روسيا تستعيد جذورها الإسلامية
الأحد, 12-يوليو-2009
جاك ليفيك - تعزيز التعددية القطبية، حوار بين «غرب مسيحي» و«شرق إسلامي»، وأهداف مهمة على الصعيد الاقتصادي: هكذا أضحت تنمية العلاقات مع الحكومات المسلمة من أولويات السياسة الخارجية لموسكو. فعلى الرغم من النزاع في الشيشان، أتت هذه الاستراتيجية نتائجها، بما فيه مع بعض الدول الحليفة تقليديا للولايات المتحدة، كما السعودية ومصر وتركيا.

كان فلاديمير بوتين، رغم حربه الشرسة في الشيشان، أول رئيس دولة غير مسلمة يلقي كلمة في قمة منظمة المؤتمر الإسلامي في 10 أكتوبر 2003. إنه نجاح سياسي ودبلوماسي. وقد أصبحت روسيا عضوا مراقبا في هذه المنظمة العالمية بدعم مزدوج مستغرب من كل من السعودية وإيران، بعد أن استندت في طلبها إلى كون أكثر من 15% مسلمين من سكان الاتحاد الروسي، وكون ثمان من جمهوريات الاتحاد الإحدى والعشرين، المتمتعة بالحكم الذاتي، تحمل أسماء شعوب مسلمة.
مذ ذاك، لا يتوانى بوتين ومسؤولون آخرون، بينهم وزير الخارجية سرغي لافروف، عن التأكيد بأن روسيا «هي، إلى حد ما، جزء من العالم الإسلامي». ففي مقابلة مع قناة الجزيرة في 16 أكتوبر 2003، حرص الرئيس السابق على التشديد بأن مسلمي روسيا، على عكس المسلمين القاطنين في أوروبا الغربية، هم سكان أصليون. حتى أنه أكد أن حضور الإسلام في الأراضي الروسية قد سبق حضور المسيحية.

قبل 11 سبتمبر وبعده
على هذا الأساس، تطالب موسكو بعلاقات سياسية مميزة مع مجمل العالمين العربي والإسلامي. وتعتبر بأن لها دورا تاريخيا تلعبه كوسيط بين العالمين: الغربي والإسلامي. هناك ثلاثة أسباب كبرى تفسر معنى هذه الادعاءات ومغزاها:
أولا، تسعى موسكو إلى الحد من الآثار الضارة لحرب الشيشان، في الداخل الروسي كما في باقي أنحاء العالم. والهدف هو تجنب، أو على الأقل، تخفيف الاستقطاب ما بين الأكثرية الإثنية الروسية ومسلمي روسيا، عبر تقوية شعور هؤلاء بالانتماء إلى الدولة. وقد شدد بوتين، في المقابلة نفسها، على «وجوب منع الخوف من الإسلام».
إنها مهمة صعبة مع كل الملاحقات الجارية، ليس في الشيشان فقط، بل لكل من يشتبه بميوله الإسلامية الأصولية. ولكنه أكد أنه: «يجب ألا ينسب الإرهاب إلى دين أو ثقافة أو إرث معين». ففي حين كان يدعو، قبل أحداث 11 سبتمبر2001 وبعدها، الثوار الشيشانيين بـ»الإرهابيين الإسلاميين الأصوليين»، يتحدث اليوم عن «إرهابيين مرتبطين بشبكات إجرامية عالمية لتهريب المخدرات والسلاح» متجنبا في الغالب استخدام المرجعية للإسلام.

ثانيا، يعود البحث عن علاقات مميزة مع العالمين العربي والإسلامي إلى الهدف الرسمي للسياسة الروسية الخارجية: «تقوية تعدد الأقطاب في العالم»، أي بمعنى آخر دعم وتطوير محاور مقاومة ضد هيمنة وتفرد الولايات المتحدة. والمقصود هو الاستفادة من الرفض العام لسياسة واشنطن الخارجية في عموم العالمين العربي والإسلامي.

