تأملات في أوضاع العرب ومستقبلهم
الاثنين, 29-مارس-2010
محمد حمد عمران -
يحار المرء في اختيار المنهجية المناسبة لتشخيص الحال الذي وصل اليه العرب، فقد قرأنا وسمعنا الكثير من الأوصاف للحالة العربية البائسة، ورأينا وعايشنا الكثير من الإخفاقات المحبطة.


حقائق عدة يجب أخذها في الاعتبار، من أجل قراءة المشهد العربي وتشخيصه للوصول إلى رؤية صادقة وعلمية تعكس الواقع من دون عواطف وتضع “خريطة طريق” للخروج من النفق المظلم الذي يبدو بلا نهاية.



إن المشهد العربي وصل إلى هوة سحيقة فهل سرى على هذه الأمة قانون الموت والفناء؟ وهل انتهى أجلها كما تنتهي أجال البشر؟



إن الشواهد على حالة الانحطاط كثيرة لا داعي لإنكارها أو استعراضها، فقد باتت معروفة وقد حار المفكرون والمنظرون في تلمس الأسباب وأشبعوها تمحيصاً وتقييماً ونقداً وتنظيراً، وما زال الكثير منهم يقدمون مساهماتهم ومقارباتهم انطلاقا من حس صادق وغيرة لا يرقى إليهما الشك.



إن ما نطرحه هنا من أفكار لا نقصد به المزايدة أو السجال، ولكنها محاولة لتشخيص هذا الواقع من منطلق غيرة حقيقية على مستقبل هذه الأمة والمساهمة في رصد الحقائق بتجرد لنؤسس لرؤية أكثر وضوحاً من أجل الاهتداء لذلك الضوء في نهاية النفق المظلم.



انقسم المحللون والكتاب والنقاد والمفكرون في أسلوب تشخيص هذه الحالة العربية وفي أسلوب معالجة مأزق الأمة ، بعضهم وصفها بأنها شائكة وبأن العرب “اتفقوا على ألايتفقوا” وآخر وصفهم بأنهم “ظاهرة صوتية” ليس إلا، وآخرون ركزوا على الإخفاقات في الحروب مع “إسرائيل” وما تلاه من إخفاقات للحكومات العربية وما يتصل بها من إخفاقات للقمم العربية ومؤسسة الجامعة العربية وغير ذلك من تركيز بشكل كبير على الصراع العربي - “الإسرائيلي”، وأن العرب لا يصدر عنهم سوى الشجب والاستنكار، وكأن لا مشكلة لدى العرب إلا “إسرائيل”! آخرون يطالبون دائما بالوحدة العربية وتنقية الأجواء وإحياء العمل العربي المشترك والتركيز على الأمن القومي العربي والدفاع المشترك، وهذه الأسئلة والانتقادات تتكرر بشكل دائم وممل.



الآن... لماذا لا نسأل أنفسنا عن الأسباب الحقيقية لفشل العرب في حل مشاكلهم وتكوين وحدة سياسية وتفعيل العمل العربي المشترك، أو حتى في النهوض كلا على حده؟ لابد لهذا الفشل من اسباب موضوعية لأنه لا توجد أمة أو شعب فاشل بالفطرة، خاصة أن للعرب إنجازات تاريخية لسنا بصدد التباكي عليها الآن.



إذاً ما هي أسباب هذه المأساة الحقيقية وكيف وصلنا الى هذا الدرك الأسفل من الفشل؟



إن هذه المنطقة التي تتمتع بموقعها الاستراتيجي والتي كانت وما زالت مهداً للحضارات بحكم دورها التاريخي وبحكم ثرواتها ونفطها، وكل الخصائص التي جعلتها مطمعا للمستعمرين والمؤامرات الدولية وما نتج عن ذلك من تقسيم وعزل وتجهيل ومن ثم استمرارية التلاعب باستقرار المنطقة حفاظا على المصالح الحيوية للدول العظمى، ولن نخوض في تاريخ هذا الدور الإستعماري إنما لابد من التركيز على جريمة زرع الصهيونية في قلب هذا الوطن العربي وما تلاه من أحداث زلزلت استقرار المنطقة وشعوبها ، ويجب في الوقت عينه ألا ننسى أننا لم نحسن التعامل مع هذه المؤامرات بسبب الجهل السياسي والأنانية والفساد الذي ينخر عالمنا، وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى أن أسباب انحطاط الأمة كثيرة يمكن حصر أهمها إلى جانب ما تقدم في الآتي:



