انهيار الاحتكار النووي وبدء عصر جديد من توازن الرعب
السبت, 01-مايو-2010
عمر نجيب - تحت شعار التصدي للارهاب النووي، نظم الرئيس الأميركي باراك أوباما، ومعه قادة 47 دولة إضافة إلى الأمم المتحدة، والوكالة الدولية للطاقة والاتحاد الأوروبي يومي 12 و 13 أبريل 2010، القمة النووية التي يمكن اعتبارها تدشينا لاستراتيجية دولية جديدة من شأنها أن تبقي الولايات المتحدة على قمة العالم من حيث القوة العسكرية على الأقل خلال الجزء الأكبر من القرن الحالي، وذلك وفق ما يأمل صناع القرار الأميركي.

وقد سبق القمة تخطيط أميركي استمر لما يزيد على عشر سنوات وانطلق في عهد الرئيس بوش وأنصاره من المحافظين الجدد. ومؤخرا أتمت الولايات المتحدة عملية مراجعة شاملة لها حيث عقد فيها ثمانون اجتماعا للتأكد من خطوط ومعطيات هذه الاستراتيجية الجديدة والتي من شأنها إبقاء السلاح النووي في يد أطراف محددة في الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن ودولتين أو ثلاثة فرضت نفسها في نادي التسلح النووي، ومنع طموحات باقي أطراف المجتمع الدولي من الحصول على قوة ردع نووية.

وقد خططت واشنطن لكي تتفق دول "قمة مكافحة الارهاب النووي" على أهداف مبدئية، تسهل لها الوصول إلى تشديد قبضتها على التحكم في تطوير الدول الأخرى لقدراتها النووية وذلك خلال اجتماع الحد من الانتشار النووي المقرر شهر مايو 2010 في الأمم المتحدة بنيويورك.

وبعد استشارات مطولة مع القوى النووية الرئيسية في العالم، نجح مفاوضو 47 دولة بينهم ست دول عربية، في الخروج بآلية مشتركة لمحاربة ما سمي "الإرهاب النووي" والتحدي الأكبر الذي حددته القمة بمنع وصول المواد النووية إلى "أطراف غير رسمية" والمقصود المجموعات الإرهابية.

صفقة مع روسيا
قبل القمة ولمنع أية تحفظات أو عراقيل من جانب القوة النووية الثانية عالميا، أتمت إدارة أوباما الاتفاق الاستراتيجي الأساسي مع روسيا أو ما سمي اتفاق ستارت 2، كما عقدت تفاهمات مع دول أخرى ذات قدرات تقنية وانتاج نووية متقدمة وذلك لتشكيل ألية تحرك دولي ضمن منظومة متجددة ستجعل من الأصعب مقارنة مع الماضي على أية دولة الحصول على مواد تستخدم في صناعة ما تقدره أطراف اخرى سلاحا نوويا.

وهذا الاتفاق الجديد الذي عكسه البيان الختامي للمؤتمر، سيمكن من مراقبة بل ومحاسبة الدول التي تصفها واشنطن وحلفاؤها بـ"المارقة"، فيما تحتفظ الولايات المتحدة ومعها الكبار باستمرارية الردع الاستراتيجي، حتى وهي متفقة على خفض أسلحتها النووية، وهذا التخفيض على أي حال يشمل أسلحة نووية قديمة، كان أمر التخلص منها واردا، حيث ستتخلص الولايات المتحدة مثلا من صواريخ كروز الحاملة لقنابل نووية، والتي تطلق من البحر حيث ستحال للتقاعد بعد أن انقضى عمرها الافتراضي قبل سنوات، كما ستسحب عددا من الرؤوس النووية من دول أوروبية أعضاء في حلف شمال الأطلسي.

وفي ختام القمة اعتبر أوباما أن "الشعب الأميركي والعالم سيكون أكثر أمنا" بفضل الخطوات التي اتخذت خلال القمة، والتي تشمل اتفاقا أميركيا روسيا للتخلص من 34 طنا من البلوتونيوم لكل دولة. وتلك مواد تكفي لتطوير 17 ألف سلاح نووي. وأضاف أوباما أن القمة كانت "لدولنا، بمفردها وبشكل جماعي، لاتخاذ تعهدات صلبة وخطوات ملموسة لتأمين المواد النووية كي لا تقع في أيدي الإرهابيين الذين من المؤكد سيستخدمونها" في حال حصلوا عليها.

