التجربة اليمنية في إنهاء عزلة المصابين بالجذام
الأربعاء, 20-أغسطس-2008
د. ياسن القباطي
قراءة: عبود الصوفي (الميثاق إنفو) -

يعتبر الجذام من أقدم الأمراض التي عرفها الإنسان نظرا للوصمة الشديدة الملتصقة به، ولما يبديه من أعراض ظاهرة على الجلد والأطراف، كانت فيما مضى مشوهة بسبب غياب العلاج المجدي.. لقد ظلم ضحايا هذا المرض كثيرا فيما مضى نظرا للأفكار المترسبة في عقول بعض الناس عنه لقد حرق المجذومون دون ذنب ارتكبوه في جاهلية القرون الوسطى في أوروبا. من هنا جاء كتاب "رد الاعتبار: التجربة اليمنية في إنهاء عزلة المصابين بالجذام"(*)، كما يقول الدكتور الذيفاني في مقدمته له، ليكون وثيقة تاريخية ومهنية واجتماعية قيمة أصلت لمسألة احتلت موضعا أختلف في تقديره الباحثون والكتاب من جهة، واتفق على خطورته الرأي العام الشعبي الذي صاغ صورة مفزعة لمرضى الجذام، وجعلت من المصابين بالجذام فئة منبوذة ينبغي عزلها واعتزالها تماما بشرائحها الاجتماعية المختلفة، وفق قناعات دينية واجتماعية موروثة.
لقد تبين وفق هذا الإصدار بطلان الكثير منها وسوء تأويل لجزء كبير من النصوص كما تكمن الصعوبة في تثمين جهد الكاتب الذي يعد البطل الذي غامر بمهنته ومكانته الاجتماعية وتعامل مع مرض الجذام ومرضاه ومخالطتهم وتحويل المرض إلي قضية مجتمعية حشد لها دعما محليا وطنيا ودوليا وصل مداه في الصورة التي هي عليه في مدينة النور في محافظة تعز وبلوغ المغامرة درجة عالية من الثبات والدقة برؤية أبعد ما تكون عن التهور بقدر ما أتسمت بالموضوعية والتخطيط والتدرج الذي بلغ مداه في محاصرة المرض واختفائه بمكافحة منظمة شكل لها جمعية مجتمعية أهلية سميت "الجمعية اليمنية للتخلص من الجذام" والتي ما تزال جهودها ممتدة، وجهود المؤلف مستمرة بحكم انتمائه الأخلاقي والمهني بمهمة هي بمرتبة رسالة قيمة نذر نفسه لها وصارت مكوناً رئيساً في حياته ومسيرته يوماً فيوم.
وهكذا تكون الكلمات مهما اتصفت بالبلاغة والبديع، والجزالة والكثافة والرصانة والتصوير فهي لن تبلغ بكل أحوالها وصورها ومبناها ومعناها تقدير تلك الجهود التي يجمعها هذا الإصدار بين دفتيه، لسمو الموضوع الذي تدور حوله كما سبقت الإشارة إليه، وطبيعة مهمة الطبيب الإنسان الذي شكل بفعله ريادة غير مسبوقة، سار بها في اتجاهات متعددة لمداواة جراح مرضى الجذام صحياً واجتماعياً،وإعادة الثقة بقدراتهم وحقهم بالاندماج بالمجتمع وممارسة حياتهم بشكل طبيعي، بعد أن كان ذلك من المستحيلات والتي في اعتقادنا لم تخامر أذهان المصابين بالجذام وأفراد المجتمع على حد سواء. نعم أننا نشعر لكل ذلك بأننا أعجز ما نكون عن وصف هذا الإصدار وتقديمه ويكفي في تقديرنا المتواضع أمام كاتب وقضية،شرحها الكاتب بعناية وتدرج وسار بها على نحو يقدم تفاصيلها ومساراتها من نقطة البداية إلى أن وصلت مرحلة الاعتراف بها ومشروعية التعامل معها وبضرورة إحداث تغيير بمستويات الوعي السلبي تجاهها،وبطرحها قضية وطنية ثم دولية احتشد