الخصوصية في الثقافة القومية العربية
الأربعاء, 05-مايو-2010
إسماعيل الملحم -
مهما اختلفت المعايير المستخدمة في تصنيف الثقافات البشرية من حيث التي تتبوؤها، أو من حيث وضعها في إحدى خانتين ( ثقافة متقدمة، ثقافة متخلفة )- مع التحفظ على هذا التصنيف – فإن الثقافة تبقى أحد أهم الأسباب التي تحفظ لأمة من الأمم تماسكها وتحصينها من عوامل التشرذم والتفتت والانحلال.
بالثقافة تحافظ المجتمعات على تماسكها ،وبها يتحول الكائن البشري كونه اجتماعي، فأحد أهم سمات الكائن البشري كونه اجتماعيا أي أنه مندمج في ثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه، وهذا ما يعنيه(هوين- كاو تري) حين يقول:
<< نحن لا ندرك حقاَ فرادة الدور الذي تلعبه الثقافة في حياة شعب من الشعوب إلا عندما تتعرض هذه الثقافة وآلياتها غير المنظورة إلى الانحطاط إما بفعل غزو التكنولوجيا وإما نتيجة انتهاج سياسة مقصودة من الاعتداء الثقافة من أجانب أو على أيدي الوطنيين أنفسهم باسم العلم أو باسم ما يسمى تقدماَ000 >>(1)
وتعاني شعوب كثيرة تحررت في القرن العشرين ، من جبروت الهيمنة الاستعمارية من مشكلة تتعلق بوجودها ذاته تتحلى في الهوية الثقافة. فهي سعيها إلى الحركة والانفتاح على الحضارة المعاصرة تجد نفسها وهي في الفراغ الثقافي بسبب من انبهارها بعظمة التقدم العلمي والتقني الذي بلغته الحضارة المعاصرة0 فتشعر بأنها تكاد تفقد هويتها، خاصة وأن مراكز التفوق التقني المعاصرة تمعن في تفسير أسباب تقدمها فتحيلها إلى عقلانية من سماتها سلطان العقل والعلم دون <<الإحاطة الشاملة بتعدد العقلانيات ، إذ لم يعد هنالك عقلانية علمية واحدة >>(2)0 وتشتد هذه المعاناة حين ينحصر النظر إلى الثقافة من خلال عنصري العلم والتكنولوجيا فحسب، إذ أن الثقافة من منظور تاريخي شامل تبدو أكثر شمولية وعالمية0
وتجد أمم الأرض كافة نفسها في هذا العصر أمام المشروع الثقافي العربي بكل جبروته وسطوته وآلياته مصدراَ من مصادر الانبهار ، وكثيرة هي الشعوب التي تناست خصوصياتها وتنازلت عن كثير من مقومات هويتها فخسرت نفسها ولكنها لم تجد ضالتها في المشروع المذكور كونه لا يتعامل مع الآخرين إلا من باب الاستعلاء والإمعان في النهب الذي يطال كل شيء بما في ذلك المقومات الثقافية لشعوب الأرض خارج دائرته الخاصة 0 وهو في أساليبه تلك يعي تماماَ المدى الذي تمثله الذاتية الثقافية للشعوب التي استعمرتها ، من معوقات لاستمرار مشروعه ونموه 0 وقد تنوعت وسائل العدوان على ثقافات العالم الذي ما يزال يسمى بالعالم الثالث بوسائل شتى ، من الحملات التبشيرية التي تسترت وراء الدعوات الدينية إلى إشاعة نظم قيميه تتعارض مع المبادئ الأخلاقية لهذا العالم 0وقد تعاظم السطو الثقافي بفضل التقدم الهائل لأصحاب المشروع الغربي من حيث امتلاكهم للتكنولوجيا المتطورة وعلى الأخص وسائل الاتصال 0 فمن خلال وسائل الإعلام المختلفة يصدَر المشروع الغربي ثقافته وقيمه ونظام حياته في قالب جذاب براق حذر أو لأماني الشعوب وآمالها ومرتكزاتها الثقافية0 ولا يكتفي بذلك فحسب ولكنه حين يعوزه الأمر أبداَ عن استخدام الأسلحة التدميرية متخلياَ عن لبوسه الظاهري الذي يدعي الحرص على حقوق الإنسان وعلى القيم الديمقراطية 0----------------------------
(1)التربية الجديدة – العدد 25 –23.
(2) – المصدر السابق.


ولعل بروز ( النظام العالمي الجديد) الذي يخضع- - شئنا ذلك أم أبينا – إلى سلطانه المؤسسات الدولية ويسوق بعصاه من يشاء حيث يشاء أو أنه يتصرف في كثير من الأحيان وفق هذا المبدأ يبرز إلى حد كبير ما ينطوي عليه المشروع الثقافي الغربي من عنجهية ونزعة عدوانية على مصالح الشعوب الثقافي المغلوبة على أمرها ، خاصة تلك تنتمي إلى الجنوب0
ولن تجدي سياسة غمر الرأس بالرمل أحداَ 0 التخلف الاقتصادي والاجتماعي لن يفرح إلا مزيداَ من التخلف والتبعية0 والخروج من شرنقة التخلف والتبعية لا يكون ممكناَ إلا عبر الوعي بالأزمة المستحكمة والوعي بالدور الحيوي للثقافة التي تحفظ للأمة وحدة شخصيتها وتمنع عنها سيل الغزو الثقافي الذي يستهدف في النهاية وجودها 0 زلن يجدي التعري من التراث والانغماس في حضارة العصر فتيلاَ 0 لأنه يستحيل على الذات الخروج من جلدها مهما تراءى أن ذلك ممكناَ 0 في كتابه
(خوف الحرية) يشير (أريك فروم ) إلى مخاطر فقدان الذات وإحلال ذات أخرى مكانها بقولة:
<< إن فقدان الذات وإحلال ذات مكانها يدفع الفرد إلى حالة من انعدام الاطمئنان ،
فالشك يلاحقه ، إذ أنه أساساَ مرآة لتوقعات الآخرين منه بينما هو فقد هويته إلى حد كبير ، وفي سبيل تجاوز الهلع الناتج عن خسارة الهوية هذه نراه مضطراَ للبحث عن
هوية ما من خلال قبول واعتراف مستمرين به من قبل الآخرين >>0
فالوعي الثقافي يكون وعياَ بخصوص الثقافة القومية ، لكن هذا لا يعني رجعة إلى الوراء وتمسكاَ بكل ما في التراث وتنكراَ لطبيعة العصر وثقافات الأمم الأخرى 0
فتحصين الشخصية القومية يكون بالحرص على الخصوصية الثقافية للأمة مع إفساح
المجال واتباع كل الأساليب الممكنة التي تتيح لها التواصل مع ثقافة العصر واتجاهاته أي أنها حين تمد جذورها إلى تراثها لا تنغلق على ذاتها 0
ويحيلنا ذلك إلى البحث في قدرة الأمة على الإنتاج ، وفي تحديد بعض ملامح التمايز الثقافي وعلاقته 0 بمفهوم الشخصية المنتجة ثم إلى إلقاء الضوء على عوامل الضعف في الفكر العربي المعاصر وفي تجليان ذلك على ضعف الإنتاجية ،وسيقودنا البحث في أسباب ضعف الإنتاجية العربية وفي آفاق الثقافة العربية واتجاهاتها إلى الحديث عن دور الإبداع في بناء المشروع الثقافي العربي والحاجة إلى الإبداع في العصر التكنولوجي ، مع رسم ملامح الطريق إلى تفتح الفكر المبدع من خلال التعرف إلى أهمية تعلم حل المشكلات والاهتمام بفعالية التفكير وتدريب المتعلمين على التفكير ونوع الطرائق التي يحتاجها وشروط تعلمه0
إن ما يدفعنا إلى سلوك هذه الطريق التي أشرنا إلى أهم معالمها نابع من إدراك الدور الذي يقوم به التمايز الثقافي بين الأمم في الحد من تطرف أحدها وغلبته على ثقافات الأمم الأخرى وفرض نموذج وحيد لا يكون معه أي إمكان لمشاركة بناء ة من الثقافات الأخرى في إنماء حضارة إنسانية تحفظ للإنسان في أية بقعة من العالم حقه في الحياة والإسهام في تقدمها وجعلها جديرة بأن تعاش0


وليس هذا الذي نهدف إليه بدعة وإنما هو مع تجاوب اتجاهات العصر حيث يزداد اهتمام الشعوب قاطبة بتراثها وهي تسعى من خلال مفهوم التنمية لأن تحترم شخصيتها الثقافية 0 وهذا الاهتمام نابع من حاجة أساسية لأي جماعة تمثل فيما يسمى داخل علم النفس الفردي (بالحاجة إلى تأكيد الذات ) وعلى المستوى الجماعي
يسمى (تأكيد الهوية القومية ) من خلال التواصل مع إرث الأمة المادي والفكري
وهذا الأمر نجده واضحاَ في سعي الشعوب الحديثة الاستقلال للبحث عن جذورها
الثقافية كي لا تجد هويتها منقوصة
ويشكل التمايز الثقافي عقبة كأداء في وجه مشاريع الهيمنة والاستعلاء التي يمارسها المشروع الثقافي العربي بخاصة في نمطه الأمريكي فمجتمع القارة الجديدة – في الولايات المتحدة الأمريكية – مجتمع بلا جذور يقوم على ذرائعية لا تميز في مجال القيم الجوانب الروحية من الجوانب المادية ولا تقيم لهل وزناَ ، مثل هذا المجتمع الذي يتنكر للتمايز الثقافي ينطلق من موضوعة –غير صادقة بذاتها- تتمثل في اعتقاده بتفوقه وذكائه وإقامته لمفهوم في التمايز الثقافي يتمثل في الدرجة فحسب و لا يقيم وزنا للتمايز الكيفي والنوعي
ولا يعدم المشروع الغربي المذكور أنصاره خارج حدوده من أولئك الذين بهرهم تقدمه في المجالين العلمي والتقني لذا فهم يشددون علا أهمية الانسلاخ عن الماضي والركض وراء -مود يلات- المشروع إياه لا تعني الحياة في العصر الانخلاع من التمايز ولا تخلي الجماعات و الشعوب عن وحداتها ونحللها
إن التمايز الثقافي من حيث أنه يستند إلى عمليات نفسيه و اجتماعيه هو دليل نمو واتجاه بالا مه نحو النضج وكلما كان التمايز واضحا فانه يعبر عن مستوى افضل في قدرة صاحبه –فردا كان أم جماعة - على تنمية الجوانب الانفعالية وألوان السلوك الدفاعي ، مما يمكن الفرد أو الجماعة من التميز عن الآخرين ويزيد في قدرته على التنظيم والتحكم في الجوانب الرئيسية للشخصية في علاقاتها المختلفة0
يعبر الباحثون في العلوم الإنسانية عن سخطهم على كل الأنظمة التي تسعى إلى صوغ الأفراد لديها وفق قوالب محددة من خلال فضحهم للمخاطر المترتبة على ذلك من إماتة القدرة على الإبداع والتعبير وقسر الفكر وغيره 00 أيكون ذلك مقبولاَ إذا طبقناه على الجماعات والشعوب؟0










