اليمن وتركيا..تاريخ تليد صفحاته مشرقة
الاثنين, 10-يناير-2011
الميثاق انفو -

ما يزال المفهوم السائد لدى بعض أفراد مجتمعنا اليمني أن الوجود العثماني في اليمن كان استعماريا ليس إلا، والأسوأ أنه في مرحلة من مراحل اليمن الحديث كُرس هذا المفهوم عبر المناهج الدراسية وكتب التاريخ لكن الأمر عكس ذلك تماما، فالأمانة التاريخية تقتضي التنويه بأن اليمن شهد خلال أعوام الوجود العثماني فيها نهضة واضحة في مختلف المجالات.

ذلك ما أكدته أوراق العمل التي قُدّمت للندوة الفكرية والثقافية (حاضر ومستقبل العلاقات اليمنية التركية) التي نظّمها الأربعاء الماضي بجامعة صنعاء المركز اليمني للدراسات التاريخية واستراتيجيات المستقبل (منارات)، بالشراكة والتعاون مع جامعة صنعاء، ومجلس تنسيق منظمات المجتمع المدني، تناولت آفاق العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية بين اليمن وتركيا في ضوء مُعطيات ماضيها وإرهاصات حاضرها واستشراف آفاقها المستقبلية بمشاركة ممثلي الجهات ذات العلاقة والاختصاص ونخبة من الكفاءات العلمية المتخصصة في اليمن وتركيا.
يعتبر القرن "العاشر" الهجري، "السادس عشر" الميلادي بداية ارتباط اليمن رسمياً وشعبياً بالدولة العثمانية وتحديداً سنة 923هـ الموافق 1517، وذلك عندما استولى السلطان سليم الأول على بلاد مصر والشام، وانتقلت إليه الخلافة الإسلامية رسميا أعلن اليمن انضمامه سلمياً إلى دولة الوحدة والخلافة الإسلامية تحت القيادة العثمانية، هذا ما أكده الباحث والمؤرخ الإسلامي مستشار وزارة الثقافة علي جار الله الذيب في ورقته "المرتكزات التاريخية للعلاقات اليمنية -التركية" المقدّمة للندوة.

وأوضح الذيب أن الدّور الكبير للعثمانيين في اليمن برز عندما استغاث بهم اليمنيون، بعدما أقسم الملك الصليبي الأوربي بأن يرفع الصليب في سماء مكة وينبش قبر محمد في المدينة، وقام بتنفيذ ما أقسم عليه، ووصلت قواته وأساطيله الحربية إلى السواحل اليمنية، واحتلت عدن والمخاء ومعظم الجزر اليمنية في البحر العربي والأحمر حتى وصلت طلائعهم إلى جدة.
وقال: "عندها استغاث أهل اليمن بالخليفة العثماني السلطان سليمان القانوني، الذي كان جواباً للنداء فأمر قواته الإسلامية بإغاثة اليمن وحماية المقدّسات، وفعلاً وصل ذلك الجيش إلى اليمن سنة 945هـ الموافق 1538م، واستعاد المناطق المحتلة وطرد الغُزاة وطاردهم إلى الهند وأصبح البحران العربي والأحمر والمحيط الهندي منطقة إسلامية خالصة، مشيرا إلى أن الوجود العثماني الأول استمر في اليمن مئة عام؛ من سنة 945هـ إلى 1045هـ الموافق 1538-1635، ولم يغادروا حتى أطمأنوا من زوال الخطر، ثم عادوا إليه للمرة الثانية منتصف القرن التاسع عشر عندما تعرّض اليمن والمقدّسات لغزو صليبي أوربي بقيادة الإنجليز عام 1839، وظلوا في اليمن حتى نهاية الحرب العالمية الأولى 1918م".

