الاتحاد الإفريقي وبناء الأسس الثقافية.. من أجل إفريقيا الحداثة
السبت, 25-يوليو-2009
أزراج عمر - على المستوى الحضاري فإن إفريقيا قارة لها ما تقدمه للعالم المعاصر من إرث متعدد المضامين والأشكال، وكما أن إفريقيا تملك عمقا ثقافيا خصبا ومتنوع التجارب، والأبعاد والقسمات. ومن هنا فإن النهضة الإفريقية ممكنة فعليا شرط أن لا يكون الرهان مقتصرا على الجانب السياسي، أو على العلاقات الدبلوماسية ذات الطابع الفولكلوري. إنه لا بد من بناء بنية فوقية إفريقية قوية بالتوازي مع بناء البنية التحتية المتطورة على نحو يضمن تبادل التأثير الإيجابي المتبادل بينهما. إن هذين البعدين ضروريان، وبدونهما سوف يتعذر تحقيق شرط الحداثة والتحديث معا. إن السياسة وحدها لا تنجز الطموح الإفريقي مهما كانت النيات حسنة.

على أية حال، فإن تأسيس الاتحاد الإفريقي في حد ذاته تحرك غاية في الأهمية على المستوى القاري، وعلى المستوى العالمي؛ من المعروف أن هذا التأسيس الذي لعبت فيه الجماهيرية الليبية دورا متميزا هو في التحليل الأخير ردّ إفريقي على السياسة القطبية المنفردة التي تريد الولايات المتحدة الأمريكية احتكارها منذ تدهور الاتحاد السوفييتي، ومن ثم سقوطه.

ومما لا شك فيه أن الموقف الإفريقي الإيجابي والمعادي للحصار الذي ضرب على ليبيا ظلما وعدوانا قد ساهم جزئيا في بلورة الاتجاه نحو تشكيل الاتحاد الإفريقي.

في تلك اللحظة التاريخية الحاسمة قد برزت الإرادة الإفريقية سياسيا ودبلوماسيا في الساحة الدولية إلى جانب الفعالية لكسر الحصار الغربي التعسفي. وفي الواقع فقد كان الموقف الإفريقي بديلا لموقف الجامعة العربية والنظام الرسمي العربي الهزيل. وتاريخيا فإن العمق الإفريقي له مضمون نضالي ضد الاستعمار والسيطرة، والظلم على ضوء هذه المعطيات ينبغي تطوير عمل الاتحاد الإفريقي، وتعميق العناصر الكفيلة بتحقيق المزيد من الترابط بين ما ندعوه بالجماعية الإفريقية، على طريق إنجاز الولايات المتحدة الإفريقية، أو أية صيغة ديمقراطية وحدودية. لا أحد ينكر أهمية الأبعاد الاقتصادية والدبلوماسية والسياسية في عمليات التأسيس لمستقبل الوحدة الإفريقية، ولكن ينبغي هنا أن يتم توضيح الحقائق المتصلة بهذه الأبعاد المهمة.

نقد الأبعاد الثلاثة:

يخيل للكثير بأن عناصر البنية الفوقية هي وحدها المتأخرة في عمليات بناء الاتحاد الإفريقي، ولكن الصحيح هو أن مجموعة من الأبعاد التحتية هي في حاجة إلى إعادة النظر على ضوء حقائق الواقع الملموس. إن بعد التكامل الاقتصادي على المستوى الإفريقي الكلي تشوبه نقائص إن لم نقل منغصات وعراقيل ومثبطات لا تعد ولا تحصى. في البداية لا بد من القول بأنه لا يوجد نظام اقتصادي إفريقي متجانس ومتلاحم وذو خصوصية؛ فالمعمول به هو نظام اقتصاد السوق الذي مصدره الغرب الراسمالي. هذا على مستوى الخيارات.

أما على مستوى الممارسة في الميدان العملي، فإنه لا توجد سوق إفريقية مشتركة تخضع لآليات شبيهة بتلك التي تعمل بها أوروبا الموحدة. أما التبادل القطري– القطري في جميع مجالات التجارة، والاقتصاد فهو ضعيف، وموسمي، ولا يتم وفق قواعد من سن الاتحاد الإفريقي. وهكذا يبقى التبادل التجاري القطري إفريقيا مع الدول الأوروبية، وأمريكا وغيرها من الدول في القارات الأخرى هو الغالب.

