منظومة التعليم المهني: الواقع والطموح
السبت, 16-أكتوبر-2010
أزراج عمر -

يحتل التعليم المهني مكانة خاصة في المنظومة التربوية العامة وذلك لارتباطه بالتنمية مباشرة. ففي البلدان الغربية النموذجية المتطورة يولى هذا النصف من التعليم عناية الدولة والقطاع الشعبي الخاص معا. فالتحديث الاجتماعي مرهون بنسبة كبيرة وراديكالية بتطور التعليم المهني. وأكثر من ذلك فإن هذا الأخير يعنى به، وتصرف عليه ملايين الدولارات من أجل ترقيته دائما، وتحديثه، وضمان التكوين وفقا للمعايير المتقدمة. وهنا نتساءل: كيف هو، وما هو واقع التعليم المهني ببلداننا من المحيط إلى حدود الخليج؟ وهل هو مرتبط بمشاريع التنمية وشبكة المدارس المتوسطة، والعليا، وعن تكوين الإطارات المقتدرة والأكثر ذكاء لتقوم بهمة التأطير والتكوين؟

قبل الخوض، بشكل ضمني، في هذه القضايا التي تثيرها هذه الأسئلة التي أرجو أن تحفز، فإنه ينبغي استعادة بعض الآراء التراثية الرائدة، والتي تضع المهن في مصاف العلوم الصناعية والفنية الراقية الدقيقة. لا شك أن في تراثنا الكثير من الاهتمام البالغ والعناية الفائقة بالثقافة المهنية. إذ نجد المؤرخ الشهير عبد الرحمن بن خلدون في كتابه "المقدمة" يخصص عدة فصول لما يدعوه بعلم الصنائع الذي هو من صلب التعليم المهني. إذ يشترط ابن خلدون في "أن الصنائع لا بد لها من العلم- ص 404".

كما يؤكد بقوة أن الصنائع تتكامل بكمال العمران الحضري وكثرته، ص 405"، ويربط أيضا الصناعة بالفكر: "اعلم أن الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري، وبكونه عمليا فهو جسماني محسوس"، ثم يضيف: "وعلى قدر جودة التعليم وملكة المعلم يكون حذق المتعلم في الصناعة وحصول ملكة. ثم إن الصنائع منها البسيط ومنها المركب. والبسيط هو الذي يختص بالضروريات، والمركب هو الذي يكون للكماليات، ص 404".

وفي مكان آخر من كتابه "المقدمة" يربط ابن خلدون بين الصنائع وبين مستوى الحضارة حيث أنه إذا تزايدت الحضارة، و"دعت أمور الترف فيها إلى استعمال الصنائع، خرجت من القوة إلى الفعل، ص 405". ويقسم ابن خلدون الصنائع إلى عدة أقسام، محددا بوضوح ما "يختص بالأفكار التي هي خاصية الإنسان، من العلوم والصنائع والسياسة. ومن الأول الحياكة والجزارة والتجارة والحدادة وأمثالها. ومن الثاني الوراقة، وهي معاناة الكتب بالاستنساخ والتجليد، والغناء والشعر وتعليم العلم وأمثال ذلك. ومن الثالث الجندية وأمثالها، ص 405".

وفي الذروة من تفكيره يخلص ابن خلدون إلى القول بأنه توجد علاقة مصيرية بين رسوخ الصنائع في الأمصار وبين رسوخ الحضارة وطول أمدها، ص 406".

إن الجوهري في تصنيف ابن خلدون للتعليم المهني المكرس للصنائع هو اعتباره مسبقا كشروط مطلقة للتقدم، وأن غيابها، أو ضعفها هو علامة على الانحطاط الحضاري وانتشار الخراب. وإلى جانب ما تقدم من أفكار لامعة فإن ابن خلدون يعتبر الفلاحة، والبناء، والتجارة، والحياكة، والخياطة، والتوليد، والطب، والخط والكتابة، والوراقة، والغناء، والحدادة وغيرها من المهن صناعات بالدرجة الأولى، وأنها تكسب صاحبها عقلا.

كما رأينا فإن التعليم المهني هو بدوره صناعة راقية، وليس مجرد حشو للأدمغة بالكلام الفارغ. إن مصطلح الصناعة هو مرادف للتقنية والتكنولوجيا وفقا لمقاييس العصر الحديث. إذا كان تراثنا يولي التعليم المهني هذه العناية، ويموضعه في صلب العمل الحضاري فلماذا لم يحصل الاستمرار مطردا لهذا الفكر الموروث عن السلف في تعليمنا المهني الذي يعتبر متخلفا بمقارنته بالتعليم المهني في الدول التي خطت الخطوات العملاقة في مجال تحديث مجتمعاتها؟

مسألة الاختيار والتوجيه

فابن خلدون يربط بين الصناعة، أي التعليم المهني وبين الفكر والذكاء. ومن هنا ندرك أسباب ضعف التكوين المهني في منظومتنا التعليمية. ففي الواقع، فإن الطلاب والطالبات الذين يقع عليهم الاختيار للتوجه إلى التعليم المهني هم غالبا أولئك الذين فشلوا في امتحانات التعليم المتوسط، أو التعليم الثانوي وحال ذلك دون التحاقهم بالمعاهد أو الجامعات.

