البديل عن فشل المفاوضات
الجمعة, 17-ديسمبر-2010
مصطفى البرغوثي -


لم تشف رزمة الإغراءات والمكافآت الأمريكية غليل نتنياهو وحكومة المستوطنين التي يرأسها، بل يطالب بالمزيد . ومن يوم لآخر تتكثف النشاطات الاستيطانية في القدس وسائر أرجاء الأراضي المحتلة، وها هي الإدارة الأمريكية تنعي عملياً ما يسمى بعملية السلام، لتؤكد فشلها في أداء الدور الذي رسمته لنفسها كراع لهذه العملية .



الجاهل، أو المتجاهل فقط مازال يعوّل على مفاوضات مع “إسرائيل” . ذلك أمر مسلم به .



لكن السؤال الأساسي يبقى قائماً، ما البديل الذي سيعتمد لفشل نهج المفاوضات؟



لقد وعدت لجنة المتابعة العربية مراراً بأنها ستلجأ للخيارات الأخرى، ووعدت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بأن لديها سبعة خيارات بديلة ستنتقي منها . فلماذا الانتظار؟ ولماذا ترك زمام المبادرة بيد نتنياهو وحكومته ومفاوضاته التي لن تنتهي مع الإدارة الأمريكية التي تشعر بالضعف والحرج للوصول إلى صيغة ممسوخة أخرى لمفاوضات غير مباشرة وعديمة الجدوى تشكل غطاءً للتوسع الاستيطاني .



ألم يحن الوقت لاختيار البديل؟ وفي ظل استحالة انتزاع قرار من مجلس الأمن أليس البديل الوحيد الفعلي المتوفر هو في دعم الموقف الحازم برفض أي تفاوض مباشر أو غير مباشر في ظل استمرار الاستيطان وغياب المرجعية، والإعلان الفوري عن الدولة الفلسطينية وحدودها على جميع الأراضي المحتلة بما فيها عاصمتها القدس ومطالبة الجميع بالاعتراف بها، واتخاذ إجراءات فعلية لفرض الأمر الواقع على الأرض في مواجهة السياسة “الإسرائيلية” .



وقد سبقت البرازيل والأرجنتين، مشكورة، الجميع، باعترافهما بالدولة وحدودها، حتى قبل أن تعلن منظمة التحرير الفلسطينية ذلك، ونأمل أن تحذو الدول العربية حذوهما، وتسارع باتخاذ هذه الخطوة .



في المعادلة القائمة حالياً ليس هناك ما يزعج “إسرائيل”، بل هي في قمة الارتياح . فالأمريكيون ينتظرون “إسرائيل”، والفلسطينيون ينتظرون الإدارة الأمريكية والعرب ينتظرون الفلسطينيين وأوروبا والعالم ينتظر العرب والفلسطينيين، والكل مشغول بالحديث عن بناء مؤسسات الدولة والكل يعرف أن “إسرائيل” تحشرها في المجال الأمني سياسياً، وتحشرها في مناطق “أ”، و”ب” جغرافياً، لتكون الخلاصة ما يسميه نتنياهو سلاماً اقتصادياً وبنياناً في ما لا يزيد على 30-40% من الضفة الغربية من دون القدس، ومن دون الأغوار، ومن دون قطاع غزة، ومن دون سيادة، ومن دون مصادر المياه، ومن دون الأجواء والحدود والمجال الكهرومغناطيسي (بدعة نتنياهو الجديدة) .



إن العملية الوحيدة الجارية حقاً على الأرض هي تصفية عناصر القضية الفلسطينية وتصفية مفهوم الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، واستبدالها بحكم ذاتي محدود في بانتوستان، وفي إطار تكريس نظام التمييز العنصري “الإسرائيلي” (الابارتهايد) . وبكلمات أخرى ما يجري بناؤه، أو ما تسمح “إسرائيل” ببنائه هو ما اصطلح على تسميته “بالدولة ذات الحدود المؤقتة” وهو اسم مضلل لأن المقصود جعل ذلك الحل دائماً وليس مؤقتاً .



