ثورة تكنولوجيا المعلومات تساهم في تثبيت أركان العولمة المعاصرة
الثلاثاء, 28-يوليو-2009
عرض ومناقشة: د. محمد مخلوف - عرض ومناقشة: د. محمد مخلوف تأليف :فرانسوا هايسبورغ

يؤكد مؤلف هذا الكتاب أن العولمة الراهنة عرفت بداياتها خلال التجزئة التي عرفتها فترة 1914-1989، وإن الحرب نفسها كانت وراء ولادة بعض "الحوامل" الأكثر دفعا نحو العولمة وخاصة ثورة المعلومات، ويتم هنا تحديد مصدرين أساسيين للعولمة، ومن طبيعتين مختلفتين تماما، هما: مؤسسات بريتون وودز وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من جهة، وثورة المعلوماتية من جهة أخرى.
كانت منظومة بريتون وودز قد تأسست عام 1944، وكانت تمتلك إلى جانب بعدها المالي والنقدي (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) بُعدا تجاريا تمثّل في اتفاقية ال"الجات" الخاصة بالمبادلات التجارية والتعرفة الجمركية، نجم عن ذلك "تحريرا" تدريجيا للتجارة الدولية عبر اتفاقية ال"الجات" حتى عام 1994 حيث حلّت محلّها منظمة التجارة العالمية. وخدم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كضامنين ل"الأمن المالي العالمي".
وكان ذلك الجمع بين الإجراءات الليبرالية وتنظيم المبادلات الدولية قد سمح بتجنب بروز أزمات اقتصادية هائلة مثل تلك التي عرفها العالم الاستعماري منذ عام 1929 وحتى عام 1935. كانت هناك فقط فترات "ركود" اقتصادي كتلك التي عرفتها البلدان المصنعة خلال عامي 1973 و1975 إثر الزيادة الكبيرة في أسعار البترول. كما استجدّت بعض الأزمات الإقليمية الخطيرة في المكسيك عام 1994 وفي آسيا ما بين 1997 و1999 وفي روسيا والبرازيل. لكن لم يكن لتلك الأزمات الإقليمية كلها أي صدى حقيقي على المستوى العالمي، وبالتالي لعبت المؤسسات الدولية الدور المطلوب منها.




وكانت ثورة تكنولوجيات المعلومات قد ساهمت كثيرا في تثبيت أركان العولمة المعاصرة، وذلك من خلال "اللقاء" منذ حوالي ثلاثين عام تقريبا، بين استخدام الإلكترونيات والحاسوب والشبكات. فالتكنولوجيا الإلكترونية جرى استخدامها كوسيلة لإنتاج المعلومات ونقلها وليس كقوّة وطاقة فقط. ويشير مؤلف الكتاب في هذا السياق إلى أن اللجوء للإلكترونيات من أجل "معالجة" المعلومات وليس فقط نقلها حديث جدا نسبيا. فالآلة الحاسبة الإلكترونية الأولى تعود إلى عام 1946 وقام بتصنيعها الجيش الأمريكي من أجل حسابات خاصة بالمتفجرات. أما التقدم الأساسي فقد تحقق مع اختراع أول مذياع محمول "ترانزستور" في مخابر شركة "بيل" عام 1948.
وبعد خمسين عام من تصنيع "الترانزستور" جرى التوصل إلى صناعة "برغوث إلكتروني" يضم حوالي 14 مليون "ترانزستور" على مساحة تعادل قطعة طولها 5 سنتمترات. وغيّرت بالتالي اللغة الرقمية آلية التعامل مع المعلومات لتحدث ثورة حقيقية على مستوى التلفزة والإذاعة ووسائل الإعلام كلها. وكان إيقاع التقدم سريعا جدا خلال العقود الثلاثة المنصرمة إلى درجة قول مؤلف الكتاب أنه: "إذا جرى تطبيق إيقاع التقدم ـ الحاصل في ميدان المعلومات ـ على ميادين أخرى، فإن تصنيع سيارة جديدة سوف يكلّف أقل من يورو واحد وسوف تسير عدة مئات من الكيلومترات بليتر واحد من البنزين". ويضيف: "تتمثل إحدى سمات ثورة المعلومات في أنها لا تكتفي بالمبالغة في فرض نفسها أو أنها تأتي بعد موجات أخرى من التصنيع، وإنما هي تندمج داخل المنتوجات التقليدية". 

