الأزمة المالية لم يتوقعها الخبراء... لماذا؟
الجمعة, 25-مارس-2011
راغور أم راجان -

في ذروة الأزمة المالية، طرحت ملكة إنجلترا على أصدقائي في كلية لندن للاقتصاد سؤالاً بسيطاً، لكنه سؤال لا توجد له إجابة بسيطة: لماذا فشل خبراء الاقتصاد الأكاديميون في توقع الأزمة؟

هناك العديد من الردود على هذا التساؤل، وأحدها أن خبراء الاقتصاد كانوا يفتقرون إلى النماذج القادرة على تمثيل السلوكيات التي أدت للأزمة. وثمة رد آخر يقول إن خبراء الاقتصاد كانوا يتبنون نظرة ضيقة نابعة من أيديولوجية ترى أن السوق الحرة غير المقيدة لا يمكن أن تخطئ! وأخيراً هناك رد آخر مفاده أن النظام كان يرشو خبراء الاقتصاد لكي يلتزموا الصمت.

لكن من غير الصحيح أن الأكاديميين لم تكن لديهم نماذج مفيدة لتفسير ما حدث. فإن كنت تعتقد أن السبب وراء الأزمة كان نقص السيولة، فقد كان لدينا عدد وفير من النماذج التي تحلل نقص السيولة وتأثيره على المؤسسات المالية. وإن كنت تعتقد أن المسؤولية عن الأزمة تقع على عاتق المصرفيين الجشعين والمستثمرين الغافلين، أو على عاتق السوق التي أصابها الجنون بفعل الوفرة الطائشة... فقد تناولنا كل ذلك بالدراسة المفصلة.

ولعل السبب كان أيديولوجياً: فقد كنا متشبثين بفرضية أن الأسواق تتسم بالكفاءة، وأن المشاركين في السوق متعقلون، وأن ارتفاع الأسعار تبرره العوامل الاقتصادية الأساسية. لكن بعض هذه الانتقادات الموجهة إلى "أصولية السوق" تعكس سوء فهم. إن "نظرية كفاءة الأسواق" السائدة تزعم فقط أن الأسواق تعكس ما هو معروف علناً، ولا تزعم أن الأسواق لا يمكن أن تهبط إذا وردت أنباء سيئة، أو إذا أصبح المستثمرون كارهين لخوض المجازفة.

ويزعم المنتقدون أن العوامل الاقتصادية الأساسية كانت تتدهور على مرأى من الجميع، وأن السوق وخبراءه تجاهلوا ذلك التدهور. لكن الإدراك المتأخر يشوه عملية التحليل، فقد كان هناك العديد من خبراء الاقتصاد الذين كانوا يعتقدون أن أسعار المساكن، رغم ارتفاعها، قد تهبط.

لا شك أن هذه التوقعات كان يمكن أن تتشوه بفعل التأثير الأيديولوجي على عقول خبراء الاقتصاد. لكن هناك سبباً أفضل للتشكك في التفسيرات الأيديولوجية.

هل نستطيع اعتبار الفساد هو الجاني؟ بعض الخبراء الأكاديميين يعملون كمستشارين للبنوك ووكالات التصنيف، ويلقون الخطب على مؤتمرات المستثمرين، ويخدمون كشهود من الخبراء، ويجرون البحوث التي ترعاها جهات مختلفة. ومن الطبيعي أن تثور الشكوك والشبهات حول انحيازنا. وقد يكون التحيز ضمنياً، وقد يكون صريحاً. وهناك حالات كافية من التحيز المحتمل الذي لا يمكن تجاهله. وثمة علاج يتلخص في حظر كافة التفاعلات بين خبراء الاقتصاد وعالم الشركات. لكن إذا كان تواجد خبراء الاقتصاد مقتصراً على أبراجهم العاجية، فقد نصبح غير منحازين، وهذا يعني أيضاً أننا سوف نصبح جاهلين بالجوانب العملية، وبالتالي أقل قدرة على توقع المشاكل. وقد تكون المكاشفة من الطرق الكفيلة باستعادة الثقة، أي أن يعلن خبراء الاقتصاد مصلحتهم النقدية في إجراء تحليل بعينه، وبصورة أكثر عموماً، أن يشرحوا لنا من يدفع لهم. والواقع أن عدداً من الجامعات تسير في هذا الاتجاه.