أولاً: الفشل في تطوير المنظومة التعليمية على الرغم من التطور الكبير الذي حققه الغرب والشرق في شتى العلوم والذي هو ملك للحضارة البشرية وليس حصرا على شعوب بعينها، ومازال بالإمكان الاستفادة من تطور النظام التعليمي وخاصة العلوم التطبيقية والعلمية.



ثانياً: الفشل في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية، وهذا واضح من خلال التقارير الأممية وكذلك من خلال التخبط الاقتصادي والتنموي والفقر والبطالة التي تعاني منها شعوب المنطقة باستثناء بعض الدول النفطية والتي تقدمت في جوانب معينة من التنمية.



ثالثاً: الفشل قي التنمية السياسية بما تشمله من الحريات والمشاركة الشعبية وكذلك في سن او تطبيق التشريعات الخاصة بحقوق المواطنة وتكافؤ الفرص بين أفراد الشعب بغض النظر عن الطائفة أو الدين أو العرق.



رابعاً: إساءة استخدام السلطة الاعلامية، فهناك اليوم مئات المحطات الفضائية التي أخفق العرب في توجيهها لمصلحة الارتقاء بشعوبها والدفاع عن قضاياهم، فإاقسم الإعلام الرسمي أو الخاص المرخص رسمياً، إما إلى نقل رسالة تجهيلية أو منحازة أو محرضة أو مدمرة، فالكثير من المحطات الفضائية انتهج النزعة الطائفية والمذهبية والتي لم تكن متجذرة في مجتمعاتنا، وأخرى انتهجت أسلوب التدمير لهذه المجتمعات وأجيالها الشابة، من خلال مادة تركز على نشر الرذيلة والانحطاط والموسيقا الهابطة. وقد طالت هذه السياسة الإعلامية الطفولة العربية التي لم تسلم من برامج التخريب.



هل نسي العرب خطورة الإعلام وأهميته في بناء الأجيال؟ وهل نسي العرب أيضاً أن لديهم قضايا استراتيجية يجب الدفاع عنها مقابل الآلة الإعلامية الصهيونية “الإسرائيلية” والصهيونية الغربية التي نجحت في تهشيم صورة العرب إما اختلاقاً وإما بسبب غباء بعض السلوكيات العربية ، أو انعدام الرؤية وغياب استراتيجية العمل الإعلامي الرصين القادر على نقل الصورة الحقيقية لحضارة المنطقة وشعوبها ومعاناتهم وبالتالي إيصال رسالة حضارية تعكس أهمية هذا الجزء المهم من العالم.



خامساً: قضية فلسطين



لقد ربط العرب حاضرهم ومستقبلهم لفترة طويلة بقضية فلسطين كشعوب وحكومات تراعي مشاعر شعوبها تجاه هذه “القضية المركزية” فكانت النتائج محبطة بسبب الإخفاقات العربية في وضع نهاية عادلة لقضية فلسطين وشعبها المظلوم الذي عانى وما زال من الاحتلال والقتل والتهجير. إن فشل العرب والفلسطينيين في حسم هذه القضية مرده أسباب كثيرة أهمها أن هذه القضية عالمية ولا يمكن حلها إلا بعالميتها، لأن فلسطين وشعبها تعرضوا لمؤامرة دولية موثقة بكل تفاصيلها وجرائمها بشكل غير مسبوق في التاريخ، وهنا يجب ألا ننسى ما قدمه العرب من تضحيات ودعم سياسي ومادي ومعنوي لهذه القضية والى قيادة المنظمات الفلسطينية والتي للأسف الشديد لم تستطع تقديم الكثير لقضيتها ولشعبها المظلوم، بل على العكس فقد أضرت بالقضية والشعب بسبب التسلط والفساد والتناحر والصراع على كرسي السلطة الوهمي. إن انعكاس إحباطات وهزائم العرب في تحقيق أي نجاح في قضية فلسطين أدى الى هزائم وإحباطات أخرى كان من الأفضل فك الارتباط بينها، ونرى أن على العرب الآن الخروج من نفق تلك الهزائم من خلال الاقتناع بأن قضية فلسطين هي قضية عالمية وأن الهزيمة لم تكن بسبب مواجهة “إسرائيل” وحدها، وإنما نتيجة مواجهة القوى الكبرى وخاصة الولايات المتحدة وأوروبا الداعمة ل “إسرائيل” والمشاركة في حروبها، وبالتالي لم تكن حروبا متكافئة أو منطقية، وهذا يجعلنا نستنتج أن قراءة العرب لهذا الصراع كانت ولاتزال خاطئة.



