المنظمات غير الحكومية وظاهرة أطفال الشوارع: قضية بناء القدرات
الاثنين, 21-يوليو-2008
شهيدة الباز -

ترتبط ظاهرة أطفال الشوارع ـ مثل أية ظاهرة اجتماعية ـ بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة فى المجتمع فى لحظة تاريخية معينة. وتعتبر هذه الظاهرة عرضاً اجتماعياً لأسباب اجتماعية واقتصادية أعمق من هذا العَرض. ولذلك فإن التصدي لها لا يمكن أن يحقق غايته النهائية إلا إذا قام على أساس نظرة شمولية تحلل وتعالج الظاهرة وأسبابها المجتمعية الجذرية فى الوقت نفسه. كما تحتاج مواجهة ظاهرة أطفال الشوارع، إذا كان الهدف الاستراتيجي هو القضاء عليها، إلي تكاتف جهود القوى الفاعلة سواء على مستوى الدولة بمؤسساتها الرسمية، أو على مستوى المجتمع بشكل عام ومنظمات المجتمع المدني وفي قلبها المنظمات غير الحكومية بشكل خاص.
ومن هنا يتحدد الهدف من هذه الورقة الموجزة، والذي يتلخص في الإجابة عن السؤال: كيف يمكن تفعيل دور المنظمات الأهلية الناشطة في مواجهة ظاهرة أطفال الشوارع من خلال بناء قدراتها ؟
ومن الملاحظ أن ظاهرة أطفال الشوارع تتداخل مع غيرها من ظواهر "أطفال في خطر" من حيث تداخل الممارسات من ناحية، ومن حيث إنها تحدث لهؤلاء الأطفال بسبب ظروف صعبة ليس لهم يد فيها من ناحية أخرى. مثال ذلك ظواهر عمالة الأطفال والدعارة والتعاطي وإدمان المخدرات والإتجار فيها، وكذلك التسرب الدراسي، وارتباط كل ذلك في علاقة سببية بالفقر وانخفاض المستوى الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة، وانتشار العشوائيات كانعكاس لأزمة المساكن. كما ترتبط الظاهرة في المنطقة العربية بالحروب والنزاعات المسلحة. ويضاف إلى ذلك التفكك الأسرى وتدهور النظام التعليمى ومحدودية شبكة الأمان الاجتماعى(1). ولذلك يلاحظ تواجد الظاهرة في المجتمعات العربية ذات الدخل المنخفض، وتلك التي تتسم بالتفاوت الشديد في توزيع الثروة والدخل.
وتعتبر ظاهرة أطفال الشوارع بحجمها وسماتها الحالية ظاهرة حديثة نسبياً فى البلاد العربية. وقد ارتبط نموها وتبلورها كظاهرة مجتمعية بتزايد معدلات الفقر وتزايد الاستقطاب والاستبعاد الاجتماعى كإحدى النتائج السلبية لسياسات العولمة المتمثلة في برامج التكييف الهيكلي والإصلاح الاقتصادي، كما ترتبط ظاهرة أطفال الشوارع بأنماط التنمية غير المتكافئة بين الريف والحضر التى تؤدي إلي تزايد معدلات الهجرة الداخلية.
ورغم تصاعد ظاهرة أطفال الشوارع في مختلف البلاد العربية، بحيث أصبحت مشكلة تفرض نفسها علي المجتمع والدولة، فإنه لم تتوافر حتى الآن إحصاءات دقيقة حول حجم هذه المشكلة وسماتها المميزة بشكل عام، وفي كل قطر علي حدة في علاقتها بالاقتصاد السياسي للدولة المعنية. ورغم الاهتمام الفعلي لبعض الدول العربية مثل مصر واليمن (2) والذي تجلي في إعداد استراتيجيات تهدف إلي القضاء علي ظاهرة أطفال الشوارع، وحيث كان أحد الأهداف الاستراتيجية المهمة هو إعداد قاعدة بيانات لهذه الظاهرة، وخاصة أنها أكثر ظواهر الأطفال في خطر ندرة من حيث المعلومات والبيانات ذات العلاقة. وتتجلي أهمية معرفة حجم الظاهرة في حالة حتى وضع البرامج والسياسات اللازمة لمواجهتها، فإن تحديدهم إحصائياً يواجه الكثير من الصعوبات نتيجة لعدم توافر تعريف دقيق متفق عليه لمن هو طفل الشارع، ومن ثم يجب تقريب الرؤى العربية بحيث يمكن الاتفاق علي تعريف جامع مانع لطفل الشارع، مما سيساعد حتما في وضع السياسات والبرامج الملائمة.