وجود تنويري
وأكد الذيب أنه يمكن القول بثقة واعتزاز إن الوجود العثماني في اليمن في مرحلتيه الأولى والثانية كان وجودا تنويريا وأحدث نقلات نوعية وإضافات إثرائية لحضارة اليمن وأعاده إلى عهود ازدهاره بما أقاموه من شواهد دالة على ذلك، مُنتقدا ما يزعمه ويُصر عليه عدد غير قليل من الباحثين والمؤرخين على وسم ذلك الوجود بـ"الاستعمار أو الاحتلال".
وأشار إلى أن من أهم معالم وشواهد نهضة اليمن الكبرى في العهد العثماني دحر العدوان والطامعين عن اليمن وحماية وتحصين أو تجديد تحصين المُدن والجُـزر اليمنية كالأسوار والقلاع الضخمة في مدينة عدن وباب المندب والمخاء وزبيد وعسير وكافة المُدن الساحلية والجبلية والتي لا تخلوا منها مدينة أو منطقة هامة منها "العرضي/مجمع الدفاع"، والذي كان مقراً للقيادة العسكرية العثمانية في الجزيرة العربية، ومقراً للجيش العثماني السابع الموجود في اليمن.

كما أن من الشواهد -بحسب الذيب- توحيد اليمن في كيان سياسي واحد وإحداث النهضة الحديثة، معتبرا القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، بداية عصر النهضة الإسلامية الحديثة في اليمن، منوها بأن هذه النهضة شملت جميع المجالات الحديثة المختلفة (التشريعية والانتخابية والعسكرية والأمنية والإنشائية والطبية والشؤون الصحية والزراعية والثروات الطبيعية والمجالات الصناعية الكبرى المواصلات والنقل وإدخال القطارات وغيرها)، والتي ما تزال آثارها واضحة للعيان إلى اليوم وتحققت فيها كل تلك المشاريع العملاقة، رغم الفترة القصيرة لتواجدها في اليمن، ومن ثم يتبيّن لنا بعد ذلك كيف توقّفت كل تلك الإنجازات الضخمة في عهد حكم الأئمة بعد تلك الفترة المُشرقة من تاريخ اليمن الإسلامي المُفترى عليه.

بداية التحديث
وتتفق أستاذ علم النفس الاجتماعي المشارك - جامعة صنعاء الدكتورة نجاة صائم في ورقتها "العلاقات الثقافية والاجتماعية بين اليمن وتركيا .. جذور الماضي وآفاق المستقبل"، مع الذيب في أن مجيء الأتراك العثمانيين إلى اليمن وما حملوه معهم من عوامل الحضارة هي التي وضعت اليمن على بداية الطريق نحو التحديث، فقد ترك الأتراك العثمانيون بصماتهم ماثلة في الكثير من النواحي الثقافية والاجتماعية.
وأضافت: "إن مسألة التأثير الاجتماعي بين اليمنيين والأتراك كانت عملية متبادلة، ويظهر ذلك في وجود العديد من الأغاني الشعبية التركية التي تحكي قصة من رحلوا إلى اليمن"، مشيرة إلى أنه "ورغم عُمق تلك الروابط التي انعكس تأثيرها على جوانب متعددة فإن ما كتب عنها ووثّق بشكل علمي ومنهجي لا يكاد يُذكر".
ولفتت إلى أن أهم التأثيرات الثقافية الاجتماعية التي تركها الأتراك العثمانيون في المجتمع اليمني كثيرة جدا سواء في الجانب التعليمي أو اللغة والمطبخ والملابس والموسيقى؛ بدليل أن دراسة للقاضي إسماعيل بن علي الأكوع رصدت أكثر من 178 كلمة تتعلق بالإدارة المدنية والأنظمة العسكرية والحياة الاجتماعية، درج اليمنيون على استخدامها خاصة في مدينة صنعاء، بل إن بعضها مازال يستخدم حتى اليوم كما هو الحال في استخدام كلمة السؤال في اللغة التركية مه؟ والتي مازالت تستخدم اليوم من قبل اليمنيين مثال ذلك عندما نسأل للمه؟ أي لماذا؟ أو ساع مه؟ أي مثل ماذا؟".

