عناصر استراتيجية عربية لتفعيل دور الإعلام في بناء واقع عربي جديد
الاثنين, 01-مارس-2010
السيد يسين - عناصر استراتيجية عربية لتفعيل دور الإعلام
في بناء واقع عربي جديد

مقدمة :
لا يمكن صياغة استراتيجية عربية لتفعيل دور الإعلام في بناء واقع عربي جديد بغير تأمل للتغيرات الكبرى التي حدثت في بنية المجتمع العالمي من ناحية، ودراسة الوضع الراهن للمجتمع العربي من ناحية ثانية. ودراسة التغيرات التي لحقت ببنية المجتمع العالمي تقتضي ممارسة التحليل الثقافي الذي أثبت كفاءته في وصف مشاهد العالم المعاصر بصورة تفوق التحليل السياسي التقليدي والتحليل الاقتصادي الكلاسيكي. أما دراسة الوضع الراهن للمجتمع العربي فهي تحتاج إلى عديد من الدراسات العلمية الموضوعية، وكثير منها متوفر في المكتبة العربية المعاصرة، وخصوصا في مطبوعات مركز دراسات الوحدة العربية. غير أن هذا الوضع يحتاج أكثر ما يحتاج الى ممارسة النقد الذاتي.
والنقد الذاتي كما أردد دائما ليس - للأسف الشديد - فضيلة عربية، ولكنه في الواقع فضيلة غربية! ولذلك ليس غريبا أن نقرر أن أحد أسباب التقدم الغربي هو ممارسة النقد الذاتي بصورة منهجية، وبطريقة منتظمة. وهذا النقد الذاتي تقوم به النظم السياسية أو بمعنى أدق ممثلوها من أهل الحكم والسلطة، وزعماء الأحزاب السياسية، والمفكرون والمثقفون بشكل عام، وذلك إذا دعت الدواعي لذلك.
ومثال ذلك التصريحات البريطانية الأخيرة التي اعترفت بالخطإ الجسيم في تصديق تقارير مخابراتية مزيفة عن امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل التي يمكن أن تنطلق في خلال مدة خمس وأربعين دقيقة، وكذلك التصريحات الأمريكية لكوندليزا رايس (وزيرة الخارجية الأمريكية الجديدة)، والتي قالت فيها لم نخطئ في الاستراتيجية، وتعني قرار غزو العراق عسكريا، ولكن أخطأنا في التكتيك، وتعني عدم رسم سيناريو دقيق للموقف في العراق بعد تمام الغزو والاحتلال.
ويمكن القول إن العالم العربي قد شهد موجات متتالية من ممارسة النقد الذاتي منذ الهزيمة العربية في حرب فلسطين عام 1948 حتى الوقت الراهن.
لقد كان نجم الموجة الأولى للنقد الذاتي العربي هو المؤرخ اللبناني المرموق قسطنطين زريق، الذي أصدر كتابه النقدي عام 1948 بعنوان "معنى النكبة"، وركز فيه على أن أسباب الهزيمة تتركز في سببين هما: غياب الديمقراطية، وغياب التفكير العلمي في المجتمع العربي. وجاءت موجة النقد الذاتي العربي الثانية عقب الهزيمة الساحقة في حرب يونيو 1967.
وكان نجم هذه الموجة الثانية هو الفيلسوف السوري المعروف صادق جلال العظم في كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، والذي حلل فيه بصورة نقدية عملية التنشئة الاجتماعية المعيبة في المجتمع العربي، والتي تركز على الاتباع وليس على الإبداع، وتحرص على مطابقة الطفل العربي في سلوكه للقيم السائدة حتى ولو كانت رجعية ومحافظة.
وشارك العظم في هذه الموجة الثانية صلاح الدين المنجد في كتابه "أعمدة النكبة السبعية" وأديب نصور ممثلا للفكر المسيحي في كتابه "النكسة والخطأ".
ومن الغريب أن تأتي الموجة الثالثة للنقد الذاتي العربي عام 1974 بعد عام واحد من انتصار العرب في حرب أكتوبر 1973. وتمثلت هذه الموجة الثالثة في الندوة الهامة التي نظمتها في الكويت جمعية الخريجين الكويتية، وكان عنوانها "أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي".