وتتحدد الرؤية الاستراتيجية لحماية وتأهيل أطفال الشوارع في الدول العربية استنادًا إلى فكرة "حقوق الطفل" كجزء من حقوق الإنسان، كما وردت فى القوانين الوطنية الخاصة بالطفل، وفى الاتفاقيات والقواعد الدولية التى صدقت عليها الحكومات العربية وعلى قمتها "اتفاقية حقوق الطفل"، حيث إن التصديق على هذه الاتفاقيات يجعلها جزءًا من البناء التشريعي الوطنى، ومن ثم يجب الالتزام بما تنص عليه. وقد صدقت الدول العربية الخمس التي سيتم تطبيق الاستراتيجية العربية لأطفال الشوارع وهي: مصر، المغرب، السودان، لبنان، اليمن. وعلى الرغم من أن المشروع سوف يطبق في خمس بلاد عربية فقط، يمكن لدول عربية أخرى تواجه نفس المشكلة أن تستفيد عن طريق التشبيك وتبادل المعلومات والخبرات والأفلام الوثائقية.

ويتحدد الهدف البعيد أو النهائي لاستراتيجيات القضاء على ظاهرة أطفال الشوارع، بأنه من خلال الالتزام بحماية هؤلاء الأطفال، ومواجهة وعلاج الظروف التى دفعت بهم إلى الشارع، وتوفير آليات إعادة تأهيلهم، يتحقق الهدف بتمكينهم من الاندماج فى المجتمع بالشكل السليم، الذى يمكنهم من الحصول على حقوقهم في البقاء، والنماء، والحماية، والمشاركة في صنع القرارات والسياسات التي تتعلق بحياتهم، علي أن يتم التمتع بهذه الحقوق دون تمييز علي أساس النوع،أوالثروة والمستوى الاجتماعي، أو العرق، أوالدين، أو العنصر.

وتحدد الاستراتيجية العربية لأطفال الشوارع (3) الأهداف الرئيسية التالية:
1 ـ تمكين أطفال الشوارع من خلال المشاركة
ويتضمن ذلك تدريب الإخصائيين الاجتماعيين، ومعلمي الشارع، والموجهين النفسيين، والعاملين بالخدمات الصحية من أجل تأهيلهم للعمل على تغيير وجهة نظر أطفال الشوارع عن أنفسهم، وتنمية مشاركتهم في التخطيط للخدمات التي تقدم إليهم وتنفيذها ومراقبتها، وتعريف أطفال الشوارع بحقوقهم وبمخاطر المخدرات والأمراض المنقولة جنسيا بما في ذلك الإيدز، وذلك من خلال تعليم النظير للنظير، والتدريب على مهارات الحياة، وتسهيل وصول أطفال الشوارع إلى الخدمات الصحية والتعليمية. وكذلك دعم مشاركة أسرهم إذا كانت صالحة للمشاركة في تأهيل الطفل.
2 ـ ضمان الحماية القانونية لأطفال الشوارع
ويتضمن ذلك تطــوير السيـاسات ومراجعة القوانين،وإزالة التناقضات الموجودة بينها وبين الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل. وكذلك تدريب الكوادر المتعاملة مع هؤلاء الأطفال وخاصة البرلمــانيين ورجال الشرطة والقضاء.
3 ـ تغيير النظرة السلبية تجاه أطفال الشوارع
من الصعب أن تتغير رؤية أطفال الشوارع نحو أنفسهم إذا استمر المجتمع في رؤيتهم والتعامل معهم بشكل سلبي باعتبارهم مجرمين لا ضحايا. ولذلك من الضروري العمل علي تغيير رؤية المجتمع لهم، ويتضمن ذلك إعداد برامج للدعوة وكسب التأييد، وتوعية المواطنين وصناع القرار في المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدنى والقيادات المحلية غير الرسمية من خلال المقابلات والمحاضرات والندوات، ومن خلال وسائل الإعلام المرئية والمقروءة، وعلي سبيل المثال؛ إنتاج أفلام تسجيلية ووثائقية عن قضية أطفال الشوارع، ونشر قصص حقيقية عن نجاحات الأطفال، وإعداد برامج تليفزيونية وإذاعية، وتدريب الصحفيين، وإشراك فنانين ورياضيين ومثقفين عرب في التوعية بقضية أطفال الشوارع.
4 ـ تكوين شبكات محلية وعربية من منظمات المجتمع المدني العاملة مع أطفال الشوارع
ويتضمن تبادل الخبرات على المستويين المحلي والعربي، وخلق صلات مع المؤسسات الأكاديمية ومراكز البحوث العربية من أجل إشراك الأكاديميين مع الإخصائيين الميدانيين لملء ثغرات المعرفة ونقص المعلومات. وسوف يشكل الأطفال جزءاً من هذه الشبكة. وسيتم تشجيعهم وتدريبهم لتكوين جمعيات خاصة بهم. كما يشمل ذلك قروضا متناهية الصغر من خلال التنسيق مع شبكات الأمان الاجتماعي ومنها بنوك الفقراء.

