الظاهرة العسكرية في الوطن العربي
الثلاثاء, 25-أغسطس-2009
محسن خصرف - لعبت الجيوش في مجتمعات العالم الثالث دوراً سياسياً واجتماعياً مسَّ في الصميم سلباً أو إيجابياً – اتجاهات الفعل السياسي - الاجتماعي - الاقتصادي. فما أن نالت معظم بلدان العالم الثالث، استقلالها السياسي – بغض النظر عن الفارق الزمني بين استقلال كل من مجتمعات أمريكا اللاتينية ومجتمعات آسيا وأفريقيا – حتى شهدت تلك البلدان موجات من الانقلابات العسكرية (The Military coups) بالإضافة إلى أشكال مختلفة من التدخلات العسكرية (The military Interventions) بدأت في أميريكا اللاتينية منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر، وامتدت إلى آسيا وأفريقيا عقب الحرب العالمية الثانية (1939-1945) لتشكل بتتابعها ما عرف فيما بعد بـ(الظاهرة العسكرية(Military Phenomenon) ولتسود تلك المجتمعات نزعة عسكرية (Militarism) اتجهت بقوة نحو السيطرة على الحكم بصور مختلفة. 

ويرجع الاختلاف في اتجاهات الدور العسكري إلى أن الجيوش في العالم الثالث قد لعبت دور المؤسسة الرسمية أحياناً ومثلت دور المؤسسة ذات النوعية الخاصة أحياناً وأدت الدورين في آن معاً أحياناً أخرى. فالمؤسسة العسكرية هي جزء لا يتجزأ من جهاز الدولة أولاً، وتعتبر بمثابة التنظيم السياسي المتميز عن الأحزاب والتشكيلات التقليدية ثانياً, كما أنها في معظم المجتمعات قد اشتركت في سمة عامة تتلخص في تحقيق التغيير السياسي-الاجتماعي الإيجابي أحياناً وإعاقته أحياناً أخرى. 

لقد اتسعت دائرة التدخلات العسكرية في العالم الثالث حتى صارت المؤسسة العسكرية هي الحكم النهائي في معظم العمليات الاجتماعية والسياسية (الدستورية)، وكثيرا ما قادت المهنة العسكرية إلى السلطة السياسية. () ففي أمريكا اللاتينية تعاظم الدور العسكري ووصلت درجة تأثيره على العسكريين أنفسهم إلى الحد الذي أصبح يتردد معه قول مؤداه: أن أسمى الرتب العسكرية هي”رئاسة الجمهورية”وهو قول تُرجم إلى عمل تمكن العسكريون من خلاله من أن يحكموا الجمهوريات العشرين التي تتكون منها القارة التي شهدت صراعات دموية عنيفة على السلطة كان أطرافها عسكريين من انتماءات اجتماعية وأيديولوجية مختلفة. وقد اتسعت دائرة التدخلات العسكرية، وحقق العسكريون. نجاحات أسهمت في تهميش القوي الاجتماعية الأخرى حتى وصفوا بناء على ذلك بأنهم ”الحزب الفائق (Super Party) في أمريكا اللاتينية. () 

وفي أفريقيا اتخذ التدخل العسكري بعداً مجالياً شمل معظم أقطار القارة على وجه التقريب، حتى أنه خلال العشر سنوات الأولى من الاستقلال (1960-1970) لم يبق في الحكم من رجال الدولة الأفارقة السبعة عشر الذين قادوا بلداتهم في أو قبل سنة 1960 سوى سبعة زعماء بينما أُسقط الباقون بواسطة انقلابات عسكرية تمكن من خلالها ثمانية من القادة العسكريين من التربع على قمة السلطة في ثمانية بلدان منها* بينما اضطلع الجيش بدور كبير في البلدين الآخرين**. 

لقد تحولت القارة الإفريقية وخاصة الجزء الاستوائي منها إلى ميدان صراع بين العسكريين على السلطة، وقد تشعب ذلك الصراع حتى صار”العرفا”و"الجنرالات”أطرافاً فيه. () أما في جنوب شرق آسيا فقد شهدت هي الأخرى انقلابات عسكرية متعددة أشهرها الانقلاب العسكري الذي حدث في اندونيسيا عام 1965 والذي راح ضحيته حوالي خمسمائة ألف إنسان. وباستثناء كل من الهند والفلبين اللذين يتمتعان بتقاليد ديمقراطية، فقد استولى العسكريون على السلطة، ومارسوا ضغوطاً على الحكومات في معظم تلك البلدان ويمكن في هذا الصدد اعتبار كل من”باكستان”و"وسرى لانكا”و"تايلاند”و"من النماذج الدالة على حجم الدور العسكري واتجاهاته الإيديولوجية في قارة آسيا حيث بدأ – علي سبيل المثال- بانقلاب يساري في”بورما، وأسقط بآخر يميني كما أنه بدأ يمينياً واستمر كذلك في باكستان. () 

أما بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط عموماً، والمنطقة العربية على وجه الخصوص، فإنها تتميز بـ (قدم الظاهر العسكرية”التي ترجع جذورها إلى ظهور الدعوة الإسلامية، والمحاولات الأولى لنشرها في الأقطار المحيطة بالجزيرة العربية، ثم فتح تلك الأقطار والسيطرة عليها لتشكل فيما بعد قاعدة انطلاق للجيوش الإسلامية التي تمكنت خلال مائة عام على وجه التقريب من الوصول إلى أبواب أوروبا بعد أن تم لها السيطرة على شمال أفريقيا ومناطق واسعة من آسيا. 

لقد أدى ظهور الإسلام ونشر دعوته عن طريق الفتوحات العسكرية – كإحدى وسائل نشر الدعوى – إلى الإعلاء من شأن المقاتلين العرب والمسلمين، وأضفى عليهم نوعاً من الهيبة والتقدير، وحظي كثيرون منهم بمكانات سياسية واجتماعية رفيعة. ففي خضم معارك الفتح الإسلامي، وبعد كل انتصار تحققه الجيوش الفاتحة، كان قادتها هم الذين يمسكون بزمام الحكم في البلد المفتوح، وكان قائد الجيش- في الغالب – هو والي المسلمين فيها، وجمع كثير منهم بين كونه قائداً عسكرياً وحاكماً سياسياً وداعية فيها، وجمع كثير منهم بين كونه قائداً عسكرياً وحاكماً سياسياً وداعية دينياً. وصار قادة وضباط وأفراد الجيوش الإسلامية, في مابعد, فئة متميزة في المجتمع الإسلامي، مادياً ومعنوياً، وأصبح لكثير منهم مصالحهم الاقتصادية والسياسية الخاصة التي تستوجب الدفاع عنها, وتحديد المواقف في ضوئها.
لقد بدا دور العسكريون السياسي بوضوح عندما بدأ الصراع على السلطة السياسية في الدولة الإسلامية يأخذ طابع العنف المسلح بدلاً من ”البيعة” و"الشورى” اللذين غيبهما صراع المصالح الاقتصادية والسياسية، إذ غالباً ما كان العسكريون موزعين بين أطراف تلك الصراعات إن لم يكونوا هم أطرفاها الأساسيين, بدءاً بمرحلة الفوضى العسكرية (861 – 946م) التي حدثت في ظل الدولة العباسية وما تلاها, ومرورا بالعهد المملوكي الذي انتهى بسيطرة العثمانيين، وانتهاء بالانقلابات العسكرية التركية التي بدأت بانقلاب عام 1876 ضد السلطان عبد العزيز، وانتهت بخمسة انقلابات عسكرية بين عامي 1908 و1913, ترتب عليها أن أنفرد العسكريون بحق إصدار القرار السياسي في تركيا خلال تلك الفترة، وقادوا بزعامة”مصطفى كمال أتاتورك ما أطلق عليها حينها ”ثورة تحديثية لم يقتصر أثرها على تركيا بل امتد إلى المنطقة العربية التي شهدت أول تدخل عسكري عام 1881م في مصر بقيادة الزعيم”أحمد عرابي”الذي حظيت حركته بتأييد شعبي كبير وكانت بمثابة الخميرة الأولى للدور العسكري في المنطقة العربية التي استيقظت فجر يوم23 يوليو 52 على ثورة عسكرية هي أم التدخلات العسكرية في المنطقة العربية منذ خمسينات هذا القرن. () 

وبصورة إجمالية فإن الظاهرة العسكرية قد انتشرت في العالم الثالث إلى الدرجة التي أصبح معها التدخل العسكري شبه الدائم هو السمة الغالبة على التفاعل السياسي – الاجتماعي، وصارت السيطرة المدنية هي الاستثناء، وبرزت في هذا الشأن ثلاثة مؤشرات تبين مدى الدور العسكري في القارات الثلاث وتمثلت في: ()
1. كثرة الانقلابات العسكرية التي وصلت في أمريكا اللاتينية إلى ما يربو على خمسمائة انقلاب منذ الاستقلال في الربع الأول من القرن التاسع عشر وحتى بداية السبعينات من هذا القرن، وحقق التدخل العسكري في ”بوليفيا”– على سبيل المثال – رقماً قياسياً، فذكر الانقلاب الذي حدث عام 1964 باعتباره الانقلاب الثمانين بعد المائة خلال مائة وتسعة وثلاثين عاماً من تاريخ الدولة ”البوليفية”.
وحدث في أفريقيا 32 انقلاباً بين عام 1963 و1968، ووصلت الانقلابات في قارة آسيا إلى 42 انقلاباً بين عامي 1945 و 1972. أما في المنطقة العربية فقد شهدت 41 انقلاباً عسكرياً بين عامي 1936 و1970.
2. حجم الميزانية العسكرية التي تراوحت بين.2 و 25% من الميزانية العامة للدولة, والتي وإن كان يمكن اعتبارها مؤشراً لخطر خارجي بالنسبة لبعض المجتمعات كدول المواجهة العربية مع إسرائيل, إلا أنها في كل الأحوال تعكس فعالية ومدى الدور العسكري.
3. وضع القوات المسلحة كحكم أساسي في العمليات الاجتماعية- السياسية وما يرتبط بذلك من مظاهر الحكم العسكري في بعض مجتمعات العالم الثالث حيث تتركز السلطة في يد شخص واحد غالباً ما يكون من العسكريين.

اتجاهات نظرية حول الظاهرة العسكرية
مدخل: بين الليبرالية والاشتراكية
أدى تزايد انتشار التدخل السياسي للعسكريين في مجتمعات العالم الثالث إلى حفز اهتمامات الباحثين في العلوم الاجتماعية، بمختلف تفرعاتها, فاتجه بعض من العلماء والباحثين إلى دراسة وتحليل وتفسير تلك الظاهرة التي تجاوز تأثيرها المحيط الذي ظهرت فيه ليمتد إلى العلاقات الدولية التي أثرت وتأثرت بالظاهرة موضوع البحث.
وفي خضم الاهتمام العلمي بالظاهرة العسكرية برز العامل الأيديولوجي في تفسيرات التدخل العسكري في الشئون السياسية، وتراوحت التفسيرات بين القبول الهادف إلى توظيفها في تحقيق أهداف اقتصادية وسياسية معينة, والرفض القائم على تعارض تفشي هذه الظاهرة مع مصالح اقتصادية وسياسية أخرى. ولا شك- كما يقول مجدي حماد: "أن الاختلافات حول تفسير التدخل العسكري يعتبر أمراً طبيعياً، لأن التفسير هنا ينصب على ظاهرة سياسية واجتماعية من الطراز الأول، لها تأثيراتها الكاسحة على المستويين الداخلي والخارجي بالنسبة لأي مجتمع تقع فيه، ليس ذلك وحسب، بل إن التفسير في هذه الحالة يتركز حول جوهر الظاهرة السياسية- الاجتماعية، حيث يتناول ظاهرة الصراع على السلطة في أكثر تعبيراتها عنفاً"(). 