إن معدل التبادل التجاري بين الدول الإفريقية لا يمكن مقارنته مطلقا بمعدل التبادل التجاري مع نظيراتها في الشمال الأوروبي على سبيل المثال لا الحصر. ولهذا السبب بالذات يبقى التعاون في المجال الدبلوماسي مجرد شكل بمحتوى ضعيف. ويمكن القول بأن التشاور السياسي، أو حتى التكامل الشكلي السياسي غير ناجع إذا لم يكن متزامنا ومتوازنا مع التكامل الاقتصادي بكل جوانبه. ومن هنا فإن البنية المادية على المستوى الإفريقي في حاجة إلى المراجعة والتغيير. وفي تقديري فإن وسائل الإعلام الإفريقية شمالا وغربا، وشرقا وجنوبا ووسطا تعاني من التقصير الشديد في الكشف بالإحصائيات والأرقام عن حجم التبادل التجاري وكذلك التبادل الاقتصادي ككل بين دول الاتحاد الإفريقي.

وفي هذا السياق فإن جميع دول هذا الاتحاد مربوطة إلى الدول الكبرى في الضفة الشمالية على نحو خاص، وإلى بعض الدول الآسيوية مثل الصين التي شرعت في التأسيس المادي والمؤسساتي لنفوذها الأولي في القارة الإفريقية. بناء على ما تقدم، فإن القارة السمراء في حاجة إلى تشييد نظام اقتصادي خاص بها يسمح بإنشاء السوق الإفريقية المشتركة. وهكذا يستطيع المنشغل بالشأن الإفريقي أن يسجل سلسلة من الملاحظات المتعلقة بتباطؤ نمو عناصر البنية التحتية الإفريقية الموحدة مقارنة بتجارب أوروبا، وحتى بتجربة محور شنغاي الآسيوي.

أعتقد أن السبب المباشر يعود جوهريا، وفي الأصل إلى شبه انعدام بيات فوقية متجانسة وموحدة على مستوى القارة الإفريقية. وأقصد بهذه البنيات التعليم، والثقافة، والتكنولوجيا، والفن والإعلام، والتواصل الاجتماعي على أساس تنظيمات وروابط المجتمع المدني. لا أحد يمكن أن يجادل بأن البنية الفوقية تلعب دورا محوريا في الترابط بين الأقطار والشعوب.. إنه حيث يوجد تفاهم ثقافي وتقارب وجداني وتبادل حضاري، يكون التعاون المادي بكل أشكاله وتنويعاته.

ومن هنا فإن القارة الإفريقية تملك عمليا مخزونا من المرجعيات والأسس التي تؤهلها لأن تكون لها عصبيتها الحضارية المشتركة رغم التنوع الذي تكتنزه في العمق، والذي هو سمة من سمات الغنى والثروة الروحية. ولقد بينت الدراسات الاقتصادية الحديثة أن القواسم الثقافة والوجدانية المشتركة تعد من العوامل التي تكرس النجاح التجاري والإنتاج الاقتصادي بكل أنواعه وأنماطه.

نحو بنيات ثقافية إفريقية:

لا بد هنا من البدء بالإشارة إلى مجموعة من المنابر والمؤسسات القائمة والتي ينبغي أن تؤسس في المستقبل لكي تلعب دور الحاضنة لجميع الممارسات الثقافية، والفكرية، والتربوية في القارة الإفريقية.

هناك المجلس لتطوير البحث العلمي الاجتماي في إفريقيا "CODESRIA" وعن هذا المجلس تصدر عدة دوريات في شكل مجلات وكتب مكرسة للبحث في كافة شؤون وقضايا إفريقيا المادية والأدبية، أي ما يتعلق بالبنيات المادية "التحتية" والبنيات الفوقية. من بين هذه الدوريات "مجلة تنمية إفريقيا" و"مجلة أفريكا زماني"، المكرسة للتاريخ، و"مجلة السوسيولوجية الإفريقية" و"المجلة الإفريقية للشؤون الدولية". إلى جانب مجلات أخرى متخصصة في الهوية الثقافية والسياسة، والتعليم والتربية، والاتصال وهلم جرا. إن هذه المجلات تنطق غالبا بالانكليزية والفرنسية وليس باللغات الإفريقية أو بكل هذه اللغات مجتمعة.

