعرية للمخاطر السياسية قد ارتفعت بوضوح في أنحاء المنطقة. لكننا نفرق بقوة بين أماكن مثل الإمارات حيث النظام السياسي بوجه عام أكثر استقرارا بكثير ومثل قطر أيضا". وقال "إذا أردت البقاء في الشرق الأوسط فإنك تنتقل من البحرين إلى الإمارات أو إلى قطر، لكنني لست واثقا من أنك مضطر إلى الانتقال بالكامل".

وارتفعت عوائد السندات القياسية لكل من قطر وإمارة أبوظبي رغم بقائهما بمعزل عن الاضطرابات حيث تعيش أعداد السكان الصغيرة في رغد بفضل إيرادات النفط.

وقال مسؤول مصرفي كبير في البحرين "نتلقى بالتأكيد بعض الاستفسارات وخاصة من المستثمرين الأجانب بشأن تحويل الاستثمارات إلى أجزاء أخرى من الخليج العربي".

400 مليون مستهلك

شغلت الأوضاع السياسية والاضطرابات التي تشهدها عدة دول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا العديد من المحللين وخبراء الاقتصاد حول العالم، وتصدرت مواضيع ندوات الاقتصاد الدورية، حيث كثر الحديث عن طبيعة مشاكل المنطقة وخطر تأثر العالم ككل بالأحداث الجارية. فالسوق العربية فيها أكثر من 400 مليون مستهلك مفترض، ولكن تطورها البطيء فاقم الأزمات في المنطقة.

وعلى هامش الأسبوع الاقتصادي الذي عقد في روما خلال شهر أبريل، لفت الاهتمام تعليق من فان غانغ، مدير المؤسسة الوطنية للأبحاث في الصين، الذي ربط بين النفط والغذاء وأوضاع الشرق الأوسط. حيث قال في مداخلة: "أريد أن ألفت انتباهكم إلى العلاقة ما بين أسعار النفط وأسعار الغذاء، فعندما يرتفع سعر النفط يتأثر الغذاء، وإذا واصلا الارتفاع معا فسيكون لذلك تأثير كبير ومهدد للنمو العالمي".

أما جيرالد ليونز: كبير خبراء الاقتصاد في مصرف "ستاندرد تشارترد"، فوضع ثلاث أولويات قال إنها يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند النظر للمنطقة. وقال: "هناك حاجة ملحة في الشرق الأوسط لتنويع الدخل بعيدا عن النفط، كما أن النمو المتزايد في أعداد الشباب والتزايد السكاني المضطرد يجعل من الضروري زيادة خلق الوظائف".

غير أن ليونز دعا إلى عدم النظر إلى المنطقة العربية بشكل شمولي، وحض المحللين على "فهم تنوع الاقتصاد في الشرق الأوسط، حيث تختلف البنية في الخليج بشكل جذري عن نظيرتها في شمال أفريقيا".

أزمات أكبر

تقول مصادر رصد أوروبية لا تشارك التوجهات السياسية للإدارة الأمريكية، ان واشنطن ورغم تعثر جزء من برنامج المحافظين الجدد لإعادة رسم خريطة منطقة الشرق الأوسط الكبير عن طريق تطبيق نظرية "الفوضى الخلاقة"، فإنها تقدر أن الأوضاع لن تستقر خاصة في مصر وتونس، حيث أن حجم المصاعب الاقتصادية التي يواجهها البلدان وكذلك العديد من الدول العربية الأخرى سيتضخم، وستقود هذه الأزمات إلى تولد ثورات جديدة بسبب صعوبة حلها من قبل أي أنظمة.

وتقدر مراكز دراسات أن مفتاح الاستقرار أو تواصل الأزمات في بلد ما يعتمد على "عنصر جوهري هو ألا تشعر بعض المجموعات بانها مهمشة في العملية. فان حصل ذلك، سوف تقوم هذه المجموعات بعرقلة العملية".

وحسب مصدر كان قد عمل على تقرير أعدته الإدارة الأمريكية قبل أكثر من سنة ونصف وتنبأت فيه بسقوط عدة أنظمة عربية، فإن دولة مثل مصر ستواجه تطورا سلبيا في الأحداث خاصة عندما يكتشف المطالبون بالتغيير وبشحن من الخارج عن طريق وسائل الاعلام الحديثة، أن طريق الإصلاح ستكون طويلة وشاقة، وسيجري اقناع هؤلاء أن من يسيرون الأمور في البلاد حاليا يتنكرون لأهداف الإصلاح وأنه من الواجب الاطاحة بهم.

