العولمة والتنمية في العالم العربي: أزمة الاندماج
الأحد, 26-يوليو-2009
عبد الحليم فضل الله - لا تزال المقاربة الأيديولوجية متقدمة على ما عداها في تحليل علاقة العرب بالعولمة. ولأنها كذلك لم تكن يقظة بما يكفي لتمييز التغيرات الدقيقة المتراكمة، ورصد التحولات التي تحصل سواء في طبيعة هذه الظاهرة أو في اتجاهاتها. 

فقبل عقد ونصف تقريباً، كانت محركات العولمة ناشطة جميعها وبقوة، الاقتصاد العالمي يميل أكثر فأكثر إلى حركتي تمركز، حول التكتلات الصناعية الكبرى وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، وحول الشركات متعددة الجنسيات التي باتت أكثر سطوة وضخامة بعد ثورة الدمج والابتلاع الهائلة التي حدثت في التسعينات. 

نجحت الرأسمالية العالمية آنذاك أيضاً في "خلق" كائنها العالمي الجديد أي منظمة التجارة العالمية، ليكون الركيزة الثالثة لنظام مؤسسي عابر للدول، فبات ممكناً الاشراف على تحرير حركة الرساميل والمبادلات الدولية، والتحكم من ثم باتجاه التجارة الدولية بعد أن تولت المنظمتان الأخريان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التحكم بالسياسات النقدية والمالية. 

وبموازاة ذلك اعتمدت إدارة بيل كلينتون ممارسات أحادية حذرة، تجنباً لأي تضارب بين المسار السياسي والعسكري وطموح الولايات المتحدة بامتصاص "خيرات العولمة" والفوز في التنافس مع المراكز العالمية الأخرى. لقد كان هرم السلطة الناشئ أحادي القطب لكنه معتدل نسبياً قياساً إلى ما نشهده اليوم، الدول الرئيسية والدول الإقليمية كان لها دور في تسيير السياسات العالمية، الاستقرار كان هدفاً حاضراً وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، والحروب إنما خيضت حينها تحت دعوى صيانة الاستقرار. والى جانب ذلك وربما بنتيجته، تحسنت قدرة الاقتصاد الأميركي على المنافسة، وتمكنت المؤسسات الدولية من فرض سياساتها على عدد أكبر من الدول، وازدادت حركة المبادلات المعولمة –أي بين الدول المتباعدة جغرافياً- على حساب المبادلات بين الدول المتجاورة، وظن البعض أن التنافس الاستراتيجي قد تحول إلى تنافس تجاري واقتصادي. 

مع بداية الألفية الثالثة، خطت العولمة إلى طورها الجديد، لتواجه صعوبات عدة أبطأت تقدمها السهل خلال التسعينات، وقد كشفت التطورات السياسية والأمنية والعسكرية عن حجم المبالغات والأساطير التي حيكت حول مسائل عدة كتقلص دور الدولة، كما تم تجاهل حقيقة مهمة وهي أنّ العولمة ليست تطوراً طبيعياً في مسار الرأسمالية العالمية بقدر ما هي نتيجة سياسات مقصودة ومدبرة وبرامج وطنية وتحالفات إقليمية ودولية، بحيث أن أي تطور يحصل في إحدى دول المركز سيكون له تداعيات حاسمة على مسار العولمة واندفاعها، وهذا ما حصل في في 11 أيلول 2001. 

وكما كنا قد شهدنا انطلاق الطور الجديد للعولمة مدفوعاً بانهيار المعسكر الشرقي وثورة الاتصالات وتقدم الاقتصاد الافتراضي القائم على المعلومات والمعرفة، فإننا نشهد اليوم تباطؤها نتيجة عوامل متشعبة من بينها: تراجع تنافسية الاقتصاد الأميركي ما أدى إلى أن تطل النزعة الحمائيّة مجدداً، واعتماد إدارة جورج بوش رؤية أكثر تطرفاً للأحادية القطبيّة، وتعثر مسيرة المنظمات الدولية بسبب فشلها في حل الأزمات بل ربما التسبب بها، ونشوء ائتلافات قوية نسبيّاً فرضت نفسها على المفاوضات الجارية في إطار منظمة التجارة العالمية، ونمو التجارة البينيّة داخل التكتلات الإقليمية الصاعدة على حساب التجارة العالمية الصاعدة. وقد ساهمت حروب أميركا الاستباقية برسم صورة جديدة للنظام الذي انتقل بها من الهيمنة إلى السيطرة.