وجاءت الموجة الرابعة للنقد الذاتي في ندوة تاريخية نظمها في قبرص مركز دراسات الوحدة العربية عام 1983، وكان موضوعها "أزمة الديمقراطية في الوطن العربي"، وهي الندوة التي أعلن في نهايتها قيام »المنظمة العربية لحقوق الإنسان، مشيرة بذلك الى انتقال المثقفين العرب من مجال الكلام الى ميدان الفعل.
غير أنني بمناسبة نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين أردت باعتباري باحثا متخصصا في علم الاجتماع السياسي، أن أقوم بعملية نقد ذاتي للتجربة العربية طوال الخمسين عاما الماضية، بالنيابة عن المثقفين العرب، الذين ترددوا لأسباب شتى في القيام بهذا المشروع النقدي الضروري.
وقد قمت بهذه الدراسة والتي جعلت عنوانها "العرب على مشارف الألفية الثالثة"، ونشرت في صورة سلسلة مقالات متتابعة في عدد من الصحف العربية، ثم أعدت نشرها في كتابي "المعلوماتية وحضارة العولمة"، دراسة نقدية عربية الصادر عن دار نهضة مصر بالقاهرة في يناير عام 2001.
وقد ناقشت في هذه المحاولة للنقد الذاتي العربي عديدا من الموضوعات هي: العرب يودّعون القرن العشرين، الصراع والسلام في الألفية الثالثة، مشكلات التحديث العربي، اختبار الحداثة العربية، الليبرالية في مواجهة إرث السلطوية، العرب في مواجهة أسئلة القرن الحادي والعشرين، تحديات التنمية العربية، ثقافة تحت الحصار، ثقافة التحريم، فاق المستقبل العربي، العرب في سياق التغير العالمي.
أولا: تغيّرات المجتمع العالمي
لعل التطورات العالمية في العقد الذي يفصل عام 1999 بين سقوط الاتحاد السوفياتي وبلاد الكتلة الاشتراكية ونهاية الحرب الباردة وزوال النظام الدولي الثنائي القطبية والأحداث الإرهابية التي وجهت ضد الولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر 2001، تثبت بما لا يدع مجالا للشك أولوية الأبعاد الثقافية في التواصل العالمي بمختلف أنماطه وأشكاله. وتكفي الإشارة إلى الجدل الهام الذي دار حول نظرية صراع الحضارات التي قدمها هنتنغتون، وما أشار إليه من أن الحروب القادمة بين الغرب و"الباقي" (أي باقي العالم بحسب تعبيره) ستكون حروبا ثقافية، ومن ثم ينبغي علينا إذا كنا نريد أن نضع عناصر استراتيجية عربية لتفعيل دور الإعلام في بناء واقع عربي جديد أن نضع في اعتبارنا في المقام الأول التغييرات التي حدثت في بنية المجتمع العالمي من وجهة النظر الحضارية. وأبرزها عملية الانتقال من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع المعلومات العالمي، والذي ينتقل - ببطء وإن كان بثبات - إلى مجتمع المعرفة، ونهاية النظام الدولي الثنائي القطبية وبروز الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة العظمى الوحيدة المهيمنة، والتركيز على ظاهرة العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية، وذلك بالإضافة إلى الوقوف عند المشهد الثقافي العالمي والذي يزخر بالصراعات والإيديولوجيات المتضاربة.
