عام جديد و الاسئلة تتتابع.. النهضة العربية مشروع غير منجز
الأحد, 02-يناير-2011
لطفي لعبيدي -

ماذا تعني الأنوار؟ إنها تجاوز الإنسان لقصوره، ذلك القصور الذي يعد هو ذاته مسؤولا عنه، وأنا اعني بالقصور عجز الإنسان عن استخدام فهمه دون توجيه الآخرين"...." إن شعار الأنوار يتلخص في هاته العبارة" اجرؤ على استخدام فهمك الخاص" " كانط".

الأكيد أن الإنسان وجد ليتقدم، ليلتمس مكنونات الوجود من حوله، وليرنو دائما للأفق، مع قرب بداية عام جديد إذا ما حاولنا أن ننظر من حولنا كمجموعة عربية لها تاريخ عظيم وحاضر مضطرب، نكتشف الهالة الفضيعة، نكتشف أننا مازلنا نراوح أماكننا، وأسئلة النهضة وحدود التفاعل أو التعامل مع الأخر الغربي مازالت قيد بعض النخب التي تواجه ثوابت فكر متكلس لدى السواد الأعظم من الشعوب العربية والإسلامية.

عام جديد على الأبواب وهي لحظة جديرة بتذكير مختلف الأفراد وعناصر الشعوب العربية بأسئلة الهوية و الآخر والوجود، هل تجاوزنا أكوام الأسئلة القديمة؟ أم أننا مازلنا مراوحين قابعين في أماكننا؟ هل خرجنا من إطار القلق على مستقبل وجودنا كأمة؟ هل نتنفس اليوم ضمن مناخ ساهمنا في تنقية شوائبه أم أن العقل العربي مازال تائها لا قرار له عاجز عن امتلاك أية إمكانية للالتحاق بمغامرة التاريخ. فلا الفكر السلفي بكل مطلقاته استطاع أن يتقدم بهاته الأقطار .... ولا الفكر الليبرالي الانتقائي الذي سقط في مصيدة التبعية و كان ممثلوه " ضحية إغراء الغرب حسب تعبير مالرو".

اتضحت ملامح غياب الوعي التاريخي البديل و لم يتمكن العرب بعد من ولوج باب الكونية والأممية ولوجا ترافقه مدركات قيمة للعقل والعقلانية ليضع نفسه في مقارعة إيديولوجية جادة ارتأت أن تكون سمة إنسانية تاريخية لا مفر منها علما بان الحاجة لاستيعاب درس العقل و التقنية المتواصل باتت ملحة للعقل العربي.

لقد اعتبر درس الأنوار الغربي حافزا هاما في تاريخ الغرب الحديث والمعاصر كيف لا وهو الذي اخرج أوروبا من براغماتية الكنيسة التي سيطرت لعقود طويلة من تاريخ الغرب عموما، كانت في مجملها عقودا ظلامية لتشدد الكنيسة المفرط و المانع للتفكير في أية إمكانية للتأصيل النظري أو الطرح النقدي المخالف لأبجديات سيجت دوغمائيا بطابع لاهوتي ارثودكسي لا نقاش فيه.

لذلك تأخرت أوروبا عقودا و دفع بعض مفكريها الثمن باهضا، فدحروا بشدة وهضمت أفكارهم من قبل الكنيسة لما جاؤوا به من اكتشافات عقلية من شانها أن تهدم البراد يغم الذهني المتوارث تاريخيا و المحصن بشدة من الخطاب الارتودسكي الكنسي، "كان كوبرنيكوس" وغاليلي " من بعده من الأمثلة الهامة في تاريخ أوروبا المسيحية – أوروبا القرون الوسطى – الاثنان ذاقا مرارة و قسوة الفكر الديني المتحجر الذي يخدم أغراضا بعيده عن المقصد التنويري للإنسانية، ولكن الثورة الكوبرنيكية التي سعى من بعد غاليلي إلى تثبيتها فيزيائيا.