الخصوصية في الثقافة العربية
--مظاهر ضعفها والأخطار التي تهددها –



ليس بخاف على كل من له عين بصيره ما تتعرض له الشخصية القومية العربية ، من محن ، وما تزال بالعرب من كوارث خلال القرن العشرين بدءاَ من حملات التتريك التي اندفع في تعميمها الطورانيون في أواخر عهد الخلافة العثمانية مروراَ بعمليات التشويه والتزوير التي أسس لهل عملاء المخابرات البريطانية بوجه خاص عندما نشروا جواسيسهم في الجزيرة العربية ، إلى معاهدة سايكس بيكو – ووعد بلفور ثم بظهور الدويلات الإقليمية التي لا تزال قائمة إلى يومنا هذا ،والتي اكتسبت نمطاَ من الشرعية صار له حواريوه والمنافحون عنه والمؤد لجون له في أكثر من اتجاه ،وليس آخر ما جدَ على الساحة الثقافية العربية بعد ما حصل في حزيران (يونيو) 1967 – وما نتج عنه من حروب إقليمية وطائفية وصراعات أيديولوجية فقط تساقطت أوراق كثيرة ومعها كانت الثقافة العربية تنزف حتى أصبح المشككون بوحدتها يجدون الدفاع عن آرائهم ومعتقداتهم ومراميهم لا يلاقي من المصاعب إلا الشيء اليسير 0 فتشتيت الثقافة العربية في قنوات تلتقي بجنح كل منها نحو غاية مغايرة للأخرى لم يعد شيئاَ مستتراَ 0 والهدف من ذلك تفشيل المشروع الوحدوي القومي العربي وإسقاطه 0
فما اتجاهات الانغلاق القطري وتحكيم المصالح المحلية وجعلها في الترتيب أسبق على المصلحة القومية ، والادعاء بالانفتاح على تيارات الثقافة العالمية والغرق فيها إلا بعض من أشكال الاعتداء الثقافي الذي يحل بأمة تتعرض لصنوف كثيرة ومتنوعة من عدوان يستهدف وجودها ذاته



مظاهر الضعف والتبعية في الفكر العربي المعاصر
ثمة ظواهر كثيرة يرى المرء أنها أحد أسباب تخلف الثقافة العربية وتبعيتها منها :
1- القطيعة في الفكر القومي العربي المعاصر : بدأت أفكار القومية العربية وما يتعلق بها من حديث عن النهضة العربية والانبعاث القومي وما إلى ذلك من مفاهيم ومبادئ منذ نهاية القرن التاسع عشر وتعاظم ظهور هذه الأفكار مع إشراقة القرن العشرين 0 استندت الدعوات القومية إلى ركائز تاريخية ولغوية ، ولكن أبرز ما اتصفت به هذه الدعوات وما ارتبط بها من حركات أنها جميعاَ كانت تبدأ من الصفر تقريباَ ترمي بكل ما جاء به معاصروها أو من سبقها بفترة زمنية ليست طويلة بقصد منها إلى البرهنة على صدقها وعلى أنها التي فيها البلسم والشفاء0
لا ينكر أحد ما لشخص مثل (ساطع الحصري ) من باع طويلة في التنظيم للفكر القومي وفي الدفاع عن العروبة والتأسيس لبحوث ودراسات في الفكر القومي والثقافة القومية وفي استشرق المستقبل ووضع التربية والكشف عن دورها في بناء الصرح القومي وفي تربية الأجيال على الفكر القومي العربي0
لكن الرجل أهمل وعومل من بعض دارسي فكره على انه ظاهرة منقطعة عما قبلها وما بعدها وفتش له عن مصادر لفكرة خارج إطار الاهتمام القومي0
ولم يكن الأمر مقتصراَ على الدعوات المعادية للوحدة العربية والقومية بل آن الحركات القومية ذاتها تناسته وركنت تراثه في زوايا مهملة0
ومن خلال تصنيفات غير دقيقة موضوعة في غير إطارها صنف رجل النهضة العربية بين عميل وسلفي وذي توجه إقطاعيي أو بورجوازي وغير ذلك 0
علماَ أن العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر والعقدين الأول والثاني من القرن العشرين كانت غنية بالأفكار والكتابات والممارسات النهضوية التي لم تقم أية مؤسسة رسمية أو غير رسمية في إنشاء مراكز للبحث في تلك الفترة الاستفادة من كتابات أولئك الرواد وأفكارهم في البحث عن أسباب تعثر نهضتنا أو( استشهادنا الثقافي ) كما يقول أحد الكتاب 0 فيما خلا ما صدر عن وزارة الثقافة في سورية من جمع كمية لا بأس بها من تراث تلك الفترة 0 ومع ذلك فإن تحليل تلك الكتابات ووضعها في سياقها أمر لا غنى عنه كي نتغلب على تلك الفجوات القاتلة في فكرنا القومي والاجتماعي ولنتخلص من وسائل الرقيع وملء الفراغان وفق اجتهادات شخصية أ اعتبارات قطرية أ وإقليمية أو مذهبية وغير ذلك وإلا فأين الأبحاث التي تناولت بالدرس والتحليل والنقد والتقويم كتابات عبد الرحمن الكواكبي وشكيب ارسلان والتراث الغني الذي تركاه ،إضافة لما خلفه اليازجيين وآل البستاني وسواهم مروراَ بساطع الحصري وعبد الرحمن الشهبند ر وغيرهم ممن تتعرض كتب التاريخ المدرسية لعد أسمائهم أحيانا دون أن تكلف نفسها إضافة نماذج أو نصوص مما كتبوه لإعطاء تلك الحقبة من الدرس والتحميص0 فبينما نجد لدى الصينيين والكوريين الجنوبيين وحدهم على سبيل المثال – أكثر من عشرين معهداَ متخصصاَ في التدريس والبحث والدراسة للوطن العربي وحدة نجد أن مثل هذا لا يعطي ما يستحق من الاهتمام في المكان الذي هو بحاجة إلى معرفة أكثر من أي مكان آخر0
ألم يكن في ما طرحه ألئك الرواد الأوائل من اللبنانيين في القرن التاسع عشر , إن في لبنان ، وإن في مصر بعد نزوحهم إليها ، ما يستحق الدراسة بخاصة وأن أكثريتهم قد التزمت بالمنهج العلماني في التفكير ، بغض النظر عن البواعث التي جعلتهم في الطرف النقيض لما أعلن في الدولة العثمانية عن فكرة الجامعة الإسلامية ؟ واللامركزية التي تمثلت في دعاوى الجامعات العربية وفيما خلفه الكواكبي من تراث فكري خاصة في كتابه( طبائع الاستبداد ) ومن بعده ( آم القرى ) ، لم تحفظ هي الأخرى إلا بالعرض فقط دون أن توضع في مكانها كمرحلة نضوج الوعي القومي العربي ، وعلى ما أظن فإن الكتاب الذي أصدرته اللجنة العليا لحزب اللامركزية تحت عنوان << المؤتمر العربي الأول—القاهرة 1913 >> لم تعد طباعته رغماَ عن هذا المجال 0 ومن بعد ذلك لم تلق المقالات التي دبجت عن الفكرة القومية في جريدة ( القبلة) الحجازية التي شارك في تحريرها عضوان من أعضاء مؤتمر باريس هما محب الدين الخطيب وفؤاد الخطيب ، من العناية أكثر من كتاب <<المؤتمر العربي الأول >> 0 وقد جاء في إحدى مقالات << أحمد شاكر الكرمي >> المنشورة في << القبلة >>:
<< الأمة العربية ترجع إلى أصل واحد وتتكلم بلغة واحدة وهذا من أهم دواعي اجتماع الأمم ، فهي إذا تملك من دواعي الاتحاد الطبيعية ما يجعلها مستعدة لقبول الدعوة إلى الجامعة العربية أتم الاستعداد>>(!).
وفي هذا الإطار نذكر الكتاب الهام الذي صدر باللغة الفرنسية للكاتب نجيب عازوري 1881 –1916 ) وعنوانه الكامل ((يقظة الأمة العربية في تركية الآسيوية إزاء وجود مصالح لكل من الدول الأجنبية والكرسي ا لرسولي والبطريركية المسكونية واشتداد التنافس فيما بينها >> ومؤلف الكتاب شخصيه أثير حولها نقاشات كثيرة في فترة ترجمة الكتاب إلى العربية التي تأخرت عدة قرون 0(2)
وقبل ذلك في كتاب ( جورج أنطونيوس )<< يقظة العرب >>(3) الذي صدر في لندن عام 1938 والتي يقول ( اسعد رزوق ) أنها أهملت الإشارة ( إلى الصراع الذي تراءى لنحيب عاز وري آتياَ لا محالة بين ظاهرة القومية العربية (العروبة) وبين المساعي
(1)- وليد قزيها: المستقبل.العربي. العدد 4 –ص 25.
(2) – صدرت ترجمة الكتاب عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر --- بيروت 1978 – قام بالترجمة( د. أحمد أبو ملحم).
(3) –جورج انطونيوس(يقظة العرب) ترجمة ناصر الدين الأسد وإحسان عباس, دار العلم للملايين ط2 بيروت 1966



اليهودية الرامية إلى إنشاء دولة صهيونية في فلسطين )(1) نجد ذلك فيما كتبه عاز وري :
<< إن ظاهرتين هامتين ، متشابهتي الطبيعة بيد أنهما متعارضتان ، لم تجذبا انتباه أحد حتى الآن تتضحان في هذه الآونة الأخيرة في تركية الآسيوية، ، أعني يقظة الأمة العربية وجهد اليهود الخفي لإعادة تكوين مملكة إسرائيل القديمة على نطاق واسع ، ومصير هاتين الحركتين هو أن تتعاركا باستمرار حتى تنتصر إحداهما على الأخرى 0 وبالنتيجة النهائية لهذا الصراع بين هذين الشعبين اللذين يمثلان مبدأين متضاربين يتعلق بهما مصير العلم بأجمعه >>
أين من هذا ما نقرؤه من كتابات وتصريحات المهرولين بعد حوالي القرن من ظهور كتاب عاز وري ؟0
2 – البحث عن الذات خارج نموذج الفكر العربي :
------------------------------------------------ ينطبق ذلك على الإصدارات الثقافية والخطابات الأيديولوجية " وإذ أنها كانت تبشر دوماَ بالمخلص الذي هو في نموذج الآخرين 0 لعل نموذجها الأول كان الغرب الأوربي الذي انخدع فيه الفكر العربي أملا فيه الخلاص من التخلف الذي سببه الحكم العثماني بشتى أساليب تسلطه ومحاربته لكل فكر تنويري وتعميمه لنموذج تسلطي متخلف مكابر معاد لكل ما هو معقول 0 وقد لاقت الثورة الفرنسية صدى حسنا في أذهان الفئة المتنورة وكذلك كان للثورة الأمريكية صداها 0 فإذ يجد العرب أنهم قد خدعوا بالسياسة الإنكليزية – والفرنسية ووقعوا في أحابيلها الظالمة يمم بعضهم وجهه شطر القارة الجديدة000
وقد تبلغ ذلك الانبهار بالنموذج الثقافي الذي ساد في هذين النموذجين من تمجيد العقل والعلم حتى غدوا لدى البعض صنمين، وأصبح هم الكاتب والمفكر أن يكثر من استخدام مفاهيم العلمية والموضوعية والعقلانية ، ولم يكن ذلك لديهم في معظم الأحيان سوى اهتمام بالشكل على حساب المحتوى وقفز فوق الواقع 0 وسرعان ما انتشر بين ظهراني
(1)—أسعد رزوق : المستقبل العربي العدد 4 ص 86 ومابعدها.

الثقافة العربية والفكر العربي متحزبون إلى هذا المذهب دون ذاك00 بل أن المفكر الواحد كل يوم يجدف بمجداف جديد 00وقد لا نقع على واحد من المشتغلين بالفكر يثير قضية من القضايا بهدف معالجتها معالجة جديدة أو إلقاء ضوء جديد عليها وإنما محاولات لقسر الواقع والتفتيش فيه عما تنطبق عليه نظرية أو فكر أو فلسفة مما أخذ عن النموذج المستورد00000
ففي مجال الفلسفة مثلا تجد لدى بعضهم من << تنم النظرة المعينة للفلسفة لديه- عن نزعة علموية ، أي تتخذ من المعرفة العلمية نموذجاَ لكل أنواع المعرفة ، فلا تقف من العلم موقفاَ نقدياَ بل يصير هو معيار لكل نقد 000(1)
وليس الانبهار بالنموذج السوفيتي إلا أحد أشكال الانبهار بالنموذج الغربي إياه 0فاصتنع الفكر الربي من تاريخية قطعها من سياق العام وفصلها عن نظريات هذا النموذج 00 فنجد في ثنايا هذا النتاج الفكري تعبيرات معاصرة يضفيها هذا الباحث أو ذاك على أنظمة أو حركات أو تصورات ماضية 0ألم يعد البعض ما اتصف به الخليفة الراشدي عمر ابن الخطاب من عدل وإصغاء للرأي الآخر أنه ديمقراطية مبكرة في التاريخ 00 وأن أبا ذر الغفاري هو أول الاشتراكيين بل أنه ماركسي قبل أن يولد ماركس بقرون ؟00 وانتشرت بيننا فلسفات متنوعة رصفت رصفاَ دون النظر إلى أوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية وظروفنا وتاريخنا00 وكثرت المصطلحات ذات الصفة التقريرية وتجاوز بها البعض إلى ألفاظ تقويمية تفرض فرضاَ فجرى تصنيف الناس وفقاَ لها بين يمين ويسار ، وتقدمية ورجعية 0
(1) عادل ظاهر:دور الفلسفة في المجتمع العربي – بحث قدم للمؤتمر الفلسفي العربي الأول الذي نظمته الجامعة الأردنية من 5 – 10 كانون الأول( ديسمبر) 1983 – ضمن البحوث المنشورة في الفلسفة في الوطن العربي – منشورات مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – أيلول ( سبتمبر ) 1985.



