اللغة سلطة الثقافة بدون سلامتها يضعف الانتماء
الخميس, 08-يوليو-2010
أزراج عمر -
تحتل اللغة موقعا مركزيا في المناقشات المعاصرة، حيث إنه لا ينظر إليها كمجرد أداة للتواصل بين الناس في المجتمع الواحد، أو بين الشعوب في المعمورة فقط، بل إنها تعتبر أيضا كجزء أساسي من هوية الفرد، أو المجموعة البشرية الصغيرة، أو الأمة ككل.

ففي الدول المستقلة حديثا قد ربطت عملية تحرير المجتمعات ما بعد الاستعمارية بتحرير اللغة، أو اللغات الوطنية من بقايا التأثير اللغوي للدول المستعمرة. وهكذا نشاهد اليوم بعض الدول المستقلة تنشط على جبهة استعادة لغتها الوطنية بخطى حثيثة، ربما أكثر ما تعمل من أجل استقلالها الاقتصادي التابع غالبا للمراكز الرأسمالية الغربية بهذا الشكل أو ذاك.

صراع على الهوية

وفي الواقع فإن حمى النقاش تمتد حتى إلى الدول الكبرى مثل فرنسا وبريطانيا، وأمريكا وكندا. ففي عهد الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران رفعت فرنسا مرة جهرا، ومرة أخرى على نحو مضمر شعار "تنقية اللغة الفرنسية" من غزو المفردات الانكليزية لها. وفي بريطانيا محاولات للتصدي للغة الفرنسية التي تتخلل مسام اللغة الانكليزية. أما في أمريكا فإن التيار اليميني المتطرف فيها قد أبدى، ولا يزال يبدي تخوفه من الأقليات الأجنبية ولغاتها، وخاصة في الجزء الممتد من فلوريدا إلى المنطقة الجنوبية المحاذية للمكسيك حيث تنتشر الجالية المكسيكية في صورة مستعمرات بشرية ولغوية تتحدى اللغة الأمريكية بقوة. وفي كندا المنقسمة إلى فضاء فرنسي اللغة، وفضاء انكليزي اللغة ثمة صراع على الهوية بما في ذلك الهوية اللغوية. فالعالم المعاصر ليس بكيان سياسي، واقتصادي، وأمني، وإنما هو كيان لغوي بامتياز، بمعنى أن الصراعات فيه تطال اللغات. فالقارة الافريقية حسب الاحصائيات الحديثة جدا تحتوي على 2000 لغة بعضها الأكبر أصلي، وبعض الأصغر هو ظاهرة استعمارية أوروبية.

وإلى جانب ما تقدم فإنه يلاحظ بأن الدولة– الأمة الحديثة تتميز عموما بأنها متعددة اللهجات، واللغات، وكثيرا ما تبرز إلى السطح مطالب الحكم الذاتي، أو الانفصال بسبب التعدد اللغوي عندما يتعرض للحجر والكبت، أو للمصادرة. ومن بين القضايا المستجدة التي قد أصبحت بمثابة مشكلات لغوية حينا، وسياسية حينا آخر قضية التهجين اللغوي، أو الهجنة اللغوية. وفي هذه الأيام شرعت عدة دول في التدقيق في هذا التهجين من خلال عقد الندوات، وإعادة النظر في المناهج التعليمية على مستوى المدارس، والمعاهد، والثانويات، والجامعات، ومؤسسات ووسائل الإعلام.. إلخ..

في المفهوم والنظرية

قبل أن نلقي الأضواء على نحو سريع على الدلالة السياسية والثقافية لظاهرة التهجين اللغوي فإنه ينبغي أن نبدأ في فحص هذا المصطلح فحصا دقيقا وشاملا. لا بد من الإشارة أولا إلى أن الجامعات الغربية، وخاصة في أوروبا قد أنشأت في جامعاتها شعبا كاملة لدراسة ظاهرة التهجين اللغوي، والثقافي والحضاري، والبشري. ومن الواضح أن أقسام الدراسات الثقافية والإثنية، والاستعمارية وما بعد الاستعمارية والجاندر "النوع" بالجامعات تهتم على نحو خاص بالتهجين كظاهرة تستحق العناية والدرس من خلال التاريخ. فما هو معنى مصطلح "التهجين" hybridity؟

