الاقتصاد العالمي . . احتواء أم مشاركة؟
الثلاثاء, 17-أغسطس-2010
غسان قلعاوي -
قمم الثماني المتبوعة بقمم العشرين أضحت من معالم مسيرة الاقتصاد في عالمنا الحاضر، فهل يُعِدّ ذلك مؤشراً إلى سعة دائرة الاشتراك في توجيه الاقتصاد العالمي؟ وهل يعني أن توجيه مسيرة الاقتصاد العالمي لم يعد حكراً على الدول التي كانت تمثل الاقتصادات المتقدمة؟

وهل دخلت الاقتصادات الناشئة الأخرى التي تمثل بوادر قوى اقتصادية عالمية في أمريكا الجنوبية وفي الهند ومجموعة من الدول الأخرى في آسيا، هل دخلت هذه الدول حقاً، إلى جانب الصين، حلبة المشاركة في صنع واتخاذ القرارات التي توجه الاقتصاد العالمي . . أم أن قمم الثماني التي تليها قمم العشرين مازالت تمثل وسيلة احتواء ابتدعتها الاقتصادات المتقدمة لضمان استمرار الانفراد، ما أمكن، بتوجيه الاقتصاد العالمي بما يخدم مصالحها؟

ثم لماذا تنعقد قمة الثماني قبل قمة العشرين؟، ولماذا لا تندمج المجموعتان في قمة العشرين إذا كان الهدف من قيام قمة العشرين هو المشاركة في توجيه الاقتصاد العالمي؟ أم أن الدول المتقدمة ممثلة في قمة الثماني مازالت مصرة على الاجتماع منفردة اجتماعاً يسبق العشرين على النحو الذي يبدو معه اجتماع الثماني السابق لقمة العشرين كأنه يمهد ويضع الخطوط العريضة للمطلوب من الاقتصادات الناشئة؟

ففي أكثر من اجتماع للعشرين بعد الثماني كان الأمر يبدو كأن العشرين تجتمع كصدى لتوجهات الثماني تحقيقاً لمعظم مطالبها، مطالب الثماني . كان ذلك ملاحظا قبل الأزمة وأشد وضوحا بعدها، أي بعد أن تأكد دور الدول الناشئة في (حمل مطافئ الحريق وإطفاء حريق الأزمة “كما ألمح أحد مسؤولي تلك المجموعة في القمة الأخيرة، قمة تورنتو في حزيران/يونيو الماضي التي كان بيانها الختامي، على عمومياته وهلاميته، يحاول، فيما يبدو، التمويه على مطالب الثماني من ناشئة العشرين والتعتيم على مدى الاستجابة العشرينية لإصلاح أحوال الثماني التي يبدو أنها استجابة مطلوبة بإلحاح بدليل دعوة القمتين للانعقاد في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.

باختصار يبدو المطلوب من الدول الناشئة ودول الفائض عموماً ومعها الصين:

أولاً: توجيه منتجاتها المنافسة نحو الاستهلاك الداخلي، وقد عبّر عن ذلك البيان الختامي لقمة مجموعة العشرين الأخيرة حين أشار إلى أنه “ستلجأ الاقتصادات التي تعاني من الفائض إلى إصلاحات لخفض اعتمادها على الطلب الخارجي وستركز بشكل أكبر على مصادر النمو الوطنية”.

ثانياً: رفع سعر صرف عملاتها “الصين بالذات” للحد من نمو صادراتها، فقد جاء في البيان المشار إليه (زيادة مرونة معدلات الصرف في بعض أسواق الدول النامية) “وقد استجابت الصين بإجراء مظهري يتمثل في رفع سعر صرف عملتها بمعدل أكثر ما يمكن أن يقال عنه إنه أقل من طفيف، “نحو 1 0،2%) وذلك إن لم يمثل هذا الإجراء بداية لاستمرارها في هذا الاتجاه حيث إن اليوان متهم بأنه أقل من قيمته الحقيقية بما يعادل 40% (بالنسبة للدولار حسب وجهة النظر الأمريكية).

ثالثاً: زيادة الاستيراد من الدول المتقدمة من خلال: زيادة الاستهلاك “المشار إليه بالمزيد من الانتعاش والنمو “فقد ورد في البيان” تحقيق المزيد من النمو لإعادة توازن الطلب العالمي على أن تدرس تدابير التوازن بعناية لتدعم انتعاش الطلب في القطاع الخاص” . وأيضاً من خلال إيقاف أي شكل من أشكال الحماية أو الدعم للمنتجات المحلية: فقد أشير إلى ذلك في بيان العشرين بما يفيد “تجديد التعهد لمدة ثلاث سنوات بالامتناع عن زيادة العقبات أمام الاستثمار وتجارة الأموال والخدمات، وعن إقامة عقبات أو قيود جديدة على التصدير أو إجراءات تحفيز للصادرات تتعارض مع قواعد منظمة التجارة العالمية” . ولا ندري ما إذا كان هذا التعهد يشمل الإجراءات الحمائية التي اتخذت في بعض دول مجموعة الثماني ضد الحذاء الصيني الذي أنقذ “مستوري الحال” في العالم من السير بأقدام عارية.

