بدائل التقشف
السبت, 11-ديسمبر-2010
جوزيف ئي. ستيغليتز -

في أعقاب أزمة الركود الأعظم الأخيرة، أصبحت بلدان العالم في مواجهة عجز لم يسبق له مثيل في زمن السلم، فضلاً عن المخاوف المتزايدة إزاء الديون الوطنية المتزايدة الضخامة لهذه البلدان، وفي العديد من البلدان، يؤدي هذا إلى جولة جديدة من التقشف؛ السياسات التي يكاد يكون من المؤكد أن تؤدي إلى اقتصاد أضعف على المستويات الوطنية والمستوى العالمي، فضلاً عن التباطؤ الملحوظ لخطوات التعافي. والواقع أن هؤلاء الذين يرجون خفض العجز الضخم سوف يصابون بإحباط شديد، وذلك لأن تباطؤ الاقتصاد لابد أن يدفع العائدات الضريبية إلى الانخفاض وأن يزيد من الطلب على تأمين البطالة وغير ذلك من الإعانات الاجتماعية.

والواقع أن محاولة تقييد نمو الدين تخدم كوسيلة لتركيز الذهن، فهي ترغم البلدان على التركيز على الأولويات والتقييم الحقيقي للقيمة، ومن غير المرجح أن تتبنى الولايات المتحدة في الأمد القريب أي تخفيضات كبرى في الميزانية، كما فعلت المملكة المتحدة. ولكن التوقعات في الأمد البعيد- والتي أصبحت قاتمة إلى حد كبير بفعل عجز إصلاح الرعاية الصحية عن إحداث تأثير كبير في تكاليف الرعاية الطبية المتزايدة- كئيبة إلى الحد الذي أدى إلى زخم كبير بين أتباع الحزبين الجمهوري والديمقراطي للقيام بأي شيء. ولقد عمل الرئيس باراك أوباما على تعيين لجنة مشتركة من الحزبين للعمل على خفض العجز، وهي اللجنة التي قدم رئيسها أخيراً لمحة عن الهيئة التي قد يخرج عليها تقريرها.

ومن الناحية الفنية فإن خفض العجز يشكل مسألة فنية واضحة: فإما أن نعمل على خفض الإنفاق وإما زيادة الضرائب، ولكن من الواضح بالفعل أن أجندة خفض العجز، في الولايات المتحدة على الأقل، تذهب إلى ما هو أبعد من هذا: فهي بمنزلة محاولة لإضعاف تدابير الحماية الاجتماعية، والحد من تدرج النظام الضريبي: وتقليص دور وحجم الحكومة، ويجري كل هذا في حين لا تتأثر المصالح الراسخة، مثل المجمع الصناعي العسكري، إلا بأقل قدر ممكن.

في الولايات المتحدة (وبعض البلدان الصناعية المتقدمة الأخرى) لابد أن تتم صياغة أي أجندة لخفض العجز في سياق ما حدث على مدى العقد الماضي:

• الزيادة الهائلة في الإنفاق الدفاعي، والتي تغذت على حربين عقيمتين، ولكنها تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك.

• نمو التفاوت بين الناس، حيث يولد الأفراد المنتمون إلى 1% على القمة المجتمع 20% من دخل البلاد، إلى جانب ضعف الطبقة المتوسطة، هبط دخل الأسرة الأميركية المتوسطة بنسبة تزيد على 5% على مدى العقد الماضي، وكان في انحدار حتى قبل الركود.

• نقص الاستثمارات في القطاع العام، بما في ذلك مشاريع البنية الأساسية، الذي يتضح بشكل كبير في انهيار الإيرادات الضريبية في نيو أورليانز.

• نمو مستويات رعاية الشركات، من عمليات إنقاذ البنوك إلى إعانات الإيثانول إلى استمرار الإعانات الزراعية، حتى بعد أن حكمت منظمة التجارة العالمية بعدم قانونية هذه الإعانات.