المنظمات غير الحكومية وظاهرة أطفال الشوارع
علي الرغم من الدور الأساسى الذي يجب علي الدولة القيام به من خلال مؤسساتها ذات العلاقة بظواهر الأطفال في خطر، ومن أبرزها ظاهرة أطفال الشوارع، خاصة من حيث وضع السياسات والخطط والتنسيق بين الفاعلين، فإن المنظمات غير الحكومية تعتبر هى الفاعل المؤهل للتعامل مباشرة مع هذه الظاهرة أي علي مستوي تنفيذ البرامج والمشروعات الخاصة بحماية وتأهيل أطفال الشوارع. وذلك لأن الطبيعة غير الرسمية تجعل المنظمة والعاملين فيها أقرب إلي نبض المواطنين، وأقدر علي الوعي بمشاكل الأطفال والتواصل معهم، كما أن الطبيعة التطوعية للعمل فيها تجعل تعامل العاملين فى حل المشاكل أكثر إنسانية وأكثر قدرة على تبنى الرؤية الإيجابية نحو الأطفال خاصة إن حصلوا علي التدريب المناسب. كذلك يمكن للمنظمات غير الحكومية الدفاعية Advocacy NGOs أن تقوم بالتوعية، وبتغيير الرؤية السلبية نحو هؤلاء الأطفال، كما أنها أكثر قدرة على توفير التمويل وجمع التبرعات من أجل إقامة مراكز الاستقبال والإيواء المؤقت أو الدائم. كذلك يمكن توفير فرص التدريب والتأهيل المهني لهؤلاء الأطفال بمساعدة الوزارات والمؤسسات المعنية بالمشكلة.

بناء القدرات وتفعيل دور المنظمات غير الحكومية
أصبحت المنظمات غير الحكومية في الحقب الأخيرة آلية جوهرية ضمن آليات حركة المجتمع وتطويره. وفي هذا الإطار زاد الاهتمام بتطوير القطاع غير الحكومي وتحديثه. ومن هنا برز مفهوم "بناء القدرات " الذي حظى بشعبية واسعة وأصبح موضوعا للكثير من أنشطة الهيئات الدولية والوطنية التي تهدف إلى دفع المنظمات غير الحكومية إلى أن تصبح قطاعاً فاعلاً في العملية التنموية. ورغم أن ما يعنينا هنا هو بناء قدرات المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال مواجهة ظاهرة أطفال الشوارع، إلا أن قسماً كبيراً من آليات بناء القدرات ينطبق علي جميع المنظمات غير الحكومية أيا كانت اهتماماتها، بالإضافة إلي بعض آليات خاصة بالمنظمات العاملة في حماية وتأهيل كل فئات الأطفال في خطر والقليل منها خاص بأطفال الشوارع.
ويرتبط بناء قدرات المنظمات غير الحكومية كمفهوم بالرغبة في زيادة فاعلية المنظمات وتعظيم قدراتها علي إنجاز أهدافها. وترتبط فاعلية الدور الذى يمكن أن تقوم به المنظمات غير الحكومية بالمنظور الذي يتحدد علي أساسه حجم ونوعية الدور الذي تقوم به. فهو من ناحية يمكن أن يكون دوراً وظيفياً يأخذ فى الاعتبار وظيفة المنظمات غير الحكومية فى تقديم الرعاية للفقراء والمحتاجين، وإشباع حاجات خدمية لفئات اجتماعية معينة أوالمجتمع بشكل عام. وفى هذا الإطار تتسم المنظمات بأنها تحمل جزءاً من العبء عن الدولة، غير أنها بطبيعتها الرعائية الخدمية لا تساهم فى تعظيم مشاركة المواطنين حيث إنهم يظلون مستقبلين سلبيين للرعاية والخدمات.
ومن ناحية أخري قد تتجاوز المنظمات غير الحكومية الدور الرعائى- الخدمي إلى الدور التنموى بمعنى تعزيز القدرات، والدفاع عن الحقوق والتمكين Empowerment للجماعات المستهدفة. ويمكن أن يشمل ذلك الرعاية والخدمات ولكنها تقدم في إطار الرؤية التنموية وبهدف بناء المواطن المشارك الفاعل. وينطبق ذلك النوع علي المنظمات التي تنشط في مجال حماية وتأهيل أطفال الشوارع بتمكينهم من التمتع بالحياة في المجتمع والحصول علي حقوقهم كاملة.
ويمكن تعريف بناء القدرات بالمعنى الأكثر شمولا وفاعلية بأنه: "عملية عمدية تهدف إلى تطوير وتمكين قطاع المنظمات غير الحكومية من تحقيق أغراضه بفاعلية، ومن القيام بدوره البنيوي في تحقيق التنمية والتغيير الاجتماعي."
وبناء القدرات بهذا المعنى هو عملية يتضافر فيها العمل على تطوير وتحسين الظروف المجتمعية الموضوعية التي تشكل البيئة المحيطة المؤثرة في تكوين وحركية المنظمات غير الحكومية، وكذلك العمل على تطوير وتحسين القدرات الذاتية لهذه المنظمات وتمكينها من أداء دورها المنشود بفاعلية.