وجاء ديكارت القرن 17 لتدعيمها فلسفيا كانت حافزا هاما ساهم في إيصال أوروبا إلى عصر الأنوار المشعل القوي والمتوهج إلى اليوم والذي حقق بامتياز ما يمكن أن نسميه بقانون " الطفرة و اقتصاد الزمن" هذا المبدأ الهام الذي عرف تأصيلا عمليا في الغرب هو لأسف مازال قيد الطرح النظري عربيا وهو متقلص في حدود بعض النخب التي تحاول استيعاب الدرس الابستيمولوجي في كليته وشموليته، وتعاملت جيدا مع المنجز النصي واستلهمت بعقلانية البحث منتجات الدرس النقدي وأصبحت مساهمة فيه، لذلك كان خطابها عقلانيا مؤهلا لتكافئ العلمي مع النموذج الغربي الجاد البعيد عن النمط الاستشراقي الأصولي"1". و في كل هذا سعت جاهدة إلى دحر استمرارية حضور المتخيل والخيالي و الميثي في بنية المجتمعات العربية المعاصرة "2".

إذا أردنا أن نعود إلى الوراء قليلا لنتتبع مسار الخطابات الإصلاحية المنخرطة في مشروع النهضة المنشود حتى اليوم نحيل احالة تاريخية انه تحت عنوان فتاوى كبار الكتاب والأدباء " نشرت مجلة الهلال المصري عام 1923 استفتاء شارك فيه اشهر المفكرين والكتاب العرب آنذاك أمثال طه حسين و جبران خليل جبران وجميل صدقي الزهاوي و ميخائيل نعيمة و المستشرق وليم وريل ومصطفى صادق الرافعي ومعروف الرصافي وسلامة موسى ....الخ ويتضح للقارئ أن الأسماء تحيل على مرجعيات نظرية مختلفة سوف تجعل من طروحاتهم تنجذب بين ما هو ليبرالي و علماني و إسلامي.

الأسئلة التي وجهت لهؤلاء تدور أساسا في كنف الوجود والآخر و الهوية و تعتبر عن هموم شغلت العرب في تلك الفترة التي بدت ترسم فيها بعض ملامح القرن العشرون.

الأسئلة كانت كالآتي هل تعتقدون أن نهضة الأقطار العربية قائمة على أساس وطيد يضمن لها البقاء ؟ أم هي فوران وقتي لا يلبث أن يخمد؟ هل تعتقدون بإمكان تضامن هذه الأقطار و تآلفها ؟ و متى؟ وبأي العوامل وما شأن اللغة في ذلك؟ هل ينبغي لأهل الأقطار العربية اقتباس عناصر النهضة المدنية الغربية وبأي قدر؟ و عند أي حد يجب أن يقف الاقتباس:
في النظامات السياسية الحديثة ؟ في العادات الاجتماعية ؟ أم في التربية والتعليم ؟

الأكيد أن قارئ هذه الأسئلة سوف لن يشعر بغربتها في الزمان ولا في المكان، بل سيحس بحيوتها النابضة لأنها و ببساطة أسئلة مازالت ترافقنا كجماعة عربية، مازالت تؤرق خيارنا الوجودي، مازالت تشعرنا بفجيعتنا في التاريخ، نهضتنا؟ هويتنا ضمن الأمم ؟ أين نحن من مغامرة التاريخ ؟

حالنا- عروبتنا والغرب؟ هذا الغرب الذي خرج من ظلمات التاريخ و مضايق و حدود الجغرافيا ليكون غرب بشرية رافقها طموح الاستيلاء على سائر البسيطة، فحق لأوروبا - الغرب أن تتحدث عن آسيا النائمة والشرق المنحط و تركيا المريضة "3" لن نفصل تماما في الأسئلة المقدمة ولكننا سنحرص على تبيان اختلاف وجهات النظر لنوضح امتداد هذه الترسيمة- ترسيمة الهوة والتباين التي تواصلت إلى أيامنا في خطاب بعض المفكرين العرب، إذ كان هذا الجذب للعربة بحصانين مختلفي الوجهة سبيلا لبقاء الأسئلة القديمة ذاتها قابلة لإعادة الطرح في الألفية الثالثة ومع بداية عامها الحادي عشر. وكأننا لم نستلهم بعد جدلية " الزمان و المكان" فكنا نسير طوال هذه السنين على امتداد قرن كامل في نفس المكان ولم نحدد وجهة العربة بعد.

