العقل البشري كنز أسرار يتحدى الدراسات
الجمعة, 27-أغسطس-2010
عبير حسين -
وشفراته، وقفوا عاجزين عن عشرات الأسرار المعقدة الأخرى، وعلى الرغم من أن محاولات فهم العقل تاريخية ترجع إلى نظريات الفلاسفة القدماء واجتهادات سقراط وأرسطو، ولا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، إلا أن أحدا لا يستطيع الجزم بأنه قد تم اكتشاف كل شيء عنه، فالمصطلح رغم بساطته إلا أنه يستخدم لوصف الوظائف العليا للدماغ البشري، خاصة عندما يكون الإنسان واعياً مثل الشخصية والتفكير والجدل والذاكرة، والذكاء، وحتى الانفعال العاطفي يعتبر ضمن وظائف العقل .



وقد اكتشف العلماء مؤخراً عدة حقائق جديدة عن العقل البشري، أهمها أنه في حالة تطور مستمر وذلك بعد عقود من الاعتقاد أن الإنسان يحتفظ بحجم مخه كما هو منذ ولادته وحتى رحيله، إضافة إلى أن حجم الدماغ أقل أهمية بكثير من تكوينه .



كما توصل العلماء إلى إمكانية استخدام الخلايا الجذعية كوسيلة حديثة لعلاج الخلل الذي يصيب خلايا المخ ويتسبب في أمراض مثل الزهايمر والباركنسون .



الأهم من ذلك هو البحث عن وسيلة مناسبة للتحكم في الخلايا الدماغية العصبية المسؤولة عن استثارة الألم في أي مكان في الجسد، وإذا تم التحكم بها فستكون فتحاً جديداً لعلاج عشرات الأمراض المستعصية .



مجلة “نيوساينتست” قدمت موضوعاً موسعاً عرضت فيه النتائج الحديثة لعدد من المواضيع المختصة بالدماغ لتفسر غموض بعض العمليات الذهنية الخاصة، مؤكدة أنه قبل البحث عن إمكانية “استنساخ” عقل بشري جديد، يجب علينا التأكد من مدى دقة فهمنا للتركيبة المعقدة الموجودة حالياً، واستبعدت إمكانية محاكاة العقل البشري مهما توصل الإنسان إلى برامج ذكاء اصطناعي .



كيف تصنع الذكريات؟



تعتبر الذكريات المادة الرئيسة للأفكار، تدخل إلى مخزن معارفنا القديمة، نستدعيها بكل مرة نحتاج إليها عند القيام بوظيفة معينة .



وحتى الآن لم يتمكن أي باحث حتى الآن من التعرف إلى الشكل المادي للذكريات، التي تعتبر سراً غامضاً، وما العمليات التي تحدث في الدماغ عندما يتم ترميز ذاكرة جديدة؟



ويعتبر الباحث كيسلى مارتن من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، هو أول شخص بالعالم حضر “عملياً” تجربة شاهد خلالها تشكل الذكريات في مراحلها الأولى، عندما بدأت تظهر بروتينات “شكل معين من إفرازات الخلايا العصبية” عند نهاية الأفكار التي تم تخزينها كمعارف في عملية معقدة للغاية .



وتحفظ الذكريات القصيرة الأجل مثل أرقام الهواتف المستخدمة، في منطقة تعرف بالحصين Hippocampi وهي على شكل كرة لولبية مدفونة على عمق كبير في المخ .



وفي عام 2008 أجرى الباحثان كورتنى ميللر ودافيد سوات من جامعة ألباما تجربة على الفئران لاختبار كيف تتشكل ذاكرتها، كانت من نتائجها أنه خلال الساعة الأولى من أي تجربة تحدث تغييرات كيمائية في DNA للأعصاب بمنطقة “الحصين”، وتدريجياً تتغير البروتينات التي ينتجها المخ، وتقل تدريجياً خلال أسبوع من إجراء التجربة، حتى يصبح الحدث “ذكرى قصيرة الأجل”، أما تلك التجارب التي تعرضت فيها الفئران إلى خوف كبير، أو مخاطر حقيقية، فاحتاجت وقتاً أطول حتى تتحول إلى “ذكريات” وتنتقل إلى منطقة تدعى “اللوزة”، وتم محاولة محو هذه الأحداث من ذاكرة الفئران، عن طريق قتل نقاط الاشتباك العصبي في المنطقة التي تخزن هذه الأحداث .