ولا نبالغ أدنى مبالغة إذا قلنا إن الإنسانية تنتقل الآن، عبر عملية معقدة ومركبة، صوب صياغة مجتمع عالمي جديد، تحت تأثير الثورة الكونية. وهذه الثورة الكونية تأتي - في التعاقب التاريخي للثورات المتعددة التي شهدتها الإنسانية - عقب الثورة الصناعية. وكانت البدايات الأولى تتمثل في بزوغ ما أطلق عليه "الثورة العلمية والتكنولوجية"، والتي جعلت العلم - لأول مرة في تاريخ البشرية - قوة أساسية من قوى الإنتاج، تضاف إلى الأرض ورأس المال والعمل. وبالتدريج بدأت ملامح المجتمعات الصناعية المتقدمة تتغير، ليس في بنيتها التحتية فقط، ولكن أيضا في أسلوب الحياة، وأنماط التفكير، ونوعية القيم السائدة، وأساليب الممارسة السياسية. ومنذ الستينات ذاع مصطلح جديد، أطلقه بعض علماء الاجتماع الغربيين، من أبرزهم دانييل بل لوصف المجتمع الجديد، وهو "المجتمع ما بعد الصناعي". غير أنه مع مرور الزمن تبين قصور هذا المصطلح عن التعبير عن جوهر التغيير الكيفي الذي حدث، ومن هنا صك العلماء الاجتماعيون مصطلحا آخر رأوا أنه أوفى بالغرض، وأكثر دقة في التعبير، وهو مصطلح "مجتمع المعلومات". وذلك على أساس أن أبرز ملمح من ملامح المجتمع الجديد أنه يقوم أساسا على إنتاج المعلومات وتداولها من خلال آلية غير مسبوقة هي الحاسب الآلي، الذي أدت أجياله المتعاقبة إلى إحداث ثورة فكرية كبرى، في مجال إنتاج وتوزيع واستهلاك المعارف الإنسانية. فإذا أضفنا إلى ذلك القفزة الكبرى في تكنولوجيا الاتصال، وبخاصة في مجال الأقمار الصناعية واستخداماتها الواسعة، وخصوصا في مجال البث التليفزيوني الكوني، الذي بحكم آليته يتجاوز الحدود الجغرافية، وينفذ إلى مختلف الأقطار، التي تنتمي إلى ثقافات مختلفة، مما من شأنه أن يؤثر - خلال الرسائل الإعلامية المتعددة - على القيم والاتجاهات والعادات، لأدركنا أننا بصدد تشكل عالم جديد غير مسبوق، تصبح فيه العبارة الشهيرة والتي مفادها أن العالم أصبح قرية صغيرة، تقصر كثيرا عن وصف اثر التغيرات التي يتعمق مجراها كل يوم.
في ظل هذه التطورات الكبرى في مجال المعرفة والاتصال، وانتقالنا من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات، أخذ يتشكل ببطء - وإن كان بثبات - ما يمكن أن نطلق عليه "الوعي الكوني"، والذي سيتجاوز في آثاره، كل أنواع الوعي السابقة عليه كالوعي الوطني، بكل تفريعاته من وعي اجتماعي ووعي طبقي، ووعي قومي. سيبرز الوعي الكوني متجاوزا كل أنماط الوعي السابقة، لكي يعبر عن بزوغ قيم إنسانية عامة، تشتد في الوقت الراهن المعركة حول صياغتها، واتجاهاتها، ولا بد في مستقبل منظور، أن ينعقد الإجماع العالمي عليها.
وفي ضوء ذلك كله، نستطيع أن نفهم سر المعركة التي تدور في الوقت الراهن حول "النظام العالمي الجديد"، الذي تريد الولايات المتحدة الأمريكية - بعد انهيار النظام العالمي الثنائي القطبية - أن تهيمن عليه مستندة إلى قوتها العسكرية والتكنولوجية، بالرغم من التآكل التدريجي لقوتها الاقتصادية العالمية، كما تنبأ بذلك بول كيندي في كتابه الشهير "صعود وسقوط القوى العظمى" والذي أثار جدلا أمريكيا حادا، بين أنصاره وخصومه.
وهكذا يمكن القول إننا بصدد رصد التغيرات العميقة التي ألمحنها إليها، لابد أن نقف قليلا أمام ظاهرة بزوغ ما يمكن أن نطلق عليه "مجتمع المعلومات الكوني".
مجتمع المعلومات الكوني :
مجتمع المعلومات يأتي بعد مراحل مر فيها التاريخ الإنساني، وتميزت كل مرحلة بنوع من أنواع التكنولوجيا يتفق معها. شهدت الإنسانية من قبل تكنولوجيا الصيد، ثم تكنولوجيا الزراعة، وبعدها تكنولوجيا الصناعة، ثم وصلنا أخيرا إلى تكنولوجيا المعلومات.
ويمكن القول أن سمات مجتمع المعلومات تستمد أساسا من سمات تكنولوجيا المعلومات ذاتها، والتي يمكن إجمالها في ثلاث :
أولاها : أن المعلومات غير قابلة للاستهلاك أو التحول أو التفتت، لأنها تراكمية بحسب التعريف، وأكثر الوسائل فعالية لتجميعها وتوزيعها، تقوم على أساس المشاركة في عملية التجميع، والاستخدام العام والمشترك لها بواسطة المواطنين.
وثانيتها: أن قيمة المعلومات هي استبعاد عدم التأكد، وتنمية قدرة الإنسانية على اختيار أكثر القرارات فعالية.