الآن يجب على الفلسطينيين والعرب تغيير استراتيجيتهم، وعلى العرب وانطلاقا من عالمية هذه القضية أن يقروا استراتيجية أخرى تعتمد على استمرار الدعم السياسي والمعنوي للفلسطينيين في المحافل الدولية كما كان سابقا وكذلك استمرار الدعم المالي، وفتح المجال للفلسطينيين للدفاع عن قضيتهم المحقة أمام العالم وبأسلوب مغاير لما اعتمدوه في السابق والذي أدى الى تفاقم معاناة شعبهم.



نأمل من الفلسطينيين الأخذ بالأسباب التي ستحقق لهم النتائج المرجوة ، فما حدث في فلسطين جريمة ارتكبتها دولة الانتداب، ثم الدولة المحتلة “الثانية” وهذه الجريمة مكتملة الأركان ماديا ومعنويا، تحتاج إلى ذكاء المدافع عنها لدى الرأي العام الدولي، فالجرائم موثقة منذ دير ياسين وما قبلها وما بعدها حتى جريمة غزة الأخيرة. المطلوب فقط متابعة المطالبة بالحقوق وملاحقة المجرمين لدى الجهات الأممية والقضائية والشعبية الغربية حاكمة العالم في وقتنا هذا.



لابد من انتهاج استراتيجية الصراع السلمي مع “إسرائيل” فهذا يضعفها ويؤلب الرأي العام العالمي ضدها، نرجو ألا تستروا جرائمها وعيوبها بل على العكس يجب المساهمة في فضح هذه الجرائم.



هناك تغيير كبير حدث في الرأي العام العالمي وخاصة الغربي ولابد من إستغلاله لمصلحة خدمة قضية فلسطين ولن نعدد كافة هذه التغيرات فلا مجال هنا لاستعراضها جميعا وإنما نشير الى أهمها من منطلق المؤشرات القوية الواضحة والدالة على التفاعل غير المسبوق مع هذه القضية، وهذه مردها أن الشعوب الغربية هي شعوب حية تنتخب حكامها ومن ثم تحاسبهم (غير متناسين جرائم حكوماتهم) ولهذا وبما أننا دائما نطلب الحل من الغرب ب “الضغط على “إسرائيل”” وغير ذلك من المطالب، فالواجب أن نتوجه اليهم برسالة وسلوك سلام واضحة (وليس مبادرة السلام) من قبل الفلسطينيين يستطيعون فهمها والتفاعل معها بدلاً من الاستجداء الدائم للضغط على “إسرائيل”.