كان جبران المغترب طيلة حياته أكثر المتألمين لحالة الشرق والأقطار العربية حيث قال" في عقيدتي انه ليس بالإمكان تضامن القطار العربية في زمننا هذا لان الفكرة الغربية القائلة بميزة القوة على الحق والتي تضع المطامع الاستعمارية والاقتصادية فوق كل شيء لا ولن تسمح بذلك التضامن "..." وكلنا نعلم أن كلمة فرق تسد لم تزل قاعدة مرعبة في أوروبا". يضيف جبران بان يقول " في مذهبي أن السر في هذه المسألة ليس بما ينبغي أن يقتبسه الشرق أو لا يقتبسه من عناصر المدنية الغربية بل الشر كل الشر هو ما يستطيع الشرق أن يفعله بتلك العناصر بعد تناولها".

يتضح من موقف جبران الفكر المدقق المتابع لحالة الشرق و الغرب، ولعل حياته في المجتمعات الغربية كانت حافزا مهما له لشمولية نظره ولاتساع تجربته، حتى انه حسب تعبيره كان يرى الشرق تارة كعجوز فقد أضراسه وطورا كطفل بدون أضراس و تلك كانت حالة يخشاها ويتبرم منها –لعلمه بان مسيرة التاريخ قلبت المعادلة ما بين الشرق و الغرب هذا الغرب الذي كان يتناول في القرون الغابرة ما يطبخه العرب ولكنهم في هذا تفطنوا إلى ضرورة تمحيص هذه الطبخة فحولوا منها الصالح إلى كيانهم الغربي، ولكن الشرقيين لم يستفيدوا من هذا الدرس فهم على امتداد القرن العشرين ظلوا يتناولون ما يطبخه الغربيون و يبتلعونه دون أن يستثمروه في تدعيم كيانهم الشرقي بل العكس من ذلك كان يحولهم إلى شبه غربيين. فسقطوا في التبعية الفاضحة.

يقول طه حسين في هذا الاستفتاء " واجبنا هو أن نحتفظ بشخصيتنا قوية واضحة و أن لا نقتبس من أدب الغرب و فنه و نظامه الاجتماعي إلا ما يمكن شخصيتنا من أن تنمو و تتطور"،وهو يعتبر أن العلم أصبح غربيا و ليس لنا فيه نصيب قومي لذلك يجب أن نندفع في الطريق العلمية الغربية أما الفن والأدب فلنا فنوننا و آدابنا ".
وأما جميل صدقي الزهاوي فقال " لو رجحنا أن نتقدم بتجاربنا لتأخرنا عنهم تأخرا بعيدا وفاتونا أشواطا فلا يبقى لنا زمان للحوق بهم و أخاف أن يمنعنا التعصب الأعمى والجهل البليد من إن نحذو حذو الغربيين فيزداد البون بيننا مع الزمان و تطول شقة الخلاف".

موقفه متقارب إلى حد ما مع طه حسين ما يجعلهما موقفين يتفقان على ضرورة الانفتاح على الغرب ومنجزاته العلمية والتقنية والفكرية فيهما من يطرح ذلك دون حدود في المقابل هناك من يضبط حدودا لهذا الانفتاح بان تراعى الملائمة مع الحياة العربية و تقاليدها الاجتماعية والثقافية وروابط شعوبها التاريخية.