وتعهدت الولايات المتحدة بمنح روسيا 400 مليون دولار لمساعدتها في جهودها للتخلص من تلك الكميات. ومن المقرر أن تبدأ الدولتان في تنفيذ الاتفاقية في عام 2018 وتستمر لعدة سنوات حتى يتم الانتهاء منها.

وأعلن أوباما عن خطط لعقد قمة متابعة لتقييم نتائج الجهود الدولية في مجال تأمين المواد النووية في عام 2012 في كوريا الجنوبية. وأضاف "لدينا فرصة كدول منفردة لاتخاذ إجراءات محددة وملموسة لتأمين المواد النووية في بلداننا ومنع الاتجار غير المشروع والتهريب".

ولتعزيز تقدير أوباما لنجاح مؤتمره، ركزت الإدارة الأميركية على الإشارة إلى إعلان أوكرانيا خلال القمة عن خطط للتخلي عن اليورانيوم عالي التخصيب لديها بحلول عام 2012 في إطار جهود أوسع وأطول أجلا بقيادة الولايات المتحدة وروسيا لاستعادة الوقود الخطير وتحويل المفاعلات المدنية إلى استخدام اليورانيوم منخفض التخصيب.

وكذلك إعلان كندا والمكسيك عن خطط للتخلي عن اليورانيوم عالي التخصيب وإرساله إلى الولايات المتحدة. وأفادت واشنطن أن الشيلي أرسلت قبيل القمة آخر شحناتها من اليورانيوم عالي التخصيب الذي يمكن استخدامه لتطوير أسلحة نووية إلى الولايات المتحدة.

حلقة أولى
العديد من الملاحظين والسياسيين قدروا أن اتفاق واشنطن لن يكون كسبا ضخما لخطط الإدارة الأميركية، سوى إذا تمكنت إدارة أوباما أو من يأتي بعدها من استكمال الحلقات التالية منه. وقال معلق ألماني في مجلة دير شبيغل ان مؤتمر واشنطن كان بمثابة الحلقة الأولى من مسلسل تلفزيوني، لا يمكن الحكم على نجاحه أو فشله إلا بعد إتمام الحلقة الأخيرة.

وقد انتقد يورجن تريتين رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الخضر في ألمانيا نتائج القمة، وقال في تصريحات لإذاعة دويتشلاند فونك: سمعنا العديد من بيانات النوايا الطيبة ولكن لم يتم الإمساك بجذور المشكلة، وشدد تريتين على أهمية أن يتوقف العالم عن إنتاج المواد النووية القابلة للانشطار مع حظر التقنيات الذرية.
وأكد السياسي المعارض على ضرورة أن تقوم ألمانيا أيضا بدورها في هذا الأمر وقال: من يتحدث عن خطر الإرهاب النووي ولكنه يصمت أمام إنتاج وتصدير التقنيات النووية يفقد المصداقية ويصير منافقا.

وذكرت صحف ألمانية أن البيان الختامي للقمة هو إعلان سياسي ولكنه غير ملزم ولا توجد آلية لفرض تطبيقه على الدول الموقعة. إلا أن جدولة اجتماع متابعة عام 2012 في سيول يشير متابعة الالتزامات الـ12 المحددة في البيان الختامي التي تعتمد على خطوات تقوم بها كل دولة لتأمين المواد النووية.

وركزت وثيقة صادرة عن القمة على أهمية تطبيق القرارات الدولية مثل قرار مجلس الأمن 1540 الذي يدعو إلى منع الجماعات غير الحكومية من التوصل إلى أسلحة الدمار الشامل والمواد المرتبطة بها. كما أن القمة شددت على أهمية دعم وكالة الطاقة الذرية الدولية التي ستكون في مقدمة الأطراف المعنية بمراجعة معاهدة منع الانتشار الأسلحة النووية التي ما زالت باكستان والهند وإسرائيل من أبرز الأطراف غير الموقعة عليها.