تذكروا الاستطلاع في أوروبا قبل سنوات قليلة الذي إعتبر من خلاله غالبية الاوروبيين أن سياسة “إسرائيل” تشكل تهديداً للأمن والإستقرار في العالم، ثم آراء ودراسات لأكاديميين أمريكيين ومن ضمنهم يهود دانوا الممارسات “الإسرائيلية” واللوبي التابع لها في الولايات المتحدة، وغيرها من المواقف والأحكام التي دانت بناء الجدار العنصري، وغيرها الكثير وآخرها قرار محكمة العدل الأوروبية 25 فبراير 2010 اعتبار منتجات المستوطنات “الإسرائيلية” في الأراضي الفلسطينية المحتلة لاتدخل ضمن الاتفاقية الأوروبية - “الإسرائيلية” التي تحظى بالنظام الجمركي التفضيلي المعمول به، وهذه خطوة أوروبية مهمة لم ينجزها لا العرب ولا الفلسطينيون، ويمكن البناء عليها، غير متناسين دور اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وأوروبا، ولكن هناك إمكانات كبيرة لتحقيق نتائج واختراقات مهمة إذا تحققت الوحدة الفلسطينية وتبنت استراتيجية واعية وحكيمة لإدارة هذا الصراع، وضرورة الاستفادة من الوجود العربي والفلسطيني المقدر بعشرات الملايين من المقيمين في الغرب وكذلك التواصل مع كافة المنظمات اليهودية المعتدلة والتي لديها مواقف داعمة لحقوق الفلسطينيين.



ولابد هنا من التذكير بالمنجزات المهمة للانتفاضتين الأولى والثانية، ونود هنا فقط استرجاع صورة استشهاد الطفل محمد الدرة التي فعلت فعلها في الرأي العام العالمي، هذه الصورة وغيرها من صور ضحايا المجازر “الإسرائيلية” للمدنيين لاشك في أن تأثيرها مباشر وفعال في الرأي العام الغربي والعالمي، وكذلك على النقيض تفعل صورة الملثمين حاملي رشاشات الكلاشينكوف المهددين بالثأر والانتقام فإنهم لا يقدمون شيئاً إيجابياً على الإطلاق سوى الإساءة الى القضية وتكريس معاناة شعبهم وكذلك فعلت العمليات الانتحارية، فليس هذا طريق التحرير الحقيقي والمنطقي في ظل الظروف المحيطة بهذه القضية والمنطقة بشكل عام.



نحن فقط نطلب من الفلسطينيين أن يلعبوا دورهم الحقيقي كضحايا لا يتنازلون عن حقوقهم، وهم واقعا كذلك، أما الاستعراضات الفارغة والعنتريات فهي تفاقم معاناة شعبهم وكذلك تفعل الخلافات والحروب الفلسطينية - الفلسطينية. وهذه ليست دعوة للفلسطينيين للاستسلام او التفريط بالحقوق بل على العكس من ذلك فهي دعوة للتمسك بكافة الحقوق والمطالبة بها والتعويض عن كافة الأضرار التي لحقت بالشعب الفلسطيني والشعوب العربية نتيجة الجرائم “الاسرائيلية” على مدى ثمانين عاما من الجرائم الموثقة.. وذلك قابل للتحقق، ف “إسرائيل” ما زالت تعيش على تعويضات الحقبة النازية.



وعندما يتحقق لكم ذلك فلن يجرؤ احد في المستقبل على استباحة أوطانكم وشعوبكم وحضارتكم وبذلك ستحظى أجيالكم القادمة بضمانة العيش في سلام وأمان.



وهذه الاستراتيجية تنسحب على الدول العربية الأخرى مثل سوريا ولبنان اللذين ما زالت أراضيهما محتلة من قبل “إسرائيل” التي ارتكبت جرائم حرب وإبادة في حق شعبي لبنان وسوريا. ويجب ألا ننساق لحروب “إسرائيل” فهذه هي اهدافها وسبل بقائها، ولأن السلام يزلزلها فلابد من انتهاج إستراتيجية السلام فالمنطقة واقعة في مجال خطط إبقائها في حالة عدم استقرار، ولذلك يجب بناء أساسات تكافح زلازل تلك الخطط حتى يحين موعد الخلاص والاستقرار.