مجالات التصنيع
أما ورقة عضو مجلس إدارة "منارات" المهندس عبدالله محسن الأكوع، فقد تناولت أهمية التعاون في المجالات التقنية والصناعية مع الجمهورية التركية، مشيرا إلى أنها من الدّول المعروفة في العالم التي تمتلك أسسا قويّة لمقومات النهضة الشاملة والتي انطلقت من الأساس القوي للدولة العثمانية التي كانت قوة عالمية لا يُستهان بها حيث حكمت العالم العربي وأجزاء من آسيا وأوربا لعدة قرون وكانت تتمتع بامتلاك إمكانيات الدولة العظمي لمختلف المجالات الصناعية منها والعسكرية والزراعية والمستوى العالى للإدارة والتنمية البشرية، مبينا بأنها عملت على نقل تجاربها تلك إلى البلدان التي حكمتها حينها، ومنها اليمن التي وصل فيها مراحل التصنيع والتنمية قبل أكثر من مائة وخمسين عاما إلى مستويات لا يصدّقها من لم يطلع على الجزء اليسير من ملامحها.
وأضاف الأكوع: "لقد تنوّعت مراحل التنمية في اليمن حينها في العديد من المجالات كالصناعة والإنشاءات والطّرقات والإدارة وغيرها، حيث تعددت مجالات التصنيع ابتداءً بصهر المعادن والإنتاج الحربي مثل المدافع والبنادق والمسدسات والذخائر المختلفة، وكذلك تصنيع قطع الغيار لبعض الأجهزة والمُعدات والتصنيع المدني بتنوعاته مثل صناعة السجاد والزجاج والنسيج وغيرها ولو قُدِّر لبلادنا أن تستمر في المُضي بنفس المستوى الذي وصلت إليه حينها لكانت اليمن اليوم تحتل مكانة متميِّزة في الكثير من المجالات على المستوى الإقليمي، وقد تكون متفوِّقة على عديد من الدول التي يقدّر عمر النهضة فيها بحدود نصف قرن من الزمان".

معادية لوجوده
من جهته، أكد أستاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاء الدكتور عمر العمودي في ورقته "العلاقات العربية - التركية المعاصرة" أن العرب والأتراك تجمعهم في الماضي والحاضر وشائج وقواسم مشتركة لا حصر لها أهمها رابطة الدِّين الواحد والإيمان الواحد والأخوة الإسلامية، موضحا أن الحُكم العثماني للبلاد العربية طيلة القرنين السادس عشر والسابع عشر كان محل قبول ورضى الشعوب العربية بموجب ومنطق الأوضاع السياسية والدولية في تلك الحُقبة من الزمن.
ويضيف العمودي: "ومع أن الحكم العثماني للبلاد العربية استمر إلى نهاية الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية فيها وإعلان قيام الجمهورية التركية في أكتوبر 1923، وإلغاء الخلافة العثمانية في مارس عام 1924، فإن استياء الشعوب العربية والبلاد العربية بدأ منذ القرن الثامن عشر في صورة حركات سياسية ودينية مُعادية للوجود العثماني، وفي صورة مطالب إسلامية وسياسية وإجتماعية واقتصادية وتعليمية وعلمية تجاوباً مع ظروف العصر ومتغيّراته الجديدة"، مشيرا إلى أن من أسباب الاستياء استسلام الخلفاء العثمانيين منذ نهاية القرن الثامن عشر للضعف وفقدانهم روح الحيوية والبسالة وبناء القوة التي كانت لأجدادهم وأسلافهم".