لدعمها أكثر من منظمة وجهة مهتمة بمثل هذه الفئة،"المصابون بالجذام " وأن قراءة فقرات من الكتاب الذي كتب في كثير من مواضعه بلغة أدبية سردية اكتسبت حلة القصة والرواية والواقعية، يتبين منها حجم ومدى ومستوى أهمية قراءة هذا الكتاب وأهمية دعم كاتبه ومساندته في السير قدماً بقضيته كونها قضية كل إنسان يملك قلباً ينبض بحياة فنقرأ في صفحة 61 قصة تلخص مأساة الجذام والمجذومين واسقها هنا بلغة المؤلف: "..وبينما كنت جالساً في عيادة الأمراض الجلدية والتناسلية في المستشفى العتيق (الجمهوري) أحضر نفسي لاستقبال مرضى يوم السبت المزدحم وإذا برجل يلبس ملابس القبائل الجبلية يتقدم نحوي ويبدو أنه قد تجاوز الأربعين من عمره، ويسير خلفه طفل يبلغ من العمر 12عاماً، وكان وجه الرجل متجهماً عابساً تضخمت سحنته، وتعمقت ثناياه وتجعد وجهه بطريقة لا تتناسب مع عمره، وشعر حاجبيه مفقودة ورموشه عارية من الشعر وأذنه وأصابعه وآثار جراح وخدوش لم يأبه لها ولم يعتن بها، عرفت من ملامح هذا الرجل أنه مصاب بمرض الجذام، وكذلك كان حال الطفل الذي يرافقه والذي ظهر على وجهه وأذنيه أيضاً علامات مرض الجذام، وبينما أنا منهمك في فحص الرجل وأبنه سألت الولد أين والدتك ؟ فانفجر بالبكاء، ولم ينتظر الرجل كثيراً وانفجر هو أيضاً بالبكاء..عجيب؟ ما الحكاية؟
نحن من جبل الجعفري في [محافظة ريمة]. تكلم الرجل بصوت خشن أجش ثم توقف قليلاً، وأضاف من جبل يستقيم كالمئذنة في السماء تحيط به الوديان من كل جهة، خرجت من ذلك الجبل الوعر عنوة بعد أن أخذت مني أرضي وأجبرت على طلاق زوجتي منذ خمس سنوات وأنا وأبني الطفل هذا نعيش بعيداً عن القرية، لقد طردنا أهل القرية من بيتنا وعشنا سنوات في جرف في الجبل منعنا من دخول السوق والجامع، رحلنا من قرية إلى قرية ثم طردنا من القرى كلها.
أخيراً اخبرنا أحد التجار بأنه يوجد دواء لنا في تعز، أتينا من ذلك الجبل الشاهق مشياً على الإقدام إلى مدينة بيت الفقيه، مشينا يومين حتى وصلنا بيت الفقيه التي تقع على طريق الحديدة تعز، ومن طريق الجديدة تعز ركبنا سيارة وقبل ذلك رفض السائقون أن ينقلونا في سياراتهم، لم نستطع العودة إلى ريمة، وصفوك لنا فجئنا إليك.
وما إن أكمل الرجل قصته حتى شعرت بالحزن والأسى والألم يعتصر قلبي وكانت بداية غير سعيدة لهذا اليوم المطير المنعش أكملت إجراءات فحص الرجل وطفله ولم أستطع مواصلة فحص بقية المرضى المنتظرين في العيادة، طلبت من زميل أن يأخذ مكاني وتحركت بصحبتها من المستشفى الجمهوري الذي أعمل فيه إلى مستعمرة الجذام في مدينة النور، وهي مستعمرة تديرها راهبات الأم تريزا منذ عام 1974، وهناك بقيا زمن غير معلوم وبقى في نفسي تصميم على أن أقهر الجذام في اليمن، وأعيدهم إلى ريمة، ولابد أن أعيد دمج مرضى الجذام في مجتمعاتهم في كل أنحاء اليمن. ومنذ ذلك السبت في عام 1982الى اللحظة ما زلت أرى وجه ذلك الرجل المضطهد والدموع تنهمر من عينيه وتتساقط على رأس طفله ودموع الطفل تبلل الأرض".