لم تشهد قضية الشعب الفلسطيني في تاريخها أبداً هذا القدر من التآمر ولا هذا القدر من التواطؤ . كما لم تشهد الساحة الفلسطينية من قبل، وذلك من مسببات الحالة التي نعيشها، هذا القدر من التفتت . وكل محاولة لرأب صدع الانقسام الفلسطيني تجابه بضغوط خارجية لا أول لها ولا آخر . وبلاءات وفيتوات، لا غرابة فيها، لأن أصحابها هم نفس أصحاب المشروع المذكور أعلاه، الذي أهم مقومات نجاحه إبقاء الفلسطينيين منقسمين، ضعفاء، مشغولين بهموم لقمة العيش عن التفكير بمصيرهم الوطني ومستقبل أبنائهم وبناتهم، ومعرضين لعملية كي وعي غير مسبوقة، لإشعارهم باليأس والإحباط .



وهذا ليس نمطاً جديداً، رأيناه في أواسط الثمانينات، ورأيناه أواسط التسعينيات، قبل أن يبلغ السيل الزبى .



لكن هذا كله ليس سوى جزء من الصورة، ولربما كان في أغلبيته من مكونات الصورة الرسمية بمختلف هياكلها وعناصرها، ومقابلها هناك صورة أخرى، شعبية، لشعب متمرس لم تعد تنطلي عليه الأحابيل وإن بدا صامتاً عنها .



صورة لعناصر توحد غير مسبوقة بين الفلسطينيين أينما كانوا، داخل أراضي ،1948 أو في الضفة والقدس وغزة، أو في الشتات والمهجر، وحدتهم نفس القوة التي عملت على تقسيمهم بإخضاعهم جميعاً لنظام التمييز العنصري “الابارتهايد” تحت شعار يهودية الدولة .



صورة لنهوض رائع لشباب وشابات فلسطين في مختلف أنحاء العالم، بعد أن اجتازوا معاناة وتشرد وفقر أهلهم، وتعلموا ونضجوا وأعادوا اعتناق قضيتهم الوطنية، وصورة لحركة عالمية ناهضة متضامنة مع فلسطين وقضيتها العادلة ومؤمنة بما قاله نيلسون مانديلا “إن قضية فلسطين هي قضية العدالة الإنسانية الأولى في العالم” . حركة بدأ تأثيرها يمتد من الشعوب إلى الحكومات، كما رأينا في موقف البرازيل والأرجنتين والأوروغواي .



صورة لحركة تنهض من القاعدة من بين الشعوب لتجعل معظم جنرالات “إسرائيل” وقادتها، يخافون السفر إلى بلد كبريطانيا، ويخشون محاكم جرائم الحرب التي ستلاحقهم في كل مكان .



صورة لحركة جعلت متطوعين شعبيين يحققون ما عجزت عنه الحكومات والدول بكسر الحصار على غزة .



إنها نفس الصورة، لنفس النضال الذي حرر جنوب إفريقيا من نظام الابارتهايد، وحرر الهند من الاستعمار وحرر الأمريكيين الأفارقة من التمييز العنصري . اسمها إرادة الشعوب، وهي ما سماها غرامشي “تفاؤل الإرادة في مواجهة تشاؤم العقل” .



المتشائمون هم الذين راهنوا فقط على ما يسمى بالمفاوضات، فلا شيء فيها يبعث على التفاؤل . والمتفائلون هم الذين يراهنوا على إرادة الشعوب وتراث شعب لم يكسره قرن من القمع والتآمر وعمليات الاحتيال، الذين يملكون مشروعاً بديلاً عماده المقاومة الشعبية والوحدة الوطنية، واستنهاض حملة لفرض العقوبات على “إسرائيل” .



أمين عام حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية - عضو المجلس التشريعي الفلسطيني 

*نقلا عن صحيفة "الخليج" الإماراتية