انطلاقاً من هذا الواقع العربي المؤلم، لابد من طرح سؤالين في غاية الأهمية ومن ثم محاولة الإجابة عنهما:



أولاً: هل هناك إمكانية لقيام وحدة عربية في ظل هذه المعطيات؟



ثانياً: هل هناك مستقبل للعرب كأمة أو شعوب أو دول؟



للإجابة عن السؤال الأول: نرى أن مشروع الوحدة العربية هو مشروع جميل وحلم أجمل، ولكن معطيات الواقع تجزم بعدم توفر أية إمكانية لنجاح مشروع الوحدة الحلم هذا بطريقة اختيارية الآن، وبما أننا لسنا في زمن بسمارك او غاريبالدي، فمسألة توحيد الأمة بالقوة غير واردة، ولم تحدث في زمن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وفي أوج تألقه القومي والشعبي، غير متناسين بطبيعة الحال تجربة الوحدة المصرية - السورية بين عام 1958 - ،1961 من القرن الماضي، ولا نود الخوض في ظروف تلك التجربة إلا من حيث أنها تجربة عاطفية أكثر من كونها طبيعية وواقعية ولذلك لم يكتب لها الاستمرارية وذلك ما لم يستدع فرضها بالقوة أو تكرار التجربة مرة أخرى على الرغم من شعبية عبد الناصر غير المسبوقة عند العرب في العصر الحديث.



هناك تجربة أخرى تأسست بعد رحيل عبد الناصر ولم تنفك محاولات التشكيك فيها، إلا انها صمدت ونجحت وثبتت جذورها في الأرض، ألا وهي تجربة الإمارات العربية المتحدة، وهذه التجربة لا يمكن القياس عليها لأن الإمارات متجانسة أصلاً من خلال روابط القربى بين شعبها في مختلف مدنها ومناطقها وكذلك بين حكامها وصلة القربى بينهم من جهة وبين شعبهم من جهة أخرى. العامل الآخر في صمود هذه الوحدة جغرافي بمعنى أن مناطقه مترابطة وقريبة من بعضها ومساحتها محدودة وشعبها عدده قليل قياسا بمساحة الوطن العربي وشعوبه. وقد توفرت ظروف أخرى ساهمت في تكوين هذه الوحدة ونجاحها خاصة الرؤية الصائبة لزعيمها الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، وكذلك الإمكانات المادية التي مكنت الدولة من تجاوز الكثير من المشاكل، وبالتالي سهلت وضع ركائز الدولة وتنميتها وضمان استمرارها.



بعيداً عن هاتين التجربتين وبالنظر الى واقع الحال، وقبل ان يتمكن العرب من الوصول الى حل لقضية فلسطين وتفرعاتها، أقدم صدام على غزو الكويت فانقسم العرب حتى على جريمة بهذا الحجم من الغدر، من الشقيق والجار، وذلك ما أسقط ربما الى الأبد نظرية الأمن القومي العربي. ثم انهارت أمامهم الصومال ولم يحركوا ساكناً، ثم تلاها انهيار العراق ووقوعه تحت الاحتلال الأجنبي المباشر وكذلك التدخلات الأخرى وما نتج عنها من دمار شامل للعراق وما يتعرض له من تفتيت وقتل وتدمير وصراعات طائفية ومذهبية وعرقية تقض مضاجع العراقيين والمنطقة.



السودان كذلك معرض للتقسيم والحروب، وكذلك “اليمن الموحد” الذي يعيش فوضى واضطرابا بدأت بوادرهما بالحرب مع الحوثيين من ناحية ثم مع الحراك الجنوبي الذي يسعى الى العودة الى حالة اليمنين بدلاً عن الوحدة من ناحية ثانية، ولن ننسى الإشارة الى الخلافات العربية-العربية والخلافات الحدودية بين عدد من الدول العربية وحروبها الإعلامية والتي طالت حتى كرة القدم.



إذاً، وفي ظل هذا الواقع فإن الحديث عن الوحدة الآن هو حديث غير واقعي، ومن يراهن على قيام أي نوع من الوحدة وحتى الإقليمية هو جاهل بالواقع المؤلم لهذه الأمة، أو أن افترضنا انطلاق الرهان من حسن النية والمبتغى فإن العاطفة تكون قد غلبت التقييم الواقعي المتجرد للحقيقة الواقعة والمؤلمة.