وثالثتها: أن سر الوقع الاجتماعي العميق لتكنولوجيا المعلومات، أنها تقوم على أساس التركيز على العمل الذهني (أو ما يطلق عليه أتمتة الذكاء)، وتعميق العمل الذهني (من خلال إبداع المعرفة، وحل المشكلات، وتنمية الفرص المتعددة أمام الإنسان)، والتجديد في صياغة النسق، وتعنى بتطوير النسق الاجتماعي.
ويلخص بعض الباحثين إطار مجتمع المعلومات في الملامح التالية :
1- المنفعة المعلوماتية (من خلال إنشاء بنية تحتية معلوماتية تقوم على أساس الحواسيب الآلية العامة المتاحة لكل الناس) في صورة شبكات المعلومات المختلفة، وبنوك المعلومات، والتي ستصبح هي بذاتها رمز المجتمع.
2- الصناعة القائدة ستكون هي صناعة المعلومات التي ستهيمن على البناء الصناعي.
3- سيتحول النظام السياسي لكي تسوده الديمقراطية التشاركية، ونعني السياسات التي تنهض على أساس الإدارة الذاتية التي يقوم بها المواطنون، والمبنية على الاتفاق، وضبط النوازع الإنسانية، والتأليف الخلاق بين العناصر المختلفة.
4- سيتشكل البناء الاجتماعي من مجتمعات محلية متعددة المراكز ومتكاملة بطريقة طوعية.
5- ستتغير القيم الإنسانية وتتحول من التركيز على الاستهلاك المادي، إلى إشباع الإنجاز المتعلق بتحقيق الأهداف.
6- أعلى درجة متقدمة من مجتمعات المعلومات، ستتمثل في مرحلة تتسم بإبداع المعرفة من خلال مشاركة جماهيرية فعالة، والهدف النهائي منها هو التشكيل الكامل لمجتمع المعلومات الكوني.
وقد يبدو أن هذه الصورة التي رسمناها ليست سوى ضرب من الأحلام، غير أن مجتمع المعلومات الكوني، ليس في الواقع حلما، بقدر ما هو مفهوم واقعي، سيكون هو المرحلة الأخيرة من مراحل تطور مجتمع المعلومات. وهناك ثلاثة أدلة تؤكد هذا القول :
أولها : أن الكونية GLO BALISM ستصبح هي روح الزمن في مجتمع المعلومات القادم. ويرجع ذلك إلى الأزمات الكونية المتعلقة بالنقص في الموارد الطبيعية وتدمير البيئة الطبيعية، والانفجار السكاني، والفجوات العميقة الاقتصادية والثقافية بين الشمال والجنوب.
وثانيها : أن تنمية شبكات المعلومات الكونية، باستخدام الحواسيب الآلية المرتبطة ببعضها بعضا عالميا، وكذلك الأقمار الصناعية، ستؤدي إلى تحسين وسائل تبادل المعلومات، وتعمق الفهم، مما من شأنه أن يتجاوز المصالح القومية والثقافية والمصالح الأخرى المتباينة.
وثالثها : إن إنتاج السلع المعلوماتية سيتجاوز إنتاج السلع المادية، بالنظر إلى قيمتها الاقتصادية الإجمالية، وسيتحول النظام الاقتصادي من نظام تنافسي يقوم على السعي إلى الربح إلى نظام تأليفي ذي طابع اجتماعي يسهم فيه الجميع.
غير أنه لا ينبغي أن يقر في الأذهان، أن تشكيل مجتمع المعلومات الكوني عملية هينة. ذلك أنه يقف دونها تحديات عظمى، ينبغي مواجهتها. وأول هذه التحديات المعركة الدائرة الآن حول »ديمقراطية المعلومات، والتي هي الشرط الموضوعي الذي لابد من توفره، وذلك لتفادي الشمولية والسلوطية.
وديمقراطية المعلومات تنهض على أساس أربعة مقومات. أولها : حماية خصوصية الأفراد، وتعني الحق الإنساني للفرد لكي يصون حياته الخاصة ويحجبها عن الآخرين. والمقوم الثاني هو الحق في المعرفة، ونعني حق المواطنين في معرفة كل ضروب المعلومات الحكومية السرية، التي قد تؤثر على مصائر الناس تأثيرا جسيما. ونأتي بعد ذلك إلى حق استخدام المعلومات. ونعني بذلك حق كل مواطن في أن يستخدم شبكات المعلومات المتاحة وبنوك البيانات، بسعر رخيص، وفي كل مكان، وفي أي وقت. وأخيرا نصل إلى ذروة مستويات ديمقراطية الإعلام، ونعني حق المواطن في الاشتراك المباشر في إدارة البنية التحتية للإعلام الكوني، ومن أبرزها عملية صنع القرار على كل المستويات المحلية والحكومية والكونية.