وهناك خلافات شديدة في العالم حول المعاهدة ونظام الحد من انتشار الأسلحة النووية حيث تتهم دول عديدة الولايات المتحدة وحليفاتها بالكيل بمكيالين، والسماح للبعض بامتلاك سلاح نووي بدعوى أنه بلد ديمقراطي بينما يجرم آخر لمجرد عدم ترابط مصالحه مع تلك لواشنطن.

ومن المتوقع أن تبذل واشنطن ولندن بشكل خاص جهودا لتقريب وجهات النظر خلال مؤتمر نيويورك شهر مايو المقبل. وقد قال أوباما: "سنشارك مع باقي دول العالم لتقوية معاهدة منع الانتشار كحجر أساس لجهودنا العالمية لمنع انتشار الأسلحة النووية بينما نسعى لتعاون مدني نووي أكبر".

ويشير ملاحظون إلى أن الجدل العلني والمكرر الفحوى والمصاحب بتهديدات متجددة منذ سنوات بين واشنطن وطهران حول البرنامج النووي الإيراني يخدم الولايات المتحدة التي تلوح بخطر امتلاك طهران لسلاح نووي، والتي تقوم في نفس الوقت بلعبة سمجة حسب البعض، ففي حين تروج لتوقعات عن تمكن طهران من صنع سلاح نووي خلال أشهر معدودة، تعود لتقول أن الأمر يحتاج إلى سنوات. غير أنه في النهاية وبفضل هذه الهرطقة نجحت واشنطن في استغلال هذا الأمر لخدمة مخططها من أجل حصار أطراف أخرى ومنعها من تطوير أي قدرات نووية ولو لأغراض مدنية بحتة.

خطأ كارثي
ويليام فاف الكاتب والمحلل السياسي الأميركي كتب في "تريبيون ميديا سيرفيسز":
"لقد كان القصد من مؤتمر قمة الأمن النووي، الحيلولة دون مخاطر الانتشار النووي. وهذا هدف نبيل ويستحق المحاولة دون شك، غير أن أقصى ما يمكن أن يحققه -كما أفترض حتى لحظة كتابة هذه السطور- هو مجرد إصدار وعود لفظية لا معنى لها، طالما أن القمة نفسها قد أحاط بها خطأ كارثي. والذي يدعوني إلى هذا القول هو أن القمة قد عقدت استنادا إلى فرضية خلو الولايات المتحدة من أية مصلحة لها في السلاح النووي، وبذلك فهي تتجه بالدعوة إلى بقية دول العالم الأخرى، لخدمة ما فيه مصلحة عامة للبشرية كافة.

والحقيقة أن الاختبار والكابح الحقيقي لعزم الدول على مكافحة الانتشار النووي، يكمن في حق "الفيتو" الثابت الذي تمارسه الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن على قراراته. وقد نتج ذلك النظام عن الترتيبات الدولية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وقد بدأ الكثيرون اليوم ينظرون إليه على أنه نظام غير عادل، ولم يعد ملائما لعصرنا الحالي.

والدافع الرئيسي لسباق التسلح والانتشار النوويين، أي لإمكانية وصول الدول إلى المرحلة الأخيرة من صنع السلاح النووي -تطوير التكنولوجيا النووية المكتملة ذات القابلية والقدرة على الاستخدام الحربي متى ما اقتضت الضرورة- هو الردع كما نعلم.

ومعروف أن اليابان قد وصلت إلى هذه المرحلة الأخيرة. وإلى ذلك يعرف عن إسرائيل أنها قوة نووية رئيسية -غير معلنة- ويبدو أنها ستظل كذلك دائما. ومن ناحية أخرى تعلن كوريا الشمالية عن نفسها باعتبارها قوة نووية أيضاً، وربما صح إعلانها هذا.
أما القوة الرئيسية المؤثرة على سلوك دول العالم الثالث فتتمثل في رغبة بعضها في الحصول على رادع نووي في مواجهة أي اجتياح ربما تتعرض له من قبل الولايات المتحدة أو من قبل أي دولة أخرى مستقبلا.

إن الإدعاء بأن دولة تتمكن من الوصول إلى امتلاك سلاح نووي ستقدم على المبادرة إلى استخدامه ضد طرف آخر أو ضد الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة نفسها، ليس سوى محض هراء في رأيي الخاص على الأقل. فأية دولة، مهما كانت لابد أن تكون من الذكاء بما يكفي للامتناع عن اتخاذ خطوة انتحارية كهذه.

