ليبراليون عرب من دون ليبرالية!
الاثنين, 31-أغسطس-2009
سقاف عمر السقاف - على مدى قرن مضى من الزمن أو أكثر، عصفت بالمنطقة العربية العديد من الأيديولوجيات، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، من العلمانية الغربية المتشددة إلى الأصولية الدينية المتطرفة، وبينهما نمت اتجاهات شتّى: ليبرالية، وقومية، ويسارية اشتراكية وماركسية، وكان أن تقاذفت أمواج هذه الأيديولوجيات العاتية العقل العربي الخاوي يميناً وشمالاً، شرقاً وغرباً، حتى بات هذا العقل مشوشاً وحائراً بين كل هذه الأيديولوجيات التي أخذت تتصادم بداخله، ومن ثمّ دفعت باتجاه صدام عنيف مع الذات ومع الآخر. 

وعلى الرغم من أن العقود الماضية تؤكد أن الاتجاهين الإسلامي والقومي هما اللذان سيطرا على المشهد السياسي والفكري العربي، فكلما خفت وهج أحدهما بفعل عوامل ومتغيرات عدة سطع نجم الآخر وهكذا، ولكن لم يحدث أن خلت الحالة المجتمعية الثقافية والفكرية والسياسية العربية من ظهور تيارات فكرية عديدة لها رؤيتها وفلسفتها الخاصة، وإن كانت لم تحظَ بزخم التيارين السابقين. وفي الآونة الأخيرة، برزت مجموعة من الكتاب والمثقفين العرب الذين دعوا شعوب المنطقة وأنظمتها إلى التجاوب والاستفادة من التحولات العالمية الكبرى، ابتداءً من أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 وما تلاها من غزو واحتلال لكل من أفغانستان والعراق، وصولاً إلى موجة العنف والعنف المضاد التي نمت في أحضان ما يسمى الحرب على الإرهاب، من قبل الجماعات المتطرفة والحكومات العربية على حدٍّ سواء. 

وكان صلب دعوة هؤلاء الكُتّاب، الذين أطلق عليهم "الليبراليون الجدد"، هي أن الوضع المزري وحالة التخلف والتراجع الفكري والسياسي والاقتصادي في العالم العربي ناتجة في الأساس من عدم الأخذ بمقتضيات التطور الحضاري في العصر الراهن، وطغيان الموروث الثقافي العربي والإسلامي والذي يعد في مجمله، بحسب هؤلاء، "استبدادياً" يقيد الحريات لصالح مجموعة من الأفكار والعادات البالية، وأنه حان الوقت للتخلص من هذا الإرث والأخذ بالمنهج العلمي في الطرح والتفكير، وذلك من خلال الانفتاح على الثقافات الأخرى لاسيما الثقافة الغربية والولوج في ما يسموه "عصر الحريات والديمقراطية". 

والواقع أن مصطلح الليبراليون الجدد يدلل على أن هناك ليبراليون قدامى، وأن لحظة اتصال الفكر العربي بالخطاب الليبرالي كانت مبكرة جداً، ولكن قبل الخوض في هذه المسألة يجب أن نعرف الليبرالية. فالليبرالية لفظ معرب من اللفظ الإفرنجي liberalism. واللفظ الإفرنجي مشتق من اللفظ اللاتيني libralis ومعناه "الإنسان الحُرّ". والليبرالية فكراً وممارسة، كما هو معروف، ولدت وترعرعت في الغرب، وهي إحدى تجليات الحضارة الأوروبية التي سعت بقوة في القرنين الخامس والسادس عشر إلى ابتكار أفكار وآليات جديدة من شأنها أن تساهم في بلورة نمط ثقافي يعيد تنظيم بنية المجتمعات الأوروبية ويضع حداً لفترة التيه وعصور الظلام والحروب الدينية التي صبغت بها أوروبا آنذاك. وكانت العلمانية بداية التغيير الذي حرر العقل من هيمنة السلطة الكنسية وأدخله إلى منهج التجريد والملاحظة لاستنباط القوانين العلمية التي تحكم حركة الإنسان والمجتمع. وبعد ذلك، ونتيجةً لتغلغل المنهج العلماني، كما يقول الكاتب السعودي أنس زاهد في إحدى مقالاته عن "جذور التدين في العقل الليبرالي العربي"، ظهرت بوادر الفكر الليبرالي الذي انطلق من رفض الأيديولوجيات لأنها سحقت الإنسان لصالح مجموعة من الأفكار التي تدعي أنها تمتلك الحقيقة كاملةً، وبالتالي اعتماد المنهج العملي في التفكير الذي لا يستند إلا لمرجعية العلم الذي يقول بالنسبية لا بالإطلاق. 

وانطلاقاً من هذه المراحل، وضعت أوروبا الخطوات الأولى في طريق التقدم العلمي والازدهار الحضاري بشكل عام، ومن ثمّ كان من الطبيعي أن ينتج عن ذلك الفكر الليبرالي نظاماً سياسياً يكفل حق الحرية لكل فرد، ويعمل على تداول السلطة بشكل سلس بناءاً لرغبة الأغلبية، وهكذا عرفت البشرية لأول مرة في تاريخها الديمقراطية بشكلها الحالي. 