وقد يبدو في هذا الصدد, وعلى المستوى النظري البحت, أن التفسيرات قد تأثرت, عموما,ً إما بالفكرة الليبرالية التقليدية المعادية للنزعة العسكرية، أو بفكرة الدفاع عنها كقوة محفزة للتنمية الاقتصادية التي تأثرت بدورها بالاتجاه الاشتراكي الذي تطور من ازدراء التدخل العسكري إلى القبول بإدماج القوات المسلحة في تكوين المجتمع الاقتصادي – الاجتماعي كقوة منتجة ومشاركة في الحكم ومحاربة في وقت واحد، خاصة وأن منتسبي القوات المسلحة في الدولة الاشتراكية ينحدرون في الأساس، كما يقول بعض الباحثين، من كادحي الشعب العامل، الذين لا تتعارض مصالحهم مع مصالح المجتمع،() إلا أن خبرات العالم الثالث الذي ظل وما يزال رهناً للاستقطاب الدولي، قد أثبتت غلبة العامل الأيديولوجي في تفسير الظاهرة العسكرية. 

فعلى مستوى المعسكر الرأسمالي برز التناقض والازدواجية في النظر إلى الظاهرة العسكرية والتعامل معها. ففي حين تتباهى النظم السياسية الرأسمالية بأنها قد أحدثت ثورات في مجال الاحتراف العسكري. ووضعت المؤسسة العسكرية تحت السيطرة الفعلية للحكومات المدنية. ونُظرا إلى تدخل العسكريين في السياسية – كما يشير أنور عبد الملك – باعتباره شذوذاً بالنسبة للحالة السوية التي تعطي المكانة الأولى في هذا الشأن للمجتمع المدني الذي يوصف بأنه ذو وجهة ديمقراطية علمانية تعددية سلمية”() في نفس الوقت التي تتباهي فيه النظم الرأسمالية بذلك على مستوى بلدانها, فإن مواقفها، كذلك مواقف بعض منظريها، قد اتسمت بالازدواجية إزاء الدور السياسي العسكري في مجتمعات العالم الثالث. 

والاتجاه الرئيسي للأيديولوجية الرأسمالية – من خلال آراء بعض مفكريها -يقوم على اعتبار القوات المسلحة في العالم الثالث”قوة ثورية ساهمت في عدم تفكك النظام السياسي، وحالت دون وقوع بعض البلدان فريسة للسلطة الشيوعية, وقوة تؤمن الاستقرار، وتعمل على التحديث والدفاع عن المطالب الشعبية وتوفير فرص العمل والتأهيل المهني."() 

وقد اتجهت بعض الدراسات الغربية إلى معرفة خصائص العسكريين الذين ينتزعون السلطة السياسية من المدنيين، وكذلك معرفة مهاراتهم التنظيمية والإدارية، والأسباب التي توصلت بموجبها الحكومات العسكرية إلى تعزيز التطور الوطني في بعض البلدان، في حين مارست دوراً مؤخراً في البعض الأخر. () 

ومن الواضح في ضوء ما سبق، أن المقصود بتلك الصفات الثورية، التحديثية، هي الجيوش التي اتجه الضباب الانقلابيون فيها إلى الارتباط بالمعسكر الرأسمالي الذي برعت أجهزته الاستخبارية في تدبير الانقلابات العسكرية، التي عادة ما استهدفت الأنظمة الوطنية التي نهجت نهجاً معادياً للاستعمار العالمي وركائزه في العالم الثالث، وكذلك حركات التحرر الوطني بمختلف أشكالها التنظيمية والأيديولوجية, بما فيها التنظيمات البورجوازية ذات التوجه الوطني الاستقلالي الجاد، وذلك بهدف جر مجتمعات العالم الثالث إلى التبعية المطلقة للاحتكارات العالمية، وخلق طبقات طفيلية تكون بمثابة الوكيل الدائم لتلك الاحتكارات وهو أمر تحقق في اندونيسيا عام 1965م ضد نظام سوكارنو، الذي اتجه نحو اليسار، وغانا عام 1966م ضد نظام ”نكروما” المعادي للاستعمار وفي السودان عام 1958م بهدف ضرب القوى الاجتماعية الجديدة، وفي سوريا عام 1961م والذي ترتب عليه انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة *، وغير ذلك من الانقلابات التي صبت كلها في سلة المصالح الاستعمارية الرأسمالية في أكثر من منطقة من العالم الثالث، وخلقت نظماً مشوهة تم من خلالها مسخ عملية التطور الاجتماعي بشكليها الرأسمالي الوطني والاشتراكي. 

أما الجيوش، والحكومات العسكرية التي تمارس دوراً مؤخراً وفق الاتجاه الرأسمالي، فإنها تلك الحكومات التي اتجه قادتها إلى محاولة تحرير بلدانهم من التبعية، من خلال نهج استقلالي في العلاقات الدولية، كما اتجهوا نحو السيطرة على الثروات الوطنية، والعمل بشكل أو بآخر على إرساء أسس للعدل الاجتماعي – بغض النظر عن حجم وفعالية تلك المحاولات التي تعني أول ما تعني بالنسبة للقوى الاحتكارية العالمية اقتطاع جزء من ثروات تعودت على نهبها حقباً طويلة من الزمن. 

وفي هذا يمكن تصنيف ثورة 23 يوليو 1952م في مصر على أنها واحدة من التدخلات العسكرية التي أثرت سلباً على مصالح الاستعمار العالمي واتجهت نحو تمصير الثروات الوطنية، وعززت ذلك بنهج استقلالي تجاوز مداه المستوى المحلي العربي، إلى الإسهام المباشر في تأسيس منظومة عدم الانحياز التي أصبحت تضم معظم بلدان العالم الثالث، الأمر الذي يعطي معنى واضحاً لكل ما تعرضت له مصر من مؤامرات دولية وحروب منذ وضحت ملامح الاتجاه الرسمي نحو تعديل هيكل السلطة من أجل إقامة مجتمع حديث مستقل وصناعي، وهو أمر لم يتحقق إلا من خلال إلغاء بعض أشكال الملكية، والاتجاه نحو الإصلاح الزراعي وتدعيم ملكية الدولة واستبعاد نفوذ القوى التقليدية من قمة السلطة السياسية، والاستعانة بالإداريين والفنيين من القطاعين العسكري والمدني الذين يؤيدون هذا الاتجاه. ()
وفي مقابل الموقف الرسمي، الرأسمالي – المزدوج والمتناقض – اتسم موقف المعسكر الاشتراكي منذ بداية النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين من الدور السياسي لجيوش العالم الثالث بقدر من الاتساق مع موقف الدول الاشتراكية ذاتها من مؤسساتها العسكرية، بعد أن كانت دول وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي قبل انهياره تعادي التدخل العسكري في الشئون السياسية، كما هو الحال في الموقف غير الودي من ثورة يوليو 1952م في مصر قبل عام 1955م. 

فقد اتجهت الحكومات الاشتراكية في ظل نظام الحزب الواحد إلى تسييس المؤسسة العسكرية، وأُعطي في هذا الشأن اهتماماً واسعاً للتربية السياسية المفعمة بالروح الطبقية المعادية للرأسمالية والانقياد الحديدي للحزب الحاكم الذي فتحت أبواب العضوية فيه لمنتسبي القوات المسلحة، وتم الربط بين الإعداد القتالي والالتزام العقائدي، كشرطين متلازمين لتحقيق التفوق العسكري، وحرصت النظم الاشتراكية على إشراك القوات المسلحة في العملية الإنتاجية في مجالات متعددة، وأعدت بعض الصناعات العسكرية لتكون صالحة لإنتاج وسائل الحرب والمواد الغذائية، ونبذت تماماً فكرة الاحتراف باعتبار أن الجيوش المحترفة هي أداة قهر طبقي تحت سيطرة الطبقة الحاكمة، واستبدلت الصين – مثلاً – مفهوم الاحتراف بمفهوم ”الجندي المواطن”(Citizen soldier) الذي يتفانى في خدمة الشعب العامل ويقاتل الأعداء الخارجين بروح لا يمكن مقاومتها. () 

وفي إطار هذا النهج جاء موقف المعسكر الاشتراكي من الدور السياسي للقوات المسلحة في العالم الثالث، فاتجهت حكومات الدول الاشتراكية نحو دعم الحكومات العسكرية ذات الطابع التقدمي، المعادية للاستعمار في الوقت الذي وقفت فيه موقفاً معادياً من الحكومات العسكرية الرجعية الموالية للغرب الرأسمالي. ويرجع موقف حكومات الدول الاشتراكية من التدخلات العسكرية ذات الطابع التقدمي إلى أنها – الحكومات الاشتراكية – تعتبر أن الجيش في بعض البلدان النامية، يلعب، كما يشير ”ديتميتري فولكوجونوف” دوراً تقدمياً، ويبادر باتخاذ إصلاحات اجتماعية واقتصادية وثقافية، ويشجع تأسيس الديمقراطية ويعلي من شأنها”() 

كما أن موقف حكومات الدول الاشتراكية من الانقلابات العسكرية الرجعية يرجع – وفق نفس المصدر – إلى:”أن الجيش أصبح، في بعض البلدان، الدعامة الأساسية للديكتاتوريات العسكرية الأوليجاركية التي تصادر حقوق الشعب الديمقراطية وحرياته الأساسية، ويمكن في هذا الصدد الإشارة إلى عدد من بلدان أمريكا اللاتينية. مثل الأرجنتين وكذلك بعض دول أفريقيا مثل الكونغو وغانا وغيرها، حيث فرضت الديكتاتورية العسكرية سلطتها بعد الانقلاب على الحكومتين الثوريتين فيهما() كما سنبين لاحقاً. 

وعلى الرغم من أن دول المعسكر الاشتراكي لم تتورط في التخطيط المباشر للانقلابات العسكرية في العالم الثالث، وهو ما أتقنته، كما سبقت الإشارة الدول الرأسمالية،وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة الأميريكية من خلال وكالتها الاستخبارية السيئة السمعة الـ (سي أي إيه) فإن الدعم الذي حظى به العسكريون الذين وقفوا موقفاً مناوئاًً للغرب الرأسمالي قد جاء ضمن الاتجاه العام للدول الاشتراكية آزاء الدول الرأسمالية، أي في إطار ما سمي بالحرب الباردة. 

ولا يعني هذا أنني أقلل من أهمية وجدية، الدغم الذي بذلته دول المعسكر الاشتراكي لمجتمعات العالم الثالث والذي شمل جوانب مختلفة أهمها الجانبين الاقتصادي والثقافي والشق التعليمي منه على وجه الخصوص.
إن ما أعنيه هنا بالضبط هو طبيعة أو مضمون التعامل الذي تم بين المنظومة الاشتراكية وكان على رأسها الاتحاد السوفيتي وبين الحكومات التي كان للمعسكرين هيمنة عليها أو الحكومات العسكرية الصرفة التي وقفت ضمن الخام العام المعادي للهيمنة الاستعمارية الرأسمالية في العالم الثالث. 

لقد كان موقف المعسكر الاشتراكي من الحكومات العسكرية أو شبه العسكرية في العالم الثالث يرتكز في الأساس على طبيعة السياسة الخارجية لتلك الحكومات، وبمعنى أوضح موقفها من الغرب الرأسمالي من جهة ومن المعسكر الاشتراكي من جهة أخرى. أما ما يتصل بالسياسات الداخلية فقد تغاضى المعسكر الاشتراكي عن كثير من الممارسات الديكتاتورية التي بلغت حد الإجرام لكثير من الأنظمة العسكرية في مجتمعات العالم الثالث حيث لم تعل تلك الأنظمة من شأن الديمقراطية، كما هو مفترض نظرياً، بل فرضت في الغالب، تنظيماً سياسياً واحداً، وعملت بكل قدراتها على تأطير مختلف القوى الاجتماعية والسياسية ضمن ذلك التنظيم، الأمر الذي أدى بداهة إلى مصادرة حريات قوى اجتماعية مختلفة بما فيها تلك القوى التي تقف مع العسكريين ضمن الخندق المعادي للاستعمار على مستوى السياسة الخارجية، والتي تسعى إلى تحقيق العدل الاجتماعي على مستوى السياسة الداخلية، وذلك من خلال إعادة توزيع الثروة الوطنية وهو اتجاه غالباً ما تبناه العسكريون الذين صنفوا ضمن الاتجاه التقدمي في العالم الثالث.
لقد كان الاتحاد السوفيتي – على سبيل المثال – يدعم أنظمة سياسية – عسكرية في كثير من مجتمعات العالم الثالث. وهو يعلم علم اليقين أن العشرات، بل المئات من الوطنيين الديمقراطيين, بل والشيوعيين, يقبعون في سجون تلك الأنظمة ويتعرضون لأشكال مختلفة من التعذيب، وأن تلك الأنظمة قد وقفت حائلاً دون تطور الصراع الاجتماعي الديمقراطي السلمي الذي كان يمكن أن يؤدي إلى تغيرات تحقق العدل الاجتماعي الذي غالباً ما تبناه العسكريون ضمن شعاراتهم. 