دُعاة الإمامة
اليمن لم يكن بمنأى عمّا سبق ذكره، وهنا يتساءل المؤرخ والباحث علي الذيب عمّن حارب العثمانيين في اليمن؟ يجب في ذات الوقت: "مما تثبته حقائق التاريخ ووقائعه المنصفة أن اليمنيين كانوا يرون في الدولة العثمانية دولة وحدة وخلافة إسلامية، ويعتبرونها كغيرهم من سائر المسلمين حامية حمى الدِّين ومقدّساته، وبالتالي يقع على عاتقها خدمة الحرمين الشريفين وثالثهما القدس الشريف وغيرها من المقدّسات الإسلامية إلى جانب دورها ومهامها في الدِّفاع عن كل البقاع الإسلامية أرضاً وإنساناً وكرامةً، وهذه القناعة هي السائدة لدى السواد الأعظم من اليمنيين إلى يومنا هذا، وظل اليمانيون كما عُرفوا عبر التاريخ مناصرين لدولة الوحدة والخلافة حتى نهايتها في 3 مارس 1924. والباحث المتقصِّي لحقيقة ما جرى في تاريخ اليمن الإسلامي يجد أن من حارب دولة الوحدة والخلافة الإسلامية العثمانية هم دُعاة الإمامة وأشياعهم في اليمن -ليس إلا- لأهواء في نفوسهم. ومن سُوء الطالع أن نظام الإمامة هو الذي حكم في اليمن بعد خروج العثمانيين منه عام 1918. وعاش اليمن تحت وطأة حكمهم حتى قيام الثورة اليمنية في الـ26 من سبتمبر1962 التي قضت على نظام الإمامة".
موضحا موقف اليمنيين من الوجود العثماني عقب هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى 1914- 1918، حين أُجبروا على تخليهم عن حكم اليمن وغيره، والتي تجسّدت في واحدة من تلك البرقيات المؤرّخة في نوفمبر 1918 والمرفوعة إلى القائد العثماني اللواء الركن علي سعيد باشا، قائد الجيوش الإسلامية في اليمن، التي رفعها إليه شيوخ وأعيان وعلماء لواء تعز وفيها ما يعبّر عن حقيقة ذلك الموقف حين خاطبته بإنجازات دولة الخلافة، وأنها السبب الوحيد لإحياء حفظ هذه النقطة اليمانية عن تعدِّي الأعداء عليها، وما أحدثته من تطوّرات في شتّى المجالات.
وأضاف الذيب: "وفي كل الأحوال مهما قيل عن الحُكم العثماني الأخير في اليمن، فإن أحدا لا يستطيع أن يُنكر أن العثمانيين حرصوا على إدخال كثير من الإصلاحات الحديثة، ولكنهم كانوا يصطدمون دائما بالثورات والعناصر الرجعية التي كانت تحرِّكها الإمامة مما جعل مُدة حكمهم مملوءة بالحروب وقمع الثورات وجعلهم يضطرون إلى استخدام القسوة في كثير من الأحيان، وأن ذلك كان يصرفهم عن مواصلة الإصلاح، وكان بعض أولئك المصلحين من العثمانيين يريدون دفع اليمن إلى الإمام ليسير مع الزمان، ولكنهم كانوا إذا فعلوا ذلك وجدوا من يتهمهم من أئمة اليمن بخروجهم عن الدين".

علامة بارزة
وبالعودة إلى بداية دخول الأتراك إلى اليمن، فبقدر ما تؤكد الدكتورة نجاة صائم أن ذلك شكل البداية في تعرّف اليمنيين على النظام التربوي والتعليمي الحديث، حيث قاموا بافتتاح عدد من المدارس، وجعلوا التعليم مجاناً على نفقة الدولة في جميع أنحاء اليمن، منها: المدرسة "العادلية" في قصر صنعاء عام 1576، وصارت مخزناً للسلاح فيما بعد، والمدرسة البكيرية، وأنه في عهد ولاية حسين حلمي باشا عام 1895 أُسست إدارة المعارف والمكاتب، وافتتحت مدارس ابتدائية ودار المعلّمين، والتي قام التعليم في عهد الإمام يحيى على خريجيها، وكذا مكتب الصنائع (مدرسة صناعية) والإعدادية، وتم فتح المدرسة الرشيدية في حارة خضير وغيرها، أوضحت أن مجال التعليم يُعد من المجالات التي تم من خلالها إعادة العلاقات الثقافية والاجتماعية بين اليمن وتركيا في الوقت الحاضر، وأن المنح الجامعية المقدّمة من الحكومة التركية خلال عقد الثمانييات من القرن العشرين شكّلت البداية بتخرج عدد من الطلاب اليمنيين من الجامعات التركية. وإن افتتاح المدرسة التركية في منتصف التسعينيات من القرن العشرين شكّل رافدا قويا في المجال التعليمي. وكالمثل، افتتاح قسم اللغة التركية في جامعة صنعاء عام 2006 (والذي سوف يحتفل بتخريج أول دفعة منه هذا العام) كعلامة بارزة في مسار العلاقات اليمنية - التركية في المجال الأكاديمي، فسوف يشكّل خريجو هذا القسم من الطلبة اليمنيين رافدا قويا في مجال الترجمة بشكل خاص.