أما بالنسبة للحاسوب فإن المؤلف يعيد ظهور مفهوم الحسابات المعقّدة والذاكرة والبرمجة إلى سنوات الثلاثينات من القرن التاسع عشر حسب نظرية المدعو "ميشيل باباج". لكن كان لا بد من انتظار سنوات التسعينات في القرن الماضي (العشرين) لكتابة أول برنامج معلوماتي بينما كان البريطانيون والأميركيون قد استعملوا منذ سنوات الأربعينات، وتحديدا أثناء الحرب العالمية الثانية، بعض الحواسيب "البدائية" في التشويش على الرسائل الألمانية "المشفّرة". 

ويشير المؤلف هنا إلى أن أي حاسوب حديث يمتلك استطاعة حسابية أعلى من مجموع حواسيب العالم التي كانت في الخدمة خلال منتصف سنوات الخمسينات المنصرمة. واليوم هناك مئات ملايين الحواسيب الشخصية بينما لم يكن هناك آنذاك سوى عدة عشرات من "الوحدات المركزية". ثم كانت هناك "الشبكات" وخاصة شبكة "الانترنت". كانت الشبكة الأولى تحمل اسم "اربانيت" التي أُقيمت تحت إشراف وزارة الدفاع الأميركية من أجل التواصل مباشرة من حاسوب إلى آخر لمؤسسات جامعية وغيرها، كانت تعمل مع الوزارة.
لقد بدأت الشبكة بالعمل عام 1972 بوجود أربعين موقعا. ويشير المؤلف في هذا السياق إلى روايات أكّدت أن الباعث الأساسي وراء قيام شبكة الانترنت كان تأمين اتصالات يمكنها أن تعمل حتى في حالة قيام حرب نووية. ما يؤكده المؤلف، بعيدا عن مثل تلك الرواية، هو أن الانترنت" وليدة" الحرب الباردة. 

في المحصلة يحدد مؤلف الكتاب ثلاث خصوصيات تميّز العولمة الراهنة وكلّها لها علاقة مباشرة بثورة المعلوماتية. الخصوصية الأولى تتمثل في المباشرة وبنقل المعلومات خلال "الزمن الحقيقي"، أو "شبه الحقيقي" بواسطة اللغة الرقمية. الخصوصية الثانية هي تمكّن الجميع دون تمييز في الوصول إلى المعلومات. والخصوصية الثالثة تتمثل في تجاوز الحدود الجغرافية والديموغرافية بالنسبة لأغلبية شبكات المعلومات.
القطيعة مع التدويل 

إن العولمة الحالية تشكل قطيعة مع عملية "التدويل" التي سبقتها. فذلك التدويل كان أوروبيا من حيث القائمين عليه وأوروبيا من حيث تقسيم العالم إلى مناطق استعمارية مرتبطة بأوروبا وأوروبيا من حيث القيم التي حملها. وكان مستعمرو الأمس قد حملوا معهم بعض القيم ذات النزعة الكونية فالحديث عن الإرث الثوري وحقوق الإنسان شكّل أحد عناصر الخطاب الإمبريالي الفرنسي، وكانت الديمقراطية إحدى موضوعات البلاغة الإمبريالية البريطانية. مثل هذه المقولات في الخطاب النظري وجدت بالطبع حدودها الضيّقة في الواقع. ذلك أن القائلين بها كانوا يُخضعون آخرين لسيطرتهم ولم يكن بإمكانها أن تطمس الواقع الاستعماري. 