ولا يعني هذا مرة أخرى أنني أقلل من أهمية التغيرات – الاجتماعية التي أحدثتها التدخلات العسكرية ذات الطابع الوطني – التقدمي – فقد قضى على الإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم في مصر,على سبيل المثال، كما تحقق قدر من العدل الاجتماعي من خلال الإصلاح الزراعي ومصادرة المؤسسات والشركات الصناعية والتجارية الكبرى التي كان يحتكر ملكيتها الأجانب ومُنح العمال والفلاحون والمرأة حقوقاً سياسية واجتماعية لم تكن لتعطً لهم في ظل النظام الملكي الإقطاعي، وتم تمصير الثروات الوطنية، وتأميم”القناة”وغير ذلك من الإنجازات التي كانت تمثل أساساً صالحاً لتغيرات لاحقة كان يمكن أن تصبح جذرية. كما تمكنت الثور ليمنية التي فجرها تنظيم الضباط الأحرار من القضاء على النظام الملكي المغرق في التخلف وحملت أهدافها الستة مرتكزات مهمة لتحقيق العدالة الاجتماعية وشيوع ومجانية العلم والثقافة والتنمية وعير ذلك من المبادئ الإنسانية الجميلة,كما سنبين لاحقا. 

إن ما أعنيه هنا هو أن قيادة القوى التقدمية في العالم، وأعني المنظومة الاشتراكية، قد دعمت أنظمة كانت تغتال القوى التقدمية الديمقراطية في مجتمعاتها, أي مجتمعات العالم الثالث, الأمر الذي أفرز نتائج سلبية على الاتجاه التصاعدي لتلك القوى، خاصة وأن قوى الثورة المضادة قد ظلت كامنة بل وتمكنت في الغالب من اختراق أجهزة النظم السياسية ذات الطابع التقديم لتتمكن منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين من العودة المظفرة إلى قمة الحكم ولتكثف بدورها من ملاحقة واضطهاد القوى الاجتماعية التقدمية الديمقراطية التي تطمح إلى تغييرات اجتماعية جوهرية في المجتمع تحقق العدل الاجتماعي. 

ويصبح من الواضح، بالنسبة للباحث، أن مواقف قوى الاستقطاب الدولي من التدخلات العسكرية في العالم الثالث لم تكن محكومة بالظروف الذاتية والموضوعية التي حدثت فيها تلك التدخلات بالقدر الذي طغت فيه”المصالح”على تلك المواقف من الظاهرة العسكرية، مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق الكبير بين جمال عبد الناصر المصري العربي الهوى، والجنرال”بينوشيت”عميل المخابرات المركزية الأمريكية الذي أنقلب على الحكومة الدستورية المنتخبة، واغتصب السلطة في تشيلي ليحمي مصالح الشركات الاحتكارية الأمريكية، وبالتالي الفارق الكبير بين الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية التي قدمت الدعم المادي والمعنوي لمجتمعات العالم الثالث، وبين الولايات المتحدة الأميريكية ودول المعسكر الرأسمالي التي كانت وما تزال تنهب ثروات المجتمعات النامية وتكرس لبقائها تابعة ومتخلفة. 

ذلك هو الموقف الرسمي (النظري والعملي) للقوى الدولية من الظاهرة العسكرية في العالم الثالث وقد حرصت أن يكون مدخلاً لتناول العوامل الرئيسية لانتشار هذه الظاهرة، وفق رؤى مختلفة، على أمل أن يساعد هذا التوضيح على إعطاء معنى للتمييز بين التفسيرات النظرية المجردة وبين التفسيرات ذات الأبعاد الأيديولوجية الظاهرة أو المستترة من ناحية، والوقوف على التفسيرات الموضوعية من ناحية أخرى. 

على الرغم من الكثرة النسبية للدراسات والبحوث التي أجريت عن المؤسسة العسكرية (Military Institution) في العالم الثالث والدور السياسي العسكري (Political Military Role) أو النزعة العسكرية (Militarism) على وجه الخصوص فإنه لم يتم التوصل حتى الآن إلى اتفاق حول خصائص هذه الظاهرة أو العوامل الدافعة التي حدوثها. فقد أرجعها البعض إلى خصائص العسكريين أنفسهم مثل: () تشبعهم بالروح العسكرية، وشيوع روح الخدمة، وكفاءتهم التي تجمع بين القدرة القتالية والمهارة الإدارية، ومواقفهم البطولية بالإضافة إلى الوحدة الداخلية والتنظيم الرأسي والأفقي والطاعة العسكرية التي تتميز بها المؤسسة العسكرية، كما تم الربط بين تطلع العسكريين إلى السلطة السياسية وأصولهم الاجتماعية التي ترجع، وفق هذا الاتجاه، إلى الطبقة المتوسطة وشريحتها الدنيا، والأخذ بعين الاعتبار في هذا الصدد الممارسات المترفعة للعسكريين وشكهم الدائم في المدنيين، وكذلك درجة التعليم وموقفهم من الشرعية الدستورية وطبيعة العلاقات التي تربط القوات المسلحة بمؤسسة الحكم. 

كما ذهب البعض إلى أن التدخل العسكري يمكن أن يكون ناتجاً عن مشكلات تخص العسكريين أنفسهم مثل: انخفاض مستوى المعيشة، والرعاية الاجتماعية وانخفاض المرتبات، وتفشي المحاباة في نظام الترقيات التي قد تتم وفقاً لعلاقات القرابة والو لاءات السياسية، أو الإحساس بالاهانة من خلال أية إجراءات حكومية تمس القوات المسلحة، أو بفعل هزيمة عسكرية يرى العسكريون (الضباط) أن الحكومة المدنية هي المسئولة عنها أو المتسببة في حدوثها، وقد يحدث التدخل العسكري المباشر (الانقلاب)، إذا ما شعر بعض العسكريين بخطر يتهددهم ويكون مصدره سيطرة فئة معينة من الضباط بالتواطؤ مع مجموعة أو فئة مدنية... الخ. () 

وهنالك من ربط التدخل العسكري في الشئون السياسية بالبيئة السياسية وصراع”الجماعات الاجتماعية”والسياسية المختلفة على السلطة، وذلك ناتج- وفق هذا الاتجاه – عن ظاهرة التسييس العام للقوى الاجتماعية بسبب غياب المؤسسات السياسية الدستورية الوسيطة التي تقنن التنافس على السلطة، حيث تعبر القوى الاجتماعية المختلفة عن مواقفها من الحكم بطرق مختلفة، فيتظاهر الطلاب، ويضرب العمال، أما العسكريون فإن الانقلاب العسكري هو الوسيلة التي تمكنهم من السيطرة والنفوذ، لا بصفتهم المؤسسية (Institutionalism) ولكن باعتبارهم أحدى القوى التي تعكس البنيان السياسي للمجتمع. () 

ومع الاعتراف بأهمية العامل الذاتي للمؤسسة العسكرية، إلا أنه مهما يكن، لا يرقى في أهميته إلى أن يصبح متغيراً مستقلاً يعلو فوق العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعج بها مجتمعات العالم الثالث والتي يعتبر العامل الذاتي للمؤسسة العسكرية أحداها، إن لم يكن انعكاسا لها، ليس أكثر فالجيش ليس كياناً منعزلاً عن المجتمع، بل هو جزء منه، يعيش فيه ويعمل في إطاره، ويتفاعل معه ويتأثر به قوة وضعفاً، لأنه من خلال علاقة تبادليه مع البيئة الاجتماعية، بكل مكوناتها، يعكس على الرغم من كونه جسداً تنظيمياً واحداً، كل نتاجات المجتمع الفكرية والسياسية التي هي بدورها انعكاساً لواقع اقتصادي – اجتماعي محدد، لاسيما وأن البيئة الاجتماعية، بكل تناقضاتها ومشكلاتها هي المصدر الأوحد لمدخلات الجيش من القوى البشرية، وهو أمر لا بد وأن يكون له تأثير على اتجاهات العسكريين. إزاء المجتمع وقضاياه رغم كل الجهود التي تبذلها القيادات السياسية والعسكرية العليا في سبيل خلق الروح العسكرية الصرفة داخل القوات بعيداً عن هموم المجتمع. 

قد يكون العامل المؤسسي سبباً، لحدوث انقلاب أو تدخل عسكري ما، في مجتمع معين، إلا أنه لا يمكن أن يكون كافياً لأن تفسر به الظاهرة العسكرية بصورة عامة، خاصة في مجتمعات العالم الثالث التي تعاني من مشكلات أساسية على المستويات الاقتصادية والاجتماعية التي تتضمن في داخلها قضايا أخرى سياسية وثقافية وطائفية وغير ذلك من قضايا الواقع الاجتماعي التي قد يجد العسكريون أنفسهم مضطرون للتعامل معها باعتبار أن القوات المسلحة في العالم الثالث مثقلة بواقعها البيئي المتنوع شأنها في ذلك شأن القوى الاجتماعية المختلفة. 

هذا فيما يتعلق بالعامل المؤسسي، أما ما يخص ”الصراع بين الجماعات الاجتماعية على السلطة والنفوذ، فإن أصحاب هذا الاتجاه التفسيري للظاهرة العسكرية قد نظروا إلى التدخل العسكري باعتباره الوسيلة التي يتمكن العسكريون من خلالها من الحصول على نصيبهم من الغنيمة التي تتصارع من أجلها ”الجماعات الاجتماعية” دون أي أساس قانوني أو دستوري، وهنا تم استبعاد العوامل الاجتماعية – الاقتصادية – التي غالباً ما تكون هي الدافع لكل أشكال العمل السياسي بما في ذلك التدخلات العسكرية، بغض النظر عن البعد الإيديولوجي للتدخل العسكري، حيث أن من غير المنطقي النظر إلى السلطة السياسية باعتبارها تركة أو غنيمة يتصارع في سبيل اقتسامها أو الاستحواذ عليها أطراف عديدة لمجرد الاقتسام أو الاستحواذ اللذين نشئا عن ظاهرة التسييس العام، ودون أن يكون لذلك الصراع خلفياته الطبقية وغاياته التي تحقق أهداف القوة الاجتماعية التي تتصارع من أجل السلطة. 

وفي مقابل النظرة الأحادية للظاهرة العسكرية حشد بعض الباحثين عدداً من العوامل التي قد يؤدي وجود أياً منها في نظرهم إلى تدخل العسكريين في الشئون السياسية نجملها، وفق ترتيبها عند أصحاب هذا الاتجاه فيما يلي: ()
1. ضعف البينان السياسي.
2. انتشار الصراعات السياسية وضعف التماسك الاجتماعي.
3. الحروب الأهلية.
4. التفتت الطبقي.
5. انتشار ظاهرة الفساد.
6. الأزمات الاقتصادية الحادة.
7. السخط الشعبي
8. مشكلات الحدود الإقليمية.
9. الهزائم العسكرية.
10. المحافظة على النظام، أي استبدال نخبة حاكمة بأخرى من نفس الطبقة.
11. صراع العسكريين على السلطة.
12. التدخل الأجنبي (تخطيطاً ودعماً للانقلاب).
13. ضمان عدم وجود تدخل خارجي محتمل لحماية النظام القائم.
14.التأثر بانقلابات أخرى (أثر المحاكاة).
15. اعتقاد العسكريين بصلاحيتهم للحكم.
16. الإحساس بالتفوق الناتج عن دعم وتسليح المؤسسة العسكرية بحيث تصير هي القوة الوحيدة القادرة على حسم الصراعات على السلطة. 