ونتيجة لهذا أصبح من السهل نسبياً أن نعمل على صياغة حزمة لخفض العجز قادرة على تعزيز الكفاءة، ودعم النمو، والحد من عدم التفاوت بين الناس. والأمر يتطلب خمسة عناصر أساسية. أولا، زيادة الإنفاق على الاستثمارات العامة ذات العائد المرتفع. وحتى لو أدى هذا إلى اتساع العجز في الأمد القريب، فإنه قادر على خفض الدين الحكومي في الأمد البعيد. فأين هي الشركات التي قد لا تنتهز هذه الفرص الاستثمارية التي قد تتجاوز عائداتها 10% إذا كان بوسعها أن تقترض رأس المال- كما تستطيع حكومة الولايات المتحدة- بفائدة أقل من 3%؟

وثانيا، لابد من خفض الإنفاق العسكري- ليس فقط تمويل الحروب العقيمة، بل أيضاً الأسلحة التي لا تعمل ضد أعداء لا وجود لهم- فقد واصلنا ما تعودنا عليه وكأن الحرب الباردة لم تنته قط، فأنفقنا على الدفاع قدر ما ينفقه العالم أجمع.

وفي أعقاب هذا تأتي ضرورة إلغاء رعاية الشركات، فحتى بعد أن جردت أميركا موطنيها من شبكة الأمان، عملت على تعزيز شبكة الأمان للشركات، وهو ما تجلى بشكل واضح في أزمة الركود الأعظم الأخيرة مع إنقاذ مؤسسات مثل المجموعة الدولية الأميركية، وغولدمان ساكس، وغير ذلك من البنوك. إن رعاية الشركات تشكل ما يقرب من نصف إجمالي الدخل في بعض أشكال التجارة الزراعية في الولايات المتحدة، حيث تذهب مليارات الدولارات من إعانات دعم القطن على سبيل المثال إلى حفنة من المزارعين الأثرياء، في حين تنخفض الأسعار ويتزايد الفقر بين المنافسين في العالم النامي.

ومن بين الأشكال الفاضحة على نحو خاص من المعاملة الخاصة للشركات ذلك الذي يقدم لشركات الأدوية، فرغم أن الحكومة تشكل المشتري الأكبر لمنتجاتها فمن غير المسموح لها أن تتفاوض على الأسعار، الأمر الذي يغذي بالتالي زيادة في عائدات الشركات- وتكاليف تتكبدها الحكومة- تقدر بنحو تريليون دولار على مدى عشرة أعوام.

ومن بين الأمثلة الأخرى تلك المجموعة المتنوعة الضخمة من الإعانات الخاصة المقدمة لقطاع الطاقة، خصوصا شركات النفط والغاز، والتي تُعَد سرقة لخزانة الدولة، والتي تعمل على تشويه عملية تخصيص الموارد، فضلاً عن تدير البيئة. ثم هناك الهبات التي تبدو بلا نهاية من الموارد الوطنية، من الطيف المجاني المقدم لشركات البث الإذاعي والمرئي إلى الرسوم المنخفضة المفروضة على شركات التعدين إلى دعم شركات الأخشاب.

ومن الأهمية بمكان أيضاً إنشاء نظام ضريبي أكثر كفاءة وعدالة، من خلال إلغاء المعاملة الخاصة لمكاسب رأس المال والأرباح. فلماذا يخضع هؤلاء الذين يكدحون لكسب معايشهم لمعدلات ضريبية أعلى من هؤلاء الذين يكسبون عيشهم من المضاربة (على حساب الآخرين غالبا)؟

وأخيرا، مع ذهاب أكثر من 20% من مجموع الدخل لنسبة لا تزيد على 1% من السكان، فإن زيادة طفيفة، ولنقل بنسبة 5% في الضرائب المدفوعة بالفعل من شأنها أن تعود بما يزيد على 1 تريليون دولار على مدى عشرة أعوام.

إن حزمة خفض العجز المصممة على طول هذه الخطوط كافية لتلبية مطالب أكثر صقور العجز تشددا، وهي كافية أيضاً لزيادة الكفاءة، وتشجيع النمو، وتحسين البيئة، فضلاً عن الفوائد التي ستعود على العملين وأبناء الطبقة المتوسطة.

ولكن هناك مشكلة واحدة: ألا وهي أن أهل القمة لن يستفيدوا من كل هذا، ولن تستفيد الشركات وغيرها من أصحاب المصالح الخاصة الذين يسيطرون على عملية صناعة القرار السياسي في أميركا. والواقع أن المنطق القاهر لهذا الاقتراح المعقول هو على وجه التحديد السبب وراء ضعف احتمالات تبنيه. 




*نقلا عن صحيفة "الجريدة" الكويتية.