وبناء على ذلك فإن بناء القدرات في قطاع المنظمات غير الحكومية يعني توافر القدرة على التدخل والتأثير على المستويات التالية:
1. مستوى الظروف المجتمعية الموضوعية للبيئة المحيطة والتي تتفاعل معها المنظمات غير الحكومية وتتأثر بها في أدائها وحركتها.
2. مستوى القدرة الذاتية والبناء الداخلي وآليات العمل في المنظمات غير الحكومية.
ويشمل هذا المستوي عناصر المنظمة، كمؤسسة بالمعني العام، وبالمعني الخاص أي في علاقتها بالمجال المتخصص الذي تنشط فيه المنظمة. ويعني ذلك بناء القدرات اللازمة لحماية وتأهيل أطفال الشوارع.

ونعرض في الجزء التالي المستويات المختلفة لبناء قدرات المنظمات غير الحكومية.
1- الظروف الموضوعية المؤثرة على بناء قدرات المنظمات غير الحكومية
تتحدد الظروف الموضوعية المؤثرة في حركية وفاعلية المنظمات غير الحكومية في إطار شبكة من العلاقات بأطراف مجتمعية متعددة، تتفاعل معها في عمليات مستمرة من الالتقاء والتكامل تارة، ومن التضاد والصراع تارة أخرى. وأهم هذه العلاقات هي العلاقة بين المنظمات غير الحكومية من ناحية وبين الأطراف التالية: الدولة؛ الجهات الأجنبية الممولة؛ القطاع الخاص؛ والفئات المستهدفة والمستفيدة.
ويبرز إلى الذهن في هذا الإطار مفهوم الشراكة الذي انتشر في الخطاب الخاص بالعمل الأهلي بشكل عام. ولكنه رغم ذلك فإنه مازال متوقفاً عند مستوى الخطاب، ولم تظهر له أية تجليات عملية حتى اليوم. ومما هو جدير بالذكر أن جوهر الشراكة الحقيقية هو الندية في علاقة الشركاء. مما يوجب عدم السماح بإسناد الشريك المسيطر على شروط العلاقة الأدوار الثانوية للشريك الأصغر. وتتجلى الشراكة الحقيقية في إسهام الشركاء معا في اتخاذ القرارات ورسم السياسات وتنفيذها بما يلائم مصلحة جميع الأطراف. غير أن الواقع العربي للمنظمات غير الحكومية ما زال قائماً علي عدم التكافؤ أو الندية.
ونلقي الضوء في الجزء التالي على شبكة العلاقات التي تشكل البيئة التي تتفاعل معها المنظمات غير الحكومية ويتحدد بناء على هذا التفاعل مسارها وحركيتها ومستوى نمو قدراتها.