حسب قاموس "المفاهيم المفتاحية لنظرية الأدب"، فإن التهجين هو تسمية شيء ما، أو شخص ما يعود أصله إلى نسب متعدد، أو تشكل من عدة مصادر متنوعة ومختلفة. وفي الدراسات ما بعد الكولونيالية فإن التهجين يدل "على قراءة الهويات التي تؤسس فعل الاختلاف في الهوية الذي يقاوم التماهي المثبت المفروض، والواحدية".

أما قاموس "المفاهيم المفتاحية للدراسات ما بعد الكولونيالية" لكل من بيل أشكروفت، وغريفيث، وتيفيني، فإنه قد أبرز بأن مصطلح التهجين/ الهجنة، يستعمل بشكل واسع في الدراسات ما بعد الكولونيالية، كما أنه يخضع لتباين وجهات النظر في نظرية ما بعد الكولونيالية. ويعرف هذا القاموس الهجنة بأنها "تعني عموما إبداع أشكال ثقافية عابرة جديدة بداخل منطقة تماس، وهي منتجة من طرف عمليات الاستعمار".

ويبين هذا القاموس بأن الهجنة "تتخذ عدة أشكال: لغوية، ثقافية، سياسية، وعرقية الخ". ومن بين الأمثلة في مجال اللغات يمكن ذكر لغات الكريول بمنطقة بحر الكاريبي. وفي مجال الثقافة يمكن الإشارة إلى ظاهرة تلاقح ثقافات مختلفة في مجتمع ما وميلاد أنماط ثقافية من هذا التركيب بداخل ثقافة واحدة.

وفي السياسة فإن معظم دول العالم الثالث تعمل بأنظمة إدارية وحزبية وقانونية هي مزيج من الوطني والمستورد من التجارب الأجنبية. وفي النظرية ما بعد الكولونيالية فإن الهجنة لها دلالة واضحة وتتمثل في التبادل الثقافي بين المركز الاستعماري السابق وبين الدول الأطراف المستعمرة سابقا على نحو يشدد على هيمنة الأولى على الثانية بشكل ملحوظ، ويفضي إلى التبعية الثقافية عموما. وعلى مستويات النسيج الاجتماعي فإن المجتمعات الغربية بشكل خاص تتوفر على تعددية الاثنيات، والثقافات والديانات مما يجعل سكانها الأصليين يتأثرون بدورهم بهذه التعددية الشيء الذي ولد ولا يزال يولد بعض التوترات العنيفة، ومظاهر العنصرية المتمركزة أوروبيا وغربيا.

بعد هذه الوقفة السريعة مع مفهوم الهجنة أو التهجين كما هو مطروح للنقاش في نظرية الثقافة، ونظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي، فإن الوقت قد حان أن ننظر إلى ظاهرة التهجين في مجال اللغة، وتحديدا في اللغة العربية ببلداننا. وقبل إلقاء الضوء على هذا أرى أنه من المفيد التوقف قليلا عند كتاب صدر مؤخرا عن المجلس الأعلى للغة العربية بالجزائر، وهو مكرس لمعالجة هذه الظاهر، ويضم المحاضرات والمداخلات والمناقفشات والتوصيات التي قدمت في ندوة موسعة عقدها هذا المجلس في الشهور الأخيرة من هذا العام 2010م.

لقد سلطت هذه الندوة الضوء بشكل مفصل على عدة محاور تتصل بظاهرة التهجين اللغوي منها: 1- التهجين اللغوي في الحوار التخاطبي، 2- التهجين اللغوي في جزائر العهد العثماني، 3- التباين اللغوي بين الفصحى واللهجة العربية، 4- التهجين اللغوي: المخاطر والحلول، 5- التهجين اللغوي: أسبابه ومظاهره، 6- اللغة والتهجين: تجاذبات وتنافرات، 7- أسباب التهجين اللغوي، 8- التهجين اللغوي في الإعلانات الإشهارية.. الخ.