والأكيد أن الفكر العربي آنذاك لم يكن يتجه صوب هذه الوجهة بمجمله فقد كان هناك من يخالف هذا الرأي متمسكا بالتراث الإسلامي، ولعل إجابة مصطفى صادق الرافعي المثال على ذلك فقد كانت اقرب إلى الأصولية الفكرية و كان أساسها ضرورة التمسك بالتراث كدعامة للحاضر و للمستقبل بان قال " و الذي أراه أن نهضة هذا الشرق العربي لا تعتبر قائمة على أساس وطيد لا إذا نهض بها الركنان الخالدان الدين الإسلامي واللغة العربية وما عداهما فعسى ألا تكون له قيمة في حكم الزمان ".

تركنا إجابة معروف الرصافي لنستلهم منها استدلالاتنا على واقع المرحلة الراهنة. يقول الرصافي " إن المسلمين اليوم قبل كل شيء في اشد الحاجة إلى إصلاح ديني عام وذلك لا يكون لا بعد اخذ القوم قسطهم من التربية و التعليم حتى ينشا فيهم جيل مستعد لقبول الإصلاح".

كانت هذه إجابات بعض رموز الفكر العربي في تلك الفترة من القرن 20 و الجدير بالذكر أن ما طرح على هؤلاء مازال قابلا للطرح بشدة اليوم فالهموم الفكرية و الحضارية مازالت هي نفسها-مشكلة الهوية علاقتنا بالآخر رغم المدة الزمنية الفاصلة بين هذا الاستفتاء و الراهن المرحلي – قضايانا مازالت مفتوحة لأنها أفتكت من أيدينا نجد أنفسنا اليوم بعيدون عن التعامل مع مستجدات الزمن عاجزون على تمثل متغيرات عالمية كبرى فكرية و عملية.

هذا هو عائق النهضة العربية في كليته، مشكلتنا ليست في خطابنا مع الآخر الغربي فقط بل ضمن طروحاتنا العربية نفسها فالجدل و المفارقة كبيران جدا والهوة والتشرذم الفكري احتدم بكثرة .فالمقارعة فيما بين الفكر الديني والفكر النقدي مازالت مطروحة بقوة و المشروع الذي خاضته الانتلجنسيا الإسلامية على امتداد القرن 20 خير دليل على جهد التأصيل النظري المرجو من طروحاتها على اختلافها، وهو ما يحيلنا على تلك الحاجة التي الح عليها الرصافي بالنسبة للمسلمين في قوله السابق. في المقابل هناك مفاهيم عديدة مازالت ملتبسة و صعوبات التاريخ تتضاعف،حول التباس مفهوم الديمقراطية طرح الكثير و قيل الكثير و في كل هذا تتضح لنا أن مختلف الكتابات التي تطرح اليوم في العالم العربي مازالت في منحاها التنظيري ومسعى التجاوز الذي تتبعه تحتمي بإطارين مرجعيين رئيسيين هما مفاهيم السياسة الشرعية ومفاهيم الفكر السياسي الليبرالي – الإسلام والليبرالية- مازالت مختلف الكتابات تدور في فلكهما.

من الخطابات المعاصرة نجد من يعتبر أن العلمانية ثابت مركزي للتقدم و دعوات علنية لضرورة الفصل بين الدين والدولة. هذا الجدال عرف انطلاقته الأولى في فجر القرن العشرين على صفحات مجلتي المنار والجامعة بين فرح انطون ومحمد عبده بين مؤيد للعقلانية وأخر مدافع عن الإسلام، الحوار الذي انطلق حول الاضطهاد في الإسلام و المسيحية ليتطور إلى النقاش حول إشكالية النهضة "4".

نقف أيضا على كتابات تدعو إلى ضرورة المواجهة النقدية للذاكرة اللاهوتية والخطاب السلفي الأصولي معتبرة أنها مازالت تشكل حاجزا يشل الدماغ العربي الإسلامي و يحصره ضمن دائرة أصولية منغلقة تفرض هيبة تراث غير منقود.