1-1 العلاقة بين المنظمات غير الحكومية والدولة
رغم كثرة الحديث عن أهمية الشراكة وضرورتها لتحقيق التنمية فإن الدولة في المنطقة العربية مازالت لها اليد العليا في هذه العلاقة، وتعتبر التشريعات المنظمة لهذا القطاع هي الآلية التنفيذية لهذه العلاقة، التي تمنح الإدارة/الحكومة سلطات واسعة علي إنشاء، وممارسة النشاط، وإنهاء المنظمة وجود المنظمة.
وتلجأ الحكومات لتأمين علاقتها بالمنظمات غير الحكومية، لأدوات تنظيمية عديدة. منها المنطق العام للعلاقة، حيث إن الحكومة هى التى ترسم السياسات الاجتماعية الملائمة؛ بحيث يعتبر النشاط الأهلى "وظيفيا" مكملاً لعملها. ولذلك فإن توفير البيئة القانونية اللازمة والملائمة لتوسيع هامش الاستقلالية وحرية الحركة للمنظمات غير الحكومية يعتبر شرطاً أساسياً لبناء قدراتها. وكذلك فإن توفير المناخ الديمقراطي وثقافة الممارسة الديمقراطية، أيضا شرط أساسي لقيام المنظمات غير الحكومية بتحقيق أهدافها بفاعلية.
ومن المهم الانتباه، عند تحديد معالم العلاقة بين المنظمات غير الحكومية والدولة،إلى أهمية تحقيق التوازن بين ضمان استقلالية المنظمات وحرية حركتها، وبين ضمان الالتزام بأمن الوطن واستقلاليته، وكذلك أهمية مواجهة حالات الفساد والتربح التي تتعلق ببعض العاملين في القطاع الأهلي.

1-2 علاقة المنظمات غير الحكومية بالجهات الأجنبية
تعتبر العلاقة بين المنظمات الأهلية الوطنية المحلية، وبين الحكومات والمنظمات غير الحكومية الدولية، خاصة من الدول الشمالية المتقدمة صناعياً، معلماً بارزاً فى ممارسات المنظمات الوطنية في الحقب الأخيرة، وعاملاً له تأثيره على أدائها وقدرتها على حرية الحركة والدور الذى تقوم به.
على أن ما يميز هذه العلاقة أيضا هو عدم التكافؤ في علاقات القوى بين الجهات الأجنبية وبين المنظمات غير الحكومية المحلية. لاعتماد الثانية علي الأولي، مما يؤدي في أحيان كثيرة إلي إضعاف قدرات المؤسسة واستقلاليتها.
حيث يؤدي احتياج المنظمات غير الحكومية للتمويل إلى قبولها الخضوع لمتطلبات الجهات المانحة وشروطها. ويحتاج تغيير هذه العلاقة إلى زيادة وعي المنظمات غير الحكومية بضرورة استقلاليتها من ناحية وزيادة اعتمادها على الموارد الذاتية من ناحية أخرى.
ويمكن لتجنب تأثير عدم التكافؤ في العلاقة بين المنظمات غير الحكومية والجهات الأجنبية، ألا يكون التعامل بينهما بشكل مباشر، وإنما من خلال إنشاء صندوق، أو صناديق نوعية، تذهب إليها المنح بحسب الغرض منها، ثم توزع على المنظمات المختلفة بناء على خطة عمل سنوية. ويشرف على هذه الصناديق مجلس إدارة تمثل فيه الجهات المانحة، وممثلين منتخبين للمنظمات غير الحكومية، وممثلين لجهة رقابية مثل الجهاز المركزي للمحاسبات. على أن تقدم المنظمات تقارير عن إنجازها للأنشطة الممولة ويكون الاطلاع عليها متاحا للجميع.

1-3 العلاقة بين المنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص
رغم تزايد العلاقات بين القطاع الأهلي والقطاع الخاص في الحقب الأخيرة إلا أنها لم تصل إلى مستوى التفاعل والتكامل الحقيقي. ويعود ذلك أولا؛ إلى ضعف القطاع الأهلي بشكل عام وعدم اكتمال مأسسته بحيث يصبح قادراً على إقامة علاقة قوية ومتوازنة مع القطاع الخاص. وثانيا ؛ إلى أن القطاع الخاص في الدول متوسطة ومنخفضة الدخل، لم يتبلور بعد، ولم ينتج رموزه فى شكل طبقة اجتماعية رأسمالية قوية وواعية ولها ملامحها المحددة، بحيث يمكن أن تعي وتستجيب لمسئوليتها الاجتماعية.
على أنه من المتوقع أن تتطور هذه العلاقة مع تزايد الوعي بدور القطاع الأهلي، وتزايد الضغط على القطاع الخاص ليتحمل نصيبه من المسئولية الاجتماعية. هناك طرق كثيرة لتشجيع القطاع الخاص على المساهمة في دعم القطاع الأهلي، مثل رفع حد الإعفاء الضريبي الخاص بالتبرع للمنظمات غير الحكومية، بالإضافة إلى تكريم رجال الأعمال المتبرعين من قبل الدولة ومنظمات القطاع الأهلي. وتتخذ مساهمة القطاع الخاص بعداً أكثر أهمية في إطار العمل على زيادة الموارد الوطنية الخاصة بتمويل المنظمات غير الحكومية ، مما يزيد من استقلاليتها عن كل من الدولة والجهات الأجنبية.

