كراهية الأجنبي العقدة المستعصية
الثلاثاء, 04-أغسطس-2009
د. عبد الحميد الأنصاري - أتابع بقلق المواجهات الدامية في اليمن بين قوات الأمن والميليشيات المسلحة الخارجة على النظام والقانون والتابعة لما يسمى بـ'الحراك الجنوبي'. لقد تصاعدت هذه المواجهات في الآونة الأخيرة في جنوب اليمن، ويرى مراقبون أنها الأكثر دموية حيث استخدمت فيها الصواريخ والقذائف وسقط العديد من القتلى من الجانبين غير العشرات من الجرحى. لا أريد الخوض في تفاصيل وأسباب وعوامل هذه التوترات، فهي معروفة ومعلنة ولا تكاد تخرج من أسباب سياسية عامة مثل ضعف السلطة المركزية، وهشاشة النظام، وضعف أداء المؤسسات الحكومية، وشيوع الفساد، وانتشار المحسوبية، إضافة إلى أسباب اجتماعية تتمثل في رسوخ قوة القبائل وانتشار السلاح مما يغذي النزعات والثأرات والاقتتال القبلي وأعمال العنف، ويساعد على إيجاد بيئة اجتماعية صالحة لإنتاج العنف المسلح لدرجة أن الأطفال أصبحوا يجندون من قبل 'القاعدة' التي وجدت في اليمن مناخاً خصباً لنتفيذ أجندتها التخريبية، وبطبيعة الحال هناك الفقر والبطالة، فاليمن تعد بين الدول الأشد فقراً في المنطقة العربية، إلى غير ذلك من الأسباب والعوامل التي تغذي وتساعد على استمرار تلك المواجهات الدامية.

لكن ما أريد التصدي له في هذه المقالة، هو الظاهرة التي بدأت تطفو فوق السطح وتتصاعد في العديد من مناطق التوترات على امتداد العالم الإسلامي، بفعل أفكار شديدة الظلامية تجرأت على اختراق ثوابت دينية راسخة على امتداد (14) قرناً، أعني بهذه الظاهرة، خطف السياح والأجانب الذين دخلوا البلاد بأمان من السلطة الرسمية ثم المساومة عليهم أو قتلهم وتبرير هذا العمل العدواني بمبررات شرعية؛ أنظروا ماذا يقول صبي في السابعة عشرة من عمره يكنى 'أبوعدنان' ويترأس أربعة صبية آخرين، أكبرهم لم يبلغ الثامنة عشرة: 'إن الشريعة الإسلامية حرمت الاعتداء على الأعاجم من السياح والنساء والأطفال'، لكنه يزعم وهو يتكئ على، ما صُور، بندقية الكلاشنكوف 'أنها أباحت قتلهم في حال تعذر الوصول إلى أوليائهم، أي المسؤولين عنهم من حكام الدول الأجنبية التي تعتدي- برأيه- على المسلمين'.

وبحسب مصادر محلية في مدينة الضالع جنوب صنعاء تجد أجهزة الأمن صعوبة في التمييز بين المسلحين صغار السن التابعين لما يسمى بـ'الحراك الجنوبي' الداعي لانفصال جنوبي البلاد عن شمالها، وأقرانهم من مسلحي 'القاعدة' الذين بدأوا ينتشرون هناك، ويطلق عليهم 'الحراك الانفصالي القاعدي' هكذا استطاعت 'القاعدة' التغلغل في تلك الأوساط القبلية، مستغلة حالة الفقر والحياة الصعبة والتفكك الأسري وارتفاع الأمية وحالة السخط السياسي ضد الدولة والإحباط العام، إضافة إلى رواج الخطاب الديني المتشدد في البلاد، ومثل 'أبوعدنان' توجد مجموعات مسلحة من صبية صغار، فارين من مدارسهم وأسرهم وقبائلهم لما يسمونه 'الجهاد في سبيل الله'، لقد أدى قتل تنظيم 'القاعدة' للسياح الأجانب إلى غضب قبائل يمنية تعتبر السياحة مصدر دخل ضرورياً، خصوصاً مع شح الأمطار، وتزايد القرصنة على سواحل القرن الإفريقي، كما أغضبت عمليات استهداف السياح، شيوخاً سلفيين في البلاد، واتفق زعماء الجماعات الاسلامية في اليمن على تحريم الاعتداء على السياح باعتباره نوعاً من أنواع 'قتل النفس المعصومة بغير حق'، وأفتى مشايخ التيار السلفي بأن مثل هذه الأعمال 'تدل على وجود من يبيع دينه بدين غيره'، أو 'يسلم عقله وزمامه لمن يذهب به إلى الهاوية'، ولكن تنظيم 'القاعدة' رد بتوزيع فتاوى مُصراً على موقفه، زاعماً أن الشريعة أوجبت 'قتل مَن ضل الطريق أو ألقته سفينة، فكيف بمن قدم إلينا عامداً عالماً أنه هدف لنا، بل قدم بشره وفجوره إلى بلاد الإسلام، لابد أن نعلم أن الشريعة التي حرمت قتل النساء والصبيان، أباحت قتلهم إذا لم يكن قتل غيرهم ممن يجوز قتله إلا بقتلهم، فيجوز قتلهم تبعاً'، وتجيز فتوى قادة 'القاعدة' أيضاً، القتل بالجملة لـ'الأعاجم' من دون تفريق بين نساء وأطفال وشيوخ، مستندة إلى 'استخدام المسلمين الأوائل، المنجنيق في الحرب' وتقول 'لا يمتنع تحريض حصون الأعاجم بكون النساء والولدان فيها' لقد ورط زعماء التنظيم هناك، 2 من خيرة الصبية الذين لم يتجاوز عمريهما (18) سنة في حضرموت في عمليتين قتاليتين راح ضحيتهما سياح ومحققون كوريون جنوبيون، وقتل الصبيان بأحزمتها الناسفة.