اليوم نجد أن مجمل المثقفين العرب أمثال عبد الله العروي وعلى اومليل على سبيل المثال لا الحصر تناولوا مسألة العلماني أو الدرس النقدي في مواجهته للفكر الديني داخل دائرة التأمل الفلسفي إلا أن الاختلاف مثلا بين أركون وهشام جعيط بين،فأركون بأبحاثه التراثية المتعلقة بنقد العقل الإسلامي يدعم مسالة العلمانية في المقابل نقف مع جعيط على نوع من الدفاع المستميت لاستمرارية الهوية والحضارة والثقافة الإسلامية في مواجهة الغرب ودفاعه الواضح على ضرورة انه " يجب على الإسلام البقاء كدين للدولة " "5" يحسب لبعض مفكري الحضارة عدم انخراطهم في التنظير السياسي المفرط، فلا شك أن الفلسفة الإصلاحية ضلت تهيمن من المشرق إلى المغرب ولكن المشكل العربي قل ما كان يعالج في ضوء رؤية ثقافية و معرفية شاملة.

إذ غالبا ما تصاغ إشكالية النهضة في المشرق والمغرب من زاوية التنظير السياسي والاجتماعي أكثر مما يتم التفكير فيها من الزاوية الابستيمولوجية أو الزاوية الميتافيزيقية "6" يبدو أننا أمام أكثر من منعطف في تاريخ الانبعاث العربي والإسلامي عبر مسارات نهضوية و إصلاحية شملت طابورا كاملا من الرواد... فإضافة إلى الذين طرحت أفكارهم على صفحات مجلة الهلال "1923" تواصلت مسيرة الدعوات الإصلاحية مع رواد مثل محمد عبده والكواكبي والأفغاني و خير الدين و بيرم الخامس وغيرهم،وفي زمننا اليوم نقف على أكثر من محاولة جادة لكسر طوق التخلف العربي.

الأكيد أن هناك حلم عربي تحمله الجماهير كما النخب المثقفة، ويبدو أن هذا الحلم يأبى إلا أن يبقى في دائرة الآمال، يبدو انه أخر ما تبقى في اللاوعي الجماعي للمجموعة في ظل انهيار المشروع النهضوي العربي الذي ظل على امتداد قرن وأكثر يتنفس في عنق الزجاجة ويلفظ أنفاسه الأخيرة.

من المؤكد أن مشروع النهضة العربية اليوم يتطلب تغير طريقة التعامل مع الغاية النهضوية ويفرض طرح تصور جديد لفشل المعطيات القديمة والتقليدية.

فالرؤية المستقبلية للنهضة لا أمل لها ما لم تتمسك بأفق الكونية في ظل ما يجري من تحولات في العالم يحمل كل بوادر وضرورات الانفتاح على الآخر ضمن الإطار الكوني الشامل .هذا الأمر لا حياد عنه إذا ما كنا نسعى لتحقيق الوثب و التغيير في إطار من السيادة الحقيقة والوحدة القومية خاصة و إننا أمام وقائع و متغيرات حداثية تكيف نفسها باستمرار و تجعلنا نضطرب أمام منطق التاريخ، أو لعلنا نتساءل مثلما كان مع الفيلسوف الألماني "اسوالد اشبنجلر" في مقدمة كتابه "تدهور الحضارة الغربية " عما إذا كان هناك منطق للتاريخ، وعما وراء جميع عناصر الحوادث المتفرقة فيه من عرضية وغير مرتقبة أو متوقعة محسوبة طبعا هذا التساؤل يلفت نظر المهتمين بمشكلة المعرفة إلى ثغرة في بناء المعرفة الإنسانية هي أساسا "تتعلق بمنهج فهم التاريخ البشري""7".

لسائل أن يسال كيف يمكن الحديث عن نهضة عربية والعقل العربي في حالة لا يحسد عليها فقد امتلكت النهضة العربية جرأة نادرة لا شبيه لها إلا في النموذج الكنسي للقرون الوسطى وذلك في اغتيال خيارها الثقافي فافتقدت بذلك إلى أهم عنصر لتحقيقها وهو العقل –عقل النهضة،هذا هو العنصر الأكثر غيابا في المشروع العربي، لن ترتسم أمامنا سبل النهضة دون الخيار الثقافي والعقلي والتحرر من الرواسب القديمة الدوغمائية و المشلولة خاصة وهذا النموذج المرفوض للعقل العربي لا يزال متعنتا أمام سبل خلاصه متجاهلا كل ما هو عليه يستعذب النوم و يبدوا انه يرجح فرضية التغير التاريخي الحتمي الذي يضمنه الله لهذه الأمة فهي الأمة الناجية ولن تخذل إذ فضلت على العالمين "!"