1-4علاقة المنظمات الأهلية بالفئات المستفيدة
تعتبر العلاقة المثالية بين العاملين فى المنظمات الأهلية والفئات المستهدفة والمستفيدة، هى التى تأخذ شكل الشراكة الحقيقية بين الطرفين، بدلاً من أن تكون علاقة وصاية من جانب من يقدم المساعدة أو الخدمة نحو من يتلقاها بشكل سلبى. حيث تسود العلاقة نظرة فوقية لا تثق فى قدرات الفئات المستهدفة على المشاركة. وربما كان أحد أسباب ذلك استمرار الرؤية التراثية للعمل الأهلى العربى، والتى ارتبطت بفعل الخير والإحسان، ومن ثم اعتبار الفئات المستهدفة ضعيفة ومستحقة للعطف أكثر منها طرفًا مشاركاً.
ومن ثم تستبعد الفئات المستفيدة تقريباً من أي نوع من أنواع المشاركة، سواء في تحديد احتياجاتها أو في المشاركة في صنع القرارات أو السياسات في المنظمة. وتبقى الفئات المستفيدة مستقبلة للمساعدة أو للخدمة دون أن يكون لها دور ملحوظ. وتتعارض هذه العلاقة بشكل خاص مع ما يجب أن يكون في إطار المنظمات العاملة في مجال وتأهيل أطفال الشوارع حيث إن مشاركة الأطفال تمنحهم الحق في المشاركة المنصوص عليه في اتفاقية حقوق الطفل التي صدقت عليها كل الدول العربية، بالإضافة إلي أن مشاركة الأطفال هي الضمان الحقيقي لالتزامهم بالقرارات التي يشاركون في وضعها، ومن ثم ضمان تعاونهم في التنفيذ.

2 - بناء القدرات الذاتية للمنظمات غير الحكومية
يعتبر بناء القدرات الذاتية للمنظمات غير الحكومية هو المستوى الثاني والأكثر خصوصية في علاقته ببناء القدرات. ورغم الأهمية العظمى لبناء القدرات الذاتية للمنظمة وضرورته على هذا المستوى، إلا أن نجاحه في تطوير أداء المنظمات غير الحكومية الناشطة في مجال ما لا يمكن أن يكتمل تماما ويحقق غاياته، إلا إذا أمكن بناء القدرات المرتبطة بالظروف المجتمعية الموضوعية التي تشكل البيئة التي تنشط فيها هذه المنظمات.

ويشمل بناء القدرات الذاتية للمنظمات غير الحكومية أبعاداً مختلفة تتعلق؛ بحجم ونوعية الموارد البشرية والمالية، وبالبناء المؤسسي وطريقة تسيير وإدارة المنظمة وقدراتها الحركية والتعبوية. كما يتعلق كل ذلك بوعي أعضاء المنظمة بدورها وبالقضايا المجتمعية الأساسية التي ترتبط بهذا الدور.