ويلاحظ أيضا أن هذه المنابر على أهميتها وجديتها ومستواها الفكري والعلمي الجيد تتميز بأنها نخبوية في الأغلب حيث إنها لا تمس إلا الفئات القادرة على التعامل مع ما يدعى بـ"ما فوق اللغة" أي الفكر الأكاديمي المتخصص. وفي الواقع، فإن هذه المجلات وكذلك الكتب التي تطبعها "CODESRIA" تشكل حلقة أساسية في النهج الفكري في الساحة الإفريقية؛ ولكن ينبغي جعل هذه المجلات والمنشورات في متناول كل المثقفين في القارة الإفريقية حتى تعم الفائدة.

إلى جانب هذه المنابر هناك اتحاد كتاب إفريقيا الذي أنشئ بعد تفكك اتحاد كتاب آسيا وإفريقيا حين سقط الاتحاد السوفييتي في العشرية الأخيرة من القرن العشرين. وحسب معلوماتي وحواري مع نائب الأمين العام لاتحاد كتاب إفريقيا السيد محمد الأخضر عبد القادر السائحي فإن هذا التنظيم ما فتئ يعاني من نقص فادح في التمويل مما انعكس على أعماله ونشاطاته سلبيا؛ إذ أنه لم يقدر حتى الآن أن يعقد مؤتمره ليجدد نفسه، أو ليعلن عن حله. وهكذا، فإن مؤسسة الاتحاد الإفريقي مسؤولة عن مصير هذا الاتحاد الذي يعتبر فضاء مهما لرجال ونساء الفكر والآداب في القارة الإفريقية.

لا شك أن تأسيس اتحادات للمهندسين، وللعلماء وللفلاسفة ولجميع التخصصات العلمية، والمهنية أمر ضروري لكي تتجمع الكفاءات، والطاقات الإفريقية وتتحاور فيما بينها، وتعمل بالتالي معا من أجل تنمية إفريقية شاملة. إنه من المستعجل أن تتأسس مراكز البحث الإفريقية في جميع المجالات، إلى جانب "أفرقة" التعليم بكل أنواعه ومستوياته ومراحله. إن أفرقة المنظومة التربوية من الأولويات والأساسيات لضمان توحيد القواعد المنتجة للفكر والثقافة، والفن، والعلم في المستقبل.

وفضلا عن ذلك فإن إنشاء فضائية متخصصة في إفريقيا، وبكل اللغات المتداولة، والأساسية في القارة الإفريقية بالتزامن مع إنشاء صحيفة يومية متعددة الطبعات "أي طبعات باللغات الإفريقية الأساسية" وكذلك إذاعة إفريقية متعددة اللغات، من الشروط الأساسية والفعلية لخلق الجسور بين الشعوب الإفريقية ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، وسياسيا، وسياحيا، وفنيا، وهكذا دواليك.

إنه ينبغي تأسيس مركز إفريقي متخصص في ترجمة الإنتاج الثقافي الإفريقي، وضمان توزيعه وتوصيله إلى القاعدة الشعبية القارئة في العمق الإفريقي بكامله. إن تعزيز وإنشاء البنى الثقافية والتربوية والإعلامية والمؤسسات المختلفة من الأسس الأولية التي سوف تلعب الدور المحوري في ربط أجزاء إفريقيا ببعضها البعض، وتؤسس لشروط الحداثة فيها. فإفريقيا ظاهرة حضارية منذ فجر التاريخ، وينبغي لهذه الظاهرة أن تجد الرعاية لكي يتم بناء القطب الإفريقي المتكامل وبأبعاده البشرية، والحضارية، والثقافية، والاقتصادية، والعلمية في القرن الواحد والعشرين.


نقلاً عن موقع
       العرب إونلاين