ويمكن تلخيص موقف الفكر العربي المعاصر من الآخر ( النموذج الغربي )—وهو ما يطلق عليه الأستاذ( حسن حفني ) ظاهرة التغريب-بما يلي:
 اعتبار الغرب النمط الأوحد لكل تقدم حضاري ولا نمط سواه0
 اعتبار الغرب الإنسانية جمعاء وأوربا هي مركز الثقل0
 اعتبار الغرب المعلم الأبدي واللاغرب التلميذ الأبدي (1)0
قد استتبع التتلمذ على النظريات الغربية المنداة بنموذج تنموي دون آخر ، وإذ تخيب بعض النماذج الأمل ، لا يعاد النظر فيه وفق نظرة نقدية بل تنتقل التبعية إلى مركز آخر 0 وقد ظهرت في ساحة الفكر العربي دعوات إلى النموذج الصيني والنموذج الياباني وأحياناَ النموذج الكوري الشمالي 00
ولعل أخطر ما أصاب العقل العربي هو الحالة من عدم التوازن التي خلفها سقوط المنظومة الاشتراكية وما تبعها من حالات التداعي والانهيار والإعلان عن الانضواء إلى سلة الإمبريالية الأمريكية والتوجه بالآمال إليها على أنها المخلص الأوحد رغماَ عن تاريخها المشبوه والمعادي للعروبة بشكل خاص 000
(1) – حسن حنفي:موقفنا الحضاري: من بحوث المؤتمر الفلسفي العربي الأول – المصدر السابق ص 30 .


فكأن ظاهرة التواكل قد أضحت مرضنا المزمن ونحن نطلب العون دائماَ من الخارج وكأن أوراق خلاصنا هي في أيدي غيرنا 0وقد كان علينا منذ البداية أن ندرك أن الأوراق << ليست في أيدي أمريكا ولا في الاتحاد السوفيتي 00 إن الأوراق في أيدينا>>(1)00
هذا البحث عن الذات خارج نموذجنا أدى بالمثقفين العرب بصورة عامة إلى الاستهانة بوحدة شخصية الأمة العربية في جو من الدعايات المجنونة لأنماط مستوردة وتابعة ، وآل ذلك إلى السقوط وإلى الضياع والتخلف وسيادة مفاهيم التنظيم القطعي الذي يستند إلى أمجاد من التطور السطحي والتنمية الفارغة من مضمونها الإنساني مستخدماَ ألوانا فاقعة يكرس حالة من التبعية والتخلف000
وكم كان حرياَ بنا أن نستقرئ النماذج الأخرى << لا كوصفة جاهزة إذا ما طبقناها نجحنا وإن لم نطبقها فشلنا ، بل كمنظور تاريخي يتيح لنا استشفاف التجربة التاريخية لدول سبقتنا في مضمار التنمية ورفع مستوى المعيشة للغالبية من سكانها 0
ومن خلال هذا الاستقراء نخرج بمنهج تحليلي نسلطه كالضوء الكاشف على واقعنا وتاريخنا << ونحاول من خلاله دراسة العوامل التي ما زالت تكبل الوطن العربي في واقع التخلف>>(2)

3—القطيعة بين المؤسسات التثقيفية والاتصالية في الوطن العربي
هذه القطيعة ليست قطيعة بين مؤسسات هذا القطر ومؤسسات القطر الآخر فحسب بل هي قطيعة داخل القطر الواحد 0 كل يغني في واديه ،علاقات شبه مقطوعة أو هي مقطوعة بين مؤسسة وأخرى وبين قطاع وآخر ، التعليم الجامعي لا صلة له بالمجتمع على الغالب 0 الجامعات جزر في محيط إن وجدت لا تتعلق على الأغلب بمحتوى التعليم أو طرائقه، إنما هي علاقات توظف لصالح مكاتب وتلبي مطالبها ليس أكثر0000
(1) – سمير أمين: ماذا يحدث في الإتحاد السوفييتي – المستقبل العربيع 114 ص 57.
(2) – ناديا رمسيس: النظرية الغربية والتنمية العربية:المستقبل العربي ع64 ص 50.



يكاد يشكل المثقفون خليطاَ غير متجانس، إن من حيث محتوى الثقافة ،أم من حيث الثقافة أم من حيث تفاعلهم مع الثقافات المطروحة 0 مثقف سلفي يتصف سلوكه غالباَ بالانفعالية اعتاد ترديد الكليشهات الجاهزة من النصوص ، لا يخرج من النص ومن إطار تفسيرات عفا عليها الزمن0
يتجه السلفيون بكافة اتجاهاتهم الدينية والحزبية الأخرى – ليست السلفية مقصورة على اتباع الأيديولوجيات الدينية ، بل هناك سلفيون ماركسيون وقوميون –بشكل متزايد إلى الاستشهاد بالنصوص << من أجل حسم أية مشكلة فكرية، ويعكس منهج الاستشهاد اتجاها إلى التخويف 00 ويمثل نوعاَ من الإرهاب>>0(1)
ومن المثقفين من أعادت تصديرهم إلينا بعض الجامعات الأجنبية فعادوا إلينا أشد جهلا وأكثر تخلفاَ مما كانوا قبل إيفادهم 0
وفي مجال الإدارة أو العمل في المؤسسات العامة لا يتخذ على الأغلب من درجة النمو الثقافي معياراَ للتكليف بالمهام والمسؤوليات مما يشجع على سيادة الكسل والركود 000
ومن تمظهرات القطيعة الثقافية أن المنظمات التي يؤسسها المثقفون ( اتحادات الكتاب والصحفيين ) سرعان ما يتحول العمل فيها إلى نوع من العمل المكتبي الذي لا يسمح بنهوض منتسبيها0 وهناك الكثير من الظواهر التي تنتج تخلفنا الثقافي :
(1) ---فؤاد زكريا: الفلسفة والدين في المتمع العربي المعاصر- في بحوث المؤتر الفلسفي العربي الأول( مصدر سابق ص46


منها عمليات الاقتباس والترجمة التي لا تستند إلى أسس واضحة وثابتة وإنما هي على الأغلب والأعم تتم بمبادرات شخصية تتبع ( الموضة ) وفي مجال الاختيار تستسهل موضوعات تتبناها 00 وهذا واضح في مجال الرواية والقصة والشعر والسينما والمسرح وغيرها لا يستثنى منها الأدب الموجه للأطفال 0 ومنها تسارع دور النشر التجارية وغيرها، مما يفترض أن تكون صمام أمان في وجه المتاجرة بالثقافة إلى ترويج البضاعة السائدة دونما نظر إلى أوليات في عملية الترجمة والاقتباس تفترضها الحاجات الملحة أو الأكثر إلحاحاَ00
4—الفعل الثقافي العربي ما يزال فعلاَ فرديا َإلى حد كبير والمقصود بالفعل الثقافي ذلك الفعل الذي يهدف إلى تحليل البنى الاجتماعية العربية ودراسة أسباب تخلفها وأدوات إنتاج تبعيتها ليتمكن من تلمس أسباب الخروج من وضع التردي إلى الفعل والإسهام في عملية تنموية شاملة 0 حتى الآن يبدو التعاون اللازم بين مؤسسات البحث العلمي العربي ما يزال في أدنى درجات التعاون المأمولة، ناهيك عن تعذر القيام بأبحاث تتناول مفصل هامة من حياتنا الاجتماعية والثقافية بسبب تخوف السلطات الرسمية ( التي إن سمحت إحداها بهذا الفعل أو ذاك إنما هي تريده أن يصب في خانة أهدافها ويخدم خططها الإعلامية ) لإحداث المزيد من الدعاية والتهويش 00 إن مثل هذه الأجواء لا تثمر أبحاثاَ قادرة على الإسهام في العمليات التنويمة كما أن سيادة مثل هذه الأجواء لا تنتج – أصلاَ – مثقفين حقيقيين كما يقول (
( م0 ا0 ماشيوكي ) 0
<< لقد كانت الفاشية غير قادرة على إنتاج طبقة حاكمة سياسية وثقافية تؤمن لها الهيمنة الأيديولوجية 00 وعندما أطيح بموسوليني عام 1943 لم نجد مثقفاَ واحداَ يقرأ أنه كان معه >>0(1)
(1) –غسان سلامة: المثقفون – الفكر العربي المعاصر –ع1 –ص 40




والساحة الثقافية المعاصرة هي ثقافة على الأكثر موجهة إلى نخب معزولة عن الجماهير المتروكة لعفويتها بدون سلاح أمام نظام اتصال عالمي يهدف إلى السيطرة وتفريغ الجماهير من قدراتها التي يمكن أن تؤثر على مسار الحراك الاجتماعي وثقافة الجماهير اليوم تؤسس لها وسائل الاتصال الحديثة ومراكز المعلومات المهيمنة بالسيل المتدفق من أفلام الكارتون والدعايات المتلفزة للسلع والمصنوعات الاستهلاكية ، والأفلام التي تحكي قصص الجاسوسية والخوارق0 أي أن مخرجات هذه الوسائل لا تؤدي في النهاية إلى تكوين اتجاهات سلبية من خلال ما بات يعرف ببرمجة السلوك الذي يجد منطلقاَ له من خلال المدرسة السلوكية في علم النفس حيث ردد ( واطسن) في كتابه ( السلوكية ) قوله:
<< لو وضع تحت تصرفي اثنا عشر ولداَ يتمتعون بصحة جيدة وبنية سليمة، وطلب مني أن أعلمهم بالطريقة التي أعتقد أنها المثلى للتعلم ، فإني قادر بطريقتي هذه بحيث يصبح أي من هؤلاء الأطفال مختصاَ في المجال الذي أختاره له 0 كأن يكون طبيباَ أو محاميا أو فناناَ أو00 بغض النظر عن مواهبه أو ميوله ، أو قدراته أو مهنة أبيه،
أو أي من أسلافه أو الجنس الذي ينتمي إليه>>0 أي أن الرغبة في تغيير سلوك شخص ما أو تعديله ، لا تحتاج سوى تغيير ظروفه البيئية0
فالإنسان كما يقول (جلبرت سلدز) ابن الظروف : << فلو غيرنا بيئات ثلاثين طفلاَ من أبناء قبيلة ( الهونتنوت) ، وهم شعب يعيش في جنوب أفريقيا ، وثلاثين طفلاَ من أبناء أرستقراطيي إنكلترا ، فيصبح الأرستقراطيون (هونتنوت) من كل النواحي العملية كما سيصير الهونتنوت محافظين صغاراَ>>0
ويعد ( ف 0 ب0 سكنر) أول من تحدث عن تقنية السلوك البشري ، ففي مقدمة كتابه
(ما وراء الحرية والكرامة ) يقول :
<< ما نحتاجه تقنية للسلوك، إذ لا يكفي أن ندعو إلى استخدام التقنية مع تفهم أعمق للقضايا الإنسانية0 فتقنية الفيزياء وعلم الحياة لا صلة لهما بقضايا الإنسان ، مثل انهيار النظم التعليمية ، أو سخط الجيل الصاعد ، وما شابه ذلك >>0(1)
وفي تحديده لأهداف هذه التقنية يقول:
<< إذا ما استطعنا ضبط نمو سكان العلم بالدقة التي تضبط بها مسار سفينة الفضاء أو تحسين الزراعة ، إنه سيصبح ممكناَ حل مشكلاتنا بسرعة ، وأن قيام علم النفس يقتصر على دراسة السلوك الخارجي للكائن الحي ، ذلك السلوك الذي يمكن إخضاعه للملاحظة والمشاهدة والقياس وذلك كفيل به ليكون موضوعياَ محدداَ>>0
ولا ينفصل هذا الاجتهاد الموجه لهندسة الشخصية الإنسانية على المستوى الفردي عن السعي للتأثير في الشخصية القومية 0 وليس غريباَ أن تكون دراسة الشخصية القومية تحظى بالتفكير والاهتمام كما في أبحاث المدرسة السلوكية000
وقد ارتبط مفهوم البناء الأساسي للشخصية باسم ( كارد نر ) الذي يعزى إليه أنه أول من استخدم هذا المفهوم في كتابه( الرد ومجتمعه—نيويورك 1939 )0 وتبني
كارد نر) مع (رالف بنتون) تعريفاَ للشخصية القومية أصبح شائعاَ لدى العديد من المهتمين بهذا الجانب من العلوم الإنسانية ويتلخص ب( البناء الأساسي للشخصية يشير إلى تشكيل الشخصية الذي يشترك فيه غالبية أعضاء المجتمع ، نتيجة للخيرات التي اكتسبوها معاَ>>(2). وأن الثقافات تنتقل داخل المجتمع من جيل إلى آخر0000
(1) – إسماعيل ملحم: هندسة الإنسانية – مجلة العربي العدد 367 ص118
(2) – السيد ياسين: الشخصية العربية – ص 46 - دار التنوير – بيروت 1981.



