الصين الصاعدة .. هل هي قوة عظمى حقاً؟!
الأربعاء, 29-يوليو-2009
عبد الغني الماوري - تتنوع اهتمامات الصينيين على أشياء كثيرة، لكن العالم لا يهتم إلا بشيء واحد هو الصين، وهو أمرٌ يثير قلق المسؤولين الصينيين وغضبهم، إذ سرعان ما يتحول هذا الاهتمام إلى ما يشبه نظام رقابي صارم، وعلى سبيل المثال علّقت الولايات المتحدة الأميركية على إعلان الحكومة الصينية زيادة إنفاقها الدفاعي في عام 2008 إلى 60.200 مليار دولار بالقول أنها ودول أخرى تريد أن تعرف نيات الصين وأهدافها في زيادة الموازنة العسكرية. وللوهلة الأولى يبدو أن هذا التشكيك في نوايا الصين العسكرية من الأمور الاعتيادية التي قد تحدث بين الدول بسبب تضارب المصالح، لكن بمجرد أن تعرف أن كل ما يصدر من الصين يقع تحت الشك تُدرِك أن المسألة أعمق من ذلك بكثير، وفي أحيان كثيرة لا يكون ذلك مفهوماً. 

يقول يانج بي، وهو عميد بحري ومدير أحد مراكز الأبحاث العسكرية، "إنه في كل مرة تحاول الجمهورية الشعبية تأكيد ذاتها في مجال الدبلوماسية أو تحديث قواتها العسكرية أو فتح علاقات مع بلدان أخرى، فإن الولايات المتحدة تظهر ذلك بمثابة التهديد، وبقية دول العالم في الغالب تأخذ بما تروّج له الدول العظمى المسيطرة على الخطاب الدولي"!. يبدو يانج محقاً في التعبير عن استياءه، فهو في نهاية الأمر مواطن صيني، لكن لسوء حظه وحظ الصينيين أن بلادهم أضحت في مواجهة الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة دون أن تكون راغبة في ذلك بالتأكيد. لكن التطور الاقتصادي الصيني الهائل، والقوة العسكرية المتنامية وحيوية السياسة الصينية بدت وكأنها تعد المسرح لمعركة قيادة العالم. 

ورغم نفي الصين المتكرر والممل أحياناً بأنها تسعى إلى منافسة أميركا على قيادة العالم، إلا أن كثيرين في أميركا والغرب بشكل عام وحتى في دول آسيوية مجاورة لها [اليابان وكوريا الجنوبية مثلاً] غير مطمئنين إلى ذلك، إذ يُنظر إلى عمليات تطوير الجيش الصيني بوصفها تهديد ضد مصالحهم الوطنية. وكما يذكر فريد زكريا، رئيس تحرير مجلة نيوزويك الأميركية، فإن بعض العلماء والمفكرين السياسيين (وبعض الجنرالات في البنتاغون) ينظرون إلى نهوض الصين ويرون فيه بذور نزاع محتم بين القوى العظمى وربما أيضاً حرباً، قائلين: أنظروا إلى التاريخ، عندما تنهض قوة جديدة، من المحتم أن تزعزع توازن القوى القائم وتحدث اضطراباً في النظام الدولي، وتسعى لاحتلال مكانة بارزة، وهذا يؤدي إلى تصادمها مع القوى العظمى القائمة (أي نحن). 

وبالتالي فإن النزاع الصيني- الأميركي محتم. بالنسبة لكثير من المخططين في البنتاغون هذا هو أكثر الاحتمالات حدوثاً، إذ أن "عمليات تطوير الجيش الصيني حالياً تهدف إلى مواجهة طويلة الأمد ضد الولايات المتحدة في آسيا والمحيط الهادي، وأن الجيش الصيني يعمل على تحديث عقيدته وتكتيكاته العملياتية بالتخلي عن الاعتماد الكبير على الرادع النووي، وتطوير القدرة على توجيه ضربات هجومية حاسمة لمراكز القيادة والسيطرة والاتصالات والحاسبات، ومجموعات حاملات الطائرات الأميركية المتمركزة في المنطقة والقواعد الأجنبية لحلف شمال الأطلسي". ويعد تقرير القوة العسكرية للصين 2006، وهو تقرير سنوي يرفعه البنتاغون إلى الكونجرس، نموذجاً لطريقة مقاربة المؤسسات الرسمية الأميركية للقوة الصينية، ومما جاء في هذا التقرير أن تنامي القوة العسكرية الصينية سيغير من طبيعة مصالحها الاستراتيجية، وهذا سيؤثر في الطموحات التي لا بد أنها ستنتعش. 