أما في الحالة العربية وكما أشرنا سابقاً، فقد دخل الفكر الليبرالي إلى المشرق العربي مبكراً، وربما كان أول مذهب فلسفي وسياسي غربي تعرف عليه المثقف العربي في العصر الحديث، وقد عرفت الأقطار العربية منذ نهاية العصر العثماني انتشاراً واسعاً للفكر الليبرالي ونشأت أسس مجتمعية لليبرالية السياسية والاقتصادية، وكان هناك رواد أوائل لهذا الفكر في العالمين العربي والإسلامي ممن اتصلوا وتأثروا بالحضارة الغربية بشكل أو بآخر، واستحضروا الكثير من المفاهيم الليبرالية في محاضراتهم وكتاباتهم من أمثال رفاعة الطهطاوي، وعبد الرحمن الكواكبي، وخير الدين التونسي، وجمال الدين الأفغاني، وعلي عبد الرازق، وطه حسين، ومحمد عبده، وفرنسيس المراش، وأديب إسحاق، ولطفي السيد، ولويس عوض، وسعيد النجار، وغيرهم. 

ولكن قِدَم الاتصال بالفكر الليبرالي لا يعني أن هذا الفكر تجذّر في العقل العربي، بل إن طروحاتنا عن الليبرالية، بحسب الباحث المغربي الطيب بوعزة، لا تزال تحضر في الفكر العربي كحزمة من المفاهيم التي تم تسويقها بالأسلوب الشعاراتي الذي يشتغل بمنطق الدعاية والتسويق لا بمنطق التفكير والاستدلال. فضلاً عن ذلك، فإن العقل الليبرالي العربي قفز على كل المراحل الطبيعية التي أنتجت الفكر الليبرالي في الغرب، وتبنّى النتائج كالديمقراطية دون أن يستوعب المبادئ العلمانية ثم المبادئ الليبرالية؛ فالعقل الليبرالي العربي اقتصر تعاطيه مع الليبرالية على جانب الممارسات المادية والانجازات المتمثلة في آليات الحكم الديمقراطي. 

وبمعنى آخر، لم يفهم الليبراليون العرب الليبرالية على أنها إحدى إفرازات العلمانية باعتبارها منهجاً وليس مجرد شعارات سياسية. وفي وصفه لهذه الحالة، يقول أنس زاهد مرة أخرى "إن عقلية الاختزال في الفكر والممارسة الليبرالية العربية والوقوف على النتائج دون الأسباب، هي التي أدت إلى اصطباغ الليبرالية العربية بصبغة التحزّب، مما حولها إلى أيديولوجيا تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، وتروّج لمقولة أن التجربة البشرية بلغت الكمال بفضل الليبرالية، وهو نفس ما يأخذه الليبراليون على خصومهم الإسلاميين الذين يدّعون بأن التجربة البشرية وصلت مرحلة الكمال في القرون الأولى من التاريخ الإسلامي. ولأن الليبرالية تحولت إلى أيديولوجيا، ولأن الغرب أصبح هو كعبة هذه الأيديولوجيا وممثلها، فإن الليبراليون العرب لا يتورعون اليوم عن استخدام آلية التبرير عند الحديث عن الغرب، مع أنهم يأخذون على الإسلاميين نفس الآلية عند التطرق للتاريخ الإسلامي، ويأخذون على القوميين استخدام نفس الآلية عند الحديث عن الحقبة الناصرية"!. 

والأمر كذلك لا يختلف كثيراً في حال بعض الليبراليين الجدد في وقتنا الراهن، والذين بدأت أصواتهم المنادية بالإصلاح الجذري في العالم العربي تتعالى مع ارتفاع هدير الدبابات والمجنزرات الأميركية في المنطقة، وهم في الحقيقة منبهرين بالحضارة الغربية لدرجة تبرير كل مساوئها، ودائماً ما يُرجعون الحجة على العرب والمسلمين شعوباً وحكاماً؛ فاحتلال العراق لديهم جاء نتيجةً لاستبداد النظام العراقي السابق وليس بسبب المطامع الاستعمارية الأميركية في العراق والمنطقة، والمجازر الإسرائيلية في فلسطين هي لأن الفلسطينيين يرفضون السلام أو "الاستسلام" ويفضلون المقاومة، وبالتالي بات الكثيرون في المنطقة ينظرون إليهم بعين الشك والريبة حتى أن البعض شبههم بـ "المحافظين الجدد" في أميركا والذين نظّروا كثيراً للفوضى الخلاقة والمشروع الأميركي في المنطقة.
وإذا ما تجاوزنا حالة النخب الفكرية الليبرالية وانتقلنا إلى النظم الرسمية العربية التي تدعي الليبرالية وقارناها بالنظم الليبرالية في الدول الغربية، فإن الأمر يكاد أن يكون انعكاساً لنفس المُشكِل الذي وقع فيه الليبراليون الجدد؛ فالليبرالية السياسية العربية - حد قول الأكاديمي المغربي المعروف عبد الإله بلقزيز - "لا تعدو أن تكون اسماً حركياً لسياسية تستعير عناوين الليبرالية لتضعها على نص سياسي لم يُفسِح مجالاً بعد لمفردات وخيارات المشاركة السياسية والتنمية الديمقراطي للنظام والمجال السياسي؛ فالأمر من دون شك لا يتعلق بالليبرالية في النظام العربي، بل بأي شيء آخر غيرها". 

وقصارى القول في هذا الموضوع هو أن الأيديولوجيا بصورتها المتطرفة في العالم العربي خلقت الصدام بين التيارات المختلفة، والتي لا أعتقد أن أياً منها استطاع أن يتعمق في أصل الفكرة التي يدعي الانتماء إليها، وإلا لتعايشت كل هذه التيارات مع بعضها البعض دون أن يسعى كل تيار إلى إقصاء الآخر حدّ القضاء عليه. ومن هنا أحبطت كل المشاريع النهضوية في الماضي، وهي تُحبطها كذلك اليوم لتضع حاضر ومستقبل الأمة العربية على المحك دوماً.