إن قراءة المضمون العام لهذا الكتاب تبرز لنا أن المشاركين فيه يعتبرون ظاهرة التهجين اللغوي واقعا سلبيا يجب معالجته للتخلص منه من أجل الحفاظ على اللغة العربية.

التلوث اللغوي والتهجين

في هذا السياق استخدم الدكتور محمد العربي ولد خليفة مصطلح "التلوث اللغوي"، ومصطلح الاقتراض اللغوي"، و"مصطلح التهجين اللغوي"، ليحدد أنماط الهجنة اللغوية، ففي تقديره فإن "اللغة هي سلطة الثقافة وركن الهوية الجماعية". وهكذا، فإن إصابة اللغة بالهجين تعني "زعزعة الذات الثقافية، وضعف الانتماء"، أي تعرض اللغة كسلطة الثقافة إلى الاغتراب عن نفسها.

فالدكتور ولد خليفة يميز، إذن، بين التلوث اللغوي والتهجين، وبين الافتراض اللغوي باعتبار هذا الأخير أمرا حاصلا بين اللغات، والثقافات، والحضارات عبر التاريخ. ومن جهة أخرى فهو ينتقد ظاهرة "اللجوء إلى العامية المهجنة الشائعة في المسرح والسينما وبعض أدبيات القصة والرواية بدعوى الإلتزام بالواقعية واستخدام لغة الناس كما هي لا ترقى بالمجتمع، بل تبقيه في أحسن الأحوال على ما هو عليه..".

فالدكتور ولد خليفة لا يوافق على الذرائعية العامية، والواقعية، ولكنه لا يميز بين الواقعية وبين الوقائعية؛ فالوقائعية تعني الالتزام بالمستوى اللغوي الدارج المتدني، أما الواقعية فتعني في مجال الأدب التعبير عن الموقف النقدي من الواقع، ولا تعني بالتالي الإلتزام بوصف، أو بنقل حيثيات المظاهر الخارجية السطحية في المجتمع بما في ذلك مظهر اللهجات العربية العامية في صورتها الرثة والبدائية.

وبهذا الخصوص فإن ظاهرة استخدام العامية في الآداب تبدو إشكالية عبر التاريخ البشري. من جهة فإنه ينبغي التفريق بين تطعيم عمل أدبي ما، سواء كان قصة قصيرة أو رواية أو مسرحية أو قصيدة، بعبارة دارجة لها "إيحائي" يضفي على النص الكامل نكهة، أو يجعله يؤكد صوتا محملا بتمايز وجداني، أو تاريخي، وبين إنجاز عمل أدبي بكامله بالعاميات الدارجة، وهناك نماذج أدبية لها وضع خاص في تاريخ حضارة معينة، وهي قد كتبت أولا بالدارجة التي كانت سائدة في عصر ما بين دارجات أخرى، ومن ثم تحولت تلك النماذج إلى لغة وطنية "فصحى" كما هو حال ما فعله دانتي "الشاعر الايطالي" الذي يعدّ أب اللغة الايطالية المتداولة الآن في الدولة الايطالية الحديثة والمعاصرة.

لا شك أن اللغة ترتبط إرتباطا عضويا بالنضج الاجتماعي، والتطور الثقافي، وبالمبادرة السياسية لخلق مجتمع تنتفي فيه الأمية، وجهل القراءة والكتابة، ويزدهر بين أوساط سكانه وازع المعرفة، والفكر والفن. وأكثر من ذلك فإن عدم محو الأمية، بنمطها اللغوي والتبعيري وأنماطها التقنية والتكنولوجية والمهنية والقانونية، وما يتصل بفروع الثقافة الاجتماعية اليومية، من بين الأسباب الأساسية التي تبقي مجتمعاتنا في طور العاميات الدارجة.

إن التحول الثقافي واللغوي والمعرفي والمادي والتقني والمهني الأكثر تطورا وتحديثا، هو الكفيل بتجاوز الأمية اللغوية، والتلوث الذهني معا في أي مجتمع.




نقلاً عن
 موقع العرب إونلاين