اقتصاد وبحث عن الهوية
وقد سبق للاتحاد السوفيتي أن قدم نفسه كحليف طبيعي للدول العربية المناهضة للإمبريالية و«ذات التوجه الاشتراكي». وتبحث روسيا الآن عن علاقات سياسية قوية، ليس فقط مع إيران وسوريا، بل مع دول طالما كانت قريبة من الولايات المتحدة كالسعودية ومصر وتركيا.
للاعتبارات الاقتصادية أيضا مكانة كبيرة، خصوصا في قطاع الطاقة الذي شكل قاطرة العودة الروسية إلى المسرح الدولي. إذ يرى الكرملين في الطاقة النووية وتصدير المفاعلات مجالا مستقبليا مهما يؤهل روسيا للمنافسة الدولية في ميادين التقنيات العالية، ويمنع تحولها إلى مجرد مصدر للمواد الأولية للطاقة. كذلك الأمر بالنسبة إلى تصدير الأسلحة المتطورة، وهو أكثر قطاعات الاقتصاد السوفيتي قدرة على المنافسة، لكنه عانى من مشاكل جدية خلال التسعينات من القرن الماضي.
لا يريد الكرملين إرساء تحالفات شكلية. بل تسعى موسكو إلى إرساء علاقات سياسية قوية غير ملزمة وضاغطة، على غرار منظمة شنغهاي للتعاون (روسيا، الصين، كازاخستان، قرغيزستان، طاجيكستان، أوزبكستان)، لكن من دون أن تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع أميركا. ومما يدل على ذلك إبقاء إيران مجرد عضو مراقب في مؤتمر شنغهاي.
التفسير الثالث للسياسة الروسية حيال العالم الإسلامي هو البحث المضطرب عن هوية لما بعد الحقبة السوفيتية، ولا يتأتى الأمر فقط من انتهازية سياسية ظرفية. فقد كتب الأكاديمي سرغيي روغوف عام 2005 في المجلة الرسمية لوزارة الخارجية أن «العنصر الإسلامي في السياسة الروسية هو أولا مسألة هوية.. وأحد العوامل التي تمنع روسيا من أن تكون دولة قومية في المفهوم الأوروبي لهذا المصطلح.. إذ ترتبط علاقاتنا مع العالم الإسلامي مباشرة بأمننا».
تصادم الحضارات
يجب إدراك كل ما يعنيه ذلك. ففي سبتمبر 2003، أكد وزير الخارجية آنذاك إيغور إيفانوف، أن الحرب على العراق قد أدت إلى تزايد الهجمات الإرهابية على الأراضي الروسية، كما في باقي أنحاء العالم. هذا قبل مأساة بيسلان التي تعتبر إحدى النتائج المخيفة لهذه الحرب. وهذا ما يعلل موقف موسكو تحديدا. ولنتذكر التوافق بين فرنسا وألمانيا وروسيا على المعارضة في مجلس أمن منظمة الأمم المتحدة، مما حرم الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة الشرعية الدولية. وقد أملت موسكو، من خلال هذا الحلف، بروز محفز جديد نحو التعددية القطبية.
ويبدو أن المسؤولين الروس، وعلى رأسهم بوتين والرئيس ديميتري مدفيديف، قلقون فعلا من تحول مقولة «تصادم الحضارات» إلى نبوءة تحقق ذاتها. إذ يعتبر المسؤولون الروس أن هجمات أميركية على إيران، تأتي بعيد حربي أفغانستان والعراق، ودعم واشنطن غير المشروط وغير المسبوق للسياسات الإسرائيلية الأكثر تصلبا، سوف تشكل كارثة للأوضاع العالمية، وستؤدي إلى عدم استقرار هائل في هذه المنطقة الواسعة القريبة من روسيا، وفي عدة جمهوريات سوفيتية سابقة، وفي روسيا نفسها.

العلاقة مع إيران
هنا يكمن أحد مفاتيح فهم العلاقة الصعبة والمعقدة التي تقيمها روسيا مع إيران. فمن جهة، تعتبر طهران شريكا مهما من الناحية الجيوسياسية، إضافة إلى كونها ثالث زبون رئيسي لمصانع الأسلحة الروسية بعد الصين والهند؛ كما تشكل واجهة للتصدير المنضبط للمفاعلات النووية. وقد تعاون البلدان في تقديم الدعم الفعال للقوى المسلحة المناهضة لطالبان في أفغانستان، قبل اضطلاع الولايات المتحدة بهذا الدور. من جهة أخرى، تدين موسكو تصريحات الرئيس محمود أحمدي نجاد حول إسرائيل وتصفها بـ«المخزية»، وتمارس على طهران ضغوطا مهمة، لاسيما عبر التصويت إلى جانب واشنطن في مجلس الأمن على العقوبات الاقتصادية؛ لكنها تعمل في الوقت نفسه على تحديد هذه العقوبات وحصرها.
هكذا يريد الكرملين الظهور أمام الولايات المتحدة وباقي الدول الغربية بمظهر الحريص على نظام منع انتشار الأسلحة النووية، رغم أنه بذلك يجازف بإفساد علاقاته مع إيران. ويريد أيضا إقناع الأخيرة بإيجاد تسوية مرضية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ويأمل في إبعاد شبح العمل العسكري لأطول مدة ممكنة. فروسيا لا تستسيغ فكرة وجود دولة مجهزة بسلاح نووي قريبة من حدودها. لكن من المؤكد أيضا بأنها تفضل العيش مع إيران نووية، على أن تواجه ما سيخلفه هجوم أميركي من زعزعة للاستقرار.

مخاوف مشتركة
ساهمت هذه المواقف، المتناقضة ظاهريا، في الدفع إلى تقارب سياسي مع بلدان حليفة تقليديا لواشنطن، مثل تركيا والسعودية اللتين تخشيان حيازة طهران للسلاح النووي، مع ذلك تعارضان الخيار العسكري لخوفهما من التداعيات على الداخل والجوار.
فقد شهدت تركيا، نتيجة لحرب العراق، ظهور كردستان شبه مستقلة على حدودها. هذه المشكلة، لوحدها، ستتفاقم بشكل خطير في حال تزعزع الاستقرار في إيران. وبالتأكيد، تأمل روسيا الاستفادة من علاقاتها مع أنقرة، في حين يبلغ التبادل الاقتصادي بينهما وكذلك التعاون السياسي ذروة لم يشهدها منذ أكثر من 200 عام.
ينطبق الحال نفسه، لكن بمستوى أقل، على علاقات روسيا مع الرياض التي كان بوتين أول رئيس روسي أو سوفيتي يزورها، حيث اقترح على المسؤولين السعوديين عقودا لبناء مفاعلات نووية ومبيعات أسلحة؛ كذلك طالب بزيادة أعداد المسلمين الروس الذين يسمح لهم بالحج إلى مكة.

*عن "لوموند ديبلوماتيك".