وتقول مثلا مصادر أمريكية، إن الشعب المصري سيجد نفسه بعد أشهر أمام وضع صعب، لأن التغيير السياسي الذي تحقق لم يترافق مع تطورات اقتصادية يمكنها توفير الوظائف والعيش الكريم لمئات آلاف الشبان الذين يشعرون بالإحباط بسبب الفقر والبطالة. ولن يدرك هؤلاء أن المتوفر ماديا حتى قبل الثورة، وانهيار السياحة وعدم وجود استثمارات وتراجع الصادرات واضطراب الانتاج المحلي هي الموانع الحقيقية التي تحول دون تحقيق تطلعاتهم.

وتتوقع مراكز أبحاث أمريكية أن تشهد ساحة التحرير وساحات عربية أخرى خلال الأشهر القادمة موجات غاضبة من الشباب الذين يشعرون بخيبة أمل، وسوف يكون تحركهم هذه المرة أكثر عنفا وتشددا من المرات الماضية.

ويفيد أحد التقارير الأمريكية أن واشنطن تقدر إمكانية وقوع هذا الاحتمال في مصر ومن ثم انتشاره إلى المنطقة ككل، مدركة أن الاقتصاد يتجه إلى عنق الزجاجة خارج الدول النفطية، وذلك بسبب تراجع المساعدات الدولية والاستثمارات.

ومما يسعد بعض مراكز السلطة الحقيقية في الولايات المتحدة وفي مقدمتها المركب العسكري الصناعي، أن الأنظمة الجديدة في المنطقة العربية لن تملك مهما كانت نواياها مخلصة أدوات تنشيط الاقتصاد وإيجاد فرص عمل للعاطلين، وبالتالي ستتهم بالتقصير والثورة المضادة، وهكذا ستدخل مستقبلا في دوامة المواجهة مع الداخل لأنها تدرك أن البديل سيكون الفوضى التي ستقود في النهاية إلى التقسيم وبكلمات أوضح إلى خارطة الشرق الأوسط الجديد المكون من 54 إلى 56 دولة متنافرة.

ويشير مراقبون اقتصاديون إلى مخاطر الإقدام على تشغيل أعداد كبيرة من العاطلين في القطاعات الحكومية في محاولة للحفاظ على السلم الاجتماعي، لأنه في غياب حاجة اقتصادية لهذه اليد العاملة الجديدة يتم تحميل الدولة أعباء إضافية تثقلها بالديون وتعطل مردوديتها؛ وبما أن غالبية دول المنطقة العربية اختارت سياسة السوق الحرة وتخلت عن الاقتصاد الموجه فإن نفخ سوق الشغل دون حاجة يولد أخطارا اقتصادية كبيرة.

ويشار هنا إلى تناقضات توجيهات المؤسسات المالية الدولية وخاصة البنك وصندوق النقد الدوليين، فمن جهة وفي توقيتات معينة خاصة خلال حركات الاحتجاج في كل من مصر وتونس طالبتا بتشغيل العاطلين، وبعد حين عادت لتحذر من التشغيل غير المبرر اقتصاديا، وموازاة مع ذلك تدخلت الولايات المتحدة لتطلب من القاهرة على سبيل المثال التخلص من القطاع العام وخوصصته وركزت وزيرة الخارجية كلينتون خلال زيارتها للقاهرة يوم 19 مارس على المصانع العسكرية المدنية وضرورة ضمها إلى مخطط ما سمته الإصلاح الاقتصادي.

تونس والمعادلة الصعبة

أعلن وزير المالية التونسي جلول عياد بداية شهر أبريل 2011، أنه يتوقع أن يسجل اقتصاد بلاده نسبة نمو اقتصادي بين صفر و1 في المئة بسبب تراجع الأنشطة الاقتصادية والاستثمارات في القطاعات الاقتصادية الرئيسية بعد الاضطرابات التي واكبت الثورة. وقال: "تم تسجيل تراجع في النشاط والاستثمارات في القطاعات الرئيسية للاقتصاد مثل السياحة والنقل والفوسفات والأشغال العامة، علاوة على تراجع إجمالي للصادرات.