وثاني التحديات التي تواجه تشكيل مجتمع المعلومات الكوني، هو تنمية الذكاء الكوني، وهو يعني القدرة التكيفية للمواطنين في مواجهة الظروف الكونية المتغيرة بسرعة. والذكاء يمكن تعريفه - بشكل عام - بأنه القدرة على الاختيار العقلاني للفعل الإنساني لحل المشكلات. ويبدأ الذكاء بالمستوى الشخصي لدى الأفراد، ثم يتطور ويتعمق إلى مستوى الذكاء الجمعي. وداخل الجماعة يفترض أن الذكاء الشخصي للأفراد سيتألف وينسق بينه لتحقيق الأهداف العامة لتغيير البيئة الاجتماعية، وهو ما يطلق عليه الذكاء الاجتماعي. وهو بذاته الذي يمكن أن يتطور ليصبح ذكاء كونيا، والذي سيتشكل من خلال الفهم الكوني المتبادل، الموجه لحل المشكلات الكونية، كما ظهر أخيرا في الجهود العالمية لمواجهة أزمة البيئة الإنسانية، التي تشارك فيها مختلف الدول في الوقت الراهن. ويصلح موضوع البيئة مثالا نموذجيا لإبراز تبلور الوعي الكوني، بعدما ظهرت النتائج السلبية لمجتمع الصناعة وما أفرزه من ضروب متنوعة من تلوث الماء والهواء والتربة. ومن المؤكد أننا سنشهد في وقت قريب تشريعات قُطرية ملزمة، وتشريعات دولية، سيكون من شأنها إدخال تعديلات جذرية على أدوات الإنتاج السائدة. ومن هنا يحق لنا القول، أنه وعلى عكس ما يبدو حديثا نظريا فإننا نشهد في الوقت الراهن بدايات تشكل الوعي الكوني والذي لم يبرز فقط في موضوع البيئة، وإنما وربما أهم من ذلك، ظهر في موضوع القضاء على الأسلحة الذرية والكيماوية وتدميرها، خلاصا من سيناريو فناء البشرية، والذي كان سائدًا في عصر توازن الرعب النووي، هذا الوعي الكوني الذي يتعمق كل يوم، ليس في الواقع سوى التعبير الأمثل عن نشوء مجتمع المعلومات الكوني.
ثانيا: عناصر استراتيجية إعلامية عربية
في ضوء ما سبق يمكن أن نقترح عناصر لاستراتيجية عربية مقترحة تتكون من عدة عناصر.
أولا: ضرورة رسم خرائط معرفية للاتجاهات الإيديولوجية
في الوطن العربي
لا يمكن وضع استراتيجية إعلامية عربية لتفعيل دور الإعلام في بناء واقع عربي جديد بغير رسم خرائط معرفية دقيقة تحيط بكل ألوان الطيف من الاتجاهات الإيديولوجية الفاعلة في الوطن العربي. وهذه الخرائط المعرفية لابد لها أن تقيم الوزن النسبي لكل تيار واتجاه. وأهمية هذه الخرائط المعرفية أنها ستساعدنا على معرفة الواقع العربي الذي نريد تغييره، وكذلك على تحديد ملامح التغيير واتجاهاته. ومن ناحية أخرى من شأن هذه الخرائط المعرفية أن تقضي على التعميمات الجارفة عن العرب والمسلمين التي تصوغها الدوائر الغربية السياسية والثقافية والإعلامية.
فهل صحيح - على سبيل المثال - أن إيديولوجية الجماعات الإسلامية المتشددة والمتطرفة هي السائدة في الوطن العربي؟ وأليس هناك مجال واسع للتيارات الليبرالية التي تنادي بالديمقراطية وبحرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم، وحرية الصحافة والنشر؟
وأليس هناك في الوطن العربي تيارات كبيرة تدعو لتحسين دور المرأة في المجتمع وإلغاء كافة صنوف التمييز ضدها؟ وهكذا نستطيع ان نقدم صورة موضوعية للتفاعلات السياسية بين أنصار الإيديولوجيات العربية المختلفة مما يسمح للإعلام العربي أن يتناول بشكل نقدي وموضوعي بعض منطلقاتها التي يمكن أن ترسخ التخلف العربي بدلا من الوصول بنا إلى أعتاب التقدم.