ما هو موقع العالم العربي في هذا المسار المتعرج للعولمة وللاقتصاد الدولي؟
خلال التسعينات انقسمت الدول إلى ثلاث مجموعات: دول المركز المسيّرة لمنظومة العولمة والمسؤولة عن رسم توجهاتها الأساسيّة، والدول القادرة على الاندماج والتي ازدادت أهميتها شيئاً فشيئاً في صنع القرار الاقتصادي الدولي، والبلدان غير المهيئة للاندماج الواقعة على هامش الاقتصاد الدولي. 

المجموعة الأخيرة عالقة في موقع لا تحسد عليه، فهي لم تتمكن من ركوب تيارات التجارة الدولية الجديدة فتستفيد من منافعها، لكنها في الوقت نفسه ملزمة بدفع الأثمان، بل إنها باتت الحقل الذي يتم فيه تبادل الضغوط والرسائل بين الفاعلين العالميين التقليديين والجدد. 

لم تتمكن المنطقة العربية وهي مثال بارز على أزمة هذه المجموعة، من توظيف الأوضاع الجديدة، في تحقيق أهدافها على صعد التنمية والتصنيع وتحقيق موقع أفضل في عالم اليوم، لكنها مضطرة للالتزام بسياسات لن ترتد عليها بالنفع الكبير، إن فوز الصين مثلاً بعضوية منظمة التجارة العالمية يمثل اعترافاً بنموذج من السياسات مشبع بالاستقلال والتمرد على نمطية البيروقراطية الدولية، ويمكن اعتباره إشارة مشجعة على أن مقاومة الضغوط هو السبيل الأفضل للفوز بالمنافسات الدوليّة وليس العكس. لكن ما الذي ستفعله دولة عربية نفطية وأخرى غير نفطية بعضوية ذلك النادي الدولي "الخطر"، فالأولى مستتبعة لأسواق النفط المعولمة أصلاً والثانية مرتبطة بانتاج محلي لا يمكن مبادلته دولياً أو بقطاعات متأخرة لا يمكن تعريضها للمنافسة الخارجية، فيما تعتاش دول أخرى على المساعدات والتحويلات الخارجية التي لا يفيدها في شيء تحرير الأسواق. 

إن الشرط الأول لتحقيق اندماج حميد بنظام العولمة هو تحقيق مستوى من التطور، تكون حصيلة الاندماج بنتيجته أعلى من التكلفة الاجتماعية والاقتصادية المترتبة عليه، بكلمة أخرى يبدأ طريق العولمة من اللحظة التي يتكلل بالنجاح فيها مسار التنمية. إن رزمة سياسات تؤدي إلى النمو طويل الأمد وتحقق التراكم في الرأسمالين المادي والبشري وتسمح ببناء صناعة حديثة وملائمة للطلب، تمثل اليوم بوليصة تأمين على مخاطر السوق الدولية، التي تزداد حدة وانتشاراً. 

وحيث أن الدول العربية فشلت في توفير شروط الاندماج الملائمة، فقد تراجعت الديناميات الانتاجية في اقتصاداتها التي خسرت جاذبيتها وموقعها في الاقتصاد العالمي. فالصادرات العربية لم تعد تمثل مجتمعة أكثر من 5% من مجمل الصادرات العالمية بعد أن كانت تزيد عن 12.5% منها قبل عقدين تقريباً، وفي حين قفزت قيم الاستثمار المباشر على الصعيد العالمي أكثر من عشرين ضعفاً من أوائل التسعينات وحتى اليوم والتي تعد المقياس الأفضل لتقدم العولمة، فإنّ حصة الدول العربية تراجعت من 1.4% في أوائل التسعينات إلى أقل من 0.4% عام 2000 غير أنها أخذت بالارتفاع بعد ذلك ربطاً بارتفاع اسعار النفط، أنّ حصة الصناعة من هذه التدفقات لم يتجاوز 9% والزراعة حوالي 1%. 