أما مصطلح الطابع الاجتماعي للشخصية القومية فيرتبط ب(أريك فروم) الذي يعده النواة التي ينهض على أساسها بناء الطابع الذي يترك فيه غالبية الأفراد الذين ينتمون
إلى ثقافة ما 0 وكان ذلك رداَ على نظرية (فرويد) في الطابع أو تعديلاَ لها حيث تتكون من افتراضين الأول الطابع الديناميكي لسمات الطباع على أساس أنها ليست مجرد عادات أو سلوك اكتسب بالتدريب المبكر ويمكن طرحه جانباَ حينما تنشاَ أنماط
جديدة من الثقافة 0 والثانية أن كل الدوافع تجد جذورها في اللبيدو(الرغبة الجنسية )(1)
لا شك في أن ( السلوكية) والدراسات الخاصة بالشخصية القومية قد لاقتا رواجاَ واسعاَ في البلدان الغربية وعلى الأخص في الولايات المتحدة الأمريكية ، وأنها جاءت ملبية للأهداف السياسية فيها في الوقت الذي خرجت فيه ( الولايات المتحدة)
من عزلتها معلنة الطلاق لمبدأ مونرو ( أمريكا للأمريكيين) ، وداخلة في اللعبة الاستعمارية كلاعب رئيسي توجهه الاحتكارات العالمية والسياسات الاقتصادية للشركات الكبرى000
وقد ارتبطت طريقة ( كيسنجر ) في حله للمشكلات التي تهم الولايات المتحدة الأمريكية بعبارة ( الخطوة خطوة) أو ( الخطوات الصغيرة) مستفيدة من أبحاث سكنر في تشكيل السلوك والتي ترى أن التحكم في سلوك شخص أو جماعة أو ضبطه مرتبط بتغير الظروف ، وهذا يتطلب فهماَ دقيقاَ للعلاقة بين السلوك والبيئة)0
وعلى هذا الأساس يؤكد (سكنر) ـأن التعلم والإنتاج لا يكونان بنفخ روح الافتخار والكرامة ، وإنما باكتشاف الخطأ في ظروف المتعلم أو المتدرب0 ويسمي السلوكيين الأنماط السلوكية ، والظروف والطوارئ الاجتماعية التي تولد فيها ( أفكار الثقافة ) أما التدعيمات والتعزيزات التي تظهر فيها هذه الطوارئ والظهور فتسمى( قيم الثقافة)000
(1) – م . س: ص 51.




بعض صور تمهيد الثقافة القومية والاعتداء عليها:
---------------------------------------------------
الخصوصية الحضارية لأمم الأرض قاطبة ( إزاء ما تقدم في الفقرة السابقة) مهددة أكثر من أي وقت مضى من المركز المهيمن الذي يحتضن ويحتكر المعارف والمعلومات0 وليس خافياَ هذا التهديد الذي تعدى الوسائل الناعمة إلى فرض السيطرة بالقوة العسكرية حيناَ وبالمخاتلة السياسية حيناَ آخر 0فسياسة العنف عادت تتبوأ الوسائل المتبعة وأصبحت نمطاَ سائداَ في سلوك مراكز الهيمنة 0 وإنها باتت تستخدم العصا الفولاذية بشكل فج وصريح أحياناَ تحت ستار الشرعية الدولية وأحياناَ باسم حماية حقوق الإنسان ، أو محاربة الإرهاب، أو مخالفة ( القانون الأمريكي )0
وهي بذلك تهدف إلى طمس الهوية القومية للأمم الأخرى أو تشويهها لاندماج العالم في الواحد الثقافي على حساب الخصوصية الثقافية للآخرين0000
وقد يظن أن هذا لم بعد يحدث إلا بعد تهاوي المنظومة الاشتراكية وانفكاكها ثم انحلالها 0 إلا أن الحقيقة ليست كذلك ، فمنذ أعلن (روبوتوم) وهو نائب وزير خارجية أمريكي سابق قائلاَ :
<<أية سياسة ينتجها بلد منتج للنفط مخالفة لمصلحة إحدى الشركات البترولية الأمريكية هي--- أوتوماتيكياَ—مخالفة لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية أي محالفة للمصلحة الوطنية>>(1)0
o إن مصالح الولايات المتحدة إذاَ ممتدة إلى آخر الكون 000 وهي لذلك تتبع أساليب من التهديد متنوعة نذكر منها على سبيل المثال:

1—لا تتورع الإمبريالية الحديثة عن استخدام أشد الوسائل دماراَ من أجل تمرير
مشروعها الثقافي وتأمين السيادة له وتعميمها00
(1) صالح زهر الدين: النفط والكيان الصهيوني – مجلة استراتيجيا 0 ع 102 ص(80)

عندما ألقى سلاح الطيران الأمريكي القنبلة الذرية على اليابان حاسماَ بذلك الحرب العالمية الثانية لصالحة كأنه في نفس الوقت كان يعلن بأن الولايات المتحدة قد دخلت تاريخ ما بعد الحرب من باب العنف الأشد 0
تتابعت سلسلة الاعتداءات وسياسة العنف :الحرب الكورية ، الحرب الفيتنامية ،غزو غرينادا ، غزو بنما ، الغارة الجوية على ليبيا ، غزو نيكاراغوا ، سلسلة التدخلات المتواصلة على بلدان أمريكا اللاتينية ،الشروط المهنية في التفاوض والتعامل مع دول المنظومة الاشتراكية المؤودة، وما تفرع عنها من دول 00 سلسلة المؤامرات الظاهرة والمستترة على بلدان العالم الثالث 0 المؤامرات على دول عدم الانحياز ( الهند – مصر – الجزائر – إندونيسيا – يوغوسلافيا،00) أساليبها وحربها في الخليج

ماذا كان نصب المشروع الثقافي العربي في سلسلة العدوان الغربي ؟0 تعامل الغرب منذ البداية ربما لا يكون بعيداَ عن الأذهان أن الوطن العربي ما يزال منذ الحروب الصليبية تتناوبه موجات من الغزو المادي والثقافي ولا يزال 00
وليس غريباَ القول أن وحدة العرب السياسية والاقتصادية هي من منظور الغرب أمر
يستحيل السماح بتحقيقة0
عندما أعلن (ايزنهاور) بعد حرب السويس مبدأه المعروف يسد الفراغ بعد انحسار الاستعمار القديم ، ولاقى معارضة عربية عنيفة وشديدة ، لم تخضع الولايات المتحدة
للأمر الواقع ولكنها تمارس سياسة غير علنية للوصول إلى مرحلة يصبح فيها المبدأ
المذكور واقعاَ ملموساَ على الأرض وأظن أن ما آلت إليه الأمور اليوم وبعد أكثر من خمسة وثلاثين عاماَ ليس بعيداَ عن أهداف المبدأ المذكور (مبدأ سد الفراغ الناجم
عن رحيل الاستعمار القديم )0
ربما كان مبدأ ايزنهاور في حينه مجرد اختيار ولكنه فد تفرع عنه ومنه سلسلة غير متناهية من الدراسات والأبحاث والمؤامرات المتلاحقة التي اتخذت شكل العدوان
العسكري حيناَ ، وعمليات التهويش وأساليب من الإعلان متنوعة حيناَ آخر كانت كلها تهدف إلى خلط الأوراق وخلق نوع من عدم الثقة بين القوى الوطنية والقومية العربية إلى استعداء الأنظمة العربية الواحد ضد آخر000
ألم تشهد الساحة العربية تصدع جدار النهوض القومي والناس في كثير من الأحيان في غفلة من أمرهم يندفعون وراء شعارات مزوقة ويصفقون وهم لا يدرون أن ما يرونه ما هو إلا معاول هدم في الجسم العربي؟؟
ولم تكن الحرب المعلنة على العرب حراَ عسكرية واقتصادية فحسب ولكنها في الأساس حرب أخذت طابعاَ ثقافياَ0 كم تعرض مفهوم العربة ومفهوم القومية العربية
وهدف الوحدة إلى التزوير والتزييف والتشكيك 0 فكم سمعنا—مع الأسف من بعض المفكرين العرب صفات يطلقونها على الفكرة القومية والعمل القومي من شوفينية وتخلف وغير ذلك000
2—ومن باب التوضيح نشير فيما يلي إلى بعض الوقائع والوثائق التاريخية التي تؤكد كلها أن الرب مستهدفون في وحدتهم وفي شخصيتهم القومية وثقافتهم:
--- ما يزال الغرب محكوما بعقدة الخوف من نهوض العرب0 فهذا (نيتشة) يدل على هذه العقدة عندما يقول عن العرب:<<إن موجة من البربرية تقرع أبوابنا>>0(1)
(1) – أمانويل مانيه: في سلسلة محاضرات اليونسكو - منشورة في عدد خاص من المعلم العربي – ترجمها سامي الدروبي دمشق 1955.

 تشكيل ما يسمى بقوات التدخل السريع، والسعي المستمر للبحث عن قواعد عسكرية في المنطقة العربية،مبدأ كارتر المعروف بأمن الخليج ، وإعلان ريغان عن ضرورة إقامة قواعد عسكرية في الدول النفطية0
 جاء في تقرير لمبعوث مترنيخ إلى مصر عام 1833 :
 لا مفر من إقامة إمبراطورية عربية ، انبعاث الروح القومية العربية هي أول ما يلاحظه المراقب0
 في ذات الفترة ربط وزير خارجية بريطانيا بين الخوف من وحدة مصر وسورية أيام محمد علي وبين دعوته للصهيونية بهدف إعاقة هذه الوحدة0
 وفي تقرير للجنة الجامعة التي شكلتها حكومة ( تيرمان) عام 1907 من جامعتي لندن وباريس من الاختصاصيين في تاريخ الإمبراطورية ، جاء فيه أن مستقبل الإمبراطوريتين الفرنسية والإنكليزية مهدد في المنطقة المطلة على المتوسط من شرقه وجنوبه حيث يقطنها 35 مليوناَ من البشر ، وتتمتع بثروات طبيعية وبأسباب القوة والنهضة والوحدة00(1)
 وفي تقرير سري رفعه لورنس للمخابرات البريطانية في شهر كانون الثاني
 فبراير) 1912 0 جاء ما يلي :
 أهدافنا الرئيسية تفتيت الوحدة الإسلامية ودحر الإمبراطورية العثمانية وتدميرها0 إذا عرفنا كيف نعامل العرب وهم الأقل وعياَ للاستقرار من الأتراك فسيبقون في دوامة من الفوضى السياسية داخل دويلات صغيرة حاقدة ومتناثرة غير قابلة للتماسك :
 وكتب لورانس أيضَا إلى صديقته يقول
 وخاطرت لإيماني أن وقوف العرب إلى جانبنا هو عامل حيوي لتحقيق أملنا بانتصار سريع بخس الثمن في الشرق والأفضل لنا أن ننتصر وننكث بوعودنا من أن ننكسر(2).