ثانيا: تبني موقف رشيد من ثلاثية الماضي والحاضر والمستقبل
لو راجعنا الخطاب الإعلامي العربي طوال الخمسين عاما الماضية لوجدناه مشغولا بثلاثية الماضي والحاضر والمستقبل، مع وجود اختلافات عميقة بين أصحاب هذا الخطاب حسب الإيديولوجيات التي يعبرون عنها.
وفي تقديرنا أن الإعلام العربي يمكن أن يلعب دورا هاما في الدعوة إلى الدراسة العلمية للتراث الماضي بأنماطه المتنوعة، من خلال التأكيد على ضرورة ممارسة التأويل بمناهجه المتعددة حتى يتواءم النص التراثي - حتى لو كان نصا دينيا - مع متغيرات العصر.
ومن ناحية أخرى لابد من اصطناع منهج علمي ونقدي في دراسة الحاضر العربي. وهذا المنهج لابد أن يكون تكامليا لا يفصل بين السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة - ليس ذلك فقط - بل لابد أن يكون منهجا نقديا، يركز على السلبيات، ويسمي الظواهر بأسمائها.
وتبقى ضرورة استشراف المستقبل العربي في ضوء قراءة دقيقة لتغيرات بنية المجتمع العالمي كما أشرنا في المقدمة. وفي هذا المجال لابد من ترشيد الخطاب الثقافي العربي إزاء ظاهرة العولمة، والتي هي أبرز الظواهر ونحن في بداية الألفية الثالثة.
وهذا الترشيد يقتضي عدم تبني المواقف المتطرفة من العولمة، ونعني القبول المطلق بغير تحفظات، أو الرفض الشامل بغير تحليل. نحتاج كعرب إلى نظرة متوازنة تكفل تعظيم المكاسب وتقليل الخسائر.
ولا بد من التركيز على الآثار المترتبة على تحول الاقتصاد العالمي إلى اقتصاد المعرفة، وتحول المجتمع المعلوماتي العالمي إلى مجتمع المعرفة.
ثالثا: حصر لمشكلات التواصل الثقافي مع الغرب
لا بد من حصر دقيق للمشكلات التي تعوق التواصل الثقافي الإيجابي بين العرب والغرب. ونستطيع في هذا المجال أن نعدد بعض المشكلات الهامة وفي مقدمتها :
1 - مشكلة العلاقة بين الإسلام والغرب.
2 - مشكلة التطرف الفكري في العالم العربي.
3 - المشكلات الناجمة عن الإرهاب.
4 - الهجرات العربية إلى أوروبا ومشكلاتها وخاصة قضية اندماج المهاجرين في المجتمعات الأوروبية.
5 - التفرقة بين المقاومة المشروعة للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والإرهاب.
6 - العنصرية الجديدة في أوروبا.
رابعا: الدعوة للإسهام العربي في مناقشة المشكلات الإنسانية العالمية
نحن نعيش في عصر عولمة المشكلات الإنسانية. حيث ضاقت المسافات بين المشكلات المحلية والعالمية. فتلوث البيئة مشكلة محلية وعالمية، والفقر كذلك، والفجوة بين الموارد والسكان وهكذا يمكن القول إن الإعلام العربي يمكن أن يلعب دورا فاعلا في حوار الحضارات الذي ينبغي أن يدور بين العرب والعالم.
وهذا الحوار لا ينبغي أن يقتصر على مناقشة مشكلات العرب مع العالم، ولكن أن يثبتأننا كعرب لدينا كفاءة معرفية تسمح لنا بالإسهام في مواجهة الإشكاليات المعرفية والمشكلات الواقعية التي تواجه الإنسانية في القرن الجديد.
1 - الإشكاليات المعرفية
أدت التطورات العالمية التي أشرنا إليها في مقدمة هذا البحث الى بروز إشكاليات معرفية جديدة ومشكلات واقعية عالمية. ويمكن رد سبب بروز هذه الإشكاليات والمشكلات إلى عوامل متعددة. وربما كان أول عامل من هذه العوامل هو الخبرة التاريخية الثمينة التي تحصلت من الممارسات الإيديولوجية والسياسية والاقتصادية والثقافية في القرن العشرين.
لقد كان القرن العشرون حافلا بالأحداث الكبرى، فقد اكتملت فيه الثورة الصناعية بكل أبعادها، ثم برزت من بعد الثورة العلمية والتكنولوجية، حيث أصبح العلم لأول مرة في تاريخ البشرية عنصرا أساسيا من عوامل الإنتاج، وتحولت التكنولوجيا لتصبح هي الأداة الأساسية لإشباع الحاجات الأساسية لملايين البشر في مختلف أنحاء المعمورة.