وعلى أقل تقدير، يلاحظ أن الدول المرشحة لانتهاك عدم الانتشار النووي، تبدي حرصا على خلق حالة من الشك وعدم اليقين بشأن حصولها على رادعها النووي الخاص، حتى وإن تمثل هذا الرادع في قدرتها على تطوير قطعة نووية واحدة. والأرجح أن يصدق هذا التفسير على كوريا الشمالية بصفة خاصة. وإذا ما أضفنا تصلب القيادة الكورية الشمالية إلى حالة الشك المحيطة بقدراتها النووية الحقيقية، يساهم ذلك المزيج في إعطاء بيونغ يانغ يدا على أعدائها، تمكنها من ابتزاز هؤلاء الأعداء في مسائل بعينها.

أما فيما يتعلق بما حذر منه أوباما في مؤتمر قمة الأمن النووي الذي عقده: خطر وصول الأسلحة النووية إلى أيدي الإرهابيين، فهذا يبدو لي أبعد ما يكون عن الوقوع، لأنه يصعب على أي من الدول الحائزة على هذه الأسلحة، مجرد المخاطرة بتمليكها للإرهابيين، أو السماح بسرقة ما تحوزه من هذه الأسلحة. وإن حدث شيء كهذا، فسوف يحمل العالم وزر ما فعلته الدولة المعينة لها، قبل أن يضع الوزر على الإرهابيين. والمقصود بهذا أن الدولة التي تغامر باتخاذ خطوة خطيرة مثل تمليك أسلحتها النووية للإرهابيين، ستضع نفسها تحت طائلة الرد النووي عليها".

الكيل بمكيالين
سياسة الكيل بمكيالين فيما يتعلق بتمكين أطراف معينة من تملك سلاح نووي ومنع أخرى، والتماطل في وضع جدول زمني وأهداف محددة لتخليص العالم وفي مقدمته الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن من السلاح النووي عوامل تنبئ بفشل سياسة الحد من الإنتشار.

الملاحظون أشاروا إلى أنه في ختام قمة واشنطن تهرب الرئيس الأميركي خلال مؤتمر صحافي من التعليق على موضوع امتلاك إسرائيل أسلحة نووية. حيث أعرب بصورة عابرة عن أمله في أن تنضم إسرائيل إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، ولكن عندما سئل حول هذا الموضوع، أجاب بالقول "في ما يتصل بـإسرائيل، لا أريد التعليق على برنامجهم، لقد شجعنا كل الدول على أن تكون أعضاء في معاهدة حظر الانتشار النووي، إذا لا تناقض". وأضاف "سواء تحدثنا عن إسرائيل أو عن أي دولة أخرى، نعتقد ان الانضمام إلى معاهدة حظر الانتشار النووي أمر مهم. ليس هذا موقفا جديدا، كان ذلك رأي الحكومة الأميركية حتى قبل إدارتي".

التعليق الإسرائيلي على تصريح أوباما جاء من نائب وزير الخارجية الإسرائيلي دان ايالون، الذي اعتبر أن طلب أوباما من إسرائيل الانضمام إلى معاهدة الحظر النووي "ليس ملحا". ورحب ايالون بتصريح أوباما قائلا إن "سياسة الغموض التي تشكل أساس كل أمن إسرائيل كانت على هذا النحو على الدوام، وستبقى كذلك. لم يطلب الرئيس أوباما عدم تغييرها في الوقت الراهن".

حرب باردة من نوع آخر
إذا كانت معاهدة ستارت 2 الموقعة في العاصمة التشيكية براغ يوم الخميس 8 أبريل 2010 بين الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف والأميركي باراك أوباما قد اعتبرت قفزة نحو نجاح البيت الأبيض في ضمان تنسيق روسي أميركي على الصعيد العالمي يلغي التنافس بينهما ويسمح للولايات المتحدة بالعودة إلى مرحلة التصرف الإنفرادي بدون ردع كما كان الأمر في عهد الرئيس يلتسين، فإن الحقيقة مختلفة تماما.