إن هؤلاء يوجهون إلى التعليم المهني على سبيل الشفقة، وبغرض إنقاذهم من التسرب المدرسي. وفي هذا بالذات يكمن ضعف التعليم المهني. أليست مثل هذه السلوكات منافية تماما للشروط التي يشترطها ابن خلدون في امتهان الصناعات والحرف؟ إنه بدون شك سلوك يعادي الحضارة والمدنية، ويحول دون ربح معركة صنعهما في بلداننا. أليس من المفروض، بل من الضروري توجيه الطلاب المتفوقين في الرياضيات، والهندسة إلى مواصلة الدراسة في صناعة الحرف ذات الصلة بهذين العلمين؟ أليست الرياضيات شرطا ملزما لإتقان النجارة بكل تفرعاتها وأنواع تخصصاتها؟

من البديهي القول بأن حرفة أو مهنة تعبيد الطرقات، وتصميمها مشروطة بكل من الجيولوجيا التي هي معرفة وإتقان علوم التربة والأرض، والهندسة، والفيزياء مثلا؟ إن علم وفن التصميم من الشروط الحاسمة والضرورية كل الضرورة في جميع المهن والحرف، وبدون إتقان هذا العلم والفن فلا شيء يتحقق على مستوى الازدهار الحضاري والتمدني إطلاقا.

بناء على هذه الملاحظات فإن تعليمنا المهني في حاجة ماسة إلى تعديل، بل إلى تغيير جذري سواء في مضامينه ونظرياته، وفي الجانب البشري، أو في ما يتصل بتوجيه الطلاب إليه. ما دمنا ذكرنا "التصميم" كركيزة أساسية في التعليم المهني، فإنه لا بد من تكثيف الحديث حوله.

بادئ ذي بدء، فإن بلداننا لا توجد بها تقاليد علم وفن التصميم. إذ لا نجد مادة "التصميم" مدرجة في المنهاج الدراسي، ولا تفرض في الامتحانات. وفضلا عن هذا فإننا لا نملك المدارس، والمعاهد العليا المتخصصة في فن وعلم التصميم علما بأنه من المستحيل على الإطلاق إنتاج أي شيء في ميادين البناء، وفتح الطرقات، وتغليف الكتب، وإخراجها بدون التصميم بمستواه الراقي والفني.

إن الزراعة والفلاحة بحاجة دائمة إلى التصميم، والتصنيف. فهل يمكن للسمكري، مثلا، أن يصنع الأنابيب، أو أن يركبها بدون الهندسة والتصميم؟ وهل يمكن أيضا للحداد أن يصنع خنجرا، أو يقوم بتطوير أشكال النوافذ الحديدية بدون امتلاك لموهبة ولعلم المصمم، ولفن الجماليات الهندسية؟ إنه لا يقدر أن يفعل أي شيء يساهم في بناء المعالم الحضرية والحضارية والمتمدنة بدون علم التصميم وفن توزيع الفضاء على أساس رياضي هندسي.

ولذلك فإن تأسيس مدارس ومعاهد عليا لدراسة التصميم، والتبحر في فنياته، وتقنياته أمر ضروري وجد أساسي لكي نرفع من مستوى حياتنا، ولكي ترقى مجتمعاتنا. إذا كان البناء في شكله الحديث والمتطور مظهرا حضاريا، فإن تكوين البنائين والبناءات على أسس العلم الرياضي والهندسي شرط أساسي. ربما يقول البعض بان المطلوب من البناء هو تنفيذ مخطط المهندس المعماري فقط، ولكن مثل هذا القول خاطئ من أساسه والدليل على ذلك أن ثمة تناقضات فاحشة ومرعبة بين التصميمات الهندسية التي أعدها المهندسون على الورق وبين العمارات وشتى انواع البنايات كما هي في التنفيذ.

إن السبب في ذلك يعود إلى جهل البنائين عندنا بفن العمارة، إذ هناك علاقة تفاعل وتكامل حقيقية وضرورية بين البناء العالم والفنان وبين المهندس المعماري. فالمعمار فن وعلم وفلسفة وثقافة، وليس مجرد مراكمة للحجارة، وتلصيق للإسمنت ونصب للأعمدة الخشبية أو الحديدية بطرق ترتجل ارتجالا وتحشر حشرا فوضويا، ففي الدراسات الثقافية المعاصرة المتطورة اهتمام كبير جدا بالعلاقة القائمة بين الحيز الفضائي للمنزل أو للطريق أو للملعب وبين المزاج الوطني للشعب.

إن تشكيل الفضاء المعماري يمكن أن ينتج نوعية الشخصية التي نريدها لإنساننا. وثمة أيضا دراسات مثمرة توصلت إلى نتائج علمية لا تدحض، خلاصتها توضح بأن الفوضى في السياسة أو في الإدارة أو في مؤسسات الانتاج المختلفة هي نتاج للفوضى في الذهنية وفي السلوك وفي الثقافة بشكل عام. ولا شك أيضا بأن هذه الدراسات قد استنتجت بأن هذه الأشكال من الفوضى هي من صنع البيئة المعمارية الفجة والعشوائية والتي نشأ فيها الإنسان.

وعمليا فإن الإنسان هو ابن بيئته، علما بأن المقصود بالبيئة هنا ليس الظروف الاجتماعية والتاريخية فقط، وإنما المقصود بها العناصر المختلفة، منها الفضاء المعماري وما ينتجه المهنيون والحرفيون أيضا لأنها مجتمعة تلعب دورا أساسيا في تشكيل الإنسان.

ونظرا لكل ما تقدم فإنه ينبغي أن نعيد النظرجذريا في منظومة التعليم المهني في بلداننا، وان ندخل عليه تحويرات وتعديلات وتغييرات أكثر حداثة وعصرية بهدف تحويله إلى مشروع حضاري في كمه وكيفه معا.

أعتقد أن إحدى المهام الكبرى لمفكرينا ومهندسينا وعلمائنا وسياسيينا تتمثل في فتح حوار جدي من أجل التوصل إلى تحديد مواصفات التعليم المهني الحديث مضمونا وإطارات بشرية وسياسات ناضجة ومتمدنة.




*نقلا عن صحيفة "العرب " .