2- 1 بناء القدرات البشرية للمنظمة
ويتعلق بناء القدرات البشرية بتطوير قدرات المنظمة على إعداد الكوادر البشرية المتخصصة في مجال نشاطها، وتوفير الخبرات والمهارات اللازمة، مع التوجه إلى جذب عناصر جديدة خاصة من الشباب من الجنسين. ومن المهم بناء قدرات العاملين في المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال حماية وتأهيل أطفال الشوارع وإتمام إدماجهم في المجتمع في المجالات التالية:
• يجب أن تكون الكوادر البشرية العاملة في هذه المنظمات علي وعي بكل ما يتعلق بظواهر الأطفال في خطر، وبالفلسفة التي يجب أن تحكم نظرتهم إليهم، وهي أن هؤلاء الأطفال قد دفعوا إلي الشارع لظروف ليس لهم يد فيها. ومن ثم يجب أن تملك هذه الكوادر الحس الإنساني المتعاطف مع هؤلاء الأطفال، وأن يدربوا علي العمل معهم والتعامل معهم نفسيا واجتماعيا باعتبارهم ضحايا وليسوا مجرمين. كما يجب توعية وتدريب هذه الكوادر علي التوجه الحقوقي في التعامل مع الظاهرة، من خلال دراستهم لاتفاقية حقوق الطفل ومواثيق حقوق الإنسان ذات العلاقة. كما يجب توفير الكوادر المدربة والمتخصصة في التعامل مع الأطفال في الشارع وكسب ثقتهم حتى يمكنهم النجاح في إقناعهم بترك حياة. كذلك يجب أن تشمل المنظمة كوادر متخصصة في التاهيل مهنيا، خاصة في المؤسسات ذات الإقامة النهارية أو الكاملة.
• يتعلق بناء القدرات بزيادة كفاءة المنظمة في التخطيط بما يشمل القدرة على تحديد الأهداف ووضع الإستراتيجيات قريبة وبعيدة المدى وخطط العمل وآليات التنفيذ. وكذلك القدرة علي إدارة البرامج والمشروعات، وفي هذا الإطار يجب تدريب الكوادر العاملة على التخطيط الاستراتيجي وإعداد خطط العمل التنفيذية، والإدارة الحديثة، وكتابة مقترح المشروعات، وإعداد دراسات الجدوى والتقارير، وعلى المتابعة والرصد والتقييم، وكذلك إعداد موازنة المشروعات والبرامج.
• ومن المهم كذلك بناء قدرة المنظمات على توفير قاعدة معلومات عامة عن برامج التنمية القومية والمحلية والاحتياجات المجتمعية. وتوفير قاعدة معلومات خاصة بظاهرة أطفال الشوارع في المنطقة التي تخدمها تشمل معلومات عن وضع أسرهم والأسباب التي يمكن أن تكون وراء خروجهم إلي الشارع، وسمات هؤلاء الأطفال وتوجهاتهم، وكل ما يمكن أن تساعد معرفته علي النجاح في إعادة تأهيل الطفل وإبعاده عن الشارع.
• التدريب علي مهارات التشبيك والتواصل مع المنظمات التي تعمل في نفس المجال، وتبادل التجارب والخبرات المحلية والدولية. بالإضافة إلى جمع المعلومات عن الجهات المانحة الأجنبية والوطنية وكيفية الوصول إليها.
• ومن المهم أيضا أن تشمل المنظمة كوادر مدربة على مهارات البحث الاجتماعي وطرق التقييم السريع اللازمة لتحديد مشكلات أطفال الشوارع المعنيين واحتياجات المجتمع المحلي الذي تنشط فيه، وكذلك تحديد الحلول والوسائل الملائمة ثقافيا للتعامل مع هذه المشكلات. ويمكن للمدربين علي البحوث في هذه المنظمات المشاركة في المسوح الكبيرة التي تجري لقياس ظاهرة أطفال الشوارع.

2-2 تعبئة الموارد المالية
تمثل القدرات المالية للمنظمات غير الحكومية عنصراً جوهريًا في القدرة على القيام بالأنشطة المطلوبة. ورغم حصول بعض المنظمات على تمويل من الحكومة ومن بعض الجهات الأجنبية إلا أن حجمه مازال محدوداً، وإستمراريته غير مضمونة، بالإضافة إلى ما ينتج عن التمويل من انتقاص لاستقلالية المنظمة وحريتها في معظم الأحيان. ولذلك فإن قدرة المنظمات غير الحكومية على التطور والاستمرار يرتبط بمدى قدراتها الذاتية على توفير التمويل اللازم لأنشطتها. ولذلك فإن بناء قدرات المنظمة يشمل بالضرورة قدرتها على تعبئة الموارد التي تزيد من درجة الاعتماد على الذات، ومن ثم يجب تشجيع وتأهيل المنظمات للقيام بمشروعات ذات عائد اقتصادي، ويمكن أن يشمل ذلك الأطفال المعنيين أنفسهم كقوي منتجة بحيث يشاركون في الدخل الناتج من هذه الأنشطة. وبحيث تتمتع بالكفاءة الاقتصادية وبالقدرة على الاستمرارية. كما يجب توفير وتدريب الكوادر المؤهلة لتدبير التمويل من المصادر الوطنية غير الحكومية، وخاصة أن جمع التبرعات للقيام بالمشروعات التنموية غير التقليدية يحتاج إلى الكثير من مهارات الاتصال والتفاوض والإقناع.