لقد نصت المعاهدة وحسب وكالة نوفوستي، على تقليص الرؤوس النووية الحربية إلى 1550 لدى كل من الطرفين، مما يقل بنسبة 30 في المائة عن السقف المحدد لهذه الرؤوس "1700 - 2200" في المعاهدة الروسية الأميركية حول القدرات الإستراتيجية الهجومية المبرمة في موسكو في عام 2002.

أما منصات الإطلاق "أو وسائل الحمل، حسب المصطلح الوارد في الوثائق السابقة"، فسيجري تقليصها إلى 800 مقارنة مع 1600 بموجب معاهدة "ستارت - 1" التي تم توقيعها عام 1991، ويقصد بمنصات الإطلاق كل من منصات إطلاق الصواريخ البالستية العابرة للقارات، والغواصات الإستراتيجية، والقاذفات الإستراتيجية الثقيلة.
الأمر يتعلق في جزء كبير بتقليص مصاريف زيادة طبعا على تهدئة الأجواء في علاقات كانت حتى زمن قريب أساس ما سمي الحرب الباردة، فما يبقى من أسلحة لدى الطرفين كاف لتدمير العالم أكثر من 60 مرة.

ولا بد من الإشارة إلى أنه وفي الوقت الذي كان يجرى فيه الاستعداد للتوقيع على الانتفاقية في براغ، أكدت روسيا احتفاظها بحقها في الانسحاب من الإتفاقية في حال شكل الدرع الصاروخي الأميركي المنوي إقامته في شرق أوروبا خطرا على أمنها القومي. وجاء الإعلان الروسي على لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف في مؤتمر صحفي عقده يوم الثلاثاء 6 أبريل في موسكو.

روسيا تعزز قواتها
يوم 3 أكتوبر 2003 صرح به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمناسبة يوم توحيد ألمانيا: "لقد أجرت روسيا في السنوات الأخيرة عدة تقليصات في حجم قواتها، وكفى فعل ذلك، نحن بحاجة إلى قوات حديثة عصرية تملك أحدث الأسلحة والقدرات القتالية والفعالية التأثير، ويدرك الجميع مسوغات هذا الموقف، إذ لم يعد بإمكان روسيا تقليص قواتها، في حين تتابع بقية الدول وبشكل خاص الولايات المتحدة الأميركية تطوير قوتها، ودعمها بأحدث أنواع التقنية، و بأكبر موازنة عسكرية عرفها التاريخ، وإرسال تلك القوات إلى ما وراء البحار لتفعل فعلها من احتلال وسيطرة وفرض هيمنة وأمر واقع.

إن لدى روسيا صواريخ استراتيجية حديثة لم يكشف النقاب عنها من قبل، ولم تستخدم بعد، وإن لدى روسيا صواريخ للدفاع الجوي لا مثيل لها في العالم، وقادرة أن تحرز تفوقا على أي قوة جوية مهما كانت متطورة، وهذه الصواريخ لم توضع بعد في الخدمة لأن القوات الروسية ليست بحاجة لها الآن"، وقال أيضا: "إن روسيا تملك المئات من الصواريخ المدمرة وهي مجهزة بمئات الرؤوس الحربية، وهي قادرة على اختراق كل أنظمة الدفاع المضادة للصواريخ، وإن تخفيض حجم الجيش الروسي من 2.7 مليون جندي إلى مليون جندي لا يعني التخلي عن استراتيجية الردع النووي، وستظل الترسانة النووية هي حجر الأساس في العقيدة الدفاعية الروسية".

ويمكن أن يضاف إلى ما سبق تصريح وزير الدفاع الروسي سيرغي ايفانوف يوم 3 أكتوبر 2003 أيضا والذي جاء فيه: "إن موسكو لا تستبعد اللجوء إلى ضربات عسكرية وقائية في مختلف مناطق العالم، إذا ما تطلبت ذلك مصالح الأمن القومي لروسيا أو مصالح حلفائها، إن روسيا تجابه تهديدات جديدة مثل التدخل في شؤونها الداخلية من قبل دول أجنبية، وتوجه روسيا تحذيرا إلى حلف شمال الأطلسي من أنها قد تعيد النظر في عقيدتها العسكرية، خصوصا في مجال الأسلحة النووية، إذا ما استمر تمسك الحلف بعقيدة عسكرية هجومية تعود إلى أيام عصر الحرب الباردة".