مازال التمسك التقليدي والدوغمائي من قبل رجال الدين الأصوليين أو السلفيين الجدد بالجانب التراثي الإيماني بطرح عرفاني "GNOSTISISME " غنوصي إلى حد ما رافضين أن يفتحوا الخطاب الإسلامي على مصراعي المعرفة وتاريخية الواقع الإنساني.

حتى الجانب الأكاديمي العلمي يحمل في باطنه هشاشة لا مثيل لها، فإذا كنا نرمي إلى تعديل مناهجنا المعرفية علينا أن نفتح الخطاب على مصراعيه بين المثقف منتج النص الإبداعي و بين مريدي هذا النص ومتتبعي المعرفة الذين فيهم من يروم تحصيل مستوى فكري وثقافي ويسعى به إلى الخروج من موقعه السلبي كمستهلك للنص إلى منتج لنص معادل أو أفضل حتى، إذا كنا نطلب النفس التقدمي المنهجي و العقلاني فالقوى الفاعلة " Acteurs sociaux" في المجتمعات موجودة و بالتالي علينا أن لا نخفض إيقاعها كي لا نبقى نعيش الوهن العربي من ضعف ثقافي وأخلاقي وجو معكر وتفرقة ونشرذم فكري.

ما طرحته اليونسكو في فترة سابقة من تقارير مفزعة حقا تقول بان خمسون في المائة من الأساتذة الجامعيين المغاربة خاصة ما عدا البحوث التي تقدموا بها لنيل شهادات أكاديمية ودخول مجال الشغل كمسعى أساسي وضروري لم يكتبوا و لو مقالة واحدة على مدى كل فترات حياتهم من الصبى إلى فترة نضجهم الفكري والأكاديمي.

ولا عجب في هذا و الحال أن الأمية في المجتمعات العربية تتنصل من الفر دانية لتتقمص صيغة الجمع، والأكيد أننا أمام أمية ثقافية نعجز في إطارها عن الإلمام بالأنساق الابستيمولوجية ومختلف الحركات الفكرية و المعرفية كذلك- أمام أمية سياسية أيضا يفسرها وضعنا العربي وقضايانا المستهلكة في المجالس المغلقة للدول الغربية وما يعانيه الخطاب السياسي للأمة من ضعف أمام التكتيك الامبريالي العالمي الذي جند كل طاقاته لرسم توجهات واستراتيجيات إيديولوجية على المدى البعيد في أقطار الشرق الأوسط من أفغانستان مرورا بالعراق نحو الخليج وصولا إلى الساحل الأطلسي في مسعى دائم إلى تجديد هذا الشرق الأوسط وفق رؤى غربية تطلب نسخا متتالية ومتنوعة لهذا الموقع الجيوستراتيجي.

كيف لا وهذه الأقطار تعاني حتى من الأمية الصحية وتتلاعب بها الشركات العالمية متعددة الجنسيات تحت شعار انفلونزي من حين إلى آخر لإعادة تشكيل الأوزان الاقتصادية العالمية، ومقارعة شركات أخرى في إطار الصراع السياسي الاقتصادي بين القوى العالمية الكبرى- الأمية السمعية تجد لها مكانا هنا وهناك حتى الطرقية كذلك العرفانية والعلائقية في إشارة إلى الاحتكاك بالآخر وسوء فهمه ولا ننسى الأمية المعلوماتية والتكنولوجية التي نرقص "بخيال شرقي جامح"- بلغة المستشرقين- لأنها بين أيدينا ولكنها للأسف مجرد استيراد مبهم و أصم و يظل مسدودا أمام العقل العربي.