(1) – راجع: جوزيف حجر- أوربا ومصير المشرق العربي – بيروت 1976.
(2) – زهدي فاتح: لورانس على خطى هرتزل – دار النفائس بيروت 1971.

وعن لورانس أيضا :
 إذا احسنا التصرف تجاه هذه البلاد فإنها سوف تبق كقطع الحجارة الملونة الصغيرة مجموعه من الأقاليم الصغيرة المتنافسة والعجزة عن التلاحم(1).
 في مؤتمر ( كامبل ترومان ) سنة 1907 والذي تضمن خبراء الاقتصاد والجغرافية والشؤون العسكرية من مختلف الدول الاستعمارية
 أوصى المؤتمر بما يلي :
 1- من يسيطر على البحر المتوسط الشرقي يستطيع التحكم بالعالم
 2-ضرورة أقامه حاجز بشري غريب وقوي يفصل الجزء الآسيوي عن الجزء الأفريقي في المنطقة العربية حليف للدول العربية ومعاد لسكان المنطقة (2) 0
 من كل ما سبق وبإضافة ظهور الثورة النفطية الهائلة في الوطن العربي نصل إلى نتيجة مفادها إن إمكانيات المنطقة العربية الهائلة كانت أحد أهم أسباب ما نالته وستناله هذه المنطقة من حملات شرسة مادية ومعنوية تستهدف الشخصية العربية أولاَ بتوجيه الطعنات المتعاظمة إلى مرتكزاتهاالثقافية ، فمحنة النهضة العربية المعاصرة تكمن في كونها << النهضة التي كان مقدراَ لها أن تكون الأغنى والأقوى في العالم لو لم تكن المغدورة بفعل غناها ذاته الذي التهم جنين مشروعها الثقافي وانقلب إلى وحش استهلاكي رهيب لكل ما ينتجه ويبنيه>>0(3).
(1)- محمود الحمصي:خطط التنمية العربية –مركز دراسات الوحدة العربية بيروت1980.
(2)صالح زهر الدين( مصدر سبق ذكرة) ص 9.
(3) - مطاع صفدي: في الفكر المعاصر – ع 17 – ص 11 .


الغزو الثقافي : لم يكتف الاستعمار سواء من خلال مركزه الأوربي سابقاَ ومن خلال مركزه الأقوى لاحقاَ في القارة الجديدة بإشهار أسلحته العسكرية والتهديد من خلال ترسانته المتفوقة تكنولوجيا0 ولكنه يغزو العالم الآخر < وقد يدخل – بل يدخل في عداد الآخر هنا دول ما سمي بالعالم الثالث ودول أوربا بشقيها الغربي والشرقي > بثقافته الأكثر شراسة وتدميراَ للشخصية الإنسانية من أسلحته ، وذلك بتعميم هذه الثقافة والسيطرة على العقول والنفوس بوساطة إدارة المعلومات وتوجيهها 0
وليس بخاف على أحد الاختلال الكبير في نظام الاتصال العالمي الذي يبرز كسلاح في يد الولايات المتحدة، يخدم استراتيجية الهيمنة العسكرية والاقتصادية :
<< المفارقات في الإعلام والاتصال تؤثر سلباَ في حرية المعلومات وتدفقها وفي الرؤية الموضوعية الدقيقة للحقائق والمشكلات ، وفي توظيف المعلومات لخدمة أغراض التنمية وتعزيز الذاتية الثقافية للشعوب والأمم الفقيرة 0 هذا النظام الدولي للإعلام والاتصال تحكمه اعتبارات دولية سياسية واقتصادية واجتماعية وحضارية تجعله وجهاَ آخر للنظام الاقتصادي الدولي القائم>>(1)0
ثقافة بلاد ( العم سام ) غدت نمطاَ عالمياَ في الثقافة ليس في مجال المعلومات والمعارف فحسب بل في نمط الحياة 0 الكوكاكولا،الهمبرغر الجينز ، الكاوبوي ميكي ماوس الرجل المطاطي إلى آخر القائمة التي تتصدر برامج الأطفال ، وواجهات المطاعم ومحلات بيع الألبسة 0 هذه الظواهر الغالبة على الثقافة الأمريكية باتت مصدر تخوف حتى لحلفاء أمريكا الأوربيين00
(1) – محمد أحمد الغنام: من أجل تربية أفضل – التربية الجديدة – ع 25 – ص9




ويفضل سطوة وسائل الاتصال وانتشار الأقمار الصناعية يجد المرء نفسه غير قادر على مقاومة الإغراءات التي تحملها من برامج وإعلانات استهلاكية طيلة الأربعة وعشرين ساعة يوميا"
فها هو ( ميكي وزملاؤه من شخصيات الأفلام الكرتونية وغيرها من مخترعات والت ديزني ) يصبحون افضل رفاق لأطفالنا00
هذا الخطر الذي يهدد الثقافة القومية ويمعن في الاعتداء عليها غدا هاجس الناس في قارات العالم الخمس 0 وهذه هي أوروبا لا تستطيع إخفاء هلعها من ذلك 00 فالناس بعد افتتاح مدينة (ديزني ) في فرنسا انقسموا بين مؤيدين ومعارضين 0 وقبل ذلك في عام 1985 نشرت مجلة ( لو بوان) الفرنسية مقالاَ بعنوان ( كيف نقاوم أمريكا) عبرت من خلاله عن القلق الذي يشغل بال المثقفين الفرنسيين:
<< بالنبيذ والشره والموضة تغزو أوروبا أمريكا؟ و بخطى محسوبة أمريكا الأقمار الصناعية الاتصالات تغرق أوروبا(000) وحين اجتمع وزراء الثقافة في الدول الأوربية في دلف، والكونسير الغنائي الذي نقل بالأقمار من هناك يوم 23 حزيران ( يونيه) كانت نجمته هي نجمة الروك بروس سيرغستين000وعلى عشب ملعب ريختر كان ثمة 30 ألف شاب بالجنز والقمصان الموشحة بأسماء جامعاتهم0 وعند أقدامهم آلاف علب الكوكا الفارغة ، وعلى المسرح فرقة  ستريت ترطن بالإنكليزية بشعار يؤذي كل قارتنا : ولد في الولايات المتحدة>>(1)0
وفي مجال آخر يتجلى الغزو الثقافي في منتجات ثقافية تتلق بأدوات التسلية وألعاب الأطفال فهذه شأنها شأن الأفلام والبرامج المتلفزة والمصدرة لأجهزة ( الفيديو ) ففيها تعميم لقيم يتشربها الناس في أثناء اللعب وملء أوقات الفراغ << منكرة طيلة الوقت وجود أي تأئير فيها وراء الهروب المؤقت من الواقع وحالة الاسترخاء المنتشية>>، كما يقول ( هر برت شيللر) في كتابه عقول المستقبل)0
هذه الصورة لثقافة تسعى بخطى حثيثة للسيطرة والهيمنة وتعميم نموذجها الوحيد على العالم ، هي من ضمن الخطر الأكبر لنظام عالمي جديد لا يحترم حقوق الآخرين وشخصياتهم، بل يسعى جاهدا لطمس كل هوية ثقافية 00 وليس الخطر كامناَ فيه فحسب ، بل إن الخطر الأعظم يكمن في حالة التواكل التي يستسلم لها الآخرون ، الذين استمرءوا الوصفات الجاهزة والأفكار الجاهزة والمأكولات المعلبة 00 وما يرتبط بذلك ويرافقه من ضعف في الإنتاجية له هو الآخر مسبباته 00 ولكن لكل داء دواء؟0
(1) – وردت هذه المقتطفات في ( الثقافة العالمية ) – العدد 25 – من خلال رسالة باريس التي كتبها الدكتور عبد الله عبد الدايم.



الإنتاجية في الوطن العربي

مفهوم الإنتاجية:

يقصد ب( الإنتاج) لغوياَ ، ما تصنعه الأمة من ثروات وما تستخرجه من باطن الأرض أما المقصود ب( الإنتاجية) فهو تلك الفاعلية في استثمار الموارد واستخدامها0 أما مستوى الإنتاجية فيحدد على أساس من معيار كفاءة الفاعلية0 ولكن هذا لا يعني أن اتفاقاَ على تحديد مفهوم الإنتاجية حاصل لدى الباحثين لهذا المفهوم ، وهم كثر وينتمون إلى اختصاصات مختلفة ، وداخل الاختصاص الواحد توجد أبحاثهم أيديولوجيات متعارضة0 إلا أننا قد نجد مرتكزات لهذا المفهوم لدى مختلف المهتمين به تتعلق بأهمية ارتفاع معدلات الزيادة في الإنتاج ،وخفض التكاليف ، وتقليص الهدر في الموارد وفي الجهد البشري إلى أدنى حد ممكن0 وفي مجال الجهد البشري يشار دوماَ إلى عدد من العوامل الهامة ذات العلاقة بدوافع العاملين والمديرين ، والكفاية في التصرف والإشراف00000
أما الخلاف في تحديد هذا المفهوم فقد يعود إلى ما ينطوي عليه من عناصر اقتصادية وإلى طريقة التعبير الكمي عن هذه العتاصر0
يؤكد الاقتصاديون ذوو النزعة الرأسمالية على تعريف الإنتاجية من خلال العلاقة بين مدخلات النشاط الاقتصادي ومخرجاته، ويستخرجون الإنتاجية بوساطة عملية
حسابية تهدف إلى تعريفها بقياس مدى كفاية الوحدة الاقتصادية بالنسبة التالية:
المخرجات
( العمل + المواد + رأس المال

:بحيث تشكل عناصر مقام الكسر معاَ مدخلات النشاط الاقتصادي ويلجئون من ناحية ثانية إلى تعريف الإنتاجية كونها ( الإنتاجية الكلية للعمل ) التي هي بين الإنتاج والعمل الكلي المستخدم فيه وفق القاعدة التالية :
الإنتاجية الكلية للعمل = القيمة النقدية للأرباح ( السعر × الإنتاج)
---------------------------------------
الأجر القياسي للعامل في الساعة
ويميز آخرون بين الإنتاجية الكلية للعمل الذي تمثله علاقة كمية الإنتاج بالعمل الإنساني المبذول فيه ، وبين إنتاجية العمل الذي تمثله كمية الإنتاج والعمل الكلي المبذول ( آي العمل الإنساني مضافا إليه العمل الذي يوجد في المعدات والآلات والمواد الخام)0
إلا أن مفهوم الإنتاجية في كلتا الحالتين لا يبعد عن أهمية العنصر البشري ودوره في رفع المستوى الفني للإنتاج وفي البحث عن أسباب وأساليب تضمن رفع تنظيم العمل وفي تحسين الأداء الوظيفي للفرد حينما كان موقعه في العمل الإنتاجي00
وموضوع الإنتاجية في عصرنا هذا مدار اهتمام الاقتصاديين وعلماء الاجتماع ، علم النفس ، والسياسيين 0 ويعود ذلك ، بصورة خاصة ، إلى تلك الصورة القاتمة التي تثير مكامن الخوف والقلق والعالم يودع قرناَ من عمر الحياة على الأرض ويستعد لاستقبال قرن جديد وتتلخص هذه الصورة ب:
<< الفوارق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقومية والجنسية ، التي لم تعد محتملة حتى وإن لم يزد خطرها 0 مئات الملايين من البشر يعيشون تحت تهديد المجاعة المباشرة ، وملايين أخرى يخضعون للعذاب الجسدي والفكري وهم أشد بؤساَ من الآخرين 000 إننا مطالبون ليس فقط بإعادة قلب قوى الإنتاج والعلاقات الإنتاجية والاجتماعية، بل بإعادة قلب علاقاتنا مع النوع ، ومع المنظومة البيئية بأكملها>>(1)0
ونظرا لدور العنصر البشري في الإنتاجية وأهميته يجدر بنا أن نلجأ إلى تحديد مفهوم الشخصية المنتجة0
مفهوم الشخصية المنتجة:

الشخصية في اللغة ، صفات تميز الشخص من غيره 0 والمنتجة قد لا تكون هكذا لغوياَ وإنما الأصح المنتاجة أي الكثيرة الإنتاج 00
وفي كتب علم النفس تعريفات للشخصية تختلف عن بعضها درجات متقاربة، نأخذ منها التعريف الوارد في قاموس علم النفس وهو:
<<الشخصية هي تنظيم متكامل ودينامي للخصائص الجسيمة والخصائص العقلية المعرفية والخصائص المعنوية والخصائص الانفعالية والاجتماعية، ويتضح هذا التنظيم في تفاعل الفرد مع الأشخاص الآخرين وفي الحياة الاجتماعية المبنية على الأخذ والعطاء>>.
وحسب هذا التعريف فإن الشخصية تتجاوز المظاهر الخارجية للسلوك البشري لتشمل جماع صفات الفرد وأفكاره واستجاباته الداخلية.
وتبعاَ لهذا التعريف فإن للشخصية صفات تميزها ولكنها ليست ثابتة ساكنة وإنما هي حركة وتغير مستمرين وإن بدت من خلالها هوية الشخص على أنها استمرار الماضي في الحاضر وفي نظر الآخرين أيضاَ. إلا أن هذا الثبات كما رأينا ما هو إلا الإثبات نسبي. ويبدو بوضوح أن تغير الشخصية يبدأ منذ السنوات الأولى لحياة الفرد إلا أن سرعة هذه الحركة تختلف في مراحله من مراحل النمو عن غيرها لكنها لا تتوقف. وإن الحركة والتغير مرتبطان بعوامل كثيرة منها ما يتعلق بحوادث النمو ومنها ما له علاقة بالمحيط. ولكن هذه الحركة والتغير لا تعني استبدال شخصية بأخرى وإنما هي لصيقة بالثبات النسبي للشخصية ولا تتعارض معه. يولد الإنسان مزوداَ بقدرات واستعدادات كامنة قابلة للنمو والتشكل ولكن العوامل الحاسمة في ذلك إنما تعود إلى جملة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يوجد منها ويتفاعل معها. وحينما تكون المقارنة بين محتوى الحضارة ومحتوى الشخصية تبدو العلاقة بينهما على أوضح ما يكون إذ أن سلوك الفرد واستجاباته إزاء المؤثرات المختلفة يكاد يكون معادلا لنمط الحضارة التي ينتمي إليها من
(1) – جاك روبان: من التنمية الاجتماعية إلى النمو البشري – ترجمة شحاذة الحوشان ص 122 0 وزارة الثقافة دمشق - - 1977.


حيث الخصائص والعلاقات بشكل متكامل . مما يدعونا للتعبير عن ذلك بأن الشخصية بصورة ما تفصح عن ثقافة معينة وبصور تتعدد بتعدد الأفراد الذين ينتمون لهذه الثقافة.

وإضافة إلى خاصتي الثبات النسبي ( الهوية) والتغير في الشخصية فإن ثمة خاصة أخرى ندعوها ( وحدة الشخصية). فعلى الرغم من تجلي الشخصية بصور تختلف إحداها عن الأخرى قليلا أو كثيرا سواء من حيث المظهر الذاتي ام من حيث المظهر الموضوعي الا انها تظل بنية تنظيمها الداخلي وتتمثل ابرز معالمها في النظرة الى العالم والتعرض له والانضواء فيه. وتتمثل هذه الوحدة في ( وحدة الأنا – العالم) وهي في وحدتها هذه تنطوي على جانب اساسي يتمثل في الوعي الذي يرشد سلوكها.

والشخصية في تفاعلها القائم بينها وبين البيئة تنتظم ككل في اسلوب يشكل ما يمكن ان ندعوه (اتجاه الشخص). هذاالاتجاه يتصف بنوع من الثبات يصعب تبديله تبديلا كاملا.وهو الذي يحدد النمط الذي يتخذه السلوك ويعطيه طابعا مميزا.
. من هنا كان لجوء مدارس علم النفس الى تصنيف الناس في انماط يتميز كل منها بطابع او سمات معينة يقربنا هذا من خلع سمة على الشخصية تتعلق بالإنتاجية بحيث نصنف بعضها في خانة الشخصية المنتجة ، أي الشخصية القادرة على الإنتاج بأوسع معانية لا الاقتصار على الإنتاج المادي فحسب. فالشخصية المنتجة –بحسب
اريك فروم – تتميز بالمقدرة على استخدام قواها العقلية والجسمية وتحقيق امكاناتها الكامنة فيها . ويتصف صاحبها بانه ذو تفكير مستقل يحترم رفاقه ونفسه لا يعاني الكبت او القلق ويستطيع ان يحقق ذاته ويستمتع بحياته.(1)

مظاهر ضعف الإنتاجية العربية وتجلياتها:

تعاني بلدان ما يسمى بالعالم الثالث ومنها بطبيعة الحال بلدان الوطن العربي من تدني مستوى الإنتاجية على الرغم من أن بعض هذه البلدان – العربية – لا تعاني من الموارد والإمكانات، فكل الدراسات والأبحاث والإحصاءات تؤكد على توافر الإمكانات وعلى أن قدرة العرب في مجاراة العصر والإسهام في بناء الحضارة المعاصرة ممكنة، وأسباب ذلك متوافرة سواء من حيث امتلاك الأرض والمال او من حيث وجود جحافل من اليد الماهرة الخبيرة واليد القادرة على العمل في الزراعة والصناعة، لكن الملاحظ والثابت غير ذلك:

1 – رغما عن وجود الموارد فإنها لا تستغل بصورة ملائمة لأنها تعاني من سوء الاستخدام بل ويعاني بعضها من عدم الاستخدام أساسا.

2 – الظلم الاجتماعي يعرقل الجهود التي تهدف إلى تحسين الزراعة بصورة خاصة، ويؤدي إلى إنتاجية منخفضة من جانب المزارعين الصغار إما الملاك الكبار والمتنفذون فيحتكرون الانتفاع بخدمات الدولة في الإرشاد الزراعي والقروض.
(1) سيد عبد الحميد مرسي: إطار نظري لدراسة الشخصية – الفكر المعاصر – العدد 71 – يناير 1971.


3 – يتجه الإنتاج نحو المحاصيل الترفيه وإهمال المحاصيل الزراعية الضرورية. والاتجاه نحو إنتاج ما هو قابل للتصدير . ( فبينما كانت مالي تتعرض للجفاف زيدت المساحة المزروعة بمحصولي التصدير لديها وهما الفول السوداني والقطن بحوالي 50% وبما يزيد على 100% على الترتيب في الفترة ما بين
1965 – 1972 .(1) وتقوم الشركات الأوربية باستيراد طعام الفقراء من الدول الفقيرة ( الذرة الصفراء ، فول الصويا ، المنيهوت) لتسمين الماشية باعتبار هذه المحاصيل علفا رخيصا.(2)

4 – تدني الكفاية في إدارة عمليات التنمية وتنفيذها فبلدان العالم المتخلف تواجه منذ بدايات استقلالها مهما اقتصادية واجتماعية كبيرة جدا. ويطرح عاى هذه البلدان مهمة الانتقال من حالة التخلف والتبعية الى حالة التحرر والكفاية الإنتاجية وهذا يتطلب منها تطوير القاعدة الإنتاجية وتحسين كفاية الكوادر البشرية من إداريين وعمال وخبراء ، وتجاوز القيم التي ارتبطت تاريخيا بحالة التخلف القديم والتردي المزمن. ولم يكن أمام هذه البلدان سوى أن تنيط بالدولة مهمة القيام بالدور القائد أو المهيمن على مختلف الأنشطة الاقتصادية
(1) – فرنسيس مورلايه : صناعة الجوع – ترجمة أحمد حسان – ص 22 – عالم المعرفة الكويت 1983.
(2) – المنيهوت: نبات استوائي تستخدم جذوره الدرنية في استخراج النشاء والدقيق وهو طعام شعبي.

والاجتماعية لدفع عجلة التنمية مع ما في ذلك من مخاطرة ومكابرة حيث أن التعرض صارخ بين عظم المهام الملقاة على كاهل النسق السياسي في هذه البلدان وضالة القدرات المتوافرة . فيناط بالدولة في معظم البلدان المتخلفة ومنها بلدان الوطن العربي، إضافة لما هو مناط بالدولة التقليدية من تقديم الخدمات الاجتماعية مثل التعليم ومحو الأمية وإقامة المرافق العامة وإدارتها من نقل ومواصلات ورعاية صحية –إقامة المصانع والمنشآت وتمويل الزراعة إلى جانب دورها في صياغة العقائد السياسية والترويج لها ,وإقامة دولة حديثة تتجاوز ما هو سائد من نظم عشائرية وقبلية ورواسب إقليمية وطائفية (1).
ويجد هذا النسق السياسي المتنطع لحمل هذه الأعباء نفسه أمام أفكار تنموية يغري الباحثين في الترويج لهل ,ويسوغها على أنها نوع من البديهيان والمقصود بذلك ما يتصف به هذا النسق من تمركز السلطات والاستبداد وعمله على سيادة ثقافة تتصف بالخنوع والطابع العائلي للنظام السياسي, وطغيان الانفعال والعنف في معالجة المشكلات الطارئة ، مقابل النظم السياسية المتقدمة حيث السيادة للقانون ودولة المؤسسات وثقافة المشاركة والاحتكام لمقتضيات التفكير الوقائعي ونهاية عصر الأيديولوجيات.(2)

(1) –فايزبكتاش:مفهوم التخلف السياسي في دول العالم الثالث – ص 47 – مجلة العلوم الاجتماعية – العدد 7 – 1979
(2) - - نفسه : ص 48 .





5 – افتقار البرجوازية الطفيلية للحد الأدنى من المستويات الخلقية, فحيث انه لم تتبلور في المجتمعات المتخلفة البنى الطبقية تبدو البورجوازية الناشئة ذات طبيعة خاصة بسبب من تطفلها على جسد التنمية وبسبب من ظروف تشكيلها مما أدى إلى عدم امتلاكها للحد الأدنى من الأخلاق الذي لا بد منه في النهوض بالعملية التنموية مما أدى إلى ضعف الإنتاجية، ذلك أن هذه الطبقة النهمة للثروة والسلطة لا تعرف الشبع ولا تمتلك بعد النظر المطلوب على المستوى الاجتماعي ، فهي تطوع العام باستمرار لخدمة مصالحها الضيقة والآنية . وتتصف هذه الطبقة الهشة بسرعة قابليتها للفساد والإفساد . وسرعان ما تتحول هذه البورجوازية إلى بورجوازية دولة مبتعدة عن الواقع الثوري الذي تدعيه في بدايات تسلقها وتسللها وييسر لها هذا التمادي في إخفاء العيوب والتستر على الأخطاء والهروب من الاعتراف بها تحت غبار إعلامي تثيره على شكل زوابع مزوقة بشعارات التقدم والتصدي والصمود أمام الهجمة الإمبريالية ..هذا النمط السلوكي – مع الأسف – يتفشى حتى يصبح هو السائد عند الحكام والمحكومين وعند المثقفين وغيرهم..

وكثيرا ما يلجأ هذا النسق عند اكتشاف عوراته – وما أكثرها – إلى رد النتائج إلى أسباب خارجية متنصلا من المسؤولية. وباختصار فإن أهم ما يميز هكذا تفكير متخلف أنه يتصف بما ينطوي عليه نمط التفكير ( المانيلوفي) من أحلام ضخمة وفعالية منعدمة .(1)
(1) – المانيلوفية نسبة إلى شخصيات رواية( الأرواح الميتة ) ل (غوغول)



6—نزيف الأدمغة أو ما يعرف بهجرة العقول : سيل الهجرة من الدول النامية بعامة والدول العربية بخاصة إلى الدول المتقدمة صناعياَ وتكنولوجياَ بشك أحد مظاهر الخلل الديمغرافي في العالم ، هذا من حيث الكم أما من حيث الكيف فإن النسبة التي تكاد تصل إلى 100% من هؤلاء المهاجرين فهم من جيل الشباب الذين يفقرون بلدانهم من قوة العمل اللازمة لعمليات التنمية المختلفة وبين هؤلاء
ترتفع نسبة أصحاب الكفاءات العلمية ومعظم هؤلاء من الأطباء والمهندسين والمختصين بالعلوم الطبيعية ومن ذوي المهن الطبية والاختصاصات بالعلوم الإنسانية . ومعظمهم يهاجر إلى الولايات المتحدة أولاَ فكندا فالبلدان الأوربية..