رقعة الشطرنج الكبيرة
في كتابه "رقعة الشطرنج الكبيرة" الصادر في العام 1997، يلخص المستشار السابق للأمن القومي الأميركي بريجنسكي استراتيجية الولايات المتحدة في العالم: "بالنسبة لأميركا، الجائزة الجيوسياسية الرئيسية هي أوراسيا. فلأكثر من خمسة قرون، هيمنت قوى وشعوب أوراسيا على شؤون العالم، وقد تقاتلت في ما بينها لإحراز هيمنة إقليمية وبلوغ مستوى قوة عالمية". وكذلك، "كيفية إدارة أميركا لأوراسيا أمر حاسم.

فأوراسيا هي القارة الأكبر على سطح الأرض، وهي محور جيوسياسي. والقوة التي تهيمن على أوراسيا ستسيطر على ثلثي مناطق العالم الأكثر تقدما وإنتاجيةً على المستوى الاقتصادي. نظرة مجردة إلى الخارطة تفترض أيضا أن السيطرة على أوراسيا تستتبع أيضا وعلى نحوٍ آلي تقريبا خضوع إفريقيا". وتابع في تلخيصه لاستراتيجية إمبراطورية أميركية قائلا إنه "من الواجب عدم ظهور متحد أوراسي قادرٍ على السيطرة على أوراسيا، وبالتالي تحدي أميركا أيضا.

صيغة الجيوستراتيجية الأوراسية المتكاملة والشاملة هي بالتالي هدف هذا الكتاب". كما أنه أوضح أن هناك "خطوتين أساسيتين مطلوبتان: أولاهما تحديد الديناميكية الجيوستراتيجية للدول الأوراسية التي تمتلك القدرة على إحداث تبدل هام ممكن في توزيع القوة عالميا، واكتشاف الأهداف الظاهرية المركزية لنخبها السياسية المعنية والعواقب المرجحة لسعيها لتحقيقها، وثانيتهما صياغة سياسات أميركية خاصة لمعادلة أو السيطرة على ما ذكر أعلاه".

من هذا يتضح أن الصراع الروسي الأميركي لم ينته، وأن كل ما في الأمر هو اتباع دبلوماسية هادئة في نطاق محاولات تقاسم مصالح بشكل مؤقت وفي انتظار تحول ممكن في موازين القوى يتيح لأحد الطرفين التخلي عن معادلة تقاسم الغنائم. هكذا كان وسيبقى الوضع في نزاع القوى والإمبراطوريات عبر تاريخ الإنسانية.

القوة الصينية
ليس هناك شهر عسل بين موسكو وواشنطن كما ان الأمر كذلك بين البيت الأبيض والصين.
الولايات المتحدة التي تعي أن بكين تمسك بأحد أهم خيوط التي قد تقود حسب الطلب إلى تدمير ما تبقى من الاقتصاد الأميركي المتعثر، لا تخفي رغم الدبلوماسية الهادئة قلقها من تمكن بكين من الغاء ما تعتبره واشنطن تفوقا عسكريا يتيح لها محاولة الإبقاء على موقعها كالقوة المهيمنة على الصعيد الدولي.

في الوقت الذي انعقدت فيه قمة واشنطن النووية أوضحت الإدارة الأميركية عبر وثيقة الاستراتيجية الجديدة التي أصدرتها أن غياب الشفافية عن البرنامج النووي الصيني يثير التساؤلات حول الخطط المستقبلية له. وقالت "ما تزال الترسانة النووية للصين أصغر بكثير من ترسانتي روسيا والولايات المتحدة لكن افتقاد الشفافية الذي يحيط ببرامجها النووية وسرعة مسارها وحجم نطاقها وأيضا الاستراتيجية والمذهب الذين يرشداها يثير تساؤلات عن النوايا الاستراتيجية المستقبلية للصين".

وجاء في الوثيقة "الولايات المتحدة وجيران الصين الآسيويون لا يزالون قلقين من وتيرة ونطاق جهود التحديث العسكري الحالية للصين بما في ذلك التحديث الكمي والكيفي لقدراتها النووية".