وقدر عياد حاجة تونس للتمويلات الخارجية بنحو 3600 مليون دولار، فيما وصلت الديون الخارجية إلى 11500 مليون دولار.

وتبلغ قيمة الموازنة العامة لتونس التي كان البرلمان التونسي السابق قد صادق عليها في الخامس من ديسمبر 2010، أي إبان حكم الرئيس السابق بن علي، 19192 مليون دينار "13515 مليون دولار"، أي بزيادة بنسبة 5 في المائة عن موازنة العام 2010.

وضبطت هذه الموازنة على أساس تطور الموارد الذاتية بنسبة 6.1 في المئة، ونفقات التنمية بنسبة 7.5 في المئة بالمقارنة مع تقديرات قانون المالية لسنة 2010، لتحقيق جملة من الأهداف أهمهما استرجاع نسق النمو إلى المستوى الذي كان عليه قبل الأزمة المالية والاقتصادية العالمية ليبلغ 5.4 في المئة، بالإضافة إلى توفير المزيد من فرص العمل للتقليص من نسبة البطالة إلى 11 في المئة، مقابل 14 في المئة عام 2010.

وكان رئيس الوزراء التونسي قد أعلن قبل ذلك أن أولوية عمل حكومته ستكون إعادة إحلال الأمن لإنعاش الاقتصاد الذي أصبح على "شفير هاوية". ولكن المشكلة كما تقول مصادر في الحكومة الألمانية هي أن الوعود الأمريكية والأوروبية لمساعدة تونس وتحقيق الانتعاش تبقى في إطار التمنيات.

زيادة على ذلك فإن محاولات إعادة تنشيط السياحة في تونس حيث يرتبط عمل 350 ألف شخص بها بشكل مباشر، لم تثمر حتى الآن بسبب عدم الاستقرار والمخاوف الأمنية. وقد أفادت وزارة العدل التونسية مثلا أن عدد الفارين من السجون التونسية خلال الثورة بلغ حوالي 11 ألف سجين، عاد منهم إلى حد الآن 6400 سجين.

المستثمرون الأجانب مترددون في ضخ مزيد من الأموال في السوق التونسية، وأفضل ما هو متوقع حاليا هو استمرارهم في العمل في مشاريعهم القائمة، وحتى هذا الأمر يعاني بعض التعثر بسبب الإضرابات العمالية. كما أن عدم وضوح التطورات المستقبلية يثير خوف رؤوس الأموال. وقد أثار ارتفاع عدد الأحزاب السياسية المسموح لها بتونس إلى أكثر من خمسين حزبا خوفا من عدم استقرار طويل الأمد.

يوم 13 أبريل نقلت وكالة رويترز من ميناء جرجيس التونسي وصفا لوضع مأساوي وإحساس بالضياع لشباب يتدفق للهجرة إلى أوروبا.

قال فاروق بالهيبة، وهو رجل في الخمسينات من عمره والذي بدا حزينا وشارد الذهن بعد أن فقد الأمل في العثور على ابنه وخاله اللذين فقدا قبل شهر في عملية للإبحار خلسة، "المصيبة مضاعفة، لقد فقدت ابني وخاله منذ نحو شهر، لكن لم يكن أمامنا حل آخر، فالآفاق مغلقة هنا في تونس وفرص العمل تكاد تنعدم".

مصر والمواجهة

خلال الثلث الأول من سنة 2011 كشف تقرير أصدره البنك السعودي الفرنسي أن الفترة المقبلة ستشهد ترددا من قبل المستثمرين الأجانب القلقين للغاية حتى يعود الاستقرار السياسي إلى مصر التي تعد أكبر دولة في العالم العربي من حيث عدد السكان 85 مليون نسمة. كما أشار معد التقرير الدكتور جون اسفيكياناكيس، مدير عام وكبير الخبراء الاقتصاديين في البنك السعودي الفرنسي، الى أن المنطقة العربية ستخضع لإعادة تقييم من المستثمرين الأجانب من ناحية المخاطر المرتقبة، قائلا ان المستثمرين سيراقبون المنطقة لرؤية ما إذا كانت دول عربية أخرى، ستشهد مواجهات مماثلة. وفي ذات الوقت قال معد التقرير انه من الصعب في الفترة الراهنة تقدير مدى استدامة وعمق الآثار التي ستتركها الأحداث المصرية على أسواق الأسهم والديون والعملات في منطقة الخليج العربي.