والملاحظ على هذا الحشد من العوامل، رغم وجاهتها وأهميتها من حيث أن أحداها أو بعضا ًمنها قد يشكل عامل حفز للعسكريين للوثوب إلى السلطة، إلا أنها قد طرحت كقضايا عامة تفتقر إلى التعريف الذي يحدد مضمونها الأيديولوجي، ويبين موقف أصحاب هذا الاتجاه من تلك القضايا كما إننا لم نقف من خلال هذا الاتجاه- باستثناء أحمد حمروش- على الظروف التي أدت إلى تلك العوامل، ولم يشر عند إيرادها إلى المضمون الاجتماعي الاقتصادي للنظم التي يصل فيها المجتمع إلى مثل هذه الأوضاع التي يكون التدخل العسكري هو ”العلاج الوحيد”. 

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن تلك العوامل توحي بأنه قد تم النظر إلى الظاهرة العسكرية، بصورة عامة، دون أي تمييز بين التدخلات العسكرية من حيث اتجاهاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أي بين التدخلات ذات البعد الوطني التي ينحاز مدبروها إلى القاعدة العريضة من المجتمع، وتهدف إلى تعزيز الاستقلال السياسي بالسيادة على ثروات المجتمع الكامنة والظاهرة، وتعادي الاستعمار وبين الانقلابات الرجعية المخطط لها من قبل دوائر الاحتكارات العالمية والتي تهدف إلى تكريس السيطرة الاستعمارية على مجتمعات العالم الثالث، أو تتجه لإسقاط الأنظمة التقدمية وضرب حركات التحرر الوطني.... الخ.

تفسير الظاهرة العسكرية في ضوء العلاقات المدنية – العسكرية
أتجه بعض الباحثين، كما سنبين لاحقاً إلى القول بأن العلاقات المدنية العسكرية (Civilian – Military Relations) هي إطار أوسع يمكن من خلاله فهم الظاهرة العسكرية بصورة أكثر موضوعية، ذلك أن طبيعة تلك العلاقات لا بد وأن تفصح عن الظروف التي يتحدد في ضوئها حجم ونوع وعوامل التدخل العسكري في الشئون السياسية سيما وأنها – العلاقات المد نية – العسكرية المحد الرئيسي – وفق هذا الاتجاه – لدور كل من المؤسسة المدنية والمؤسسة العسكرية. 

وبناءً على ما سبق فقد تم تناول العلاقات المدنية العسكرية من اتجاهين مختلفين ولكنهما متداخلان:
الأول: نماذج السيطرة المدنية على القوات المسلحة.
الثاني: نماذج التدخل العسكري في الشئون السياسية.

أولاً: نماذج السيطرة المدنية:
خبرت المجتمعات الإنسانية – وفق بعض الآراء – منذ عصر الإقطاع والسيطرة الكنسية في أوروبا وحتى العصر الراهن ثلاثة نماذج للسيطرة المدنية هي: ()
1- الأنموذج التقليدي The Traditional Model
2- الأنموذج الليبرالي The Liberal Model
3- الأنموذج ألتدخلي أو ألاختراقي The Penetration Model 

أ- الأنموذج التقليدي:
ظهر هذا الأنموذج خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين عندما كانت الطبقة الأرستقراطية هي الطبقة السائدة في أوروبا كما كانت الارستقراطية بشقيها المدني والعسكري تعيش تحت سقف واحد قوامه المصلحة المشتركة، وتدافع عن قيم متشابهة، وتقوي صلاتها بالروابط الأسرية وتوزع أبناءها ما بين الجيش والكنيسة، وتم تعزيز كل ذلك بأن جعلت قيادات الجيش بمستوياتها المختلفة مغلقة على أبناء الارستقراطية الذين هم مدنيون ارستقراطيون أولاً وعسكريون ثانيا، الأمر الذي جعل خلافات أبناء تلك الطبقة خلافات ثانوية ونادرة يسهل حلها في إطار الخط العام المحدد للدفاع عن المصالح الإقطاعية الكنسية. 

وقد ساد هذا الأنموذج في الملكيات (Monarchies) الأوروبية وأصبح من الصعب تطبيقه الآن بسبب تباين الانتماءات الاجتماعية واختلاف خبرات، وتدريبات واهتمامات العسكريين في الوقت الحاضر، وكذلك بفعل حرص العسكريين على حماية اهتماماتهم في مواجهة الاهتمامات المدنية. 

ب- الأنموذج الليبرالي:
يعتمد هذا الأنموذج، الذي ظهر في البلدان الرأسمالية، على تحديد الفروق في المهام المحددة سلفاً لكل من المدنيين والعسكريين، استناداً إلى الفروق في الخبرات التي تهيئ كلا منهما لأداء عمله. فقد تم في ضوء ذلك تحديد مهام المدنيين، وتمثلت تلك المهام في تولي المناصب الحكومية، معينين ومنتخبين، وأوكل إليهم تحقيق الأهداف الداخلية والخارجية وتطبيق القوانين، والتحكم في الصراعات أو الاختلافات التي قد تنشأ بين ذوي التخصصات المختلفة.
أما العسكريون فقد انحصرت مهامهم في التدريب على استخدام أدوات القوة والدفاع عن النظام، وحماية الأمن القومي، داخلياً وخارجياً، وتقديم النصائح اللازمة للسلطات المدنية في كل ما يتصل بشئون الدفاع، وتقبل توجيهات السلطات المدنية في حالة اختلاف وجهات النظر، الأمر الذي يجعل السلطات المدنية في النظم السياسية الليبرالية تمتلك الإمكانيات المطلقة التي تحول دون اشتغال العسكريين بالسياسة خاصة وأن هناك أساساً آخر مقابل في هذا الأنموذج وهو التزام المدنيين باحترام شرف الجندية، واحترام العسكريين وتقدير خبراتهم وعدم التطرف السياسي، وخاصة في التصريحات السياسية التي تتعلق بالأمور العسكرية، وعدم التدخل في الشئون الداخلية العسكرية الصرفة مثل: الترقيات، والامتيازات الخاصة بالقوات المسلحة وكذلك عدم توجيه القوات المسلحة في مهام تتعلق بالصراعات السياسية الداخلية، وكلها أمور تعزز توطيد الروابط العسكرية- المدنية – وتعزز بالتالي سيطرة السلطة المدنية على القوات المسلحة، وإعلاء مستوى الاحتراف العسكري الذي يعني أول ما يعني، إنكار أي دور سياسي عسكري مستقل. () 

ج- الأنموذج التدخلي، والاختراقي:
يحظى الحكام المدنيون في هذا الأنموذج بولاء القوات المسلحة عن طريق تسيبها بواسطة المفوضين السياسيين الذين ينتشرون في الوحدات العسكرية، وتكون لهم الكلمة العليا في أمور كثيرة. تتركز المناقشات في الندوات الفكرية والمحاضرات السياسية التي تقيمها الأكاديميات والمعاهد العسكرية، حول تشكيل معتقدات أفراد القوات المسلحة بهدف تواؤم أفكار المدنيين والعسكريين وذلك سعياً نحو القضاء على عناصر الصراع بين الطرفين. 

إن جهوداً كبيرة تبذلها القيادات المدنية في النظم السياسي التي يتم فيها اختراق القوات المسلحة، تهدف في مجملها إلى إقناع العسكريين من خلال برامج التوعية السياسية المكثفة، بأهمية العمل السياسية الذي يقوم على الوعي والإقناع، وفي هذا الشأن استشهد أحد المفكرين () بمقولة شهيرة للزعيم الصيني ”ماوتسي تونغ” وردت في كلمته التي ألقاها في مؤتمر المفوضين السياسيين في وحدات عمال الصيانة في القوات الجوية الصينية، حيث وصف فيها العمل السياسي بأنه ”روح صيانة الطائرات” soul of Plane maintenance)) () 

إن القوات المسلحة في النظم التدخلية تصبح جزءاً من بنية النظام السياسي لا تقتصر مهامها على العمل العسكري، بل تتولى مهاماً عديدة في تخصصات مختلفة، ويشير عدد من المفكرين الذين تناولوا هذا الأنموذج إلى أنه قد تم الأخذ به في النظم الشيوعية وكذلك في كل من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، كما طبقته بعض بلدان العالم الثالث مثل ”تنزانيا” و”غينيا” و”وفيتنام” و”كوبا” حيث اعتمدت هذه النظم على نظام الحزب الواحد الذي احتكر أعضاؤه الخدمة العسكرية، حيث يتم إلحاقهم بالقوات المسلحة بعد فترة طويلة من العمل في المنظمات الشبابية الحزبية. ()
 
وبالنظر إلى أن الأنموذج التقليدي لم تعد له أرضية في العصر الراهن فإن الباحث سيقتصر في تناوله لهذه النماذج على الأنموذجين الثاني والثالث. فعلى مستوى الأنموذج الليبرالي فإن الأخذ به قد لا يتجاوز التنظير الذي يواجه هو الآخر بتناقضات المجتمعات التي هي المحك العملي لأية نظرية. فالمؤسسة العسكرية الغربية ذاتها لم تكن في يوم من الأيام محايدة سياسياً رغم كل ما يقال عنها في هذا الشأن. فلئن كان الانضمام إلى الأحزاب السياسية محرم دستورياً على العسكريين، فإن ذلك لا يعني أن عسكريي أوروبا الرأسمالية والولايات المتحدة الأمريكية محيَّدون سياسياً بالفعل، ذلك أن طبيعية النظم الرأسمالية نفسها تفرض وجود علاقة عضوية بين العمل السياسي والعمل العسكري بفعل التوجهات الاستعمارية لتلك النظم منذ نشوئها، وترجمة تلك التوجهات إلى عمل عسكري مباشر تمثل في استعمار معظم شعوب العالم الثالث، الأمر الذي حتم أن يكون للعسكريين مواقف سياسية واضحة باعتبارهم الأداة الرئيسية لتنفيذ السياسات الاستعمارية للدول الرأسمالية في العالم الثالث. 