أيضا وفي ظل الظروف الصعبة التي تمر بها الأمة العربية والمنطقة بشكل عام وما يدور من صراعات وتجاذبات داخل النظام الإقليمي العربي وكذلك التداخل الكبير لمصالح الدول العظمى في المنطقة وثرواتها وموقعها وما نتج عنه من تدخلات خارجية، لابد ان تدفع العرب للتفكير بموقع لهم يجنبهم أثر هذه التدخلات والصراعات والحروب ويحفظ لهم مكانا فاعلا في النظام الإقليمي والدولي.



الآن ما هو الحل؟ وكيف الخروج من هذا المأزق الذي أوقعنا أنفسنا فيه بأيدينا وبأيدي أطراف خارجية تآمرت علينا من أجل حماية مصالحها، فوجدت التربة صالحة تماما لزرع مخططاتها التدميرية، وهنا يجب الاعتراف بأننا نحن العرب ساعدناها على تدمير أنفسنا بسبب الجهل والأنانية والتسلط والفساد وطغيان العاطفة.



ومادامت إمكانية الوحدة معدومة فما هو مستقبل العرب كأمة أو شعوب أو دول؟



انطلاقا من مبدأ الوحدة الاختيارية، وبما أنه لا توجد ديمقراطية حقيقية في المنطقة إلا بنسب متفاوتة لاتمكّن الشعوب من الاختيار الحر لمستقبلها، فإنه لابد من التركيز على النهوض بالدولة القطرية وتقوية أساساتها حتى تتمكن الدولة والشعب من تحقيق النهوض المطلوب للوصول الى حالة التوازن، وهذه ليست دعوة للانعزال أو الانسلاخ من المحيط أو العمق العربي، وإنما لوضع الاسس الصحيحة لكل بناء على حدة الى أن تتوفر الظروف المناسبة للولوج في تجربة قابلة للتطوير، وهذا النهوض القطري قد يتحقق من خلال محاور إستراتيجية نستطيع حصرها باختصار كالتالي:



المحور الأول: وطني يركز على الدولة القطرية من خلال اعتماد خطط وطنية يتم الاهتمام فيها بالعملية التعليمية بالدرجة الأولى وتطويرها لانتشال الشعوب من حالة الأمية والتجهيل والارتقاء بها الى المستوى التعليمي الذي حققه العالم المتقدم، والاهتمام بالتنمية الاقتصادية المستدامة وكذلك التنمية الاجتماعية، والتنمية السياسية وما تتطلبه من تطوير الأنظمة السياسية من خلال الإصلاحات الدستورية لتثبيت حقوق المواطنة الكاملة لكافة أفراد المجتمع بغض النظر عن الدين أو الطائفة أو المذهب أو العرق، بما يشمله من حقوق المساواة وتكافؤ الفرص، والتداول السلمي للسلطة في التجارب الديمقراطية، والمشاركة الأوسع وتحمل المسئولية للشعوب في الأنظمة الملكية التي من مصلحتها هي وشعوبها التحول الى ملكيات دستورية تضمن بقاءها الشرعي وتشرك الشعوب في المسؤولية وتحمل إدارة دفة التنمية، وكذلك من أجل تعزيز الجبهة الداخلية لهذه الدول لتقويتها وحفظها من وهن الانهيار أمام تدخلات المصالح الخارجية.