وقد قام كثير من الخبراء والاستراتيجيين الأميركيين بإعداد الخطط المناسبة لمواجهة الصين، ومن هؤلاء روبرت كابلان الذي يشدد على ضرورة تبني توجه براغماتي للتعامل مع العودة الحتمية لظهور الصين كقوة عظمى، لأن البديل لذلك حسب رأيه هو تحويل الكرة الأرضية في القرن الواحد والعشرين إلى ميدان قتال. ويرى كابلان أنه "كلما ظهرت قوى عظمى أو عادت إلى الظهور على الساحة العالمية (كألمانيا واليابان في العقود الأولى للقرن العشرين مثلاً) فإنها تتسم بطابع هجومي على وجه الخصوص، ولذلك تقذف بالشؤون الدولية في آتون اضطربات عنيفة، ولن تكون الصين مستثناة من ذلك، فهي تقوم في الوقت الحاضر باستثمار أموال هائلة في إنتاج غواصات تعمل بالديزل وغواصات نووية، وهذه إشارة واضحة إلى أنها لا تسعى إلى حماية أرصفتها الساحلية الصخرية فحسب، بل أيضاً لمد مجال نفوذها إلى داخل المحيط الهادي وما وراءه". ويقترح كابلان ضرورة مراقبة الصين وعزلها ومنعها إقامة تحالفات استراتيجية قد تؤثر في المصالح الأميركية.

لماذا الصين؟
لا يجب أن تجهد نفسك في البحث عن الأسباب الحقيقية وراء الاهتمام العالمي بالصين، كل ما يجب أن تعرفه هو أن الصين باتت بلداً مهماً للغاية. بكل بساطة، هذا ما يجب أن تعرفه. عندما قامت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في آذار/ مارس 2005 بتخصيص أسبوع لتغطية خاصة من الصين، شرح مراسل الشؤون الدولية في الشبكة البريطانية بول رينولدز، لماذا هذا الاهتمام قائلاً "كان يطلق على الصين اسم العملاق النائم، أما الآن ومع معدل النمو الاقتصادي الأسرع في العالم فإنه يُطلق عليها غالباً العملاق المتيقظ". إن هذا يذّكر بما قاله ذات يوم نابليون بونابرت "دع الصين نائمة لأنها عندما تستيقظ فسيندم العالم"، ربما كان الزعيم الفرنسي يقصد الدول الغربية التي تخاف من وجود أي قوة خارج قيمها الحضارية والدينية. 

هذه القوة في الوقت الحاضر هي الصين التي إذا ما واصلت انطلاقتها فإنها بحلول العام 2041 ستتمكن من تجاوز الولايات المتحدة وتصبح أول قوة اقتصادية في العالم، وسيكون لهذا نتائج جيوسياسية بحسب المحلل الفرنسي أغناسيو رامونيه. العالم الأميركي جون ميرشماير هو الآخر يتحدث بصراحة عن الصعود الصيني وتأثير ذلك على شكل النظام الدولي، فبرأيه "لو استمرت الصين في نموها الاقتصادي المذهل على مدى العقود القليلة القادمة، فمن المحتمل أن تنخرط الولايات المتحدة والصين في تنافس أمني شديد، مع إمكانية كبيرة لنشوب الحرب". 