مؤشر آخر على ضعف تكيف الاقتصادات العربية مع العولمة، وهو تراجع الناتج القومي العربي الاجمالي من أكثر من 4.1% من مجموع الناتج العالمي في الستينات إلى أقل من 2% عام 2000 ومع أن هذه النسبة قد تحسنت مع ارتفاع أسعار النفط، فإن متوسط الدخل الفردي لم يتخط ثلاثة آلاف دولار أميركي فيما يعيش ثلاثة أرباع السكان العرب تقريباً على دخل يتراوح بين دولار واحد وخمسة دولارات يومياً. ليس هذا فحسب فالاقتصاد العربي يفقد قدرته على استيعاب العمالة إذ يتوقع أن ترتفع نسب البطالة بحسب منظمة العمل العربيّة خلال السنوات الثلاث المقبلة لتشمل ربع القوة العاملة العربيّة. 

ان تفسير التراجع الذي أصاب مؤشرات التنمية العربية في ظلّ العولمة، يصبح ممكناً إذا أخذنا بالاعتبار أن مكانة دولة ما أو مجموعة ما داخل منظومة العولمة مرتبطة بامتلاكها التالي: 

- القوة التفاوضية: ينبغي التنبه إلى أن لعبة العولمة غير عادلة، فالقرارات داخل المؤسسات الدولية تتخذ على أساس سياسي، وفي إطار مزيج غريب من الايديولوجيا والاقتصاد السيء كما يقول ناقدون غربيون للتجربة. النجاح في خوض غمار هذه اللعبة يتطلب من الدول النامية العمل على فرض شروطها في المفاوضات العالمية وأن تتمتع بالوقت نفسه بالقدرة على الرفض. ماليزيا رفضت بشدة ولاتزال وصفة صندوق النقد الدولي لاعادة تقويم سعر صرف اليوان وهي مع ذلك تسجل نمواً نادراً يرشحها بعد ثلاثة عقود تخطي الناتج الأميركي، وقد تمكنت مجموعة الدول النامية من بينها البرازيل والهند وتركيا من التأثير بقوة على الجولة الأخيرة لمفاوضات منظمة التجارة العالمية. 

بخلاف ذلك تعاني الدول العربية من تراجع في القوة التفاوضية، فهي لم تقرر بعد الانضمام إلى نادي معارضي السياسات العالمية الحالية نتيجة وقوعها تحت تأثير الهيمنة الأميركية، كما أنها لا تستفيد من النفط في تحسين موقعها في المفاوضات متعددة الأطراف. ويساهم في تراجع قوتها التفاوضية أيضاً ضعف الترابط الاقليمي بين الاقتصادات العربية، فالتجارة البينية لا تتجاوز 9 % من مجموع تجارتها الخارجية، بينما تفوق التجارة الاقليمية البينية 50% في الدول المتقدمة وما لا يقل عن 25% في الأسواق الناشئة. الجدير ذكره أن ظاهرة العولمة ترافقت مع انتشار لا مثيل له للتكتلات التي ارتفع عددها من 7 تكتلات في الثمانينات إلى أكثر من 80 تكتلاً حالياً، يمر عبرها اليوم ثلث التجارة العالمية تقريباً. وتمثل المنطقة العربية الحرة (الغافتا) تقدما باتجاه التكامل الاقتصادي لكن نجاح التجربة يتطلب حل مشكلات عدة تهددها وعلى رأسها وجود تفاوتات غير مقبولة بين سياسات الدول الاعضاء فيها. 