إن صناع السياسة الأميركان قلقون بشأن قوة الصين المتزايدة وتوسع التأثير في نفقات الولايات المتحدة. وقد وصف تقرير وزارة الدفاع الأميركية، قوة الصين العسكرية بأنها "منافس إستراتيجي". وينظر إلى بيكين أيضا بأنها تتابع، بشكل نشط، أهدافا حيوية وفق جدول أعمال إقليمي لإبعاد واشنطن من المنطقة، يمتد من منظمة تعاون شنغهاي إلى القمة الآسيوية الشرقية القادمة المزمع عقدها في نهاية هذه السنة. ولهذا يتوجس منها كثيرا في واشنطن.

بالإضافة إلى ذلك تنظر الولايات المتحدة بقلق بالغ تجاه قيام الصين ببناء علاقات وتعزيز الروابط في منطقتين مهملتين أميركيا، إفريقيا ودائرة نفوذ الولايات المتحدة التقليدية في أميركا اللاتينية. وهناك تحذيرات بأن "حرب أميركا على الإرهاب"، وتورطها في أفغانستان والعراق مكن من صعود القوة الصينية بشكل متسارع وبدون عوائق، وهو الأمر الذي سيقود في النهاية إلى مواجهة ساخنة مع واشنطن التي ستحاول حماية مصالحها إقليميا وعالميا.

تسارع نمو القوة
اذا كان بعض المحللين في مراكز القرار الأميركي قد قدروا قبل سنوات أن الصين لن تشكل تهديدا لهيمنة الولايات المتحدة سوى مع بداية منتصف القرن الحادي والعشرين، فإن التقديرات مختلفة الأن حيث تقلصت المهلة إلى منتصف أو نهاية العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين.

هذا التنافس أو الصراع جعل المخططين في البيت الأبيض يحذرون الرئيس أوباما من أن موسكو وبكين لن تساندا الولايات المتحدة تكسير مشاريعها للإحتفاظ بالهيمنة النووية عالميا. بل وذهب البعض إلى حد التأكيد ان من مصلحة منافسي الولايات المتحدة عدم اغلاق الباب أمام قوى جديدة للإنضمام إلى نادي القوى النووية، لأن من شأن ذلك تشتيت قدرات واشنطن وقلب خططها الإستراتيجية.

في سنة 2008 وضع ضابط صيني كبير عقيدة عسكرية تعكس إدراكا منتشرا في الصين بأنه لا مفر من المواجهة مع الولايات المتحدة مستقبلا إذا تجاهلت حتميات تبدل موازين القوى على الصعيد العالمي، ورفضت التسليم بإفول نجمها وحتمية التحول إلى صورة مشابهة لبريطانيا التي كانت إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس.

العقيدة تنص على ما يلي: "يستطيع الخصم الأضعف عسكريا أن ينتصر على خصمه الأقوى إذا ما هاجم منظومة الاستطلاع والاتصالات الفضائية لهذا الخصم"، وهذه النظرية تأتي ضمن مجموعة مبادئ المذهب العسكري الصيني الذي يؤكد صراحة في بعض الأحيان، وبصورة رمزية في أحيان أخرى، حتمية الحرب مع الولايات المتحدة.

نهاية احتكار
في الأول من أكتوبر سنة 1949 انتصرت قوات الزعيم الصيني ماوتسي تونغ على حلفاء الولايات المتحدة بعد حرب عالمية ثانية وحرب داخلية عمرت سنوات طويلة وخلفت خسائر فادحة وبلدا مخربا، وكان الإعلان عن قيام الجمهورية الشعبية. في 15 أكتوبر 1964 فجرت الصين قنبلتها النووية الأولى، وفي 17 يونيو 1967 فجرت بكين قنبلتها الهيدروجينية.

تم هذا الإنجاز في بلد كان يعد متخلفا ومن ضمن مجموعة دول العالم الثالث بلد هجرت وصفيت كفاءاته العلمية وفي وقت كان العلم والتقنيات الالكترونية على بعد سنوات من القفزة الكبرى الأولى، وهذا يثبت أن الكثير من اللغط المشوش الذي تبثه وسائل الإعلام الغربية وتوابعها ويغذيها بعض السياسيين عن صعوبة تقنيات صنع السلاح النووي مبالغ فيها.