وفي إحدى الإحصائيات عن مساهمة الدول النامية من أطباء كل من الولايات المتحدة وكندا يذكر أن هذه المساهمة تمثلت ب 58% من الأطباء و 42% من العلماء والمندسين (1). وما يزال سيل الهجرة مستمراَ وإذا حاولنا تحري أسباب ذلك فإننا واجدوه في :

1- العوامل الاقتصادية المتردية للبلدان العربية.
2- عوامل علمية تتعلق باعتماد البلدان العربية أساليب تعليمية قديمة لا تساعد عل ى الاستفادة من الطاقات الشابة والكفاءات العلمية.
3- معاناة المثقفين بعامة وأصحاب الكفاءات المتخصصة بخاصة من سوء التقدير لمواهبهم وقدراتهم وافتقار بلدانهم للأجهزة والمخابر والمعامل ومراكز الأبحاث التي يستطيعون بوساطتها إبراز قدراتهم وتنميتها وتطويرها.
(1) –فرج عبد القادر : علم النفس في خدمة العامل والإنتاج. الفكر المعاصر – ع 61 – ص 35 – مارس 1970.


4- عدم احترام الكفاءات المتوسطة وعدم إعطائها حقها في مجال الحياة الاجتماعية فيشعر المثقف أو المختص أنه غريب في بلده.
5- ضعف الطلب في معظم بلدان الوطن العربي –إن لم يكن نقل كلها – على نتائج البحوث. بينما نجد أن بعض مراكز الأبحاث وأجهزتها تجد ضالتها في استجابة الطلب الخارجي لها.
على سبيل المثال << تعاقدت بعض الجامعات والمؤسسات الأمريكية مع الأجهزة العلمية المصرية على 253 مشروعا بحثيا بخلاف (7) مشروعات بحثية تعاقدت عليها وزارة الزراعة مع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية خصص لها 93 مليون جنيه خلال سنوات أربع كما ورد في محضر اجتماع شعبة البحث العلمي 16/9/1979 .

6- هناك هجرة داخل الوطن العربي من البلدان غير النفطية إلى بلدان النفط مما أدى إلى خلل في توزيع الكفاءات داخل الوطن العربي من جهة ,وإلى عدم الاستفادة المطلوبة من هذه الكفاءات في البلدان الجاذبة في اختصاصاتها إلا فيما نذر . وقد أدى ذلك إلى نتيجتين سلبيتين:
النتيجة الأولى :خلل و عدم استقرار في وضع هذه التي تتطلع باستمرار للفرصة المواتية للهجرة إلى بلدان الجذب

(1)- مجلة قضايا عربية ( م.س ) حاشية الصفحة 248.---------

النتيجة الثانية : عدم احترام هذه الكفاءات في بلدان الجذب ومعاملتها كأنها كفاءات ثانوية إزاء استخدام العمالة الوافدة من البلدان المتقدمة
7- إهمال الإنسان وتحية دوره من هدف التنمية إلى أداة من أدوات العملية الاقتصادية ففي تقرير التنمية العالمي الذي وزعه برنامج الأمم المتحدة للتنمية تحت عنوان ( تقرير التنمية البشرية السابع ) لعام 1996 ثمة ملاحظات هامة تشير إلى أن الفوارق الاقتصادية بين الدول الصناعية و النامية تنتقل من حالة اللامساواة إلى الحالة الإنسانية (1)
وثمة معلومات في ذلك التقرير تش إلى آن العمر المتوسط في الوطن العربي قد ارتفع من 45 إلى 65 سنة لكن نصف سكانة ما زالو محرومين من الماء النقي ومع تضاعف معدل تعليم الراشدين هناك ستون مليونا من الأميين ومع أن النمو الزراعي بلغ 5% إلا أن 73 مليونا لا يزالون تحت حد الفقر وعشرة ملايين لا يحصلون على القوت الضروري, ومع كل الخدمات الصحية فإن معدل وفيات مت هم دون الخامسة أكبر بأربع مرات من البلدان الصناعية .

8 – غياب التعاون العربي والتكامل في المجال التنموي :نمو النزعة القطرية رسوخ الدولة القطرية غيب كل مشاريع التكامل والوحدة في المجال الاقتصادي فرغما عن كل الاتفاقات والمعاهدات حول إقامة تكامل اقتصادي أو اتحاد اقتصادي أو سوق عربية مشتركة فإن تنفيذ ذلك يكاد لا يذكر في عصر يتجه فيه الاقتصاد العالمي نحو قيام التكتلات الإقليمية الواسعة

(!)الكفاح العربي 939 – 29/7/1996- صفحة-32.

وليس خافيا ما يشكل ذلك من خطر على مستقبل الوطن العربي من زيادة التشرذم ومن مخاطر الوقوع في شرك السياسات الدولية الرامية
إلى تزيف وتزوير كل مفاهيم الوحدة والعروبة.... وأقرب مثال على هذه الأخطار المحدقة مشروع الرق أوسطية الذي يريد منه أصحابه وحوار يوه أن يكون بديلاَ عن كل المشاريع الوحدوية الأخرى.

الإنتاجية وخيرات العلم والتصنيع:

التزمت الأقطار العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال—شأنها في ذلك شأن معظم البلدان التي تحررت بعد الحرب العالمية الثانية من الاستعمار- بخيار العلم والتصنيع. واتخذت هذا الالتزام شكل إفساح المجال أمام الناشئة في الوطن العربي للولوج إلى صفوف الدراسة في المدارس التي أخذت بالانتشار في الأحياء المدينية والأرياف وفي مضارب البدو. لكن ذلك لم ينطلق من سياسات واحدة أو ذات توجهات متشابهة , فإذ تبنت بعض هذه الأقطار مجانية التعليم وإلزاميته في وقت
مبكر فإن بلداناَ أخرى تأخرت في تبني ذلك.
واتخذت القرارات سواء على المستوى القومي من خلال المنظمات والمجالس العربية في نطاق جامعة الدول العربية للتخلص من الأمية ورفع سن الالتزام وتبني التعليم الأساسي من خلال مفهومي( التربية والصفة الاجتماعية).
وقد تبنت استراتيجية تطوير التربية في البلاد العربية وأكدت على تطوير محتوى التربية المدرسية وطرقها عن طريق ( تزييف المدارس التقليدية)
على أن يكون ذلك جزءاَ متكاملاَ في التنمية الريفية الشاملة التي ترتكز على الشمول والتكامل في المشروعات, وتنظيم التربية على أساس مرحلي يوفق
بين جوانب الاستثمار في التربية وجوانب الاستهلاك والاعتماد في التنمية على أبناء الريف ودور التعليم الأساسي فيها.
وعلى الغم من حماسة وزارات التربية في الأقطار العربية لما جاء في استراتيجية تطوير التربية العربية حول رفع سن الإلزام ( عام 1979)إلا أن سن الإلزام لا زال مختلفا بين دولة وأخرى إضافة إلى أن بعض الدول العربية لم تلزم نفسها بتحديد ذلك(!).
وإذ يتأكد يومياَ أن لا تقدم لأمة من الأمم وما من ثقافة تدوم بدون العلم تبرز أهمية البحث والتطوير العلمي. ويطهر في هذه المجال القصور واضحاَ على مستوى الأقطار العربية إذ أن ما يخصص من إجمالي إنتاجها السنوي للبحث والتطوير من 3,. %إلى 9,. % وهذا يعادل 1000 مليون دولار في السنة أي بمعدل 4 دولارات للفرد الواحد وأن منظمات البحث العربية تربو على 700 منظمة توظف حوالي (30) ألف عالم ومهندس للبحث توظيفاَ كاملاَ وبالمقارنة مع بلدان أخرى
نجد أن مستوى التمويل العربي في هذا المجال منخفض بمقاييس العالم الثالث أذ أن الأقطار المتقدمة فيه تخصص 1% من مجمل دخلها القومي لذلك. وهو شديد الانخفاض بالنسبة للبلدان الصناعية. وإن منجزات البحث والتطوير في الأقطار العربية تكاد تكون ذات طبيعة تطبيقية حصراَ
وتبدو الصورة إذا عرفنا أن حصة العلوم الاجتماعية في أقل من 10% .
إضافة إلى أنه ( ليست السلامة والتلوث والرفاه البشري والصحة من مظاهر اهتمام الحكومات المحلية أو المركزية في الوطن العربي. هذا الحقل الذي يحتاج إلى عناية متزايدة , لأن التقانة في أيد مهملة سلاح خطير)(1).