كما أوضح التقرير أن هروب رؤوس الأموال الأجنبية من مصر سيترك آثارا سلبية واضحة على اقتصادات منطقة الشرق الأوسط كافة، لأن مستثمرين كثرا من داخل المنطقة وخارجها استثمروا أموالا طائلة في أسواق الأسهم والعقارات والمشروعات الصناعية المصرية التي بها حوالي 22 من مجموع المستهلكين في المنطقة.

تفيد مصادر رصد غربية أن هناك مراكز ضغط سياسية اقتصادية كبيرة ومؤثرة على أصحاب القرار في البيت الأبيض تسعى لامتصاص الاستثمارات من المنطقة العربية وخاصة مصر وشمال أفريقيا وبعض أجزاء الجزيرة العربية وتحويلها إلى الولايات المتحدة.

وتسجل هذه المصادر أنه يوم 9 أبريل وفي بلاغ مقتضب من القاهرة عمم لاحقا عبر قنوات الأوساط المالية في دبي، اعلن أن الجيش المصري نجح في إحباط محاولات لتهريب أموال إلى خارج البلاد بقيمة 17 مليار دولار. وحذر مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، اللواء محمود محمد أنور نصر، من أن احتياطي البنك المركزي البالغ 30000 مليون دولار مهدد بالنضوب خلال 9 أشهر، مؤكدا أن الجيش أحبط محاولات تهريب 17 مليار دولار خلال الفترة الأخيرة، في حين بلغت خسائر البورصة المصرية بعد أحداث 25 يناير 113 مليار دولار.

وجاء كلام اللواء نصر أثناء ندوة عقدت بمقر فرع الشؤون المالية للقوات المسلحة تحت عنوان "ثورة 25 يناير التضحيات، التحدي، الأمل"، حيث استعرض مقررو المجلس الأعلى للقوات المسلحة الأسباب التي أدت إلى حدوث ثورة 25 يناير ونتائجها على الوضع الاقتصادي المصري، داعين إلى ضرورة تهيئة المناخ المناسب لجذب الاستثمار إلى مصر وتنشيط قطاع السياحة والحد من الوقفات الاحتجاجية التي تؤثر في عجلة الإنتاج.

ولفت إلى أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة أصدر تعليمات للبنك المركزي بعدم السماح بخروج مبالغ مالية خارج البلاد للاستفادة منها في اقتصاد البلد، بحيث لا تتعدى التحويلات للخارج 100 ألف دولار، وألا يزيد حجم السحب النقدي على 10 آلاف دولار، بينما لا يزيد السحب المحلي على 50 ألف جنيه مصري، موضحا أن ما يرتبط بالسحب النقدي في ما يخص استيراد المواد الغذائية لا قيود عليه ولكن بعد التحري والدقة.

الفعل ورده

ليس في السياسة الدولية خاصة ممارسات القوى الكبرى أمر اسمه صدف، كل تحرك يقوم على أساس تخطيط فيه الفعل ورد الفعل.

يوم الثلاثاء 12 أبريل ووسط حملة إعلامية حول ما سمي دكتاتورية الجيش، أعربت الولايات المتحدة عن "قلقها الشديد" لإصدار محكمة عسكرية الاثنين 11 أبريل حكما يقضي بحبس مدون مصري 3 سنوات بسبب انتقادات وجهها للجيش على مدونته، خاصة ما يتعلق بالتجنيد الإجباري، معتبرة أن هذا الأمر ليس ما كانت تتوقعه في مرحلة ما بعد حسني مبارك. وقال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية مارك تونر للصحافيين "اننا قلقون جدا لهذا الحكم". وأضاف "خيب الحكم أملنا لأن هذا الأمر ليس التقدم الذي كنا نتطلع إليه في مصر".

بفارق زمني لا يتجاوز عشرات الساعات تجدد وبكثافة الحديث في واشنطن عن احتمال مراجعة المساعدة العسكرية الأمريكية لمصر والبالغة 1300 مليون دولار سنويا، بسبب ما وصف بضغوط الميزانية. وكان بعض المشرعين والسياسيين في العاصمة الأمريكية وهم في غالبيتهم من جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل قد عادوا إلى المطالبة بمراجعة هذه العلاقة العسكرية الأمريكية المصرية والمليارات التي ترافقها.