تقول التقارير العلمية إن من يريد أن ينتج أسلحة نووية فعليه إضافة إلى الحصول على المفاعلات اللازمة والتكنولوجيا والخبرة والمعدات، امتلاك "اليورانيوم المخصب" من السوق العالمي، وهو سوق مثل سوق أية سلعة أخرى وله المشترون الدائمون والمستهلكون إلى جانب "مافيا عالمية" تتاجر به في السوق السوداء.

ووفقا لتقرير أصدره محمد البرادعي المدير السابق لوكالة الطاقة الذرية في فيينا، فإنه بين يناير 1993 وديسمبر 2003، وقعت 540 محاولة مؤكدة لتهريب المواد النووية أو المشعة، من بين هذه المحاولات 17 حالة تتعلق باليورانيوم أو البلوتونيوم المخصب بدرجة عالية وهو ما تتطلبه صناعة أسلحة نووية.

في الربع الثاني من القرن الماضي تنبأ عالم ذرة الماني نقل للعمل في اميركا بعد هزيمة المانيا في الحرب العالمية الثانية بأن محاولات احتكار التقنية والاسلحة النووية سيكون مصيرها الفشل تماما كما حدث قبل الاف السنين عندما ارادت القوي التي اكتشفت اساليب صنع الحديد منع خصومها الذين كانوا مسلحين بسيوف من النحاس من الوصول الي هذه التقنية الجديدة، وكذلك كما حدث لهؤلاء الذين اكتشفوا البارود.

الطريقة التقليدية لصنع قنابل نووية تتم عن طريق اليورانيوم المخصب والبلوتونيوم، وعملية التخصيب التقليدية معقدة وتتطلب تقنيات عالية يحتاج الباحثون عنها لسنوات طويلة للوصول الي اتقانها. ولكن العلم والعقلية البشرية تتطور بوتيرة متسارعة وما كان يحتاج بالأمس إلي ساعات او ايام واحينا سنوات للانجاز يتم الأن احيانا في دقائق إن لم نقل لحظات.

وكمثال علي ذلك أعلنت وكالة الطاقة الذرية الفرنسية يوم الاربعاء 23 فبراير 2000 علي لسان مدير التطبيقات العسكرية جاك بوشار عن توقيع اتفاق مع شركة كومباك الاميركية لشراء جهاز كمبيوتر شديد التطور لاستخدامه في البرنامج الفرنسي لمحاكاة التجارب النووية. والجهاز قادر علي القيام بخمسة مليارات عملية في الثانية بطاقة 5 تيرافلوبس، وبالتالي فهو يوفر سنوات من الابحاث ومليارات الدولارات ويسمح بإجراء التجارب في سرية تامة وبعيدا عن كل حرج.

وشكل الجهاز الجديد الذي أصبح جاهزا للعمل تماما في نهاية 2001 ثالث عنصر في برنامج محاكاة التجارب النووية المعد لتطبيق الردع النووي الفرنسي مع الوقف النهائي للتجارب النووية في المحيط الهادي في فبراير 1996.

ويستند البرنامج الي اداتين ضخمتين هما جهاز التصوير الراديوي اريكس وجهاز ليزر ميغاجول الذي جري في سنة 2001 بناء النموذج الاول منه والمسمي خط الدمج بالليزر "لاين انتيغرايشن ليزر".

الجهاز السابق الذكر الذي كان في زمن ما حكرا في تصنيعه وتقنيته علي بعض الشركات الاميركية يصنع الان في الصين والمانيا والبرازيل وكوريا الجنوبية ودول اخري.
في بداية سنة 1999 اجمعت تقارير استخباراتية في مقدمتها تلك الصادرة من وكالة المخابرات المركزية الاميركية علي ان 21 دولة خارج نادي الدول النووية المعروفة في تلك الحقبة علي عتبة القدرة علي امتلاك تصنيع اسلحة نووية.

عشر سنوات مضت على هذه التقارير ولابد أن لائحة المرشحين تضخمت. لقد أنتهى فصل من فصول الصراع وبدأ آخر. 



نقلاً عن "صحيفة العرب"