لقد وصل تحريض المفاهيم وتشويه المبادئ وتوظيف الدين إلى أن تقول 'القاعدة' في ردها على استغلال الأطفال في الأعمال العدوانية 'لقد ساد بين الناس مفاهيم مغلوطة في تربية الأبناء، منها أنه ينبغي تجنيب الصغار مظاهر العنف والدماء، لكن سنتنا هي أن نعوِّد أبناءنا على هذه الأمور، ونعود أبناءنا على السلاح منذ نعومة أظافرهم، ونغرس في قلوبهم حب السلاح وهم صغار، وعلى الآباء أين يأخذوا أبناءهم في رحلات يدربونهم على الذخيرة الحية'،

هذه المفاهيم المغلوطة في التربية وتغذية العنف وقتل الأبرياء من النساء والأطفال والسياح هي بعض ما ورد على لسان 'القاعدة' التي تتخذ من اليمن قاعدة لتصدير نشاطها إلى السعودية ودول الخليج مستغلة الصراع السياسي والتوترات والمصادمات الحاصلة في اليمن سواء بين القوات الرسمية وأنصار ما يسمى بـ'الحراك الجنوبي' المعارض أو بين الحكومة وحركة الحوثيين التي تسعى إلى تكوين دولة دينية في شمال اليمن على نمط 'ولاية الفقية' في إيران، ومن يراجع الاستطلاع القيم الذي قام به الصحافي القدير عبد الستار حتيتة عن 'اليمن السعيد والخروج من النفق'، الذي نشرته صحيفة الشرق الأوسط في (6) حلقات، يتضح له حقيقة الواقع والحراك اليمني الحالي ويفجع لظلاميه الأفكار التي استطاع أتباعها عبر الخطاب الديني المتشدد والمدارس الدينية المتشددة من ترويجها وغرسها في البنية المجتمعية اليمنية والتي نجد تجلياتها اليوم في هذه الأعمال العدوانية التي أكثر ضحاياها أبرياء سواء من المدنيين أو السياح الأجانب أو الأطفال والنساء أو العجائز.

و'ظاهرة خطف السياح والأجانب' الذين قدموا إلى البلاد الإسلامية سواء بطلب من السلطات الرسمية أو بأمان منها وذلك لتقديم خدمات ومساعدات طبية أو علمية أو استثمارية أو إنسانية، لا تقتصر على اليمن، بل هي ظاهرة عامة، نجدها في أفغانستان وباكستان حيث تخطف 'طالبان' الأجانب لتساوم بهم أو تقتلهم، وفي الصومال حيث تخطف المليشيات الإسلامية المتصارعة أجانب بهدف المطالبة بالفدية، ويتعرض الأجانب بشكل خاص للخطف في الصومال وتستهدف عمليات الخطف هذه خصوصاً الصحافيين والعاملين في المجال الإنساني حتى الراهبات لم يسلمن، ففي نوفمبر الماضي خطف مسلحون صوماليون راهبتين إيطاليتين، وفي بؤر النزاع كلها نجد عمليات خطف الأجانب متصاعدة، في الجزائر تكررت مثل هذه العمليات التي هي أشبه بالقرصنة الممارسة في القرن الإفريقي، وفي العراق شهدنا عمليات خطف وقتل بالجملة، خصوصاً عندما كانت القاعدة تلقى تعاطفاً ودعماً من بعض الجماعات العشائرية هناك.

والملاحظ بشكل بارز أن الأجانب الأبرياء مستهدفون دائماً؛ فإذا تعذر خطفهم، فإنه يتم التركيز على استهدافهم حيث يوجدون في فنادق أو منتجعات أو مساكن في العواصم الإسلامية المختلفة، وقبل عشرة أيام استهدف الإرهابيون فندقين فخمين في جاكرتا بعد هدوء استمر (4) سنوات، بهدف بث الذعر في نفوس السياح وتخريب الموسم السياحي، والتساؤل المهم الآن: لماذا خطف السياح؟ ولماذا استهدف أماكن وجودهم؟! ولماذا تعتمد الجماعات المتشددة على تجاوز وخرق أحد أبرز الثوابت الإسلامية في تأمين الأجنبي في نص قاطع لا يحتمل تأويلاً {ثم أبلغه مأمنه}؟!

إنه تشويه المفاهيم الدينية الراسخة وتسييس تلك المفاهيم لخدمة الأهداف السياسية لتلك الجماعات الانفصالية في صراعها مع السلطات الرسمية، إنه في الحقيقة وفي الأساس العميق 'كراهية الأجنبي' التي جرى غرسها وترسيخها في البنية المجتمعية على أيدي الحركات الثورية عبر نصف قرن عبر تحميل 'الأجنبي' مسؤولية تخلفنا وفقرنا وانحطاط مجتمعاتنا، وعبر تصويره 'شيطاناً' متآمراً علينا، لا يستحق الحياة.

*نقلا عن جريدة "الجريدة "الكويتية.