لقد تداخل تأثير الدور السياسي العسكري مع كل من السياسة الداخلية والخارجية لحكومات البلدان الرأسمالية وإذا ما كان ذلك التأثير غير معلن أو غير ظاهر، فإنه قد طفا على سطح الحياة السياسية أكثر من مرة. ففي بريطانيا أقام العسكريون حكماً عسكرياً في منتصف القرن السابع عشر، وأعلن الجنرال”أوليفر كروم ويل – أول جمهورية في تاريخ بريطانيا – كما أن خلافاً حاداً قد حدث بين المؤسسة العسكرية والمؤسسة السياسية قبيل نشوب الحرب العالمية الأولى مباشرة حول منح”إيرلندا”حق الحكم الذاتي مما أوجد أزمة ثقة بين العسكريين والمدنيين وتكررت الخلافات بين الطرفين عام 1918 عندما وجه رئيس الحكومة البريطانية آنذاك (لويد جورج) الاتهام إلى العسكريين بأنهم يدبرون لإسقاط وزارته بهدف المجئ بحكومة أخرى تكون طوع إرادة العسكريين. () 

وفي فرنسا يعد ”نابليون بونابرت ”بمفرده” ظاهرة عسكرية” تجاوز تأثيرها حدود فرنسا – كما هو معروف – كما أن العسكريين قد اسقطوا الحكومة المدنية والجمهورية الرابعة معاً وأتوا عام 1958 بالجنرال ”شارل ديجول” الذي كاد هو الآخر أن يذهب ضحية مؤامرة دبرها بعض قادة الجيش الفرنسي في الجزائر بسب الخلاف حول مستقبل الجزائر، ودخول أولئك القادة في حوار مع قيادات الثورة الجزائرية. () 

أما في الولايات المتحدة التي أضطر رئيسها”ترومان”إلى عزل قائد القوات الجوية الأمريكية في اليابان عام 1951 لأسباب سياسية، فإن نفوذ المؤسسة العسكرية قد بلغ حداً جعل بعض المفكرين يطلق على المجتمع الأمريكي اسم ”المجتمع العسكري”، وأشار إلى أن قيادات المؤسسة العسكرية تسيطر على وظائف متعددة في الشركات والمؤسسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية العاملة في المجتمع الأمريكي، وأن تلك القيادات العسكرية تمارس ضغوطاً متنوعة على مخططي السياسة الداخلية والخارجية الأمريكية، كما أن إعداداً متزايدة من الأمريكيين أصبحت لهم مصالح اقتصادية واجتماعية مع المؤسسة العسكرية في مجالات متعددة كالعقارات والتجارة والوظائف، وتزداد العلاقة اتساعاً أثناء الانتخابات وذلك بهدف شراء الأصوات الانتخابية ليس ذلك وحسب، بل امتدت المصالح المشتركة إلى مجالات خاصة جداً كالترفيه والتسلية، الأمر الذي يؤكد أن المؤسسة العسكرية الأمريكية هي أهم مؤسسة قومية في أمريكا، خاصة إذا ما علمنا أن 70% من البحوث العلمية تتم لحساب وزارة الدفاع الأميريكية (البنتاجون) (). 

وإذا كانت التدخلات العسكرية في الغرب الرأسمالي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تصل إلى الدرجة التي وصلت إليها في مجتمعات العالم الثالث، فإن ذلك راجع، كما يشير ”جاك ووديز” إلى ”قوة الرأسمالية وتثبيت دولتها في البلدان الرأسمالية الرئيسية مع نهاية النصف الأول من القرن العشرين، إذا من الملاحظ أنه حيثما تكون الرأسمالية أضعف أو حيثما أخذ استقرار النظام بالتحطم حدث تدخل سياسي صريح للقوات المسلحة”(). 

ويضيف ”جاك ووديز” إن مما حدّ من تدخل العسكريين المباشر في البلدان الرأسمالية هو ظهور عوامل جديدة مثل: ”قوة الطبقة العاملة والحركة الديمقراطية في عدد من بلدان أوروبا، والعلاقات العالمية للقوى السياسية والتغيرات اللاحقة داخل القوات المسلحة ذاتها – امتلاك أسلحة التدمير الشامل (الباحث) – كل هذه جعلت من التدخل العسكري السياسي المباشر عملية تنطوي على مخاطر أكبر”(). 

وفي ضوء ما سبق يمكن القول بأن أبرز التدخلات العسكرية في أوروبا الرأسمالية قد حدثت في المجتمعات الأقل تطوراً من الناحية الاقتصادية، فإذا كانت ”إيطاليا” في العشرينات أكثر تقدماً من ”فنلندا” على سبيل المثال، فإنها بكل تأكيد كانت أقل تطوراً من بريطانيا وفرنسا، أما في ألمانيا فإن الرأسمالية الألمانية قد خرجت من الحرب العالمية الأولى محطمة، خاصة بعد ”معاهدة فرساي” التي عقدت في فرنسا عام 1919، والتي ترتب عليها تقسيم مستعمرات ألمانيا بين الدول المنتصرة، بالإضافة إلى إجبار الدولة الألمانية على دفع تعويضات ضخمة للدول التي أعتبرها المؤتمرون ضحية للعدوان الألماني. () 

وعليه فإن صعود كل من ”الفاشيين” في إيطاليا و”النازيين” في ألمانيا إلى الحكم عامي 1922 وعلى التوالي، قد حدثا في أوج أزمة الطبقة الرأسمالية في كلى البلدين، حيث كانت الطبقة العاملة بالمقابل – في نفس الفترة التاريخية – تسيطر على الشارع الإيطالي والشارع الألماني، الأمر الذي حتم على الطبقة الرأسمالية الاستعانة بالقوات المسلحة التي أبدى قادتها الكبار استعداداً واسعاً ترجم إلى عمل ملموس تمثل في دعم إنفراد”الفاشيين”بالسلطة، وما ترتب على ذلك من حروب دموية شملت أجزاء واسعة من الكرة الأرضية بدأت بالهجوم على الجمهورية الأسبانية عام 1936 وبلغت ذروتها بالهجوم الشامل على الاتحاد السوفيتي عام 1941. () 

هذه من جانب، ومن جانب آخر فإن المدى الذي وصل إليه مستوى السيطرة المدنية، أو بالأحرى سيطرة الطبقة الرأسمالية الحاكمة في أوروبا على القوات المسلحة، لم يكن وليد فترة زمنية بعينها أو بفعل قرار سياسي اتخذ في زمن بعينه، بل هو نتاج عمليات اجتماعية تاريخية طويلة، متدرجة، رافقت مراحل الصراع الاجتماعي، الطبقي في تلك المجتمعات، أثمرت في أحدى مراحلها تصفية النظم الإقطاعية، بكل مؤسساتها وتمكنت البورجوازية من السيطرة الاقتصادية التي مهدت الطريق إلى السيطرة السياسية في إطار نظام اقتصادي – اجتماعي واضح المعالم على مستوى بنيته التحتية، والفوقية، استطاعت طبقة رأس المال من خلاله أن تتجاوز بنفوذها حدود المنشأ لتشمل مساحات شاسعة من العالم. 

أما في مجتمعات العالم الثالث فإن حركات التحرر التي خاضت الحرب وإشكالا أخرى من المواجهة ضد الاستعمار، لم تكن سوى تحالفات جبهوية مؤقتة ضمت في صفوفها مستويات وانتماءات اجتماعية مختلفة جمعها هدف واحد ومحدد هو ”الاستقلال” – وغالباً ما كانت تلك الحركات تضم مجاميع تم تكوينها على أسس قبلية أو مناطقية، رغم أن بعضاً منها قد تبنى شعارات ثورية تقدمية. كما أن كثيراً من مجتمعات العالم الثالث خلال فترات النضال ضد الاستعمار قد تواجدت فيها حركتان، أو أكثر مناهضة للاستعمار* وبمضامين أيديولوجية متباينة، وقد برزت صراعاتها على السطح بصورة أوضح بعد نيل تلك المجتمعات استقلالها، عندما أصبح من الطبيعي أن يصير مقاتلو تلك الحركات هم جنود الدولة المستقلة، وأن تكون قيادتها هي القيادة السياسية للبلاد... وفي البلدان التي لم تتقاتل فيها الحركات السياسية على السلطة فإن المشكلة بالنسبة للجيوش قد ظلت قائمة، أو بالأحرى قد بدأت منذ اليوم الأول للاستقلال، حيث تعرضت السلطة السياسية لمشكلة الكيفية التي يتم بمقتضاها تحقيق السيطرة على القوات المسلحة التي غالباً ما كانت تضم إلى جانب مقاتلي حرب التحرير، وحدات تم إنشاؤها أثناء التواجد الاستعماري وقامت على أسس طائفية، وهذه هي أحدى المشكلات التي خلفها المستعمرون للدول حديثة الاستقلال. () 

وفي غياب المشروع الوطني الذي كان ينبغي صياغته، وتبنيه للتعامل مع الواقع الاجتماعي، اتجهت معظم الحكومات الوطنية، عقب الاستقلال، إلى الأخذ بالأنموذج الليبرالي في الحكم، وبشكل ذلك الأنموذج دون مضمونه، الأمر الذي جعل من تحديد العلاقة بين مؤسسات الحكم، ومنها العلاقات المدنية – العسكرية أمراً بالغ الصعوبة، وتتضح طبيعة تلك الصعوبة: إذا ما استعرضنا جانباً من آراء بعض مفكري الأنموذج الليبرالي في هذا الصدد.
يرى ”صموئيل هانتينجتون” أن”مضاعفة الاحتراف هو أقوى أسس السيطرة المدنية على القوات المسلحة"()، أما ”فينر”فيرى” أن الولاء السياسي يعتمد على إيمان القوات المسلحة الصريح بمبدأ السيادة المدنية”() وفي هذا فقد اتجه ”فينر” إلى تناول الظاهرة العسكرية من خلال البيئات السياسية التي تعمل في إطارها المؤسسة العسكرية إلا أنه اكتفى بالزاوية الثقافية فذهب في هذا الشأن إلى التأكيد على وجود علاقة عكسية بين التدخل العسكري ودرجة الثقافة السياسة التي يتحدد في ضوئها مستوى الارتباط بالمؤسسة المدنية. فالقيود على التدخل العسكري تكون أشد في المجتمعات التي تتمتع بثقافة سياسية عالية المستوى High Level Political Culture ويكون إيمان الجيش بشرعية السلطة المدنية قوياً، والعكس صحيح بالنسبة للمجتمعات التي تتدنى فيها المستويات الثقافية". 

ومن الواضح أن ”فينر” بتركيزه على المستوى الثقافي باعتباره عاملاً رئيسياً قد تجاهل – عن عمد – أن الثقافة عموماً والثقافة السياسية على وجه الخصوص ليست إلا انعكاساً لمستوى الحياة الاجتماعية المادية التي تعكس بدورها الطريقة التي يتم بها استغلال وتوزيع الثروات الاجتماعية. 

وبما أن هذه هي القضية المركزية بالنسبة لمجتمعات العالم الثالث فإن من الصعوبة بمكان اعتبار العامل الثقافي أو بمعنى أوضح التخلف الثقافي عاملا أساسياً يمكن الأخذ به في تفسير الظاهرة العسكرية في هذه المجتمعات، أو أن الظاهرة العسكرية قد تم تحجيمها في المجتمعات الرأسمالية بفعل المستوى العالي للثقافة السياسية، وأنه يمكن بالتالي اعتبار الأنموذج الرأسمالي أنموذجاً صالحاً يمكن الأخذ به في صورته المعمول بها في تلك المجتمعات الرأسمالية.
إن محاولات إقحام النماذج الجاهزة على مجتمعات العالم الثالث قد أسهمت إلى حد كبير في تفاقم مشكلاته المتراكمة، وأعاقت إلى حد كبير المحاولات الجادة للوقوف على العوامل التي تكمن خلف تلك المشكلات – كما أن البيئات الاجتماعية في العالم الثالث لا يمكنها بأية حال أن تتقبل”الأنموذج السياسي”الذي أعد ليكون صالحا لمجتمعات الغرب الرأسمالي – بالصورة المطلقة التي اعد بها، وذلك نظر للتمايزات الواضحة بين بيئات المنشأ والبيئات التي أريد لها أن تكون بمثابة حقل جديد يزرع فيه هذا الأنموذج، لاسيما وأن التمايزات المقصودة هنا تشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وطبيعة التركيبات السكانية، وطبيعة القوى، والتي يكفي أن نقول أنها محكومة في معظم مجتمعات العالم الثالث بشبكة معقدة من العلاقات الدينية والعرفية والقبلية والإقليمية التي هي بدورها نتاج لركام هائل من التخلف الاقتصادي – الاجتماعي عميق الجذور، والذي حرص الاستعمار الرأسمالي بصورة دائمة على توظيفه لصالحه من خلال إفقار هذه المجتمعات ونهب ثرواتها. 