خلفية محفزة
في المقابل، أكد العمودي ضرورة أن الماضي بكل ما فيه من إيجابيات وسلبيات يجب أن يكون خلفية محفّزة في قابل الأيام حاضراً ومستقبلاً؛ يتمسّكون بكل ما هو مثالي، ووردي ومجيد، ويعملون على تطويره وتجديده، ويتجاوزا ما هو سلبي خلف ظهورهم والاستفادة من الدروس والعبر التي مروا بها في تاريخهم المشترك والطويل. فمن لا يستفيد من تجارب الماضي في حاضره ومستقبله سيظل يراوح في مكانه، ويكرر الأخطاء بأوجه وصور جديدة؛ قائماً بما لا يخدم مسيرة تقدّمه وأهدافه المشروعة.
ونوّه العمودي بأن من بوادر التقارب في العلاقات العربية - التركية التحول التركي المتدرّج في اتجاه القضايا العربية والإسلامية الذي جاء في نهاية الستينيات، وذلك من خلال ارتباط تركيا كعضو مؤسس وفاعل في قيام منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1969، وعملها على المشاركة الإيجابية في كل المؤتمرات اللاحقة لهذه المنظمة وفي الإلتزام بكل ما يُصدر عن منظمة المؤتمر الإسلامي من قرارات حول القضايا الإسلامية، وخصوصاً قضية فلسطين؛ القضية المركزية الأولى لدول وشعوب العالم الإسلامي. مشيرا إلى أن بداية التقارب والتعاون والوفاق الحقيقي بين العرب والأتراك ترجع إلى مرحلة الثمانينات نتيجة لتداخلها وتضافر جُملة من الأسباب والعوامل الموضوعية السياسية والاقتصادية والإجتماعية.

مرحلة جديدة
الحديث عن النهضة الإقتصادية التركية كان حاضرا في الندوة بورقة عمل بعنوان "لمحة حول النهضة الإقتصادية التركية"، قدّمها عضو مجلس الشورى رجل الاقتصاد الدكتور محمد قرعة، والذي أشار إلى أن هذا الحديث لا بُد أن يرتكز على مجمل المشهد التركي الراهن الذي أذهل المراقبين والمحللين السياسيين والاقتصاديين كونه أضحى واحداً من أثرى المشاهد الإقليمية والدولية حيوية في كافة مناحي الحياة، والذي بدأ مع بداية الألفية الجديدة متزامنا مع بروز وولادة حزب العدالة والتنمية في أغسطس عام 2001، عندما وصل إلى سدة الحُكم.
ونوّه قرعة بأن الإمبراطورية العثمانية عاشت في مطلع القرن التاسع عشر أوضاعا اقتصادية صعبة من أهم أسبابها سيطرة وتحكّم يهود "الدونمة" في مفاصل الشؤون المالية والاقتصادية للإمبراطورية، بل ويديرون ويسيِّرون الدين العام من خلال ما هو تحت أيديهم من علاقات واسعة تربطهم بشبكة المال العالمية، لافتا إلى أن هؤلاء قاموا بدور ملموس ومعروف في تأجيج الحملات ضد السلطان العثماني وضد الخلافة الإسلامية تحت دعاوى القومية التركية، أبرزهم "شمعون زوي" الذي عُرف بأنه أكبر منظري القديس التركية والعلمانية، وكان يدير مدرسة درس فيها الزعيم التركي مصطفى أتاتورك، ودفعوا بالدولة التركية بعد إنهاء الخلافة العثمانية نحو العلمانية والاتجاه نحو الغرب كهوية ومسار استراتيجي مناقض تماما لما كانت عليه تركيا الخلافة لعدد من القرون، وظلت تركيا تحت سيطرة القوى العلمانية منذ تأسيسها وحتى بداية سبعينيات القرن الماضي.
وأكد قرعة أن تركيا في الوقت الراهن وبقيادة حزب العدالة والتنمية أصبحت اقتصاديا تحتل المركز الـ16 على المستوى العالمي والمركز السادس على المستوى الأوربي، وأن مؤشر دخل الفرد في تركيا قُدر عام 2002 بـ3500 دولار أميركي، وقفز عام 2008 إلى 10 آلاف و500 دولار أميركي، وكذلك حجم الإنتاج الذي قفز عام 2008 إلى 740 مليار دولار، بينما قُدر عام 2002 بـ180 مليار دولار. وإن تركيا استطاعت خلال هذه الفترة أن تسجل نموا جعلها تحتل ثاني أكبر دولة في العالم بنمو مقداره 115 %، وحافظت على متوسط نمو خلال الفترة نفسها في حدود 6 %، وقفز حجم تجارتها الخارجية عام 2008إلى مقدار 334 مليار دولار، أي نسبة نمو مقدارها حوالي 37 % تقريبا. موضحا أنها حاليا تحتل المركز الأول في أوربا في مجال صناعة النسيج، والثالثة في العالم في تصنيع أجهزة التلفاز والباصات، والأولى في تصدير صناعة الإسمنت، والثانية بين الدول الأوربية في إنتاج الحديد والفولاذ، والأولى في العالم في تصدير حديد البناء، والثالثة في تصدير الرخام.
ودعا قرعة إلى ضرورة توطيد مدى التقارب بين اليمن وتركيا ومد جسور التواصل الدافئ وتقوية العلاقات التجارية والاقتصادية بدرجه أولى كتنشيط الغرف التجارية والصناعية في البلدين لتتطوّر التجارة لمصلحتيهما وشعبيهما، أملا أن تكون أحد أهم ما سيتطرّق إليه رئيسا البلدين خلال الزيارة المرتقبة لفخامة الرئيس التركي عبدالله غول خلال الأيام القادمة لليمن.