- القوة التنافسية: إن التكيف مع تحديات العولمة يتطلب وجود اقتصاد منافس، وهذا مرتبط إلى حد كبير بوجود هيكل متنوع وبالقدرة على الانتقال من الاقتصاد التقليدي المعتمد على المواد الأولية إلى اقتصاد المعرفة. وقد أورد تقرير التنمية الانسانسة العربية للعام 2003 أن تجربة الدول العربية في نقل وتوطين التقانة/المعرفة لم تحقق النهضة التكنولوجية المرجوة، ومع أنها وظفت خلال الثمانينات والتسعينات أكثر من 2500 مليار$ في بناء المصانع والبنى التحتية فإن معدل الناتج المحلي للفرد قد انخفض "لأن ما تم نقله فعلاً هو وسائل الانتاج لا التقانة". ولعل ما ينقص الاقتصاد العربي بشكل أساسي وفق التقرير نفسه هو وجود نظم فعالة للابتكار وانتاج المعرفة، ومن بين العوامل التي تقف وراء هذا النقص: التدفقات المالية الناتجة عن النفط، والتي تتسبب ككل تدفق ريعي بانخفاض الانتاجية وضعف الطلب على التطوير، وغلبة المشروعات الصغيرة التي تبقي على الصلة الأوليّة ما بين العمل والملكية، ولا تساعد على تحقيق التراكم الرأسمالي. 

- قوة السياسات: يجري التشكيك على نطاق واسع في قدرة الجغرافيا السياسية والحدود، على الصمود أو تأدية وظائف ذات معنى في مجال كوني مفتوح ومعولم، إلى حدٍّ يرى فيه البعض، "أن الدولـــة القوميــــة تحولت إلـــى سلطات محلية، للنظام الكوني، ويشــــبه دورها، دور البلديات فـــي الدول". وبحسب بول هيرست وجراهام طومبسون، فإن هذا الخطاب الجديد، يستند إلى عقيدة ليبرالية مناوئة للسياسة، حيث الزعم، بأن تحييد الدولة، واستبعاد تدخلاتها، "المشوِّهة"، يسمح للإقتصاد والرأسمال الكونيين، العمل بحرية على تحقيق التوزيع الأمثل للموارد . غير أن التجربة أظهرت العكس، فقد بقيت الدولة حاضرة كفاعل أساسي على مسرح الاقتصاد العالمي، ويمكن تفسير صمودها أمام موجات العولمة بثلاثة أمور: تقديم الضمانة لتدفق الاستثمارات عبر الحدود في مواجهة تنامي المخاطر المترتبة على الإنفتاح الدولي، القيام بدور الوسيط ما بين الحيّز العالمي والمجالات ما دون الوطنية، والقيام بمهمة لا يمكن التحلل منها وهي معالجة النتائج الاجتماعية والاقتصادية للتفاوتات التي تتسبب بها العولمة. 

تبين هذه المناقشة، عدم جهوزية العربية لتوفير شروط الاندماج في الاقتصاد العالمي، فهناك مفارقة تلازمها دائماً، فمن جهة لم يبد معظمها ممانعة تذكر تجاه السلوك المتطلب للدول الكبرى والمؤسسات الدوليّة، فتخلى بعضها بسرعة عن أي دور في تدعيم تنافسية الاقتصاد الوطني وتخلى بعضها الآخر عن الحد الأدنى من وظائف دولة الرفاه الشامل؛ ومن جهة أخرى ازداد دورها الريعي، وباتت النخب السياسية ونخب الاعمال أكثر التصاقاً بعضها ببعض أكثر من أي وقت مضى. ولعل ما حدث هو تحول الدولة من رعاية الطبقات الأدنى إلى رعاية الطبقات الأعلى، ومن رعاية وتعزيز عملية الانتاج إلى استغلال مبادئ الليبرالية الجديدة للتوسع في الاستيلاء المنظم على الموارد لصالح فئات قليلة. 

وعلى أي حال فإن العالم العربي لم يستجمع بعد متطلبات الاندماج والانضمام إلى الاقتصاد الجديد، وإذا كان لا بد من نهضة فإنّ شروطها تبدأ ببناء المجال الحيوي المحلي العربي والاقليمي، وتمر بالبعد السياسي حيث تظهر التجربة أن الاستبداد السياسي يتحول مع الوقت إلى استئثار اقتصادي والى مزج غير مشروع بين السلطة والثروة، ولا بد لها أن تنتهي بإعادة النظر بسلم القيم الذي يفسح في المجال أمام التقدم الشامل. 

المصدر:
  مركز الاستشارات للدراسات والتوثيق