وعلى الرغم من المحاولات العلمية المستمرة للتعرف إلى الكيفية التي تتشكل بها الذاكرة لدى الإنسان، والتعرف إلى دور الخلايا العصبية في ذلك، إلا أن التقدم الذي تم إحرازه لا يزال ضئيلاً للغاية، لتستمر الذكريات أحد الأسرار الدفينة، والعمليات المعقدة التي يقوم بها الدماغ، ولا يستطيع العلماء حتى الآن كسر الدائرة التي تتحول من خلالها الأحداث إلى ذكريات .



هل من الممكن “تجديد” الدماغ؟



حدثت ثورة علمية هائلة عام ،1990 عندما اكتشف العلماء أن جميع الثدييات، ومنهم الإنسان بالطبع، تتجدد لديه الخلايا العصبية، بعد عقود من الاعتقاد بأن الخلايا المكونة للدماغ تظل على حالها مثل يوم ميلاد الشخص وحتى رحيله، وهذا يعني إمكانية البحث عن علاجات جديدة لأمراض خاصة بالمخ مثل الباركنسون والزهايمر، تعتمد على إحلال خلايا عصبية جديدة محل الأخرى المريضة .



ويقول الباحث جيف ماكليس المتخصص في علم الخلايا العصبية بمعهد “ماساشوستس للتكنولوجيا” يتكون الجهاز العصبي من 10 آلاف نوع مختلف من الأعصاب في نظام بالغ التعقيد مثل هذا، لا يمكنك الوصول بسهولة إلى الخلايا القديمة المريضة، وبالتالي إحلالها بجديدة، تتناغم مع النظام التي تعمل من خلاله .



وأضاف “ لقد تم بناء النظام العصبي بدقة بالغة وتحتاج إلى عقود طويلة حتى تتمكن من إعادة بنائه بنفس القدر من الدقة المتناهية .



وقد أجرى الباحث أولى ليندفال من جامعة لند السويدية، تجربة رائدة عندما نجح بزراعة الخلايا العصبية المنتجة للدوبامين وهو من المواد الكيميائية التي تقوم بنقل عصبية تتواجد بتركيز عالٍ في الدماغ وضرورية للقيام بالحركات السريعة ويؤثر التمرين العنيف في إفرازها المأخوذة من الأجنة المجهضة، ونقلها، إلى مرضى يعانون من الباركنسون، وحققت نتائج مذهلة في بعض الحالات، التي حسنت من أداء وظائف الدماغ .



ويعمل ليندفال حالياً على تطوير أبحاثه، لجعل هذه الخلايا العصبية المستخرجة من الخلايا الجذعية الجنينية، لإعادة بناء خلايا الجلد .



وتتمتع بعض مناطق الدماغ بخلايا رائدة، تبنى في مرحلة تكون الجنين، ليست في حقيقتها خلايا جذعية، لكنها تتمتع بقدرات خاصة تمنحها قدرة الخلايا العصبية، يمكن الاستعانة بها لأداء بعض الوظائف .



كم تبلغ درجات الوعي؟



قد نتخيل أن دماغ الإنسان يعمل بنفس الطريقة التي تعمل بها الأجهزة الكهربائية، فهي إما في حالة تشغيل، أو إغلاق، كذلك الإنسان إما نائم أو مستيقظ، وإذا كان نائماً فهو إما يحلم أو لا يحلم، كل هذه الفرضيات القديمة يعاد مراجعتها، إذ أظهرت عدة دراسات أجريت على أدمغة مرضى في حالات غيبوبة أن هناك نشاطات مختلفة للدماغ تجرى ولا نعرفها، وإن كان أمكن رصدها بأشعة الدماغ .



ويعطى البروفيسور آدام زيمان من كلية طب أكستير البريطانية مثالاً على ذلك، بالمشي أثناء النوم، الذي يصيب حوالي 1 من كل 20 بريطانياً في هذه الحالة يعتبر نصف الدماغ في حالة وعى، والآخر بحالة نوم، وأجريت عدة محاولات لإجراء مسح وتصوير للدماغ لأشخاص يسيرون نياماً، لتوضح أن منطقة الوعي عندهم مغلقة، على الرغم من رصد نشاط واضح للمنطقة المرتبطة بالمشاعر .



وهناك حالة المرضى المصابين بما يعرف Reem sleep ، وهى حالة اضطراب سلوكي يشعر المصابون به، أنهم بكامل وعيهم أثناء أحلامهم، والحالة المضادة لأشخاص يعانون من مرض “شلل النوم”، عندما يصحو الفرد وهو غير قادر على الحركة كأنه لايزال نائماً .