المحور الثاني: إقليمي، يجب من خلاله التواصل الوثيق مع المحيط العربي ثم الإقليمي، وهنا نرى انه لابد من العمل على تبني مشروع ثقافي وآخر اقتصادي ونترك القضايا السياسية للقنوات الدبلوماسية الثنائية بين الدول. ولتحقيق هذين المشروعين لابد من إحلال المنظمات الإقليمية القائمة بمنظمات أو تجمعات أكثر واقعية وفاعلية، وأن نبدأ بالجامعة العربية التي فقدت فعاليتها وأصبحت شماعة للفشل العربي، مع أنها انعكاس لحال العمل العربي المشترك الفاشل أصلاً بسبب انعدام وجود آليات لتنفيذ قراراتها، ولأسباب ذكرنا بعضها، وهذا ما يجعل اجتماعات الجامعة العربية وعشرات المجالس الوزارية والاتحادات والمنظمات المنبثقة منها مجرد مضيعة للوقت والجهد. ولهذا يتوجب الاستغناء عنها وإحلالها كما اقترح المفكر د. محمد جابر الأنصاري (الخليج 28/10/2010) بحيث تصبح “يونيسكو عربية” تهتم بما يربط العرب من تراث وثقافة ولغة، وهذا اقتراح واقعي يشكر عليه. ولكننا نود الإشارة الى وجود مواز لليونيسكو، غير فاعل بكل أسف، هي المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ومع ذلك فإننا فهمنا الاقتراح، ونود أن يعذرنا بالتصرف ليس في التسمية وإنما في الصلاحيات والمهام، بأن تصبح منظمة للثقافة العربية (بتسمية يتفق عليها) وتكون مظلة لكل ما يتصل بما يميز العرب ويربطهم من لغة وتراث وموسيقا وثقافة مشتركة بشكل عام، والمفترض أن تجمع هذه المنظمة كافة المنظمات ذات الصلة مثل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ومجمع اللغة العربية واتحاد الكتاب والأدباء وكافة المؤسسات المعنية بالموروث الراقي من الموسيقا العربية الأصيلة، وأن تهتم هذه المنظمة بتلك العناصر المهمة الجامعة بين العرب وأهمها اللغة العربية، وما عكسته من رقي على مدى التاريخ وقدرة على استيعاب كافة المتغيرات.



وهنا لابد للعرب من الاهتمام بهذه اللغة العظيمة وإعادة الإعتبار إليها إذا أرادوا أن يكون لهم شأن وشخصية فاعلة بين الأمم، وهذا لا يعني الاستخفاف باللغات الحية الأخرى بل نشجع على تعلم اللغات الأخرى والاستفادة من إبداعاتها. ولابد من التركيز على دور الإعلام ضمن هذا المشروع، وكما أشرنا سابقاً ووجوب عقلنة البث الإعلامي بما يخدم النهوض بالأجيال الشابة وتبني سياسة إعلامية تعكس الموروثات القيمة لهذه الأمة وفرض آلية قيم تحفظهم من الحرب الإعلامية الموجهة التي تنتهج تدمير الذوق العام والقيم والأخلاق والشحن الطائفي والمذهبي والعرقي.



أما المشروع الاقتصادي، فمن الممكن نجاحه إذا إقتفى تجربة السوق الاوروبية المشتركة التي تحولت بعد نصف قرن الى الاتحاد الأوروبي، فالاقتصاد والمصالح غالباً ما تقودن السياسة، وبالتالي فإن المصالح الاقتصادية المشتركة قد تنجح في جمع العرب إذا أحسن إيجاد هيئة قد يطلق عليها “السوق العربية المشتركة” تجمع تحت مظلتها كافة الهيئات والمؤسسات العربية المشتركة غير الفاعلة أو المفعلة، ومن ضمنها اتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة، وكذلك ما يسمى منطقة التجارة العربية الحرة، وكافة الاتحادات والمجالس والمنظمات المعنية بالشؤون الاقتصادية، والعمل في الوقت ذاته على سن القوانين والتشريعات لتشجيع وضمان الاستثمارات البينية وتنويعها بحيث تتم الاستفادة من إمكانات كل دولة والتركيز على المشاريع الإنتاجية والحرص كل الحرص على استدامة التنمية من حيث مراعاتها للتنمية البشرية والمحافظة على البيئة.



المحور الثالث: عالمي، يتم من خلاله تقوية التواصل بشكل ثنائي مع كافة دول العالم الصديقة، والعمل على بناء مصالح مشتركة معها، والتركيز على الدول ذات الامتداد التاريخي والحضاري مع المنطقة وكذلك مع الدول المعروفة بمواقفها المعتدلة تجاه المنطقة. وإذا أخذنا في الاعتبار أن أحد أهم اسباب التدخلات العالمية في المنطقة هو حماية مصالحها، فإننا نتمنى على العرب أيضاً أن يحددوا مصالحهم ويحاولوا الدفاع عنها، ولأنهم لم ينجحوا في ذلك من خلال سياستهم الفاشلة كمجموعة فإنهم قد ينجحون بشكل فردي أو من خلال “السوق العربية المشتركة” إذا تم اتخاذ قرار استراتيجي في هذا الشأن.