والمعروف أنه منذ نهاية بداية عقد الثمانينات تهاجم إسرائيل بانتظام احتفاظ القاهرة بجيش قوامه حوالي نصف مليون رجل وعملية تجنيد كل الشباب للخدمة العسكرية، وقد ذهب سياسيون صهاينة إلى حد اتهام القاهرة بالخداع رغم اتفاق كامب ديفيد والإعداد لحرب جديدة في المستقبل.

النفاق

حجم النفاق الغربي تجاه حركة التحولات وجهود ركوبها جريا وراء تحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير ستنفضح في تونس ومصر خلال الأسابيع القليلة عندما ينكشف وهم الدعم المادي للنظام الجديد.

يوم الجمعة 15 أبريل 2011 قال وزير المالية المصري سمير رضوان إنه سيطلب عشرة مليارات دولار من بنوك دولية ومجموعة السبع للدول الكبرى لمساعدة مصر في مواجهة الضغوط المالية المتزايدة بعد الانتفاضة، مضيفا أن شاغله الأول هو تخفيف الضغوط المالية".

ولفت رضوان إلى أن الحكومة الجديدة تتعرض لضغوط للعمل بخطى أسرع لتلبية مطالب "عريضة ومتزايدة" من المحتجين في الشوارع.

وأشار إلى أن عجز ميزانية مصر سيقفز الى ما بين 9.1 و9.2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في السنة المالية التي تبدأ في يوليو صعودا من 8.5 في المئة في السنة المالية الحالية.

وقال رضوان "من الآن وحتى نهاية يونيو أحتاج إلى ملياري دولار، وللسنة المالية القادمة سأحتاج إلى قرابة ثمانية مليارات دولار". وأضاف أنه لا يستبعد برنامج اقراض من صندوق النقد الدولي، لكن أي اتفاق يجب أن يأخذ في الاعتبار احتياجات الحكومة للاستجابة للاحتياجات الاجتماعية الفورية وضمان الاستقرار.

ورأى أن "صندوق النقد الدولي مهم للغاية لنا لا لمجرد الحصول على المال وانما للمساعدة في مواصلة عملية الاصلاح. ونحن لا نستبعد شيئا". واضاف أنه من المهم أن يكون اي اتفاق على برنامج اقراض مع الصندوق وفق شروط مصر.

واعتبر أن معدل نمو اقتصادي بين 1 و2 في المئة ليس كافيا لمساعدة مصر على التعافي، وفي الوقت نفسه فإن إزالة الدعم ليس ممكنا من الناحية السياسية في الوقت الحالي بالنظر إلى استمرار التوترات الاجتماعية.

وردا على دعوات غربية بإلغاء الدعم للسلع الإستهلاكية الأساسية قال "لا يمكنني أن أمس الدعم الان، لان مفهوم الشعب هو ان الدعم مفيد للفقراء." وتدعم مصر مواد غذائية اساسية ومنتجات الطاقة وذلك بين منتجات أخرى. ولفت إلى أن التضخم في مصر يبلغ 11.5 في المئة، لكن أسعار الأغذية ترتفع ما بين 16 و24 في المئة.

في نفس التوقيت تقريبا ولكشف أسلوب الخداع الغربي، دعت وزيرة التخطيط والتعاون الدولى المصري فايزة أبو النجا يوم الخميس 14 أبريل الولايات المتحدة إلى إعفاء مصر من الديون المستحقة عليها والتى تقدر بنحو 3600 مليون دولار. ومضت تقول "إننا نتحدث الآن عن عجز فى مصر يبلغ خمسة مليارات دولار من المنتظر أن يصل إلى ثمانية مليارات بحلول العشرين من شهر يونيو المقبل. وحذرت أبو النجا من أن عدم تقديم يد العون إلى مصر من شأنه أن يخلق مشاكل أكبر تتعلق بعدم الاستقرار وانعدام الأمن في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ويمكن أن تطال العالم أيضا.

ويقول خبراء إن تخفيف عبء الديون على مصر سوف يوفر لها السيولة والفرصة لتحسين ميزان المدفوعات وأمور أخرى مثل سداد التزامات القطاع العام والذي سوف يصبح من الصعب الوفاء بها في غضون شهرين قادمين، الأمر الذي من شأنه أن يخلق مجموعة من المشاكل لمرحلة التحول الوليدة في مصر.



*. نقلاً عن صحيفة العرب