وفي فبراير/ شباط الماضي، قاد أدريان أوين من جامعة كامبريدج، دراسة للتعرف إلى إمكانية التواصل مع الشخص النائم، معتبراً أن هناك مناطق عصبية صغيرة تفصل بين الوعي والإغماء، وبالفعل تمكن من الحصول على بعض الاستجابات لأشخاص نياماً، طلب منهم تصور لعب التنس، أو التجول بالمنزل، وتم أجراء أشعة للمخ، أثبتت وجود نشاط واضح بمناطق عصبية مفترض أن تكون خاملة في حالة النوم .



وستفيد هذه التجارب على نطاق واسع، لدى المرضى الذين يعانون، من غيبوبة طويلة، حيث ستمكن من التواصل معهم للتعرف إلى رغباتهم حيال الاستمرار في العلاج، أو الرغبة في التوقف .



ولا يزال العلم يقف حائراً في التعرف إلى مستويات الوعي لدى الإنسان، وأشكالها .



ما سر العلاقة القوية بين العقل والجسد؟



إنها علاقة قديمة قدم الطب ذاته، المريض الذي تطل شرفته بالمستشفى على حديقة خلابة، أسرع في الشفاء والاستجابة للعلاج من الآخر الذي يحملق بالحوائط طيلة اليوم . ويعرف كل الأطباء الحكماء التأثير القوى للحالة العقلية على صحة المريض خاصة أولئك الذين يصعب تشخيص حالتهم وأمراضهم الجسدية، فهناك الكثير من تجارب الحرمان والفراق والطلاق تتسبب في ظهور أمراض عضوية، ويبدو أنه على مدى عقود طويلة تم التعامل مع هذه العلاقة باعتبارها أمراً مسلماً به، ولا يزال الرابط غامضاً بين الحالة “النفسية” والإصابة بالأمراض .



ويعكف العلماء حالياً على وضع إجابات لأسئلة مثل، ما الأثر الوهمي لما يوحى به العقل، هل يمكن أن ندرب عقولنا على التفكير الإيجابي؟



أول الإجابات جاءت بعد التوصل إلى العلاقة التي تربط المخ وطريقة عمل جهاز المناعة، الضغوط الشديدة التي نتعرض لها في حياتنا اليومية تؤثر بشكل مباشر في كفاءة نظام المناعة لدينا، الذي يتحكم فيه الدماغ عن طريق ما يعرف “بالعصب الحائر”، وهو الوحيد الذي ينشأ في الدماغ وينتهي بعيداً في الجهاز الهضمي، ويقوم بنقل الإيعازات الحسية والحركية من الجهاز العصبي التعاطفي، إلى كل الأعضاء الواقعة بين رأس الإنسان وحتى الأمعاء الغليظة، ويتحكم العصب في ضربات القلب، بحيث تؤدى عملية تحفيزه إلى التسريع أو الإبطاء بنبضات القلب، كما أنه يسيطر على عملية النطق، وعملية التعرق، ومنذ عام 1997 تم استعمال طريقة زرع بطاريات صغيرة تحت الجلد تقوم بتحفيز العصب الحائر لعلاج مرض الصرع والكآبة وارتفاع ضغط الدم .



ويقول كيفين تراس من معهد فينيستين للأبحاث الطبية في نيويورك “ إذا استطعنا بطريقة ما السيطرة على نظام المناعة عبر الدماغ، يمكننا بالتالي خداعه، إما عن طريق أدوية معينة، أو التحكم بالعصب الحائر، وإذا تم ذلك فسيعتبر نافذة مهمة، قد تعالج أمراضا أكثر خطورة ترتبط بضعف نظام المناعة مثل السرطان .



هل هناك علاقة بين حجم الدماغ والذكاء؟



في عام 1995 عندما أجرى تشريح لمخ العالم البرت اينشتاين، كانت المفاجأة مدوية، انه أصغر حجماً من الطبيعي، ومن هنا تأكد أنه ليس ثمة رابط حقيقى بين حجم الدماغ، ودرجة الذكاء .



العامل الأكثر تأثيراً هنا هو طريقة عمل وارتباط الخلايا العصبية .



ويقول الاختصاصى في علم الإحساس والسلوك البيئي في جامعة الملكة ماري في لندن البروفيسور لارس شيتكا، الأدمغة الكبيرة ليست معقدة ولا يرى فيها سوى الدوائر العصبية ذاتها دائماً، وأن كبر حجمها لا يعني أنها أفضل من حيث الأداء والفعالية .