لابد أيضا من التركيز على تفعيل المشاركة في كافة المحافل والمنظمات الدولية وخاصة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، وعلى الرغم من سيطرة الدول العظمى على هذه المنظمة إلا أنها تظل الساحة المناسبة، في الوقت الحاضر على الأقل، للمطالبة بالحقوق المشروعة. كذلك التواصل مع التجمعات الإقليمية الأخرى مثل الاتحاد الاوروبي والآسيان ودول امريكا اللاتينية، والتجمعات والمؤسسات الفاعلة والمؤثرة في الدول العظمى وخاصة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.



وأخيراً، إذا كان هناك الكثير من الأزمات التي تمر بها المنطقة العربية والكثير مما يفرق شعوبها ودولها، فلابد أن هناك الكثير مما يجمعها وخاصة اللغة والثقافة وبعضاً من التاريخ المشترك، والتي لا تحقق وحدة إلا إذا توفرت عناصر كثيرة أخرى أهمها الاختيار الديمقراطي للوحدة وكذلك تقارب النظم السياسية والاقتصادية وتشابك المصالح.



وبما أن موعد القمة العربية في ليبيا قد اقترب، والذي نتمنى أن يكون مستوى المشاركة فيها على مستوى التحديات، رغم أن التوقعات لا تشي بذلك. في كل الاحوال نتمنى على القادة العرب، في هذه القمة بالذات، وبما أن قرارات القمة كانت دائماً مجرد قرارات لا تحظى بأية آلية للتنفيذ وبالتالي تكون عرضة للانتقاد والسخرية، فإننا نتمنى أن تكون هذه القمة آخر قمة ضمن الإطار السابق لتلك الجامعة العربية العاجزة، وأن تسعى هذه القمة لتغيير استراتيجية العمل من خلال تبني إستراتيجية عمل مستقبلي يضع نهاية لذلك العجز، وان تكون قمة فاصلة بين زمنين.. زمن الهزائم والتخلف وزمن العمل من أجل مصالح الأوطان والأجيال القادمة، استراتيجية تركز على التعليم والتنمية الحقيقية بكل تفرعاتها، وان يكون جدول أعمال هذه القمة خالياً من أي بنود سياسية على الإطلاق.



وقد أختم القول بأنني لست متشائماً رغم الصورة المحبطة لواقع العرب، ولست كذلك متفائلاً، وانما هو خليط من هذا وذاك، ولكن هناك حقائق مشجعة وهي أن العرب قاربوا 300 مليون إنسان ومساحة أرض تناهز 14 مليون كيلومتر مربع (قبل بداية التفتيت والتجزئة) بالإضافة الى ما تحتضنه هذه الأرض من ثروات هائلة ومتنوعة جذبت اليها طمع الطامعين من كل حدب وصوب من دون أية سلطة أخلاقية تراعي المواثيق والمبادئ والشرائع الدولية.



وهذا يستدعي وقفة شجاعة من القادة العرب للمحافظة على مصالحهم ومصالح شعوبهم وتحويل ال 300 مليون عربي الى كتلة فعالة ومتعلمة وقادرة على التنمية والانجاز، وذلك من خلال تركيز الاهتمام على التعليم النوعي والتنمية الشاملة الاقتصادية والسياسية بالإضافة إلى إيجاد منظومة ديمقراطية تستوعب الجميع من خلال حق المواطنة.



أما إذا بقي الحال على ما هو عليه، فإنه لن يطول الزمن حتى تتحول هذه المنطقة الى حالة رهيبة من الفوضى وتتجه هذه الطاقات التي بدأت إما الى الهجرة أو الانزواء والسلبية أو حتى الى الجريمة والمخدرات أو حتى الى الإرهاب والعنف الطائفي والمذهبي، إلا من رحم ربي، وعندها لن يبقى مما ترون اليوم سوى حطام أمة وشراذم شعوب وبقايا أوطان.




صحيفة الخليج