بين الديمقراطية والفوضى الخلاقة
الثلاثاء, 28-أغسطس-2007
محمد حسين العيدروس
بقلم: الأستاذ/ محمد حسين العيدروس* - ظلت الحقائق الكبيرة في حياة شعبنا تفرض نفسها كواقع لا جدل فيه- كما هو الحال مع الثورات التي فجرها شعبنا للتحرر من النظام الإمامي والاحتلال الاستعماري.. وكما هو الحال مع الوحدة اليمنية، والعقيدة الإسلامية، والانتماء للأمة العربية.. فالجدل في هذه الأمور يعد نكوصاً، وتراجعاً في الوعي كونها تمثل الأصول المكونة لهوية الإنسان اليمني.
وإذا كانت الديمقراطية تبيح حريات التعبير عن الرأي، وحق معارضة سياسة النظام الحاكم، فإنها – بلا شك- قد وضعت لذلك وسائلاً، وخيارات متعددة، وقنوات مختلفة لترجمة الرأي المعارض إلى فعل ميداني، يتم من خلاله الضغط على مؤسسات وأجهزة الحكم وصولاً إلى المطالب المرجوة.. وهي في مجملها خيارات سلمية مشروعة.. ونصفها "مشروعة" لأنها مكفولة دستورياً، ومفسرة بقوانين..
ولكن- للأسف الشديد- أن بعض القوى أو الأفراد يأخذ من القانون ما يعجبه ويرفض الجزء المتعلق بالحق العام، الذي هو ليس حقاً لجهة حكومية معينة بقدر ما هو حق يضمن مصالح الآخرين، وحقوق بقية أبناء الشعب.. فمثلاً – يتمسك البعض بحقه القانوني في تأسيس منظمات وجمعيات واتحادات في إطار المجتمع المدني، وذلك مكفول له دستورياً، لكنه يرفض في الوقت نفسه تسجيل هذه المنظمات لدى الجهات الرسمية، التي من مسئولياتها الإطلاع على النظام الأساسي للمنظمة ومعرفة أهدافها، ومؤسسيها بقصد حماية المجتمع من أي فكر دخيل، أو منافي لقيمه وعقيدته، وكذلك من أي أهداف ترمي الإضرار بمصالحه.
كما أن هناك من يتمسك بحقه في الخروج بتظاهرات، ومسيرات، وتنفيذ إعتصامات باعتبار ذلك من وسائل الاحتجاج والتعبير عن الرأي السلمية – وهو رأي سديد- لكنه في نفس الوقت يرفض أخذ الترخيص المسبق بالفعالية التي سيمارسها، ويرى فيه انتهاكاً لحرياته.. ويبدو لي أن هؤلاء تنقصهم الثقافة الحضارية، لأنهم يفسرون الأمور بما يعمق مفهوم الفوضى.. فماذا لو قرر أحد الأحزاب، أو المنظمات إقامة مهرجان في ساحة مفتوحة، وقرر حزب آخر أو منظمة أخرى التظاهر في نفس مكان المهرجان!؟ ألن يكون ذلك إضراراً سافراً بحقوق وحريات منظمي المهرجان!؟ ألن يترتب على ذلك مخاطر أمنية من احتمال تصادم الطرفين واشتباكهما!؟
إن الحقوق الديمقراطية يجب أن تكون منظمة بقوانين ولوائح، لأنها في كل ديمقراطيات العالم ليست حقوق مباحة بشكل مطلق.. وحتى لو تناولنا مسألة الحقوق والحريات من وجهة نظر دينية، فإن كل الحقوق والحريات التي أقرتها الشريعة الإسلامية لم تكن مطلقة بدون حدود تجعل تجاوزها مكرهاً، أو محظوراً، أو محرماً.. وهنا سبحانه وتعالى شرع هذه الحدود رحمة بالعبد نفسه وبالآخرين وليس لأي حسابات أخرى– وهو الذي كل النفوس بيده!
نحن – في اليمن – يجب أن نمارس الديمقراطية، ونتمتع بالحريات المكفولة دونما تجاهل أو نسيان لثقافتنا الإسلامية، التي هذبت أخلاقنا على قيم تمنحنا فيها حقوقاً، وتفرض علينا واجبات، وتنظم حياتنا بحدود شرعية تكفل عدم تحول ما نمارسه إلى تمرد على النظام العام للحياة الإنسانية، أو الاعتداء على حقوق الغير.. فالديمقراطية اليمنية ليست مستوردة وإنما صنعها أبناء اليمن أنفسهم، واتخذوها خياراً لحياتهم السياسية والعامة.
عندما ينظر البعض إلى الديمقراطية على أنها حريات مطلقة دون واجبات، أو لوائح تنظم ممارساتها، فهو حينئذ يتوهم الرؤيا، لأنه في الحقيقة ينظر إلى الفوضى الخلاقة، والى عالم الغاب الذي حول تجارب بعض دول المنطقة إلى ساحات مفتوحة للإرهاب، والمجازر البشعة، والفتن المذهبية، وحياة لا تمتلك من الصفات الإنسانية غير اسمها.. بل وجرت علينا جميعاً آثاراً سلبية ما زلنا نعانيها، ونقاسي معاناتها..
هذا اللون من الفوضى الخلاقة التي انتكست إليها تجارب البعض، إنما ولدته العقليات الجاهلة، والدعوات الإباحية للحريات، إلى الدرجة التي بات فيها البعض عندما يرتكب خطأ، أو جرماً وتتم مساءلته بشأنه يقول "أليست هي ديمقراطية"!؟ بمعنى أنها تحولت إلى رديف الحالة السلبية جداً.
الغريب في الأمر هو عندما تتبنى قوى سياسية لها أدبياتها المعروفة قيادة التوجه نحو "الفوضى الخلاقة" للديمقراطية، دون أن تضع في حساباتها حجم وهول المخاطر المحدقة بمثل هذا التوجه.. ودون أن تقرأ تجارب الغير فتستلهم دروسها، وتتعظ منها، وتخاف على شعبها من الفتن المصاحبة لذلك، والتي بإمكانها المساس بالهوية والسيادة الوطنية لليمن، وبكل التضحيات التي قدمها شعبها من أجل أن يحيا حياة إنسانية كريمة- وليست فوضى خلاقة..!
* رئيس معهد الميثاق