وفي اعتقادي أن الفساد لم يكن السبب الرئيسي الذي جعل أهل المهنة يغفلون عن الأزمة الوشيكة، فتفاعل أغلب خبراء الاقتصاد مع عالم الشركات ضئيل للغاية، ولم تكن قدرة خبراء الاقتصاد "غير المتحيزين" هؤلاء على توقع الأزمة أفضل.

وأزعم أن ثلاثة عوامل تساهم في تفسير فشلنا الجماعي: التخصص، وصعوبة التنبؤ، وانفصال أغلب أهل المهنة عن العالم الحقيقي.

وكما هو الحال في عالم الطب، فقد أصبح الاقتصاد متجزئاً للغاية، لا يلتفت خبراء الاقتصاد الكلي كثيراً إلى ما يدرسه خبراء الاقتصاد المالي، وخبراء الاقتصاد في مجال العقارات، والعكس صحيح. ورغم ذلك فتوقع قدوم الأزمة كان يتطلب الاطلاع على كل هذه المجالات، كما يتطلب الأمر وجود ممارس عام بارع للتعرف على مرض غريب. ولأن المهنة لا تكافئ إلا الحذرين والمدعومين، وإن اتسموا ضرورة بقدرة ضيقة على التحليل، فإن خبراء الاقتصاد يحاولون مد الجسور بين المجالات الفرعية وتوسيع مداها.

وحتى إن فعلوا ذلك فسيتجنبون التنبؤات. ولعل الميزة الرئيسية لخبراء الاقتصاد الأكاديميين، زيادة على ما يتمتع به المتنبئون من أهل المهنة، تتلخص في وعيهم بالعلاقات القائمة بين العوامل المختلفة. لكن أصعب ما يمكن التنبؤ به رغم ذلك هو نقاط التحول، عندما تنهار العلاقات القديمة. ورغم وجود بعض العوامل التي تشير إلى نقاط التحول، كأن ينذر التصاعد الحادث في الروافع المالية القصيرة الأمد وأسعار الأصول بالانهيار غالباً، فإنهم ليسوا متنبئين معصومين من الخطأ فيما يتصل بالمتاعب القادمة.

إن المكافآت المهنية الهزيلة، إلى جانب عدم الدقة والخطر على السمعة فيما يتصل بالتنبؤات، تؤدي إلى فك الارتباط بالنسبة لأغلب الأكاديميين. وقد يكون الأمر أن خبراء الاقتصاد الأكاديميين لا يملكون الإدلاء بدلائهم فيما يتصل بالتحركات الاقتصادية قصيرة الأمد، لذا فالتنبؤ، بكل ما يشتمل عليه من أخطاء، من الأفضل أن يترك للمتنبئين المهنيين.

ومكمن الخطر هنا هو أن فك الارتباط عن التطورات القصيرة الأمد تدفع خبراء الاقتصاد الأكاديميين إلى تجاهل الاتجاهات المتوسطة الأمد التي يمكنهم التعامل معها. وإذا كان الأمر كذلك فإن السبب الحقيقي وراء فشل الأكاديميين في توقع الأزمة قد يكون أبسط كثيراً من النماذج غير الكافية، أو العمى الأيديولوجي، أو الفساد، وبالتالي فالأمر أكثر إثارة للقلق والانزعاج؛ ذلك أن العديد من الناس كانوا ببساطة في وادٍ آخر.

* نقلا عن "الاتحاد" الإماراتية.