توضيح تركي
هذا الحديث يستلزم منا الإشارة إلى ما أكده نائب السفير التركي بصنعاء صبحي أتان في كلمته الافتتاحية في الندوة حيث قال: "إن مستوى التبادل التجاري والاقتصادي بين اليمن وتركيا ما زال أقلّ من المستوى المطلوب؛ إذ يقدر الناتج الإجمالي في المجال التجاري380 مليون دولار أمريكي في العام الماضي، وهو بحاجة إلى تحسين وتطوير في مجالات متعددة لكلا الجانبين. ويجب علينا بذل جهدنا لرفع هذا المستوى حتى يصل إلى مليار دولار أمريكي في المستقبل القريب".
وأشار أتان إلى أن تركيا ترغب بالقيام بدور كبير لدفع عجلة التنمية في اليمن وأنها تدعم باهتمام "مجموعة أصدقاء اليمن"، التي تشكّلت في مؤتمر لندن المتعلِّق بالشؤون اليمنية والذي عُقد في يناير العام الماضي؛ مبديا سعادتهم لاتاحة الفرصة للمستثمرين الأتراك للعمل في اليمن. وقال إنه سيتم توقيع الاتفاقية الخاصة بمجلس رجال الأعمال التركي – اليمني، والذي تشكّل مؤخرا خلال زيارة الرئيس التركي عبدالله غول لليمن في العاشر والحادي عشر من يناير الجاري، وأنها ستمثل دُفعة قوية باتجاه رفع مستوى التبادل التجاري والاستثماري بين البلدين.
وأوضح أتان أن تركيا واليمن يتمتعان بعلاقات ممتازة وتربطهما روابط تاريخية، لافتا إلى أن افتتاح النصب التذكاري (نصب الشهيد) رمز الشهداء العثمانيين الأتراك الذين استشهدوا في اليمن، والذي سيفتتح خلال زيارة الرئيس عبدالله غل لليمن بمشاركة الرئيس علي عبدالله صالح يعتبر أحد المؤشرات التي ستُساهم في تعميق العلاقات بين البلدين.

مقوِّمات نجاحه
وفي سياق متصل، يرى نائب رئيس جامعة صنعاء لشؤون الطلاب الأستاذ الدكتور أحمد باسردة في ورقته "العلاقات اليمنية – التركية وآفاق تطوّرها"، أن العلاقات اليمنية - التركية تعود إلى جذور التراث الإسلامي المشترك؛ كونها لم تكن صدفة تاريخية، وهو ما يعني وجود أرضية صلبة لإقامة علاقات تأخذ أبعادها السياسية والاقتصادية والتجارية، تضع في اعتبارها حقائق الجغرافيا وتعزز دور الجمهوريتين في الحياة السياسية والثقافية حاضرا ومستقبلا من خلال رؤية لطبيعة العلاقات التي يحكمها إرث ثقافي وتاريخي مشترك.
وفي حين يؤكد باسردة حاجة اليمن إلى تركيا اليوم أكثر من أي وقت مضى حتى تتجاوز مجمل التحديات الماثلة للجميع، أكدا في الوقت ذاته أن العلاقات اليمنية - التركية أفضل مما كانت عليه قبل سنوات خلت، فالمناخ السياسي الايجابي يسود العلاقات الأخوية بين البلدين الشقيقين.