2-3 الديمقراطية وصناعة القرار داخل المنظمات الأهلية
ويتضمن بناء القدرات المؤسسية أبعاداً مختلفة من أهمها سيادة الممارسة الديموقراطية داخل المنظمة والعمل على تشجيع دوران السلطة والمشاركة في اتخاذ القرار. وتبرز هنا قضية على درجة عالية من الأهمية تتعلق بالدور الهامشي الذي تقوم به الجمعية العمومية، والتي يجب أن تشغل فيها الفئات المستهدفة بنسبة كبيرة، بالإضافة إلي تواجدهم في مجلس الإدارة، في الوقت الحالي، في المنظمات غير الحكومية رغم أنها المصدر الأساسي لشرعية المنظمة. ولذلك هناك حاجة لإعادة النظر في هذا الدور وتفعيله. كذلك يجب تفعيل دور الجمعية العمومية في الرقابة الحقيقية لضمان سلامة التصرفات المالية للمنظمة. وعلى الناحية الأخرى يجب على المنظمات غير الحكومية أن تعمل على أساس مبدئي الشفافية والمحاسبية، مع توفير الآليات اللازمة لتفيعلهما.

2-4 التوعية وبناء القدرات التعبوية
من العناصر الأساسية لبناء القدرات توفر الوعي لدي المنظمات غير الحكومية بالظروف والأوضاع الواقعية للمجتمع وبالاستراتيجية التنموية التي تتبناها الدولة وما يترتب علي تطبيقها من نتائج إيجابية أو سلبية، خاصة في علاقتها بظاهرة أطفال الشوارع. يجب كذلك الوعي بالقوى الاجتماعية الفاعلة في المجتمع من الإناث والذكور ممن يمكنهم، إذا توافر لهم الوعي والتدريب اللازم أن يساهموا في تحقيق الأهداف المحددة للقضاء علي الظاهرة. وفي هذا الإطار يصبح الوعي بالنوع الاجتماعي ضرورة أساسية للدور الذي تقوم به المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال حماية وتأهيل وإعادة إدماج أطفال الشوارع حيث تتضمن الظاهرة إناثاً، كما تحتاج التدخلات إلي أنشطة يقوم بها النساء والرجال معا.
وفي هذا الإطار تبرز أيضا أهمية تطوير قدرات المنظمات غير الحكومية على تعبئة وتنظيم المواطنين، خاصة الفئات المستهدفة، أي أطفال الشوارع وأسرهم، وكل أفراد المجتمع المحلي الذين يساهمون في تنفيذ التدخلات.
إن استيعاب كل الأطراف المجتمعية في هذا النوع من المنظمات يحولها تدريجياً من منظمات مساندة إلى منظمات قاعدية ذات مضمون تعبوي يؤدي إلى توعية وتمكين المواطنين وتعظيم قدراتهم على المشاركة الحقيقية في القضاء علي ظاهرة أطفال الشوارع.

خاتمة
على الرغم من أن دور المجتمع المدني العربي لا يزال ضعيفاً بسبب ضعف القدرات المؤسسية لمعظم المنظمات غير الحكومية. وعلى الرغم من أن التعامل مع ظواهر"أطفال في خطر" وخاصة أطفال الشوارع من المنطلق الحقوقي التمكيني يعتبر جديداً في العالم العربي إلا أن هناك خبرات وتجارب ناجحة في هذا المجال. ويجب تشجيع تبادل الخبرات والمعرفة من خلال التشبيك. كما أنه من المهم فهم بناء القدرات فهماً شاملاً ومتكاملاً أي بشقيه الموضوعي والذاتي وذلك علي المستوي الاستراتيجي، حيث إن التفعيل الحقيقي للمجتمع المدني لا يمكن تحقيقه إلا بتكامل تلك العناصر. 

* خبيرة ومستشارة دولية في الاقتصاد السياسي للتنمية.

مراجع
1. شهيدة الباز، استراتيجية حماية وتأهيل الأطفال بلا مأوى (أطفال الشوارع) فى جمهورية مصر العربية،
بتكليف من المجلس القومي للطفولة والأمومة، القاهرة، يوليه 2002.
2. شهيدة الباز، استراتيجية لحماية الأطفال في اليمن: الأطفال المحتاجون لحماية خاصة، مقدمة لوزارة الشئون الاجتماعية والعمل، بتكليف من اليونيسيف، صنعاء، اليمن، 2001.
3. ثائرة شعلان، الاستراتيجية العربية لحماية أطفال الشوارع، المجلس العربي للطفولة والتنمية،القاهرة، مايو 200.