رابعاً: ضخ المزيد من السيولة ورؤوس الأموال للدول المتقدمة، للحكومات وللقطاع الخاص وللنظام المصرفي (الذي يبدو أنه ما زال مصراً على استخدام نفس الوسائل وأساليب الإدارة التي أدت إلى الأزمة)، مع تعهد عائم ووعود وردت في البيان حول تهذيب أوضاع المؤسسات المالية ومعالجة العجوزات في الموازنات مع ،2013 وتقليص نسب الدين العام بحلول 2016 . وتعزيز الشفافية في الأسواق المالية ومراقبة صناديق التحوط ووكالات تصنيف القروض والمشتقات المالية، واستنباط قواعد جديدة أكثر تشدداً لتعزيز المراقبة والمتابعة، وابتكار وتطبيق نظام وأدوات قادرة على إعادة هيكلة أو تسوية أوضاع المؤسسات المالية التي تعاني من أزمة، من دون أن يتحمل دافعو الضرائب العبء . حيث يلاحظ أن مطلب استمرار التوسع في الائتمان وتوفير السيولة له ولأسواقه والأسواق المالية “المنفلتة” مطلب لم يقابله أي التزام من قبل النظام المصرفي والأسواق المالية بتعديل سلوكياتها التي أدت إلى الأزمة بل إن المحاولات والتعهدات بالمزيد من الضبط والرقابة من قبل الحكومات المعنية تصطدم بما يشبه الرفض والتمرد من قبل المؤسسات المالية المعنية مما يؤكد أن الشفافية والرقابة والإصلاح أمور بعيدة عن التطبيق في هذا النشاط بعد توحشه، وأن المشكلة هنا لا تكمن في المزيد من التنظيم وإنما بمدى الالتزام، لأن النظم الرادعة للتفلت كانت قائمة قبل الأزمة، لكن الفساد في هذا النشاط وفي الأجهزة المشرفة عليه والمسؤولة عن رقابته في الولايات المتحدة بشكل خاص كان أكبر من الالتزام بتلك النظم . تلك هي، فيما يبدو، الخطوط الرئيسية التي تمثل مطالب الدول المتقدمة “المحكومة بمصالح شركاتها متجاوزة الحدود”، وهي مطالب لا يفصح عنها بصراحة، غالباً، بل يتم تغليفها عادة بتلك العموميات الأقرب للشعارات، المؤيدة بتزكية رموز الهيئات الدولية التي تتواجد بكثافة في تلك القمم، شعارات مثل: حماية وتعزيز الانتعاش الاقتصادي، وإرساء أسس نمو قوي مستدام ومتوازن، وتحصين الأنظمة المالية ضد المخاطر، ومراعاة التباين بين اقتصادات الدول الصناعية والناشئة، دعم النمو مع مراعاة الظروف الوطنية، والانطلاق من مواقف مرنة وصيغ توافقية، وخطط تعزيز مواتية للنمو . . . الخ.

مثل هذه الشعارات المرسلة بما تتصف به من عمومية ومرونة وصيغ توافقية تتيح التفسير حسب أهواء الجانب الأقوى ووفق مصالحه بحيث يمكن أن تستوعب سياسات التقشف الأوروبية، في نفس الوقت الذي يمكن أن تستوعب استمرار التوسع في التمويل من خلال الزيادة في العجز “الأمريكي”، فتعزيز الموازنات يشمل كلاً من سياسة التقشف، حيث يمكن تعزيز الموازنات من خلال هذه السياسة “الرؤية الأوروبية” ومن خلال المزيد من الاقتراض أيضاً . . كما هو حال الولايات المتحدة.

غلاف العمومية والمواقف التوافقية يترك المجال مفتوحاً، ويوحي بأن لهذه القمم ما بعدها خاصة أن المجموعتين مدعوتان للاجتماع بعد أشهر قليلة كما أشرنا، فهل تجتمعان لمتابعة مدى استجابة الدول الناشئة لمطالب “الثماني” الكبار في مسيرة الاحتواء، أم لعرض نتائج الإجراءات المقررة أو المتخذة من قبل الدول المتقدمة لإصلاح أنظمتها المالية وسلوك مؤسساتها الخاصة وأسواقها المالية المسؤولة عن الأزمة؟ 




*نقلا عن صحيفة "الخليج" الاماراتية.