هذا فيما يتعلق بالعامل الثقافي، أما ما يتصل”بالحرفانية”فإن هانتنجتون”قد طرحها في إطار اهتمامه بموضوع العلاقات المدنية العسكرية وفق الأنموذج الليبرالي، في الوقت الذي تجاوز فيه خصوصيات المجتمعات في العالم الثالث التي أثبتت تجارب البعض منها أن التلقي الجامد للنماذج النظرية الجاهزة، غالباً ما يأتي بمردودات عكسية.
لقد اتجهت بعض القيادات السياسية في العالم الثالث نحو السيطرة على القوات المسلحة، وفق الأنموذج الليبرالي، من خلال فرض مبدأ الاحتراف دون أن يترافق مع ذلك اختيار إيديولوجي واضح للنظام الاقتصادي – الاجتماعي، كما انها قد اكتفت بإبعاد القوات المسلحة عن كل أشكال الصراعات السياسية، في الوقت الذي ظلت فيه العلاقة بين مؤسسة الحكم والقوى الاجتماعية والسياسية الأخرى غير واضحة لأنها لم تكن محكومة بأسس دستورية، بل عمد الحكام إلى تسييس”العصبيات”من قبائل وبطون وأفخاذ وأعراق، واعتمد الحكام على العصبيات أكثر من اعتمادهم على الدستور،الأمر الذي ترتب عليه أن ظلت القوات المسلحة تحمل في داخلها كل تناقضات المجتمع بكل طوائفه ().
لقد تم تجاهل الواقع الاقتصادي – الاجتماعي بكل ما تضمنه من مشكلات معقدة أمكنها، في ظل النظم السياسية التي استمرأت احتكار السلطة، وغيبت القوى الاجتماعية والسياسية الأخرى، أن تأتي بنتائج عكسية أفرزت المزيد من المشكلات، وترتب على ذلك أن فشلت معظم الدول النامية في أن تمتلك ضبطا أو رقابة حقيقية على المؤسسة العسكرية مما أدى إلى تعاظم قوة العسكريين ودورهم السياسي (). 

وفي إطار التركيز على”الاحتراف”الذي هو احد مقومات السيطرة المدنية في الأنموذج الليبرالي، وضع”روبين لوكهام”إطار تصوريا ذهب من خلاله إلى”أن القوات المسلحة نظام اجتماعي (Social System) في حد ذاته، له حدوده المميزة والتي عن طريقها يتم التعامل مع البيئة السياسية والاجتماعية المحيطة به، الأمر الذي يجعل دور المؤسسة العسكرية دورا محكوما، ويعزز بالتالي العقيدة الأساسية للجيش المتمثلة في”الاحتراف”(). وقد حدد لهذا الغرض ثلاثة مؤشرات أساسية هي: ()
1. وجود بعض العناصر والمتغيرات مثل:
أ- شكل التسلسل الهرمي Shape Hierarchy ب- نماذج التجنيد. ج- التدريب. د- التركيب العمري. هـ- النظم.
2. أن أي نظام يجب أن تكون له حدود مميزة، أما عن حدود أية منظمة عسكرية فإنها تبدو حقيقة اجتماعية، وتتمثل في: أ‌- بوابات الثكنات العسكرية. ب- قاعات الطعام للعسكريين. ج- الملابس العسكرية المميزة.

3. أن تلك الحدود المميزة للمؤسسة العسكرية، كتنظيم اجتماعي، تعمل على ضبط عملية العلاقة التي تربط بين المؤسسة العسكرية والبيئة السياسية مما يقوي من اتجاه الاحتراف داخل المؤسسة العسكرية.
ومما لا شك فيه أن المتغيرات والحدود المشار إليها، هي هامة ولازمة لأية مؤسسة عسكرية، وفي أي زمان ومكان، إلا أن التعامل معها باعتبارها كافية لتنظيم وتقنين تفاعلات القوات المسلحة مع البيئة السياسية والاجتماعية وأنها كفيلة بضبط الدور العسكري، والتحكم فيه، هو أمر يحتمل الكثير من الشك، ذلك أن المتغيرات التنظيمية والحدود المؤسسية قد تم التعامل مع المؤسسة العسكرية من خلالها كما لو أنه قد تم وضع أفرادها في جزيرة معزولة، وأن صلتهم قد انقطعت، أو يمكنها أن تنقطع عن كل ما هو خارج تلك الحدود. 

إن المتغيرات، المشار إليها، لازمة للشكل التنظيمي، وضرورية لعمل ونشاطات المؤسسة العسكرية من الناحية المهنية، ولكنها لا تمنع التدخل العسكري، أما الحدود، المميزة، فإنها رغم واقعيتها، حدود وهمية بالنسبة لموضوعي ”الاحتراف” و”التدخل” خاصة عندما نعرف أن مجموعة من أعضاء المؤسسة العسكرية تتأمر على مجموعات أخرى داخل نفس تلك المؤسسة، وتخطط لقتلها، إن لزم الأمر، وتستعد لتنفيذ عملية القتل، وأن اتجاه تلك المجموعات نحو قتل مجموعات أخرى غالبا ما يتم بالاتفاق مع ممثلين لـ ”فئة” أو ”طبقة” اجتماعية من خارج حدود المؤسسة العسكرية. 

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن ثمة تفاعلات بين المؤسسة العسكرية والسلطة السياسية، تفرضها متطلبات الجانب المهني إلا أنها غالبا ما تتجاوزه في نهاية المطاف، وأبرز نماذج تلك التفاعلات هو ما يتصل بتجهيز القوات المسلحة بالأسلحة والعتاد الحربيين اللازمين لرفع مستوى القدرات القتالية، فإذا ما علمنا أن المصدر الأساسي لتلك التجهيزات هو الدول الصناعية في العالم المتقدم، فإن إتجاه الدولة فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية لا بد وأن يمر عبر المؤسسة العسكرية التي يتحتم أن يكون لرأيها وزن لا بد وأن يوضع في الحسبان. 

كما أن السياسة الخارجية لأية دولة لا بد وأن تعكس توجهات النظام الداخلية، وبالتالي فإن تأثير القوات المسلحة يشمل اتجاهات النظام السياسي على أكثر من مستوى.
وإذا ما عدنا إلى الحالة الداخلية للمؤسسة العسكرية في العالم الثالث، وقوام بنيتها التي لا تعدو كونها انعكاسا صادقا لطبيعة التركيبة الاجتماعية المعقدة في كثير من المجتمعات، ووضح لنا أن تلك التركيبة – كما سبق القول – لم تمس في جوهرها منذ أن نالت تلك المجتمعات استقلالها، وأن الصراعات الاجتماعية فيها مبنية على أسس طائفية أكثر منها طبقية، في ظل نظم سياسية ليست مبرأة من الفساد، إذ ما عدنا إلى تلك الحالة وعرفنا طبيعة التفاعلات بين أعضاء المؤسسة العسكرية أنفسهم، وبينهم وبين المجتمع، فإنه يصبح من البديهي عدم التعويل بشكل كبير على مسألتي البنية الداخلية والحدود المميزة للمؤسسة العسكرية اللتان تكمن فاعليتهما بصورة أكبر في إطارهما المهني.
أما بالنسبة للحرفانية (Professionalism) فإن الحديث عنها لا بد وأن يكون مبنيا على رؤية عميقة، وفهم موضوعي للبيئة Environment التي تم فيها غرس او استزراع (Transplanted) منتسبي القوات المسلحة الذين ينحدرون من بيئات اجتماعية مختلفة، باعتبارها بيئة جديدة، أو حقلا جديداً تتشكل في داخله مؤسسة اجتماعية جديدة لها ملامحها ومضامينها الجديدة المتميزة إلى لا تعني الانسلاخ كلية عن الواقع الاجتماعي بكل موروثاته.
وفي إطار الرؤية العميقة للبيئة الاجتماعية لا ينبغي التركيز على عامل بعينه، كالاحتراف للوقوف على ظاهرة اجتماعية في حجم الظاهرة العسكرية، ذلك أن الاحتراف لا يمكن التعويل عليه إلا في ظل مجتمع مدني له ملامحه الواضحة، أو هي على الأقل في طور التكوين، وبما يعنيه ذلك من قواعد دستورية وقانونية تحدد بوضوح شكل ومحتوى النظام السياسي، وطبيعة العلاقات التي تربط بين مؤسساته المختلفة بما فيها المؤسسة العسكرية، كما أن الحديث عن المجتمع المدني أو التعويل عليه في ظل تخلف اقتصادي واجتماعي شاملين أيضاً يصبح نوع من الترف، ذلك أن قيمة المجتمع المدني ذو الآفاق الديمقراطية لا بد وأن تكون ممهورة بتوجهات جادة نحو التنمية الاقتصادية – الاجتماعية التي تؤدي بالمجتمع إلى الخروج من دائرة التخلف وبالتالي من دائرة التبعية الاقتصادية أو الارتهان، الأمر الذي يصبح معه الحديث عن الاحتراف العسكري، أو الثقافة السياسية وكذلك الحريات السياسية حديثا موضوعياً يعني أن المجتمع الذي يفتقر إلى أحد هذه العناصر فإنه قد يكون عرضة لظاهرة من الظواهر التي قد يترتب عليها شكلاً من أشكال الاضطراب السياسي والاجتماعي ومنها الظاهرة العسكرية. 

ولعل تجربة السودان تجربة دالة في هذا الصدد. فقد أفتتح أول برلمان منتخب، وشكلت أول حكومة منتخبة على أسس ديمقراطية تعددية عام 1954م، ونال الشعب السوداني استقلاله السياسي عام 1955. وتم إسقاط الحكم المدني الديمقراطي بعد ذلك بثلاث سنوات ليصعد العسكريون إلى السلطة عام 1958 فكيف حدث ذلك؟
منذ الأيام الأولى للاستقلال كان حرص القوى السياسية التقليدية شديد على احتكار السلطة السياسية، وفي سبيل ذلك بُذلت جهود كبيرة لتحجيم أنشطة القوى السياسية الجديدة التي تطمح إلى أحداث تغييرات جذرية يتحقق من خلالها إعادة توزيع الثروة الوطنية، ولما كانت القوى الجديدة قد اتجهت نحو استنهاض القوى الحية في المجتمع السوداني وخاصة المنظمات الجماهيرية فإن القوى الاجتماعية التقليدية قد واجهت ذلك بأن عملت على تسييس القبائل والطوائف السودانية التي هي الأساس الذي قامت عليه الأحزاب التقليدية، الأمر الذي خلق صعوبات أمام تطور العمل السياسي في السودان. 

هذا فيما يتعلق بالعمل السياسي، أما الجانب الاقتصادي فإن السودان لم يحقق أية انجازات تذكر، بل ظل سوقا مفتوحة للسلع الأجنبية ومنتجاً للسلع الأولية خاصة القطن، وهو ما أدى إلى تسريب جزء كبير من الدخل القومي إلى مراكز لاستهلاك الرأسمالي وخاصة بريطانيا، كما أنعكس سلبا، وبشكل مباشر على دخل الطبقات الفقيرة ومستوى معيشتها. 

وفي ظل سيطرة كبار الملاكين الزراعيين على الإنتاج الزراعي التقليدي نأت البورجوازية التجارية بنفسها عن الإسهام بصورة جادة في إحداث التحولات التنموية رغم التسهيلات التي حظيت بها، وأثرت الكسب السريع الذي لا يتطلب المغامرة برؤؤس الأموال، وتركزت استثماراتها في المجالات التي لا تؤدي إلى توسيع قاعدة الإنتاج، ولا إلى جذب أقسام واسعة من السكان، وخاصة مجالي التجارة والمضاربات العقارية وفي مثل تلك الأوضاع كان القطاع العام هو المستثمر الأول في السودان إلا أن إمكانياته كانت عرضة للتبديد، وبقيت بعيدة عن تلبية الاحتياجات الأساسية للتحديث الذي يقوم على الإنتاج الزراعي والصناعي، حيث كانت نسبة 31% من مجموع استثماراته تنفق على جهاز الدولة الإداري، مما أصابه بالجمود والانكماش(). 

