الأمن الغذائي .. الحق في الطعام!
الجمعة, 21-يناير-2011
عبد الحسين شعبان -

هناك حكمة صحية قديمة تقول: قلْ لي ماذا تأكل أقول لك من أنت؟ فالأكل جزء من الثقافة لأي فرد، مثلما هو جزء من ثقافة أي شعب أو أي مجتمع بشري. وثقافة الأكل تشكّل جزءًا مهماً من الثقافة العامة، فالمأكل والمشرب والملبس والعادات والتقاليد والأفكار والفلسفات والجمال والدين تشكل منظومة متناسقة ومتجانسة من مكوّنات أي فرد أو أية أمة أو اجتماع إنساني.

الثقافة الغذائية هي انعكاس بهذا القدر أو ذاك للقدرات المادية والاقتصادية، فالمجتمعات الفقيرة والمُعدمة، سيكون غذاؤها بسيطاً، وقد لا يكفي من حيث سعراته الحرارية واحتوائه على المواد الضرورية والفيتامينات والخضراوات والفواكه واللحوم والألبان ومشتقاتها، بما يؤهلها للنمو السليم والصحة والسعادة. والمجتمعات الفقيرة تعاني اعتلالات صحية وأمراضا بعضها مزمن بما فيها أوبئة تحلّ بها بين الفينة والأخرى، فضلاً عن أمية ونقص في التعليم، ناهيكم عن ضعف الموارد وانعدام فرص العمل، في ظروف تخلف عامّة.

الحق في الغذاء والحق في الصحة هو من حقوق الإنسان الأساسية التي جاء على ذكرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حين نصت المادة الحادية عشرة على: حق كل فرد في مستوى معيشي مناسب لنفسه ولعائلته، بما في ذلك الغذاء المناسب والملبس والمسكن، وكذلك تحسين أحواله المعيشية بصفة مستمرة، وحق كل فرد في أن يكون متحرراً من الجوع. كما أكّدت على التعاون الدولي واتخاذ الإجراءات اللازمة لتحسين وسائل الإنتاج وحفظ وتوزيع الأغذية والانتفاع الكلي من المعرفة الفنية والعملية وبنشر المعرفة بمبادئ التغذية وتنمية النظم الزراعية أو إصلاحها، من أجل تأمين توزيع عادل للمؤن الغذائية في العالم تبعاً للحاجة. كما أقرّ العهد الدولي في المادة الثانية عشرة حق كل فرد في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية ارتباطاً مع الحق في الغذاء. ذلك أن الحصول على غذاء كاف ومؤمن في جميع الأوقات هو من مسؤولية الدول والمجتمعات أيضاً، وهو ما يمكن أن نطلق عليه الأمن الغذائي، على مستوى كل بلد أو على المستوى العالمي، ولا سيما أن عدد الجياع أخذ يتعاظم في العالم، ووصل إلى مستويات غير مسبوقة، حيث يبلغ الذين هم دون خط الفقر نحو مليار و200 مليون إنسان، وهم الذين لا تزيد دخولهم على دولار واحد في اليوم، وضعف هذا العدد، بل يزيد عليه من هو في خط الفقر، الأمر الذي يجعل نحو ثلثي سكان المعمورة في حالة من انعدام الأمن الغذائي.

إن هذا الوضع والتطورات المتسارعة التي شهدتها أسواق الغذاء العالمية، التي أدّت إلى ارتفاع حاد لأسعار المواد الغذائية، ناهيكم عن تراجع المخزونات الغذائية، والنقص المستمر في رقعة الأراضي الزراعية وانخفاض منتوجها وإنتاجيتها، فضلاً عن القيود المفروضة على حركة التجارة في المواد الغذائية الأساسية واستغلال بعض المحاصيل الزراعية في إنتاج الوقود الحيوي، جعل مشكلة الغذاء من أعظم المشكلات العالمية، وقد انعكست هذه المشكلة على المشكلات الأخرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية، بل الكيانية، على مستوى الفرد والدولة والمجتمع.

إن إشكالية الأمن الغذائي تتداخل وتتشابك مع الحق في التنمية، ولا سيما إذا استهدفت مكافحة الفقر والجوع، وهو ما نوّهت به بوضوح قمة روما والإعلان الصادر عنها، عام 1996، وهو ما ذهب إليه إعلان الرياض لتعزيز التعاون العربي لمواجهة أزمة الغذاء العالمية في عام 2008. وقد كان إعلان القمة العالمية بشأن الأمن الغذائي عام 2009 قد عزز التوجّه الدولي بشأن دراسة اتفاقية الغذاء العالمية ومشكلة الأمن الغذائي، وهو ما حاولت قمة الكويت العربية الاقتصادية ـــ مطلع عام 2009 ـــ أن تتبنّاه، وهو ما ترشّح من القرارات الصادرة عن منظمة المؤتمر الإسلامي حول الأمن الغذائي والتنمية الزراعية.

إن بعض الهيئات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة مثل "فاو" (منظمة الأغذية والزراعة) ومنظمة الصحة العالمية وغيرهما، سعتا إلى التعاون والعمل المشترك الدولي والتنسيق على المستوى العالمي لمواجهة موضوع الأمن الغذائي ومشكلة الغذاء والصحة، وذلك لإدراكهما وإدراك الأمم المتحدة أن عدم حل مشكلة الأمن الغذائي على المستوى العالمي، يمكن أن يفاقم الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، بل يهدد بكارثة حقيقية على المستوى الكوني.