تلكم قصة من كم من القصص التي مرت بالطبيب الإنسان، المثقف المنتمي ولكنها وبحسب وصفه ظلت تقفز بين الفينة والأخرى على الرغم من مشاهدته لمشاهد أكثر مأساوية وإيلاماً.. ومن نسيج هذه القصة ومن لغتها التي ختمت بتعهد الكاتب، الطبيب بالمضي قدماً في مكافحة الجذام والعمل على تخليص اليمن من فتكه وآثاره الاجتماعية التي شهدنا بعضها في قصة الرجل وطفله وبالفعل تأسست الجمعية اليمنية للتخلص من الجذام، ورويداً رويداً امتدت يد الطبيب الإنسان ومن معه من زملاء المهنة والداعمين إلى كل أنحاء الجمهورية اليمنية، ووصلت إلى أعماق الوادي بمحافظة حضرموت وأطراف محافظة شبوة والمهرة والمسالك الوعرة والدروب الصعبة في جبال محافظتي حجة والمحويت وغيرهما، واتجهت إلى السهول والتجمعات السكانية الساحلية، وبدأت بفعل الجهود المثابرة والدءوبة صورة مرض الجذام ومرضاه تتجلى عن حقيقة لم تكن واردة من قبل وهي القدرة على هزيمة هذا المرض وإعادة المصابين به إلى تجمعاتهم السكانية وممارسة حياتهم الطبيعية.
إن سيرة هذا الطبيب الإنسان يشرحها هذا الكتاب بلغة سهلة وسلسة وبمنهجية خالفت المنهجيات التي اعتاد عليها الكتاب والباحثون، حيث نحت منحى اليوميات والوقفات المعمقة والسريعة على مشهد والانتقال إلى آخر، وبما جعل قراءة المحتوى الذي احتواه الكتاب رحلة في قصص ومشاهد وقضايا، والخروج من الرحلة بقناعة مطلقة بضرورة الانضمام إلى هذا الطبيب ومناصرته والوقوف مع زملائه في الجمعية اليمنية للتخلص من الجذام وعلى رأسهم الأستاذ أحمد هايل سعيد أنعم رجل الأعمال الأبرز في اليمن، والأكثر هم إسهاما في دعم الأعمال الخيرية والاجتماعية الهادفة إلى تخفيف المعاناة والألم عن فئات كفئة المجذومين والمعاقين وغيرها في معركتهم الإنسانية.
وأخيراً، يمكن القول للحقيقة ولعشاقها أن هذا المرض وبفضل الدكتور ياسين القباطي وزملاء المهنة والداعمين في بلادنا قد استطاع محاصرة المرض بل واختفائه بمكافحة منظمة، كما تبين وفق هذا الإصدار بطلان الكثير مما كان يقال عن الجذام فهو مرض مثل باقي الأمراض التي قد يتعرض لها الإنسان.

(*) "رد الاعتبار: التجربة اليمنية في إنهاء عزلة المصابين بالجذام" هو عنوان كتاب صدر أخيراً لمؤلفه الدكتور ياسين عبدالعليم القباطي، الأستاذ المساعد في كلية الطب- جامعة تعز. يقع الكتاب في 246 صفحة من القطع المتوسط، ويضم الكثير من القصص المأساوية التي توضح مأساة الجذام والمجذومين ونظرة المجتمع لها.
وقد تناول المؤلف الجذام من جميع النواحي حيث تطرق إلى تاريخه، والوصف السريري له، ومصدره، وانتشاره في الشرق الأوسط، ووضع الجذام في اليمن عند بداية العمل على مكافحته، وتاريخ مكافحة الجذام واستنهاض المجتمع وأنشطة التثقيف الصحي واستنهاض المجتمع اليمني.