ويتوافق هذا مع أبحاث سابقة ذكرت أن الإنسان قبل ملايين السنين لم يكن لديه دماغ كبير، فيما يرى آخرون أن الدماغ البشري ينكمش خلال عملية التطور والنمو .



وللتدليل على ذلك فإن دماغ الحوت مثلاً يزن نحو تسعة كيلوجرامات وفيه أكثر من 200 مليار خلية عصبية، في حين أن وزن دماغ الإنسان يتراوح ما بين 25 .1 و45 .1كيلوجرام وفيه حوالي 85 مليار خلية عصبية، ووزن دماغ النحلة 1 ميليغرام فقط وبداخله أقل من مليون خلية عصبية . ولفت الباحثون إلى أن الدراسات السابقة أثبتت أن بعض الحشرات تتمتع ببعض الذكاء، فمثلاً تستطيع النحلة عد أجسام أمامها والتمييز بينها ومعرفة ما إذا كانت لوجوه حيوانات أو بشر، وكذلك التفريق بين ما هو مختلف ومتماثل، مما يدل على أن التفكير المتقدم يتطلب عدداً محدوداً جداً من الخلايا العصبية .



الباحثة مارتينا فان دين اختصاصية الأعصاب من مركز الأبحاث الطبية التابع لجامعة ماستريخت الهولندية، توصلت في دراسة أجرتها العام الماضي، أن حجم الدماغ لا يؤثر بالضرورة في الكفاءة التي تعمل بها الخلايا العصبية، وان قدرة هذه الخلايا على التعاون وتبادل الرسائل في ما بينها بسرعة ودقة هو ما يجعل شخصاً ما أذكى من غيره .



يقول باول ثومبسون من جامعة كاليفورنيا “ لا نعلم على وجه الدقة عدد الجينات المرتبطة بالذكاء،بل إنها تختلف بين التوائم حتى المتشابهة، ولايزال أثر الجينات على ذكاء الفرد بحاجة إلى دراسات أكثر عمقاً .



ما سر ارتباط الإبداع بالجنون؟



المقولة الشهيرة ترى أن أي عبقري لابد وأن به مسناً من الجنون، هل هذه حقيقة؟ معظم العباقرة مثل نيوتن، اينشتاين، فان كوخ وكثيرون غيرهم عانوا من شكل من أشكال الاضطراب السلوكي، البعض صنفت حالته على أنها “شيزوفرينيا” والآخر على أنه “توحد” .



ان التفسير العلمي أحيانا يذهب إلى العلاقة بين “فصي” المخ اليمين واليسار، وهناك الكثير من الدراسات التي تتحدث عن أشخاص يتبعون منطقة اليمين، والعكس صحيح، فالجانب الأيمن يتعلق بالنواحي الإبداعية، والآخر بتعلم المهارات المختلفة مثل اللغات، والقدرة على أجراء العمليات الحسابية، والتحليل المنطقي، ووجد أن معظم العباقرة ارتبطت لديهم حالة الشيزوفرينيا بالجانب الأيمن .



الباحث جيرمى هول من جامعة ادنبرج البريطانية يرى أن الجينات تلعب دوراً مهماً، فهناك بروتين يدعى Neuregulin 1 ، مسؤول عن تطوير مهارات التعلم يفرز من الجانب الأيمن، وزيادته عن المعدلات الطبيعية قد تجعله مسؤولاً عن بعض حالات الاضطرابات السلوكية .



هل يمكن “استنساخ” عقل بشري؟



يعكف العلماء منذ عقدين على تطوير، برامج ذكاء اصطناعي تحاكى تماماً العقل البشري، ويتم تزويد الروبوتات بها، لتتمكن من التصرف حيال المواقف المختلفة، وفق الخيارات التي تزود بها .



الباحث أنتونيو تشيلا من جامعة باليرمو في ايطاليا، ومحرر بمجلة “وعى الماكينة” يرى أن العلم يخطو بثبات نحو إنجاز هذه المهمة التي لم يعد تحقيقها بعيداً، فقد تم تطوير عدد من العقول الاصطناعية بالفعل وضعت لروبوتات تستخدم بالمجال الصناعي والعسكري، وأثبتت نجاحاً فقط في تنفيذ ماتم برمجتها عليه، لكنه يعتبر أن الطريق أصبح قصيراً أمام النجاح بابتكار آله قادرة على تحديد الخيارات المتاحة أمامها، والشكل الأمثل لتنفيذها، والتوقيت الدقيق لذلك . 






*نقلا عن صحيفة "الخليج" الاماراتية.