وبصورة إجمالية فقد ظل الاقتصاد السوداني على وجه العموم أسير القطاعات التقليدية التي ظلت تنتج 56% من الدخل القومي منذ 1956م وحتى عام 1960م، كما أنها كانت تستوعب 87% من مجموع القوى العاملة (). الأمر الذي يعني أن القوى السياسية التي كانت ممسكة بزمام الحكم في حينه قد حالت بتشبثها بأساليب الإنتاج التقليدية، دون إدخال قوى اقتصادية جديدة، تقدم طريقا بديلاً للطريقة التقليدية، وتسهم في قضايا التغيير الاجتماعي الذي سيؤدي بالفعل إلى تدعيم وتطوير وعقلنة العمل السياسي، ويسهم إلى حد كبير في تحجيم الرواسب الاجتماعية التقليدية التي حكمت العمل السياسي في السودان وتجلت بصورة واضحة في أن أكبر طائفتين فاعلتين في السودان هما: طائفتا ”الأنصار” و”الختمية” قد أصبحتا بكل نزعاتهما القبلية الإقليمية، المذهبية، الأساسين الرئيسيين اللذين قام عليهما حزبان من الأحزاب الرئيسية في السودان هما: ”حزب الأمة” و”حزب الشعب الديمقراطي” – توحد فيما بعد مع ”الحزب الوطني الاتحادي” ليشكلا ما عرف بعد ذلك ”الحزب الاتحادي الديمقراطي – اللذان أعاقا باحتكارهما للسلطة، وصراعاتهما الطائفية، وسياستهما التقليدية المحافظة، كل أشكال العمل السياسي الجادة الهادفة إلى التغيير الذي كان يمكنه بالفعل أن يعزز الاستقلال السياسي بالاستقلال الاقتصادي الذي يتحقق بواسطته إرساء أسس قوية للعدل الاجتماعي الذي يعني بدوره دعم وتطوير التجربة الديمقراطية كما سبق القول. 

إن السياسات المحافظة التي مارستها الأحزاب التقليدية، لم تؤد إلى ركود في الاقتصاد السوداني وحسب، بل أحدثت فيه تدهوراً ملموسا تجلي في الخلل الواضح الذي حدث في الميزان التجاري الذي كان يميل حتى عام 1956م لصالح السودان مع بريطانيا بفارق (19.522.155) جنيها سودانياً، حيث انحسرت قيمة الصادرات من (32.008.312) جنبها سودانيا عام 1956م إلى (5.832.000) جنيها سودانياً عام 1965 في الوقت الذي ارتفعا فيه قيمة الواردات من (12.486.157) جنيها إلى (15.209.000) جنيها بفارق (2.722.843)جنيها. () 

لقد حاولت القوى الاجتماعية الجديدة، المعادية للنفوذ الاقتصادي الاستعماري، والمتمثلة في اليسار، والوحدويين، كسر دائرة الجمود والتقليدية، وسعت إلى استنهاض قوى التغيير الاجتماعي في المجتمع السوداني، وقدمت لتحقيق ذلك برامج وخطط أمكنها أن تتقدم بالعمل السياسي خطوات واسعة إلى الإمام، وكادت إن تحقق من خلال العمل الديمقراطي نجاحات من شأنها تحجيم فاعلية القوى الطائفية، وبرزت مؤشرات ذلك النجاح في تنامي التيار الثوري – الديمقراطي في أوساط الاتحادات والنقابات المهنية، وعندما أحست القوى الاجتماعية التقليدية أن تيار التقدم قد بدأ يشتد ساعده وأن أرضيته الجماهيرية قد أخذت في الاتساع بفعل اشتداد وطأة الأزمة الاقتصادية، وأنه يمكن، بل ومن المحتم أن يترتب على ذلك سقوط سلطتها في أقرب جلسة، برلمانية، فإنها لم تتردد كثيرا في اللجوء إلى رموزها من القيادات العسكرية، وانتهى أمر تلك المرحلة بتسلم كبار ضباط الجيش السلطة السياسية بمباركة، بل وبطلب من الحكومة ”الأنصارية” “الختمية” في صبيحة 17نوفمبر 1958 أي صبيحة ذلك اليوم الذي كان سيتقرر فيه مصير الحكومة الائتلافية المكونة من حزبي الأمة والشعب الديمقراطي، اللذين هما في حقيقة الأمر يافطتين سياسيتين لطائفتي”الأنصار” و”الختمية" (). 

لقد كان خوف القوى السياسية التقليدية من أن يؤدي الاستمرار في اللعبة الديمقراطية إلى وقوع السلطة في أيدي القوى التقدمية – الوحدوية، خوفا واضحا بلغ درجة الرعب، ثم أنه كان في نفس الوقت يعكس مخاوف القوى الاستعمارية الدولية وخاصة الولايات المتحدة التي انتهزت فرصة تسلم العسكريين للسلطة ففرضت شروطها على الحكومة العسكرية التي قبلت بدورها كل شروط اميريكا المجحفة في مقابل المعونات والقروض التي جعلت حكومة العسكريين والاقتصاد السوداني معا، رهينة الإدارة الاستعمارية الأميركية (). 

وعندما سقطت حكومة العسكريين تحت ضغط الثورة الشعبية في اكتوبر 1964، وعادت الحياة الدستورية إلى المجتمع السوداني، فإن القوى السياسية الطائفية بمسمياتها الحزبية قد عادت لتسلم السلطة السياسة من جديد دون أن تقدم في برامجها أي جديد، لقد ظلت تستجر نفس أفكارها التقليدية المحافظة، وكرست كل جهودها من أجل استمرار الديمقراطية”الإجرائية”التي لا تعني أكثر من وجود أحزاب سياسية شكلية، لا تتنافس على السلطة كما هو مفترض في النظم السياسية البرلمانية، بل تدور في فلك القوى الاستعمارية الدولية وتبارك هيمنتها، وتحافظ على ما هو قائم لتكون النتيجة الحتمية لهذا الشكل من العمل السياسي هي السقوط في جديد في مايو 1969من خلال انقلاب عسكري، حيث يتم تعطيل الحياة الدستورية، ويقع المجتمع السوداني من جديد في قبضة ديكتاتورية ترتدي الزي التقدمي في بداية الأمر، ويدور ذلك المجتمع في نفس تلك الحلقة المفرعة: (حكومة ديمقراطية شكلا، طائفية رجعية موضوعاً، تؤدي إلى سقوط التجربة والإتيان بحكومة عسكرية، ثم عودة للديمقراطية الشكلية لتمهد لعودة العسكريين وهكذا حتى أصبح الحكم العسكري في السودان هو القاعدة وصار الحكم المدني الديمقراطي هو الاستثناء ().

أزمة التحديث:
وفي تطور لاحق في الاتجاهات النظرية، فرضته كثافة التدخلات العسكرية وما أفرزته من صراعات حادة لا مست بشكل مباشر المصالح الاقتصادية للرأسمالية العالمية، قدم بعض المفكرين إطاراً آخر تم في ضوئه تناول الظاهرة العسكرية. 

وفي هذا الإطار، تم التأكيد على أهمية أن تكون السيطرة المدنية أو بمعنى آخر الحكم المدني في العالم الثالث مشفوعاً بخطط وبرامج تنموية وفق أيديولوجيه معينة تضمن الحفاظ على توازن التغير الاجتماعي، حيث أن العسكريين لا يندفعون إلى الأعمال السياسية إلا عندما تفشل الطبقات أو الفئات الحاكمة في القيام بعملية التحديث التي تتطلب إيجاد مؤسسات وهياكل تنظيمية تساعد على التوسع في عملية التعبئة الاجتماعية، لاسيما وأن خبرات العالم الثالث قد أثبتت – كما يرى مفكرو هذا الاتجاه – أن المؤسسات التقليدية غير قادرة على إحداث التقدم المادي، وأن التدخل العسكري في مثل هذه الأوضاع ليس إلا من قبيل، حمل العبء الناتج عن أزمة التحديث التي عادة ما تكون مصحوبة بتدهور أشكال العمل البرلماني، وضعف المؤسسات السياسية وشيوع الفساد السياسي الذي قد يطول القوات المسلحة ذاتها، خاصة عندما تزداد الهوة بين الحكام والمحكومين، ويزداد التذمر الشعبي، وتنهار الثقة في الحكومة المدنية، الأمر الذي يفتح المجال واسعا أمام القوى التي تتبنى اتجاهات متطرفة وهدامة بمسميات مختلفة، وهو ما يدفع العسكريين إلى التدخل من أجل حماية الشرعية، وتزداد إمكانية التدخل عندما تقوم الدولة بإقحام القوات المسلحة في عمليات ضبط الأمن، وقمع التمردات وأعمال الشغب، وزجر القوى السياسية المناهضة للسلطة السياسية. 

إن القوات المسلحة في مثل هذه الأوضاع، وعلى وجه الخصوص صغار الضباط، لا بد أن يكونوا عرضة لتأثير قوى المعارضة بشكل أو بآخر بالإضافة إلى أن تكرار استخدام الجيش في تلك المهام قد ينعكس إيجابياً على رؤية العسكريين لذاتهم، حيث يدركون مدى احتياج السلطة السياسية إليهم، مما قد يترتب عليه أن يتجه العسكريون إلى الإنفراد بالسلطة السياسية كما حدث في باكستان عام 1958 وفي نيجيريا عام 1964، حيث يدرك العسكريون أنهم القوة الوحيدة القادرة على القضاء على الفساد السياسي، وذلك منعا لكل اشكال المقاومة العنيفة التي تعتبر من أهم مقدمات ظهور النظم الشمولية. (). 

ويبدو من مضمون هذا الاتجاه، وخاصة من خلال العبارات التي تؤكد على:”الحفاظ على توازن التغير الاجتماعي، و”انهيار الثقة في الحكومة” و”ظهور اتجاهات متطرفة وهدامة” و”حماية الشرعية”، يبدو من ذلك أن التدخل في مثل هذه الأوضاع لا بد وأن يكون من قيادة القوات المسلحة، وأن الهدف هو الحفاظ على نظام يقوم على التفاوت الطبقي والتوازن السياسي والوقاية من سيطرة الاتجاه الراديكالي على الحكم، كما أن القوات المسلحة ذاتها وخاصة فئة صغار الضباط تشكل هي الأخرى مصدر قلق للنظام السياسي بما فيه القيادة العليا للقوات المسلحة، وهو ما دفع مفكري هذا الاتجاه إلى القول بأن الفساد السياسي قد يطول القوات المسلحة. 

وفي سياق تبرير التدخل العسكري يطرح ”نورد لينجر” بعض التساؤلات مثل:
- ”ماذا يحدث إذا لم تستطع الحكومة المدنية منع العنف السائد والمؤامرات المبيتة لهدم الهيئات الديمقراطية الموجودة؟”
- ”إلا تفرض مسئولية وواجبات القوات المسلحة عليها التدخل”؟
ويؤكد في فقرة أخرى ”أن الحكومات المدنية قد تتصرف بطريقة بدائية وغير قانونية عندما تحاول تطبيق المبادئ الديمقراطية”، ثم يتساءل ”وإذا كانت فرق الضباط، وخاصة الممسكين بزمام القيادة العليا، هي القوة الوحيدة التي تستطيع إيقاف الحكام المدنيين”ودرء الخطر عن الشرعية فإنه لا بديل لهم غير الدخول في مجال العمل السياسي ().
أما ”موريس جانويتز” فقد أكد على أنه ”عندما تنهار الثقة في الحكومة المدنية يصبح في مقدور العسكريين أن يتدخلوا في السياسة من اجل حماية الشرعية التي أهدرها المدنيون الفاشلون (). 