أما الصحفية الأميركية البارزة إليزابيث أكونومي (في صحيفة واشنطن بوست بتاريخ الأول من كانون الأول/ ديسمبر 2008) فقد كانت أكثر صراحة عندما قالت في معرض انتقادها للسياسات الصينية الداخلية، إنه يجب أن يكون هناك تعاون دولي لتمكين بكين من القيام بدور قيادي عالمي فاعل، فهذا هو الوقت المناسب - بحسب الصحفية الأميركية- الذي ينبغي أن تلمع فيه الصين إذا أرادت أن تصبح قوة عظمى. أكثر من ذلك ينظر 40 في المائة من الأميركيين- وفقاً للإحصاءات السنوية لمعهد جالوب للشؤون الدولية- إلى الصين بوصفها البلد المهيمن في العالم على العلاقات الدولية، وأنها القوة الاقتصادية الأولى في العالم، في حين تراجعت الولايات المتحدة للمرتبة الثانية بنسبة 33 في المائة. واليوم يرى عدد غير قليل من المعلقين السياسيين الأميركيين أن هذا الوضع الجديد الناشئ بعد الأزمة الاقتصادية الأخيرة سوف يجعل أميركا تلجأ للصين لحل مشكلتها المالية، وقد اعتبر فريد زكريا رئيس تحرير مجلة نيوزويك الأميركية في مقال نشرته صحيفة "واشنطن بوست" في عددها الصادر بتاريخ 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2008 الصين بمثابة طوق النجاة لأميركا التي تغرق في أزمة اقتصادية آخذة في التدهور، مضيفاً أن أهم منصب في إدارة الرئيس المنتخب باراك أوباما لم يُعلن بعد، في إشارة إلى السفير الأميركي لدى الصين، الذي يجب أن يقوم بدور مهم لجعل الصين تنظر إلى مصالحها بشكل يتوافق مع المصالح الأميركية، وإلا فإن الأمور في الولايات المتحدة ستزداد سوءاً. وتكمن أهمية الصين بالنسبة لأميركا- حسب زكريا- في أنها البلد الوحيد الذي باستطاعته شراء العجز الأميركي الذي يُقدر الخبراء الاقتصاديون أن يصل قيمته إلى أكثر من ترليون دولار- أي ما بين 7 و 11 في المائة من الناتج القومي. 

في المقابل، وبرغم أن أميركا تستفيد من التقدم الصيني الاقتصادي بعكس ما قد يتوهمه البعض، إلا أن هناك دوائر كثيرة في الولايات المتحدة ما تزال تنظر إلى الصين بوصفها العدو المقبل. وكان الرئيس الأميركي جورج بوش الابن المنتهية ولايته خلال أيام أعلن في بدايات حكمه أن الصين خصم استراتيجي وليس شريكاً، على الرغم من أن بلاده تُعد أول شريك تجاري للصين فيما هذه الأخيرة ثاني أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة ويتوقع خلال العامين المقبلين أن تقفز إلى المرتبة الأولى. وقد انتقلت هذه النظرة الأميركية المشككة إلى الجانب الأوربي، حيث أكد مارك ليونارد المدير التنفيذي للمجلس الأوربي للعلاقات الخارجية في حديث لجريدة الفانيانشيال تايمز البريطانية "إن صورة الصين لدى الأوربيين قد تغيرت من أرض الفرص الاقتصادية إلى التهديد الأول للأمن العالمي". 

في الواقع، لا يمكن تصديق هذه الشعارات التي تُطلق بوجه الصين، التاريخ يقول لنا أشياء كثيرة في المقابل. ففي القرن الحادي عشر وحتى القرن السابع عشر امتلكت الصين أكبر أسطول في العالم، وامتلكت عدة مميزات اقتصادية وتكنولوجية استثنائية حقيقية، لكن، ليس كمثل الأوربيين،لم تدمر شعوباً أو حضارات أبداً. الجيل التالي الذي أتى للسلطة في الصين بنى إستراتيجية مؤسسة على لاءات الرئيس هوجينتاو الأربعة: لا للهيمنة، لا لاستعمال القوة، لا للتكتلات، لا لسباق التسلح. ولذلك فإن أقصى ما يمكن أن تفكر فيه الصين هو المشاركة في تأسيس عالم متعدد القطبية تحتل فيه يوماً ما مكاناً مناسباً في المركز، وليس على القمة.