وجاءت مؤخرا الثورة الاتصالية الكبرى والتي أصبحت شبكة الإنترنيت هي رمزها البارز، وهذه الثورة بإجماع العلماء الاجتماعيين هي أخطر ثورة في تاريخ البشرية، بحكم أنها أتاحت للناس في كل مكان إمكانية الاتصال المباشر، والتفاعل الإيجابي بين مختلف الثقافات الإنسانية بكل ما تحفل به من رؤى متنوعة للعالم.
وليست خبرة القرن العشرين فقط هي التي أدت إلى بروز إشكاليات معرفية ومشكلات واقعية جديدة، بل إن بروز الوعي الكوني بمشكلات الإنسانية الحادة، وأبرزها موضوع البيئة ومخاطر تلوث الكوكب، قد أدى إلى ظهور أنماط مستحدثة من التفكير، وممارسة مؤسسات قديمة مثل اليونسكو ومؤسسات حديثة مثل جامعة الأمم المتحدة في طوكيو للبحث بطرق جديدة تعتمد في المقام الأول على التفكير الجماعي، من خلال استطلاع آراء أبرز العقول الإنسانية في مختلف التخصصات العلمية وحقول المعرفة، حول تشخيص الوضع الإنساني الراهن، والتماس أكثر الحلول فعالية لمواجهة كل من الإشكاليات المعرفية والمشكلات الواقعية.
يمكننا التأكيد على أن ابرز المؤسسات العالمية التي انشغلت في السنوات الأخيرة بموضوع تحديد وبلورة الإشكاليات المعرفية ونحن على مشارف الألفية الثالثة هي هيئة اليونسكو.
وفي هذا المجال نظم العالم الاجتماعي الفرنسي جيروم بانديه رئيس وحدة البحوث المستقبلية في اليونسكو مؤتمرا عالميا عنوانه "حوارات القرن الحادي والعشرين" جمع فيه ابرز العقول لمناقشة الإشكاليات التي ستواجه الإنسانية في العقود القادمة.
وقد جمع بانديه خلاصة هذه الحوارات في كتاب نشرته اليونكسو في أبريل عام 2000 بعنوان "مفاتيح القرن الحادي والعشرين". ولو استعرضنا أقسام الكتاب الخمسة، لاستطعنا ان نضع أيدينا على الإشكاليات المعرفية الأساسية، التي تصلح لأن تكون موضوعات بحثية، تؤلف عنها الأبحاث والكتب، أو تكون موضوعات لورش عمل وندوات ومؤتمرات.
وفيما يلي بيان بهذه الموضوعات الهامة:
القسم الأول : استشراف المستقبل وعدم اليقين. أي مستقبل للبحوث المستقبلية؟
موضوعات هذا القسم تتعلق كلها بفكرة استشراف المستقبل من زاوية إمكانياتها وحدودها و فاقها وعلاقتها بالفعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
ومن أمثلة الموضوعات المبحوثة :
1 - مستقبل واحد أو تعددية المستقبلات؟
2 - طبيعة المستقبل
3 - أصول المستقبل
القسم الثاني : نحو عقد طبيعي: مستقبل النوع الإنساني ومستقبل الكوكب.
ومن أمثلة الموضوعات المبحوثة :
1 - أي مستقبل للنوع الإنساني؟
2 - السكان: أي مستقبل للسكان والهجرة في القرن الحادي والعشرين؟
القسم الثالث : نحو عقد ثقافي جديد؟
آفاق جديدة للثقافة التعددية والتعليم
وفيما يلي نماذج من الموضوعات المبحوثة:
1 - نحو صدام للحضارات أم تجاه التهجين الثقافي؟
2 - الآفاق الجديدة للثقافة: العولمة وعدم اليقين الثقافي والعنف
3 - نحو ثقافات مهجنة
القسم الرابع : نحو عقد اجتماعي جديد؟
تعلم العيش المشترك
وفيما يلي نماذج من البحوث:
1 - أي ديمقراطية في المستقبل؟
2 - أي مستقبل لحقوق الإنسان؟
3 - ما هو مستقبل وضع المرأة في العالم؟
4 - ما هو مستقبل الطفولة في القرن الحادي والعشرين؟
5 - ما هو مستقبل العمل وما هو مستقبل الوقت؟
القسم الخامس : نحو عقد أخلاقي جديد؟
العالم والعولمة
وفيما يلي نماذج من البحوث:
1 - الثورة الصناعية الثالثة والعولمة.