لا شك أن عملية "التدويل" تلك قد خلقت أشكالا من التداخل على الصعيد العالمي. لكن كان لا بد لذلك النموذج "الإمبريالي" من "العولمة" كي يعمل، من افتراض وجود روابط سياسية وليس فقط اقتصادية أو ثقافية بين من يسيطر ومن يقع تحت السيطرة. ثم من المعروف أن أوروبا لم تكن هي المهيمنة فعليا خلال ثلاثة أرباع الفترة التي فصلت بين قيام الحرب العالمية الأولى (1914) وسقوط جدار برلين (1989) ذلك أن الولايات المتحدة كانت قد غدت زعيمة المعسكر الغربي والمهيمنة فيه اقتصاديا ثم سياسيا وإستراتيجيا. 

لقد اتسم القرن العشرون عامة بوجود إيديولوجيتين متعارضتين، انتهت إحداهما بالسقوط أمام امتحان الوقائع. وبدت تسود في العالم الغربي ليبرالية مزدوجة. فهي من جهة ليبرالية سياسية تحت شعار التأكيد أن الديمقراطية هي مستقبل العالم وليس فقط هي "الأقل سوءا" بين الأنظمة حسب مقولة ونستون تشرشل. ومن جهة أخرى ليبرالية اقتصادية قادرة وحدها على "تحرير" قوى الإنتاج بما في ذلك من أشكال القسر التي تفرضها الدولة والتي غدت لا تتلاءم مع متطلبات العولمة الجديدة. 

إن المعسكر الذي يقول بمثل تلك القيم بدا منتصرا. وانتصاره هذا هو الذي استلهم منه المفكر الأمريكي ذو الأصل الياباني فرانسيس فوكوياما كتابه المعروف "نهاية التاريخ" والذي يندرج، حسب توصيف المؤلف، في النهج المستقيم لأفكار هيغل وماركس الخاصة ب"الحتمية التاريخية". ذلك أن" فوكوياما" قد أعطى الانتصار لليبرالية كما كان ماركس قد أعطاه للطبقة العاملة" بروليتاريا" زاعما أنه جعل خطاب "هيجل" يمشي على قدميه وليس على رأسه. 

وتتم الإشارة في هذا السياق إلى فكرة انتشرت ومفادها أن المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للعولمة الجديدة ليست هي نتاج علاقات سيطرة تمارسها أمريكا بمقدار ما هي نتيجة مباشرة للتكنولوجيات الجديدة. ومن جهة أخرى كانت سنوات التسعينات المنصرمة قد شهدت نقاشات واسعة حول" القيم الآسيوية" أثارها رئيس وزراء ماليزيا آنذاك مهاتير محمد . بل وكانت الولايات المتحدة نفسها قد عرفت منذ عام 1993 الإعلان عن "صدام الحضارات" كما جاء في أطروحة صموئيل هنتجتون الشهيرة. 

ويشير المؤلف إلى أن "الحرب الأهلية العالمية" ما بين 1914 و1989 قد قامت على خلفية استقطاب إيديولوجي متطرف نتيجة للنقاشات التي عرفها القرن التاسع عشر وقسط كبير من القرن العشرين وكان لها آثارها السياسية والعسكرية الكبيرة. لكنه يرى أن النقاش الحالي الدائر حول "صدام الحضارات" لن يؤدي بالضرورة إلى مواقف جذرية "راديكالية" كالسابق وإنما إلى تعميم القيم الغربية لكن دون أن يسيطر الغرب على صعيد موازين القوة العالمية. ذلك على غرار اليونان القديمة التي فقدت مواقع قوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية وإنما سادت ثقافتها في مجال جغرافي امتد من اسبانيا حتى نهر الغانج بعد انهيار الإمبراطورية المقدونية العابرة التي أشادها الاسكندر الأكبر 

نقلاً عن
جريدة الجريدة