«لسنا قوة عظمى»
من الأمور التي يحرص المسئولون الصينيون على قولها باستمرار أنهم لا يفكرون بمعاداة الولايات المتحدة الأميركية، بل أنهم يأملون بتعاون أكبر معها، ربما لأن فكرة إزاحة أميركا عن قمة النظام الدولي تتطلب حرب شرسة لا تقوى الصين عليها. تنقل الصحفية في مجلة "نيوزويك"، ميلندا لوو، في 8 كانون الثاني/ يناير 2008 عن مسؤول صيني قوله "ليس بمقدور الصين أن تكون قوة عظمى ولسنا نتحدث عن إمبراطورية"، ويضيف المسئول الصيني "الهدف ليس تنحية الولايات المتحدة جانباً".

 آخر التصريحات الصينية التي ترفض تسويق فكرة الصين دولة عظمى هو رئيس مجلة الدولة الصيني ون جياباو إذ أصر على أن بلاده لا تزال دولة نامية، وقال المسئول الصيني على هامش مشاركته في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك في نهاية 2008 أن بلاده التي سجلت تنمية اقتصادية واجتماعية سريعة للغاية خلال السنوات الأخيرة ما تزال تواجه عدة مشكلات تتعلق بالفقر والتنمية الاجتماعية في المناطق الريفية. 

كثيرون قد لا يصدقون المسئولين الصينيين، لكن لا يجب الإفراط في ذلك. فالتفاؤل بأن الصين يمكن أن تكون بديلاً عن أميركا سيظل صعباً كذلك. صحيح أن عدد الصينيين الذين يعانون من الفقر الشديد قد تراجع من 250 مليون إلى 26 مليون شخص فقط وفقاً لتقرير الأمم المتحدة للتمنية البشرية لعام 2005، وصحيح أيضاً أن حجم الاستثمارات الصينية الخارجية قد وصل في نهاية 2007 إلى 100 مليار دولار، وصحيح أن الصين هي أكبر دائن خارجي للولايات المتحدة. 

لكن، في المقابل، تعاني الصين من نقاط ضعف مؤثرة حتماً في مسألة الصعود الصيني؛ فاستهلاكها للطاقة في تزايد مستمر، وهي وإن كانت أطلقت سياسة الطاقة تجاه الدول المطلة على بحر قزوين ودول أفريقيا ودول الخليج العربي والدول اللاتينية وكندا مؤخراً إلا أنها تدرك صعوبة أن تقيم علاقات خاصة مع هذه الدول دون رضا أميركا التي بالتأكيد سوف لن يكون في مصلحتها بروز الصين كقوة حقيقة. كما أن الفساد يُعد من أكبر التحديات التي تواجه الصين، فطبقاً لتقديرات هيو أنجانج أستاذ الاقتصاد بجامعة شينخوا في بكين "تسبب الفساد في الفترة من (1999- 2001) في خسائر اقتصادية بلغت 1293 مليون يوان، أو ما يعادل 13.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي"!. غير أن أصعب التحديات التي يواجهها الصينيون والتي تمنعهم من الهيمنة على العالم هي التحديات السياسية، والتي تتمثل في تطوير النظام السياسي بما يتلاءم والتقدم الاقتصادي الهائل، وهي مسألة حساسة، لكن ضرورية. والحفاظ على وحدة التراب الصيني من خلال عدم السماح باستقلال تايوان، بالنسبة للصينيين هذه قضية غير قابلة للنقاش.كذلك تبدو مسألة تجاوز تاريخ الأحقاد مع الجوار خصوصاً اليابان المتهمة بارتكاب جرائم في حق الشعب الصيني من المسائل الهامة التي يجب حسمها. إذ أنها العمق الحيوي للصين، ويجب أن تكون مرحبة بتعاظم هذا الدور الصيني وغير معرقلة له على غرار أميركا التي تمتلك تأييداً واسعاً لسياستها في أوربا وحتى في جوار الصين. 

وفي حال استطاع الصينيون- ويبدو أنهم قادرون على ذلك- تجاوز كل هذه التحديات الصعبة، فإنهم يكونون قد كرّسوا بلادهم دولة هائلة دون أن يكون ذلك على حساب أميركا التي يبدو أنها ستحتفظ بمكانتها في النظام العالمي لكن بهيمنة أقل. وهذا الاحتمال يناسب الصين كثيرا.