السبعون بالمائة الأميون من العرب كثيرا ما يحسبون في نطاق الأبجدية و لكن هذا النوع الاحط والأدنى لدرجات الأمية لا يعني شيئا أمام أصنافه الأخرى والسواد الأعظم من عناصر المجموعة العربية يتناسى أن الأمية أميات في حقيقتها وهي منتشرة على اختلافها للأسف و متغلغلة لدى شعوبنا.

لا يمكننا أن نختم مقالنا هذا الذي يهتم بمشروع النهضة العربية المغيب دون الإشارة إلى الجهود التي بذلت من قبل بعض المؤسسات والمراكز الساعية لما فيه خير الأمة ففي إطار المشروع النهضوي العربي كان مركز دراسات الوحدة العربية قد عقد ندوة فكرية ضخمة في مدينة فاس بالمغرب.

وحرص المركز على مشاركة نخبة هامة من المفكرين العرب ينتمون إلى تيارات مختلفة قومية وإسلامية وليبرالية ويسارية حرص واضح على أن تطرح وجهات نظر جميع التيارات الفكرية العربية وقد ترجمت وقائع الندوة كاملة من بحوث وتعقيبات ومناقشات في شكل كتاب كان حصيلة جهد مركز الدراسات الذي سعى جاهدا إلى الوقوف على عوامل إخفاق المشروع النهضوي القومي العربي وفي نفس الإطار شهدت بيروت انعقاد المؤتمر السنوي الثالث للمركز العربي للدراسات الإستراتيجية تحت عنوان "نحو مشروع للنهضة العربية في القرن الحادي و العشرين" و ذلك بالتعاون مع كل من الأمانة العامة لجامعة الدول العربية و الأمانة التنفيذية للجنة الاقتصادية و الاجتماعية لغربي آسيا " الاسكوا" وعقد هذا الملتقى في الفترة 28-29 مايو – أيار 1998.

أقول أخيرا انه قد لا يكون التاريخ خطا متصاعدا متجانسا لكن في آخر هذا خط لا بد تقوم تراكمات الماضي و خبراته، علينا أن نستثمر خبرات الماضي الايجابية ولا نجعل تاريخنا يكرر نفسه، ويعود إلى الوراء ليطرح طيات الخيبة والركود والمراوحة في المكان نفسه بل لنجعله يحمل وعدا ما ..

______________

الهوامش :
"1" كثيرا ما تعامل الباحثين الغربيين مع تراثهم تعاملا علميا كافيا في حين أنهم حصروا نظرتهم للإسلام في دائرة الاثنوغرافيا "النظرة الفلكلورية الاحتقارية" و قد نقد محمد أركون هذا التعامل الامتكافئ و غير المحايد مع الأديان بالنسبة للمفكرين الغربيين .ا نظر محمد أركون " القران من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني

"2" انظر علي اومليل: الإصلاحية العربية و الدولة الوطنية – دار التنوير و المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء 1985

"3" يقول عبد الله العروي: " ليس في هذا الأمر ما يدعو إلى الدهشة إذا سبقت شعوب أوروبا في هذا الميدان شعوب كثيرة في القارات الأخرى ثم تحولت صورة السيطرة الأوروبية مع اكتمال الثورة الصناعية في أواسط القرن الماضي " ثقافتنا في ضوء التاريخ ص 155

"4" انظر الجدال في كتاب " سلامة موسى و إشكالية النهضة "
كمال عبد اللطيف ص 59 – 64 – دار الفارابي 1982

"5" هشام جعيط –le personnalité et le devenir arabo-islamique : ED seuil 1974 :
-L’EUROPE et L’islam Collection Esprit / seuil 1978

126 ص المفارقة التأويل "6" كمال عبد اللطيف:

"7" محمد الكتاني: جدل العقل و النقل " دار الثقافة للنشر و التوزيع




*نقلاً عن صحيفة " العرب .
موقع العرب إونلاين