وإذ يشهد العالم ثورات متزامنة في مجال الحاسوب وتقنيات الاتصال والإلكترونيات
الدقيقة فإن الوطن العربي في وضع لا يحسد عليه, حيث أن استخدام الحاسب لازال قاصراَ فحتى الآن لا يرف الحاصل على الشهادة الثانوية عنه إلا اسمه الأجنبي . وفي مجال البرمجة والمعلومات لا نجد لنا مكاناَ على طاولة محتكري المعلومات التي يصدرونها بالطريقة التي تخدم مصالحهم. فأجهزة الحاسب , والتلفاز, آلة الهاتف الحديثة , الراديو , التلكس , تكاد تكون حكراَ كاملاَ على الولايات المتحدة واليابان وفرنسا وهولندا وبريطانيا وألمانيا. وفي مجال الإنتاج الإلكتروني العلمي لأجهزة الاتصال تسيطر على 75 % منها شركات أمريكية ,
حيث أن الدخل الإجمالي لشركة الاتصالات الأمريكية ( AT&T )عام 1977 بلع 26 بليون دولار أي أكثر من الدخل الوطني لمائة وثماني عشرة دولة من دول الأمم المتحدة.
وفي مجال الإلكترونيات الدقيقة فإن هذه التقنية التي دخلت حياتنا من خلال الغسالة والراديو والتلفاز فما زلنا نعاني قصوراَ واضحاَ في معرفتها ودورها في التخفيف من حجم الآلة الكبيرة من التلوث.
وهكذا يبدو لدينا عجز في قدرتنا على دمج العلم دمجاَ عضوياَ في كياننا القومي .
لأنه مهما اصطنع الاقتباس لنفسه من وسائل ( لن يتحقق دون وجود هياكل علمية وإنتاجية راسخة لدى المقتبس تتيح له فرصة حقيقية للاستفادة منه (2).وليس ذلك فحسب , فقد درجت البلدان العربية على استيراد تكنولوجية جاهزة لا تمتلك المرونة من أجل تكيفها
-------------------------------------------------------------
(1) –انطوان زحلان: المستقبل العربي العدد 188 ص48
(2) – اسماعيا سرور شلش: قضية التكنولوجيا واستخدامها عربياَ, الفكر العربي العدد 7 ص 79.
------------------------------------------------------------------------------------------------------
----45 -------------
لتكون ملائمة لظروفها. فالتكنولوجيا قبل أن تكون سلعة للتجارة الدولية هي أولاَ معرفة وتنظيم. فالمعرفة والكفاءة الإدارية وطاقة الإبداع تشكل معا ركائز كل تطور تكنولوجي , فليست الآلة بحد ذاتها هي التي تسمح بتراكم الإنتاج , وبالتالي رفعة, بل هي تنظيم أفضل لشروط الإنتاج والإدخال الناجح لطرائق تقنية تزيد في أرباح الإنتاجية الناجمة عن التطور في التنظيم(1).
لكن النتائج التي وصلت إليها مشاريع التنمية والتطور السريع في توسع التعليم وتخريج الدفعات الكبيرة من حملة الشهادات ( بخاصة بعد التوسع في التعليم الجامعي الذي لم يرتكز على ربط الجامعة بالمجتمع إلا من نواحي شكلية بحيث تكاد تكون الأبحاث العلمية في مجالات العلوم الأساسية والإنسانية من الندرة بحيث لا تفي كثيرا بحاجات التطور والتقدم ) فهذا التوسع واستيراد التكنولوجيا لم يسهما في رفع الإنتاجية , بل إن الأمر على العكس من ذلك , إذ شهدت الأقطار العربية ضعفاَ واضحا في إنتاجيتها بالقياس إلى البلدان الصناعية. فقد انخفضت إنتاجية العمل في الوطن العربي 42% خلال فترة عشرين سنة نسبة إلى الولايات المتحدة(2).
( والعلم قد يكتسب والمعرفة التكنولوجية قد يمكن حيازتها, لكن ضعف القدرة على الإنتاج قد يحول دون الاستفادة من هذا العلم ومن هذه المعرفة التكنولوجية الممتازة,فبذرة التخلف -- على الرغم من كل شيء – ذات وظيفة رهيبة , تحول دون أن يكون لكل البريق الذي صاحب الإنجازات التحديثية ( تحديث الأجهزة العسكرية , إنشاء الجامعات, استخدام الخبراء والمستشارين) أية قدرات على استنبات تكنولوجية حديثة(3).
(1) – جورج قرم: الشركات المتعددة الجنسية في الفكر العربي العدد 7 ص19.
(2) – انطوان زحلان : المستبل العربي العدد(180) ص 108.
(3) – جورج قرم : التنمية المفقودة – ص 14 –دار الطليعة – بيروت 1981.
فالذي حصل فعلاَ لم يكن سوى الإهمال في القدرات والموارد البيئية واستزراع الصناعات ومصانع دون تهيئة المناخ المناسب. أهملت الزراعة التي هي عصب أية عملية إنتاجية وأساس التوازن بين كل قطاعات الإنتاج والذي أدى بالمجتمعات الزراعية التي كانت متوازنة في الأصل إلى أن(أختل توازنها, فأصبحت تستورد حتى المواد الغذائية الطبيعية غير المصنعة لأنها تخلت عن أريافها المنتجة وقبعت في شققها المفروشة وبيوتها الصفيحية والتراب جوار المدن في تقليعة جديدة تمدينية تمشيا مع نزعة الفندقة المجتمعية أو المجتمع الكان في جميع المجالات حتى في مجال بناء الذات الإنسانية وأعني به تهافت التهافت على التعليم ودكاكينه وليس على التربية الفاعلة المخططة والمتوازنة والتي تقوم على السعي لاكتشاف الحاجات عند المتعلمين ومحاولة إشباع هذه الحاجات تلافيا لتربية فوقية استهلاكية فصامية>>(1).
أن أوهام التنمية التي عششت في رؤوسنا والتي استندت إلى اعتبارات غير أساسية الانبهار بحضارة الغرب وشعور بدونية قاتلة اعتبرت أن نقل التكنولوجية هوه من الأولويات لكل عملية تنموية , هذه الأوهام لم تستطع أن تنتج أكثر من دعايات إعلامية لهذا النظام أو ذاك ودعاوى في التقدم موهوبة ولم تضف سوى رتوش هشة على صور التنمية وخرائطها . وقد تأت البلدان النامية عن حقيقة مفادها أن التكنولوجيا القادرة على رفع الإنتاجية ليست سوى تلك التي تكون ثمرة جهد ومثابرة واستنفار لطاقات المجتمع بمختلف فئاته .
<< فاليابان الحديثة صنعها صغار الحرفيين جنباَ إلى جنب مع كبار الإقطاعيين, وإمبراطور جبار كان قد استوعب الحضارة الحديثة. وأمريكا الشمالية قد صنعها رعاة البقر بسواعدهم وعرق جبينهم, وإيمانهم بمجتمع جديد. وثورة أوروبا الصناعية في القرن الثامن عشر قام بها فلاحون حديثو العهد بالصناعة, وعمال مهرة بلا علم خاص>>(2).
(1)- غازي أبو شقرا: التكنولجيا والتكامل الحضاري –ص 139 – الفكر العربي ك2 1979.
(2)-التنمية المفقودة:ص 104.
----------------- 47 ---------------
وماذا نتج عن اعتماد التوسع العشوائي في التعليم غير المخطط والمدروس؟
لم ينتج عن ذلك سوى ابتعاد السواعد الشابة عن العمل في الريف بل وفي المصنع بانتظار التخرج من الجامعات,يبقى الشاب عالة على غيره طوال فترة تحصيلة التي تمتد إلى سن الثالثة والعشرين وفوق ذلك إلى سن الثلاثين دون أن يسهم في العملية الإنتاجية. وليس ذلك فحسب فقد ساد في المشاريع التنموية التركيز على الجانب الاقتصادي مقطوع الصلات عن جوانب الحياة الأخرى, وكان تقليد المراكز المقدمة هو السائد دون الالتفاف إلى القوى الذاتية
بل إهمالها وعرقلة نموها.
ونما نتيجة لما سبق اقتصاد طفيلي بدلا من تنمية<< القوى الإنتاجية والعلمية والتكنولوجية تنمية استراتيجية بعيدة المدى>> وأهملت عمليات التنمية الاعتماد على النفس ولم تعبأ<<بالإمكانات والطاقات والقوى الوطنية ولا
بتحديد مراحل التقدم استراتيجيا وتكتيكيا على ضوء التفاعل الجدلي بين الطاقة الوطنية منظوراَ إليها في تطورها من ناحية وبين القوى المحاصرة والضاغطة وكذا الحليفة والمواكبة لنا في عالم متغير من ناحية أخرى >>(1).
وفي الوطن العربي, ماذا حصدنا خلال العقود الماضية من خلال مشروعاتنا التنموية وسياساتنا في تطور ذاتياَ وشاملاَ؟ أم أنا لم نحصد سوى قيام بؤر صناعية لا تغني ولا تسمن بل شكلت في كثير من الأحيان عبئاَ ثقيلاَ على الإنسان العربي كونها مرتبطة بصورة أساسية بمراكز تصدير التكنولوجية.
فلا يمكنها أن تتطور أو تنمو لأنها تحتاج باستمرار للخبرات الأجنبية وإلى زرقها بالمعونة الفنية الغربية..
خيار العلم والتصنيع لدينا,لأنه لم يبن على قاعدة من الاعتماد على الذات واستنهاض قواها وقدرتها, أدى إلى حالة من التردي مضحكة مبكية..( وشر البلية ما يضحك). وتعبر العبارات التالية عن هذه الحالة بلغة تزخر بالمرارة وتصفها وصفاَ قد نخطئ إذا قلنا أنه يحمل شيئا من المغالاة.
<< لماذا تنقلب كل خططنا, كل مؤسساتنا, كل ثوراتنا بين عشية وضحاها إلى نماذج ( متطورة) عن تراث تخلفنا المعهود. كيف يدمر العليم في بلادنا؟..
كيف تهجر الأرياف إلى المدن والمدن إلى ما وراء البحار... ويتم التعاضد والتكافل بين مهندسي السيطرة الرقابية في مراكز التكنولوجية المتقدمة وبين أفواج من العملاء المتطوعين.. إنهم أعضاء في نادي التزييف والإجهاض والإخصاء لكل نباتات المشروع الثقافي المستقبل الذي تصنعه الأمة الناهضة.
هؤلاء الأفواج متخرجون إما من المؤسسات التقليدية التي اسمها الجهل , وصار اليوم اسمها الجهل المتعالم التي تخرج الأميين العصريين من حملة الشهادات العليا من جامعات الغرب المتخصصة في تأهيل شباب العالم الثالث لهذا النوع من ( العلم) أو من جامعات المدن الإفريقية والآسيوية وأوروبا الشرقية... إعادة إنتاج التخلف ضمن التقدم المسروق أو المستعار>>(1).
وهل أسهمت النظم التعليمية في الداخل في النهوض بالوعي الاجتماعي؟
الوعي الاجتماعي والتعليم جزءان في بنية اجتماعية فحين كانت الهيمنة في التعليم لنظم هندسها المستعمرين فقد لبت تلك النظم رغبات المستعمرين وحققت أهدافها. بحيث أن مخرجات التعليم كانت ذات نتائج إيجابية بالنسبة لمصالحهم وكانت تخدمها.
(1) – مطاع الصفدي : عصر الاستشهاد الثقافي –ص 4 – الفكر العربي المعاصر – ع 13 – تموز ( يوليو) 1981.
--------------------------------------------------49 --------------------------------

ومن المفروض بالنظام التعليمي في أي بلد من البلدان أن تكون مخرجاته غير محصورة في تلقين مهارات ومعارف وقتية تقتضيها الحاجة الآنية لسوق العمل , بل تجاوز ذلك إلى الإسهام في تشكيل شخصية منتجة فاعلة مبادرة بحيث يكون تحقيق مصالحها الفردية غير متعارض مع تحقيق مصالح الجماعة.
وقد شهدت التربية في حقبة الاستقلال محاولات إصلاحية كثيرة متنوعة لكنها – مع الأسف – كانت تركز دوما على الكم ولم تول اهتمامها إلى الكيف. فحل ما هدفت إليه تحقيق نسب مئوية مرتفعة في تعداد الذين يدخلون المدارس أو يتخرجون من مراحلها المختلة. فوقعت في فتنة الأرقام. والنتيجة أكداس من المتعلمين في قطاعات الخدمة المدنية ومؤسسات القطاع العام. ولا يغربن عن البال , كم هي مضللة هذه الوظائف التي يشغلها حملة الشهادات , إنها لا تعني – في الواقع – أكثر من أنها بطالة مقنعة ,
تسهم في تعميق التبعية وتعميم الاستهلاك وتعميق التمايزات الطبقية, وتشويه الارتباط بين العمل والتعليم وبين العمل والنقلة الاجتماعية. ناهيك عما تكشفه هوية هكذا نظام تعليمي من كبت رغبات المتعلمين وإحباطهم, وقهرهم بحرمانهم من إشباع حاجات مرحلة نمائية معينة مما يسهم في تهيئة ظروف اغتراب الطفل في سن مبكرة عن المدرسة وعن لحظة التعليم وعن شروط التعليم(1).
(1) –عبد الباسط عبد المعطي : التعليم وتزييف الوعي الاجتماعي ص 65و 67 –مجلة العلوم الاجتماعية مجاد 12 ع4- شتاء 1984.
-----------50 -----------------

الإنتاجية والشروط الذاتية والموضوعية:

لا تعبر الإنتاجية عن نمط الإنتاج ووسائله فقط, بل تعبر أيضاَ عن العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية, كما تعبر عن المعايير الأخلاقية والقيم والاتجاهات
وهذا يقتضي إجراء تحديد شامل وموضوعي ودقيق لكل من الحاجات الاجتماعية والفردية وللإمكانات والموارد إضافة إلى تحديد القدرات المناسبة للعمل.

ولا تكون عملية تجاوز التبعية والتخلف في عصر التقدم المتسارع والمذهل للعلم والتكنولوجية ممكنة بدون ( استيعاب هذا العصر أي استيعاب معرفة ووسائل إنتاج البلدان المتقدمة لتحقيق نمطها الإنتاجي نفسه لتصبح في درجة تفوقها نفسها وتخطي ذلك بهدف تحقيق السبق). هذا الهدف البعيد والصعب يمكن أن يوضع له المعايير التي تقيس مدى تقدمه نحو مواكبة العصر في شرط من شروطه هو التحكم بالبيئة.....
لكن رفع مستوى الإنتاجية يستلزم أيضاَ شروطاَ لازمة وضرورية منها الحفاظ على الموارد الطبيعية ,والحد من سرعة استنفادها, إضافة إلى صيانة البيئة بما يسمح في إبقائها مجالا حيوياَ يسهم في فسح المجال لعمليات إنتاجية متنوعة الأشكال والأهداف
وإذا تأملنا هذه الأهداف والشروط العامة فسنصل إلى نتيجة تشكل الهدف الهام والشرط الجوهري في ذلك ألا وهو الشرط البشري. إن اتباع سياسة مناسبة تؤدي إلى امتلاك الوسائل والطرائق المجدية لتكوين كادر من العاملين المنتجين هو وحده الكفيل بتطوير قدرات الإنسان وإطلاق طاقاته الإبداعية. ومن شأن عملية التكوين هذه أن تؤثر في الشروط الأخرى. ولنتأمل علاقة ذلك ب