يتبين مما سبق أن التدخل العسكري في الشئون السياسية وفق الرؤية السابقة أمر مشروع، خاصة وأنه يستهدف حماية الشرعية، أما الشرعية المعنية هنا فهي شرعية الأنظمة السياسية التابعة للعرب الرأسمالي التي اشترط مفكرو هذا الاتجاه لنجاحها أن تكون قائمة في حكمها على خطط تنموية ”وفق ايدلوجية معينة” هي الأيديولوجية الرأسمالية بكل تأكيد، فلقد كان ”خوان بيرون” في الأرجنتين يحظى بشعبية كبيرة أوصلته إلى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية ووفق الشرعية الدستورية، دون أن يثير ذلك أي قلق لدى الدائرة الرأسمالية، إلا أن القلق قد استبدل بتلك الدوائر عندما اتجه الحزب البيروني نحو أحداث تغييرات اجتماعية تستهدف رفع بعض المعاناة عن فقراء الأرجنتين، وخاصة العمال والفلاحين، ومنح العمال من خلال ذلك التوجه حق الإضراب، والمطالبة بتحديد ساعات العمل، ورفع الأجور، وتمكنوا من انتزاع بعض المكاسب التي اغضبت أصحاب رؤوس الأموال فكان الرد الأميركي هو التأمر للإطاحة بنظام بيرون الشرعي، ودفع بجنرالات الجيش، للاستيلاء على السلطة، الذين الغوا المؤسسات الدستورية اثر إخراج”بيرون”من السلطة والأرجنتين معا عام 1955، دون أن يكون لذلك أي معنى عند الأميريكان سوى أن الجيش قد انقذ الأرجنتين من التطرف واعاد اليها الاستقرار(). 

وقد تحدد موقف الدول الغربية المعادي من ثورة 23يوليو 1952 في مصر بمجرد أن ظهرت اتجاهاتها الوطنية الاستقلالية، وبرز العداء أكثر وضوحاً عندما اتخذت حكومة الثورة بعض الأجراءات التي تستهدف اعادة توزيع الثروة الوطنية، الأمر الذي اعتبر مساسا بمصالح الدولة الرأسمالية، ومصالح حلفائها من الرأسماليين في مصر().
أما في”الكونغو” التي نالت استقلالها عام 1960 فإن موقف الغرب المعادي منها قد تحدد منذ اليوم الذي أعلن فيه زعيمها ”باتريس لومومبا” عن نهج استقلالي معاد للاستعمار وذلك في الخطاب الذي ألقاه بمناسبة إعلان استقلال بلاده من الاستعمار البرتغالي، ولم يقف التأمر الاستعماري على الكونغو عند حد حتى أمكنه إسقاط نظامها التحرري واغتيال زعيمها ”لومومبا” من خلال انقلاب عسكري قادة احد الضباط الموالين للولايات المتحدة الأميريكية().
نستخلص مما سبق أن التدخل العسكري، الذي هو وفق المنظور السابق مشروعاً، لا يستهدف الإطاحة بنظام اجتماعي فشل في تلبية احتياجات المجتمع، والانتقال به إلى طور جديد، بل يهدف إلى الإجهاز على أية قوى اجتماعية تتجه نحو إحداث ذلك الانتقال، وأخيراً فإن ما ذهب إليه أصحاب هذا الاتجاه ينهض كدليل على الدور الذي لعبه البعد الأيديولوجي في تفسير الظاهرة العسكرية في العالم الثالث، حيث أن الدور السياسي العسكري،أو التدخل العسكري المباشر في الشئون السياسية لم يكن مقبولا كمبدأ، أو مرفوضا كمبدأ أيضا، ولكن الرفض أو القبول للدور العسكري، بمختلف درجاته، قد جاء ليعبر عن مواقف أيديولوجيه محددة، تدافع عن مصالح طبقية محددة سواء على المستوى المحلي، أو على المستوى الدولي، بغض النظر عما إذا كان ذلك الدور (العسكري) سيدفع بالمجتمع الذي يحدث فيه خطوة إلى الأمام، أو عشر خطوات إلى الخلف. أما بالنسبة لأنموذج السلطة المدنية ألتداخلي فإن أول ما يستوقف أي باحث هو أن بعضا من منظري الفكر الرأسمالي قد وضعوا كلا من النظم الشيوعية والفاشية وبعض دول العالم الثالث مثل: كوبا وفيتنام وغانا وغينيا في خانة واحدة، ولا شك أن ذلك يعكس أول ما يعكس موقفا أيديولوجيا سلبيا من النظم السياسية التي اتجهت، اتجاها مقابلا لطريق التطور الرأسمالي أيا كان حجم ومستوى ودرجة تطور تلك النظم الموسومة بـ (النظم التدخلية) حيث استوى في ذلك كل من غانا والصين الشعبية، أو تنزانيا والاتحاد السوفيتي وهو موقف يغني عن التعليق. 

هذا من جانب ومن جانب آخر فإن هذا الانموذج لئن كان صالحا لأن يكون احدى الحيثيات التي تساعد على فهم طبيعة الدور العسكري في المجتمعات الاشتراكية التي كان لها خاصياتها على مختلف المستويات، فإن من الصعوبة بمكان اعتباره كذلك بالنسبة لمجتمعات العالم الثالث. 

إن التنوع الكبير في هذه المجتمعات، من حيث الظروف الذاتية والموضوعية، لا يساعد على تعميم النماذج النظرية المجردة عند محاولة تفسير الظاهرة العسكرية في العالم الثالث، ذلك أن هناك فرقا بين بناء نظريات حول الدور السياسي للمؤسسة العسكرية يقوم على أساس من المنطق المجرد، وبين تطبيق تلك النظريات على مجتمعات بعينها، لها خاصياتها المتميزة، بل والمتفردة أحياناً، والتي تجعل من أية محاولة لتجاوز هذا الفهم بمثابة لوي لعنق ذلك الواقع المتميز.

اتجاهات التدخل العسكري
تباين دور القوات المسلحة في الحياة السياسية في مجتمعات العالم الثالث وذلك التباين لم يكن بين مجتمع وآخر وحسب، بل هناك تباين في الدور العسكري داخل المجتمع الواحد، في المراحل المختلفة وفي هذا الإطار ينبغي التفريق بين الدور السياسي الذي تلعبه المؤسسة العسكرية بقيادتها العسكرية العليا التي هي جزء من النظام السياسي الحاكم وبين نشاطات التنظيمات السياسية العسكرية التي تمارس العمل السري وتتحين الفرص المناسبة للاستيلاء على السلطة. 

إن للعسكريين اتجاهات شتى فكما أن من الصحيح عدم اعتبار كل الحركات العسكرية حركات ثورية، فإن من الصحيح أيضاً أن التدخلات العسكرية لا تهدف في مجملها إلى إقامة ديكتاتوريات عسكرية.
إن الثورات عموما لا يمكن أن تكون عسكرية وإن تزعمها العسكريون، ذلك أنها لا بد وأن تكون نتيجة لنضال قوي اجتماعية ذات قاعدة عريضة تسعى إلى تغيير جوهر النظام ككل ويمكن للعسكريين أن يكونوا طليعة ثورية لتلك القوى. 

لقد كانت سوريا – على سبيل المثال – بلدا كلاسيكيا للانقلابات العسكرية خلال فترة الخمسينات والستينات، وكل كبار ضباط الجيش – الذي تأسس في عهد الاحتلال الفرنسي – ينحدرون من العائلات البورجوازية المدينية الكبيرة، أما متوسطي وصغار الضباط فينتمون إلى البورجوازية الصغيرة في المحافظات وكذلك إلى عائلات الموظفين والحرفيين والفلاحين الموسرين الذين كانوا يحرصون على إلحاق أبنائهم بالمدارس العسكرية، وخاصة العائلات ”العلوية” التي كان لأبنائها تواجد أكبر في سلك الضباط على مستوى الرتب المتوسطة والصغيرة (). 

وخلال عام 1949م بمفرده شهدت سوريا ثلاثة انقلابات عسكرية، في الفترة من 30 مارس وحتى 19 ديسمبر من نفس العام وتولى قيادة تلك الانقلابات المستوى الأعلى من سلك الضباط ابتداءً بـ”حسنى الزعيم الذي كان وزير للدفاع، ومروراً باللواء سامي الحناوي”الذي كان يقود احد التشكيلات العسكرية على الحدود السورية مع فلسطين المحتلة وانتهاء بالعقيد أديب الشيشكلي الذي كان قائداً للحامية العسكرية في دمشق والذي استمر في الحكم حتى عام 1954 (). 

لقد كان البيان الأول للانقلابات الثلاثة يعلن أن العسكريين قد دفعوا إلى التدخل دفعا نظرا لفساد وجرائم النظام السابق، إلا أن تلك الانقلابات رغم وعودها بإرساء نظام حكم يقوم على أسس ديمقراطية ويحافظ على ممتلكات الشعب السوري، قد انتهت جميعها إلى ديكتاتورية عسكرية تخدم مصالح الاستعمار والطبقة المحافظة والفئة العليا من الطبقة البورجوازية التي ارتبطت مصالحها بالنفوذ الاستعماري (). 

وعندما ظهر شكل جديد من السياسيين العسكريين تمثل في الضباط الحزبيين وذلك اثر سقوط حكم اديب الشيشكلي الديكتاتوري عام 1954 أفرز هذا الشكل ائتلافا جديدا من العسكريين كان لليسار القومي العربي فيه تأثير كبير.
لقد وجد صغار الضباط في الفكر القومي العربي ضالتهم، فكانت اتجاهاتهم نحو التغيير تصب في معظمها في الاتجاه الذي يعزز وينمي التوجه الوحدوي، وبإضفاء الفكر الإشتراكي على التوجه القومي أمكن لجيل الضباط الصغار، من خلال برامج الأحزاب العروبية وخاصة حزب البعث العربي الاشتراكي بالإضافة إلى الحزب الشيوعي السوري الذي كان شريكا لفترة زمنية في ذلك الائتلاف، أمكن لذلك الجيل أن يقدم تصورا جديدا للتغييرات التي تستحق، وفق تصورهم، أن تكون محل اهتمام القوى غير التقليدية (). 

ولاشك أن لثورة 23 يوليو بشعاراتها الثورية، التحررية، الوحدوية التي تبنت قضايا العدل الاجتماعي، بمضامين رأى قادة الثورة أنها تتناسب وظروف المجتمع المصري، لا شك أنه قد كان لتلك الثورة تأثيراتها الكبيرة على الضباط ذوي الرتب المتوسطة، والصغيرة في بعض الجيوش العربية الذين انشئوا تنظيمات اسميت بتنظيمات ”الضباط الأحرار” وقادوا فيما بعد أقساما من جيوشهم ليستولوا على السلطة السياسية ويستبدلوا النظم الملكية بجمهوريات ذات أفق قومي عروبي معاد للاستعمار، وترفع شعارات تتضمن اتجاهات اقتصادية واجتماعية لا تتعارض في خطوطها العريضة، وربما بعض التفاصيل، مع شعارات وأهداف ثورة 23 يوليو في مصر، كما أن تأثير ثورة يوليو قد امتد إلى الموقف من الأحزاب السياسية المدنية حيث تم حظر نشاط الأحزاب وخاصة الأحزاب اليسارية التي تبنت الفكر الماركسي، بمسمياتها المختلفة، وقد ساد بدلا من ذلك نظام الحزب الواحد (الاتحاد الاشتراكي العربي في كل من مصر والسودان، ليبيا، حزب البعث في كل من سوريا والعراق، التنظيم الشعبي في اليمن لفترة وجيزة حي تم حله عام 1967 أثر انقلاب (5 نوفمبر) من نفس العام). 

وإذا كان ثم تراجع قد حدث في الأهداف في بعض الدول العربية، فإن ذلك قد حدث ايضاً عقب المراجعة التي شهدتها مصر مع بداية السبعينات، (عقب وفاة الزعيم جمال عبد الناصر) وعكست نفسها بشكل مباشر على كثير من قضايا العرب وخاصة الجانب الاقتصادي – الاجتماعي منها، وأيا كانت الأوضاع اللاحقة لحقبة الستينات، فإن الأنموذج المصري لحكم الضباط الأحرار قد ظل مائلا أمام العسكريين العرب، كما أنه في ظل تحريم النشاط الحزبي فإن تركيبه القوات المسلحة قد أصبحت تعكس التنافس الحزبي المحموم من أجل السلطة السياسية التي يمسك العسكريون بزمامها في كثير من الدول العربية، الأمر الذي ساعد على إزدياد نفوذ المؤسسة العسكرية العربية بشكل مباشر، بحيث أصبح