ويشير المهندس عبدالله الأكوع إلى أن بلادنا اليوم بحاجة ماسة إلى الاستفادة في إطارعلاقات التعاون والتكامل من واقع تجربة النهضة التركية بتحقيق التبادل التجاري والصناعي الذي تمتلك بلادنا مقوّمات نجاحه، وخاصة في ظل وجود قوة بشرية تقارب خمسة وعشرين مليون فرد، ويشكل هذا الرقم مؤشرا اقتصاديا هاما على الصعيدين الإنتاجي والاستهلاكي، بالإضافة إلى وجود الأسواق المجاورة، وخصوصا دول القرن الإفريقي.
وطرح باسردة في ورقته عددا من الرؤى، وأهم المجالات الحيوية لعلاقات مستقبلية مفيدة للبلدين تكمن في إعطاء الجانب الاقتصادي والاستثماري المساحة الأساسية في جسم هذه العلاقات، وفتح الأسواق لتبادل المنتجات السلعية بما فيها السلع الاستراتيجية والاستفادة من التقدّم العلمي والتقني التركي اعتماد سياسة الحد الأدنى في الخلافات بين الأشقاء ودعم منظمة التحرير الفلسطينية والتكيّف مع النظام العالمي الجديد بما يخدم مستقبل العلاقات اليمنية - التركية عربياً وإسلاميا وإنسانيا ومنع الازدواج الضريبي وتشجيع إقامة المشروعات المشتركة، وخصوصا في القطاع الخاص بين كل من المجموعات التركية والمجموعات اليمنية الاستفادة من وضع تركيا في الاتحاد الأوربي كجسر للمنتوجات اليمنية، لافتا إلى أن تركيا السنية ستكون عونا للعرب إزاء أي تطلّعات أو هواجس إيرانية تجاه المنطقة بل وفرملة أي نوايا اثنا عشرية.
ودعا باسردة إلى ضرورة أن تكون لليمن استراتيجية سياسية متكاملة في كيفية التعامل مع هذه الدولة الناهضة من نمطية الرجل المريض، لكي تحافظ على علاقات مميّزة في الإطار العربي العام والإطار الثنائي، وتجاوز بعض العقد والحساسيات التاريخية.

جامعة تركية- يمنية
من جهتها، قالت الدكتورة نجاة صائم: "بالرغم من وجود العديد من الجوانب الثقافية المشتركة بين اليمن وتركيا إلا أن الكثير من أبناء البلدين ليسوا على علم بها، ولذا من الضروري أن يتم التعريف بها والارتكاز عليها لبناء علاقات تعاون مُثمرة، ويمكن أن نطرح في هذا الجانب بعض آفاق التعاون المستقبلي في مجال العلاقات الثقافية بشكل عام، وذلك من خلال: إقامة الأسابيع الثقافية للتعريف بالجوانب المشتركة بين الشعبين وما يتميز بها كلا عن الأخر افتتاح مراكز ثقافية في كلا البلدين والانفتاح عبر المؤتمرات وعبر تبادل الطلبة والأساتذة بين الجامعات وبين المؤسسات الحكومية وغير الحكومية وإقامة المشاريع البحثية المشتركة، وإنشاء جامعة تركية - يمنية تضم جميع التخصصات".
وتضيف: "هناك الكثير من الأفكار التي يمكن أن تخرج إلى حيّز الفعل والتنفيذ على مستوى العلاقات، خصوصا أن هناك رصيدا ثقافيا وفكريا كبيرا وعظيما بين الشعبين اليمني والتركي، وعلينا ألا نستهين به، فهو سيقود عجلة العلاقات إلى الأمام، وستكون آثاره إيجابية، تعكس الروح الحقيقية لليمنيين والأتراك، وتؤسس لمستقبل مشرق وتعاون مثمر بين البلدين".



نقلاً عن صحيفة السياسية