ولعل مناسبة الحديث عن الأمن الغذائي هو مشروع إعلان أبو ظبي بشأن الأمن الغذائي الذي انعقد في إطار مجلس التعاون الخليجي في 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010 بحضور وزراء دول المجلس ـــ المعنيين بقضايا الزراعة والتغذية ـــ وذلك لمواجهة التحدّيات المتعاظمة للأمن الغذائي، وتأكيد الالتزامات المشتركة لتوفير سلامة الغذاء والأمن الغذائي باعتبارهما ضرورة وقاعدة أساسية للحفاظ على صحة ورفاهية البشر ـــ مواطنين ومقيمين ـــ كما جاء في الإعلان. وأكّد الإعلان أهمية رسم سياسات وبرامج واتخاذ تدابير حديثة وفاعلة لتحسين سلامة الأغذية وجودتها، وتأمين صحة الحيوان والنبات لمواكبة النمو المطّرد في حركة التبادل التجاري، وذلك تساوقاً مع الجهود الدولية المبذولة على هذا الصعيد.

إن إجراءات من هذا القبيل تتطلب اتّباع سياسة تعاون على المستوى العربي والإقليمي والدولي، كما تفترض وجود تشريعات وضوابط قانونية والتزامات تقوم على أسس علمية ومعايير دولية، كي تتم زيادة الإنتاج الزراعي وتحسين نوعيته واستخدام تقنيات حديثة ومراعاة الاعتبارات البيئية واستخدام الموارد الطبيعية وصونها على نحو سليم.

كما يحتاج ذلك إلى تعاون بين القطاع العام والقطاع الخاص لتنمية القطاع الزراعي والصناعات الغذائية وتسويق المنتجات الزراعية من خلال توفير المناخ الاستثماري المشجع، وكذلك تشجيع قيام بنوك وطنية ومشتركة للبذور للاستفادة من الأصناف المتوافرة والجيّدة في تحقيق النهضة الزراعية، وإلى توزيع عمل خاص بدول المنطقة.

ولعل هذا سيكون ناقصاً دون نظم رقابة فاعلة على المستويات الداخلية: والعربي والإقليمي والدولي، وذلك في إطار عملية متكاملة ومتجانسة للرقابة والتفتيش الغذائي طبقاً للمعايير الدولية، وطبقا لاتفاقيات منظمة التجارة العالمية والمنظمات المتخصصة. وهذا يحتاج إلى تعزيز البنية التحتية التي تحترم الأمن الغذائي وتعزز السلامة الغذائية، بما فيها المختبرات والأجهزة اللازمة والحجر الزراعي والبيطري، فيما يتعلق بنظم الإنذار للأعلاف وسلامة الغذاء، طبقاً للمعايير الدولية لتبادل المعلومات والبيانات اللازمة عبر شبكة للسلطات الرقابية بالتعاون مع الأجهزة الأخرى.

وكي تنسجم هذه الرؤية للأمن الغذائي، لا بدّ من الاهتمام بتعزيز الدراسات والبحوث العلمية الخاصة بالزراعة والأغذية والصحة العامة والوقاية بشكل خاص، مع مراعاة قضايا المناخ والمتغيّرات على القطاع الزراعي، ولا سيما المياه ومصادرها بهدف وضع استراتيجيات وخطط وبرامج تثقيفية للتصدي لظاهرة الاستهلاك غير المستدام للمواد الغذائية.

ويمكن للمجتمع المدني أن يلعب دوراً متميّزاً على هذا الصعيد، حيث يشكل قوة اقتراح، فضلاً عن دوره في نشر الثقافة الغذائية والتوعية بأهمية الصحة والوسائل الحديثة للحفاظ عليها، وهذا يتطلب الاعتراف بدوره شريكاً للحكومات في اتخاذ القرار ومكملاً لجهودها على هذا الصعيد.

كما يتطلب ذلك التعاون مع المنظمات الأهلية والدولية ذات الصلة بالأمن الغذائي وتعزيز قدرات الأمم المتحدة في حماية وحفظ السلم والأمن الدوليين وتحقيق العدالة، خصوصاً أن الحروب فضلاً عن لا إنسانيتها، فإنها ستسهم في مزيد من معاناة السكان وإزهاق أرواحهم، فإنها ستعاظم من مشكلة الغذاء وتدفع أعداداً واسعة إلى الجوع والفقر والبطالة، لذلك فإن تأمين الأمن الغذائي هو حق أساس من حقوق الإنسان، استوجب على المجتمع الدولي، ولا سيما الأمم المتحدة تقديم المعونة اللازمة والضرورية والمساعدة في وضع الحلول والمعالجات، فضلاً عن دعم الحكومات والمجتمعات المحلية، ولا سيما من جانب بلدان الشمال الغنية إلى دول الجنوب الفقيرة.

وبفقدان الأمن الغذائي أو الانتقاص منه، فإن تأثيراته السياسية والاجتماعية ستكون وخيمة بما يتركه من بصمات قاسية على سلوك الأفراد والمجتمعات، ويسهم في تغذية العنف باعتباره أحد مسبباته الأساسية، كما يدفع أوساطاً مختلفة للانخراط في دائرة الإرهاب، طالما أنها لا تشعر بطمأنينة إزاء إمكانية تحقيق العدالة، حيث تشكل الجوع وانعدام الأمن الغذائي والتخلف عاملاً مهماً وأساسياً في اندفاعاتها لممارسة العنف والإرهاب.

*نقلا عن "الاقتصادية" السعودية.