2 - هل تمثل العولمة فخا؟
3 - عقد اجتماعي جديد لمرحلة جديدة من مراحل العولمة.
4 - نحو نمط جديد من التنمية ونهاية الفقر.
ويمكن القول إن كل إشكالية معرفية من هذه الإشكاليات تنطوي على موضوعات بحثية متعددة. وهذه الموضوعات صدر بصددها كتاب بالغ الأهمية نشرته اليونسكو من تأليف فردريك مايور السكرتير السابق لليونسكو وأسهم إسهاما واضحا في تأليفه جيروم بانديه.
والكتاب عنوانه "عالم جديد".
F.Mayor, J.Binde ; Un monde nouveau ; Paris ; Editions Odile Jacob ; 1999
(2) المشكلات الواقعية
في تقديرنا أن المؤسسة العالمية التي تخصصت في الفترة الأخيرة في حصر وتحديد المشكلات الواقعية التي ستجابه الإنسانية في القرن الحادي والعشرين هي جامعة الأمم المتحدة في طوكيو باليابان. وقد أسست هذه الجامعة مشروعا رائدا اسمه "المشروع الألفي" The Millennium أصبح يصدر تقريرا سنويا بعنوان: "حالة المستقبل" of the future وقد حرر التقرير الأخير الصادر عام 2002. Jerome C. Glenn & Theodore J. Gordon
ومما هو جدير بالذكر أن مركز الدراسات المستقبلية التابع لجامعة القاهرة أصبح مشاركا في وضع تقرير "حالة المستقبل" الجديد، وباعتباري أحد مستشاري هذا المركز فأنا مع مجموعة من الخبراء شاركنا بعرض رؤيتنا للمستقبل حتى يتضمنها التقرير الجديد.
وقد استطاع تقرير حالة المستقبل أن يضع يده على خمس عشرة مشكلة عالمية، بيان بعضها كما يلي :
1 - كيف يمكن تحقيق التنمية المستدامة لكل الناس؟
2 - كيف يمكن إتاحة الفرصة لكل فرد ليحصل على نصيبه من المياه النظيفة بغير صراع؟
3 - كيف يمكن إقامة التوازن بين التزايد السكاني والموارد؟
4 - كيف يمكن لديمقراطية أصيلة أن تنبع من النظم السلطوية السائدة؟
5 - كيف يمكن لعملية صنع القرار أن تكون أكثر التفاتا لمنظور الأجل الطويل؟
6 - كيف يمكن للعولمة وشيوع المعلوماتية والاتصالات أن تعمل لخير كل إنسان؟
7 - كيف يمكن تدعيم البعد الأخلاقي للأسواق لسد الفجوة بين الغني والفقير؟
8 - كيف يمكن تقليل مخاطر الأمراض الجديدة والأمراض القديمة التي عادت للظهور؟
9 - كيف يمكن تدعيم القدرة على الحسم واتخاذ القرار في ضوء تغير طبيعة العمل والمؤسسات؟
10 - كيف يمكن للقيم المشتركة واستراتيجيات الأمن الجديدة التقليل من الصراعات الإثنية والإرهاب واستخدام الدمار الشامل؟
خاتمة
حاولنا في هذه الدراسة الوجيزة أن نقترح استراتيجية إعلامية عربية لتفعيل دور الإعلام في بناء واقع عربي جديد، في ضوء قراءة دقيقة للتغيرات في بنية المجتمع العالمي، وبناء على ممارسة بصيرة للنقد الذاتي العربي.
وعناصر هذه الاستراتيجية المقترحة يمكن إيجازها فيما يلي :
1 - ضرورة رسم خرائط معرفية للاتجاهات الإيديولوجية في الوطن العربي.
2 - تبني موقف رشيد من ثلاثية الماضي والحاضر والمستقبل.
3 - حصر لمشكلات التواصل الثقافي مع الغرب.
4 - الدعوة للإسهام العربي في مناقشة المشكلات الإنسانية العالمية، والتي تتمثل في عدد من الإشكاليات المعرفية والمشكلات الواقعية. 



السيد ياسين- 
أستاذ علم الاجتماع السياسي - مستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية - مستشار مكتب الإسكندرية - مصر 

مستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية