في إشكالية الديموقراطية الرقمية
السبت, 11-يوليو-2009
يحيي اليحياوي - ترتبط الديموقراطية عموما‏،‏ فيما هو قائم وسائد وشائع‏،‏ بطبيعة النظام السياسي‏،‏ إذ عن طريقها يتم التمييز بين نظم سياسية ليبيرالية وأخري سلطوية‏،‏ بين نظم تعتمد أسلوب التمثيلية المباشرة‏،‏ وأخري لا تلجأ إلي ذات الأسلوب إلا جزئيا‏،‏ أو لا تتعامل به في الجملة والتفصيل‏.‏

وبقدر ما تثار إشكالية الديموقراطية بارتباط وطبيعة النظام السياسي‏،‏ فإنها تثار أيضا في شق ليس بالضرورة من طينة سياسية خالصة‏،‏ عندما تعتبر السوسيولوجيا مثلا أن الديموقراطية ليست حتما‏'‏ حالة سياسية‏'،‏ بل هي بالأساس حالة اجتماعية‏،‏ تتجاذبها مستويات أخري محددة‏(‏ ثقافية ونفسية وتاريخية وغيرها‏)،‏ لا مكانة أخري في خضمها للبعد السياسي‏،‏ إلا في كونه البعد الطاغي والمهيمن‏..‏ لا المحدد نهاية المطاف‏.‏

ولئن كان الطرح الصائب‏،‏ لفهم إشكالية الديموقراطية‏،‏ يتمثل‏(‏ ويجب أن يتمثل فيما يروج من أدبيات‏)‏ في استحضار أكثر من مستوي‏،‏ فإن المثير حقا أن يتم ربط الديموقراطية بتقنية ما‏،‏ أو يعمد إلي تذييلها بمستجد تكنولوجي‏،‏ من قبيل المعلوماتية أو الاتصالات‏،‏ أو السمعي‏-‏ البصري‏،‏ أو الشبكة‏،‏ أو ما سواها‏.‏

لا يبدو أمر الربط هذا‏ (‏علي الأقل بالنسبة للمدافعين عن هذا الطرح‏)،‏ لا يبدو أنه مجرد شغف من لدنهم بثورة تكنولوجية كبري‏،‏ اتسعت وبدأت تسائل مستويات‏'‏ عليا‏' (كالسياسة والثقافة والفضاء العام‏،‏ وغيرها‏).‏ ولا يبدو الأمر بالنسبة لهؤلاء‏،‏ أن لذات الربط خلفية إيديولوجية‏،‏ من قبيل ما أسميناه في مناسبات عدة بـ‏'‏ إيديولوجيا الاتصال‏'(1)،‏ بل ويبدو لهم ذلك علي اعتبار أن التكنولوجيا‏،‏ كل التكنولوجيات المتاحة‏،‏ إنما هي أيضا وسيلة من الوسائل الفعالة في تشكيل السلوك الفردي والجماعي‏،‏ وفي صناعة تمثل الأفراد والجماعات لذواتهم‏،‏ للمجتمع من حولهم وللعالم أيضا‏.‏

بالتالي‏،‏ فهم لا يرون فيها فقط أداة اتصال وتواصل‏،‏ بل وسيلة حقيقية‏،‏ يضعون علي محكها أطروحة الحق في التعبير‏،‏ وحرية الاتصال‏،‏ والحق في الإعلام والخبر‏،‏ وأداة من أدوات تكريس‏،‏ إذا لم تكن الديموقراطية المكتملة‏،‏ فعلي الأقل المواطنة‏،‏ باعتبارها مكمن واجبات الأفراد‏،‏ والضامن الأسمي لحقوقهم‏.‏

وعلي هذا الأساس‏،‏ فالديموقراطية الرقمية المقصودة في هذا الباب‏،‏ إنما هي العملية التي يتم من خلالها توظيف الأدوات التكنولوجية‏ (من تلفزيون‏،‏ ومتعدد الأقطاب‏،‏ وشبكات الكترونية‏،‏ وفي مقدمتها الإنترنت‏)‏ إما بغرض تجديد مضمون الممارسة الديموقراطية‏،‏ أو بجهة توسيع فضائها ومجال فعلها‏،‏ أو علي خلفية من ضرورة إعادة تشكيل قواعد اللعبة القائمة عليها‏.‏

‏1-‏ في الديموقراطية الرقمية‏:‏
تتحدد الديموقراطية الرقمية‏(2)،‏ أو الديموقراطية الالكترونية‏،‏ أو ديموقراطية الشبكة‏،‏ أو الديموقراطية الافتراضية‏،‏ أو ما سواها من تعابير وعناوين جامعة‏،‏ تتحدد بالقياس إلي الرافعة المادية‏،‏ التي تؤثث الفضاء العام‏،‏ الذي تعتمل فيه الممارسة الديموقراطية‏،‏ والممارسة السياسية بوجه عام‏.‏ البنية التحتية هنا هي المقياس والمعيار‏،‏ الذي بالبناء عليه يتشكل ذات الفضاء‏،‏ سواء أكانت ذات البنية وسيلة مكتوبة أو مرئية أو مسموعة‏،‏ أو مزاوجة لكل هذه المستويات في حامل واحد‏،‏ كما الشأن مع التقنيات الرقمية‏،‏ ومع شبكة الإنترنت علي وجه التحديد‏(3).‏

ولما كانت كذلك‏،‏ فإنها تحيل بالبداية وبالمحصلة‏،‏ علي تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال‏،‏ علي مستوي الأعتدة والأجهزة والأدوات‏،‏ باعتبارها البنية الحاملة‏،‏ وعلي البيانات والمعطيات والمعلومات‏،‏ باعتبارها المادة الخام التي تقتني ذات البنية‏،‏ بغية الرواج والشيوع‏،‏ والانتقال من الجهة المنتجة والمخزنة والباثة‏،‏ إلي الجهة المتلقية‏،‏ المعيدة للإنتاج أو المستهلكة له بهذا الشكل أو ذاك‏.‏

ولما كان من أحد أسس الديموقراطية توافر المعلومة‏،‏ وسريانها دون إكراهات أو عوائق‏،‏ فإن توافر البني الأساسية لتوزيعها‏،‏ بات أمرا حيويا لتوسيع الفعل السياسي‏،‏ وإشراك الجماهير في مسلسلات اتخاذ القرار العمومي‏،‏ سيما بظل تراجع مد الديموقراطية التمثيلية التي لطالما أسست للخيط الناظم لذلك‏.‏

إن الشفافية والتعاون والتفاعلية هي المظاهر الكبري التي يتغيؤها أسلوب الديموقراطية الرقمية‏،‏ والتحولات التي تنشدها بغرض إخراج الديموقراطية التمثيلية من أزمتها‏،‏ المتمثلة في احتكار الفاعلين العموميين لمنظومة المعلومة‏.‏ بالتالي‏،‏ فتوافر المعلومة إنما بات قيمة ديموقراطية في حد ذاتها‏،‏ من شأنها زعزعة مفهوم السلطة التمثلية التقليدية‏،‏ دونما حاجة إلي فعل مؤسساتي منظم‏.‏ والمنتخبون لم يعودوا مطالبين بتملك هذه الأدوات‏،‏ ولكن أيضا ضبط استعمالاتها واستخداماتها‏(4).‏

من هنا‏،‏ فإن المدافعين عن الأنماط التقليدية لتنقل المعلومات‏،‏ والمرتكزة علي العمودية والتراتبية والمراقبة‏،‏ إنما أضحوا في محك نمط جديد في الفعل السياسي‏،‏ يتجاوز علي مبدأي الأغلبية والتوافق‏،‏ ويتيح لفاعلين جدد‏'‏ علي الهامش‏'،‏ التأثير المباشر في ذات الفعل‏.‏ بالآن ذاته‏،‏ فإن بروز وانتشار الشبكات الرقمية‏،‏ خلص المعلومة من احتكار وسائل الإعلام التقليدية‏،‏ ومن هيمنة المجموعات الإعلامية‏،‏ التي كانت تسيطر علي السوق عتادا ومضامينا‏،‏ أجهزة ومحتويات‏(5).‏

إلي جانب الشفافية‏،‏ فإن ذات الشبكات قد أغنت الفضاء العام‏،‏ وأسهمت بالانتقال من المجتمع من مجتمع للتواصل‏،‏ من خلال وسائل إعلام ذات توجه عمودي‏،‏ إلي مجتمع للتواصل تفاعلي‏،‏ أفقي‏،‏ تشاركي‏،‏ مكسرة بذلك ثنائية الإخبار والتواصل‏،‏ وأيضا ثنائية الإعلام والشبكات‏،‏ لدرجة تحول معها متلقي المعلومة ومستهلكها‏،‏ إلي منتج للمضامين‏،‏ بفضل التقنيات والتطبيقات التي حملتها التقنيات الرقمية‏،‏ وأجيال الإنترنيت المختلفة‏،‏ سيما جيل الويب الثاني‏.‏

إن الخروج من اختزالية النمط التمثيلي‏،‏ الذي لم يكن المواطن بموجبه‏،‏ إلا مجرد مصوت أو مراقب للسياسة عن بعد‏،‏ هذا النمط بات في طريقه للتجاوز‏،‏ ليس فقط بفعل التحولات التي طاولت الفضاء العام‏،‏ ولكن أيضا لأن جدلية التكنولوجيا والمجتمع والإبداع هي التي باتت تؤثث ذات الفضاء‏،‏ وتحول الفعل السياسي من طبيعته العمودية‏،‏ الأبوية والجافة‏،‏ إلي فعل سياسي يحمل قيما جديدة مثل‏:‏ التفاعلية‏،‏ والتشاركية‏،‏ والأفقية في التواصل‏.‏

بالمقابل‏،‏ فإن الاعتقاد الرائج منذ مدة إنما أن الديموقراطيات القائمة‏(‏ الليبيرالية منها كما الشعبية‏،‏ التمثيلية منها‏،‏ كما المفروضة‏'‏ قسرا‏'‏ من فوق‏)‏ قد أصبحت أبعد ما تكون عن استيعاب قيم التشاركية‏،‏ أو المساهمة‏،‏ أو استقطاب الجماهير‏.‏ وهذه الأخيرة لم تعد ترضي بأن تبقي مجرد بطاقة انتخابية‏،‏ يدلي بها بين الفينة والأخري لفائدة هذا الحزب أو ذاك‏،‏ بزمن محصور‏،‏ سرعان ما ينقضي لتنقطع فيما بينهما‏،‏ طيلة ما بين الفينتين‏،‏ علاقة المساءلة أو المحاسبة أو المتابعة أو ما سوي ذلك‏(6).‏

الديموقراطية الرقمية هنا‏،‏ إنما تقدم ليس فقط في كونها نقلا جزئيا وتدريجيا لفضاء الانتخاب من الصندوق إلي الشبكة‏،‏ بل وأيضا في قدرتها علي ضمان السبل للمواطنين في بلوغ ممثليهم ومساءلتهم‏،‏ دونما حاجة تذكر إلي البحث عنهم بين أروقة البرلمانات‏،‏ أو في متاهات المكاتب وقاعات الاجتماعات وما سواها‏.‏

ثم إن الاعتقاد بذات الديموقراطية إنما هو كذلك من الاعتقاد‏،‏ وإن في نهاية المطاف‏،‏ بضرورة نقل العملية جملة وتفصيلا إلي الشبكات الألكترونية‏..‏ يقول المواطن عبرها ومن خلالها قوله‏،‏ ويبدي عبرها رأيه‏،‏ دونما حاجة تذكر إلي تواجده بهذا المكان أو ذاك‏،‏ لقول الرأي إياه‏،‏ أو‏'‏ معاقبة‏'‏ الجهة الثاوية خلفه‏.‏

إن انتشار المدونات ومواقع الإنترنت‏،‏ الشخصي منها كما المؤسساتي‏،‏ إلي جانب اليوتوب والدايلي موشيون والماي سبايس وغيرها‏،‏ لم تعد أدوات اتصال وتواصل فحسب‏،‏ بل باتت وسائل ضغط وتأثير‏،‏ يوظفها أصحابها كرافد من روافد الفعل السياسي المباشر‏،‏ وكرافعة جديدة لتجديد مضمون الديموقراطية‏،‏ وتوسيع الإناء الجماهيري المرتكزة عليه في الشكل والجوهر‏.‏

‏2-‏ الديموقراطية الرقمية والفضاء العام الافتراضي‏:‏
عبارة الفضاء العام عبارة قديمة نسبيا‏،‏ تعود لعصر الأنوار‏،‏ حين تحدث عنها إيمانويل وكانط‏،‏ لتخضع‏،‏ طيلة القرن العشرين‏،‏ لمناقشات كبري وتنظيرات واسعة‏،‏ من لدن حانا أرندت‏،‏ كما من لدن هابرماس‏،‏ بارتباط وإشكالية الديموقراطية‏،‏ ليتحدث عنها‏،‏ فيما بعد‏،‏ عالم الاجتماع الفرنسي دومينيك فولتون‏،‏ لكن من زاوية تأثير وسائل الإعلام علي ذات الفضاء‏(7).‏

إن الطرح الرائج‏،‏ بامتداد لأطروحة الفضاء العام‏'‏ التقليدية‏'،‏ إنما تقديم الشبكات الرقمية‏،‏ سيما جيل الإنترنيت الثاني‏،‏ باعتبارها فضاء وليس وسيلة إعلامية‏،‏ كما شأن باقي الوسائل التقليدية‏.‏ إنه فضاء يشتغل بأدواته الخاصة وبآلياته‏،‏ حيث يلتقي منطق المعلومة الصرف‏،‏ مع المنطق الاجتماعي الواسع‏،‏ أي يلتقي المنطق العمودي‏(‏ من الكاتب للقارئ‏،‏ دونما رجع للصدي‏)،‏ مع منطق العلاقة التفاعلية بين الأفراد داخل الشبكة‏،‏ علي اعتبار انفتاحها‏،‏ ويسر النفاذ إليها‏،‏ وتقاسم مضامينها ومعطياتها‏،‏ في زمن آني وسريع وواسع‏.‏

الشبكة هنا باتت كما لو أنها الفضاء العمومي الرقمي الجديد حقا‏(8)،‏ باعتباره تعبيرا عن تصاعد مد الديموقراطية الرقمية‏،‏ وتجاوزا للفضاء المادي الذي أطر‏'‏ السوق السياسي‏'‏ طيلة الأزمنة السابقة علي انفجار الشبكات‏.‏ صحيح أننا بإزاء توسع هائل للمجال العمومي‏،‏ لم تعرف البشرية مثيلا له‏،‏ منذ اكتشاف المطبعة‏،‏ لكنه بالآن ذاته مجال يتسع أفقه لباقي المجالات‏،‏ سيما للفئات التي كانت عرضة للإقصاء أو للتهميش‏.‏

نحن بالتالي‏،‏ بإزاء اجتماع افتراضي‏'‏ حقيقي‏'،‏ بالقياس إلي الاجتماع الواقعي الذي كنا نعيشه من ذي قبل‏،‏ سيما مع الانتشار الهائل للمدونات‏،‏ وكثافة الروابط‏،‏ وإشاعة المعلومة بالويب علي نطاق واسع‏.‏

إن ثنائية الفضاء الخاص والعام في طريقها للتجاوز‏،‏ بعدما تماهت مستوياتها‏،‏ وتم تمييع الحدود الفاصلة فيما بين مكوناتها‏،‏ فبات الويب بعدا جديدا من أبعاد الفضاء العام كما الخاص‏،‏ وأضحي الأفراد كما الجماعات كما المؤسسات‏،‏ مطالبين بإعادة تموقعهم بهما‏،‏ وهو ما يستوجب من الفاعلين تكوينا عاليا ومعرفيا عاليا‏،‏ للإفادة من ذلك‏.‏
يبدو إذن‏،‏ علي الأقل قياسا إلي هذه‏'‏ الفرضيات‏'،‏ أنه إذا كانت الديموقراطية الليبيرالية أو الشعبية أو غيرها‏،‏ هي واقع الحال القائم‏،‏ فإن الديموقراطية الرقمية تقدم وكأنها مآلها المستقبلي حتما‏،‏ إذ استنفاذ مقدرات الأولي هو من تقوية الثانية‏،‏ وتقوض الأولي تدريجيا هو‏،‏ في المحصلة‏،‏ من تجذر الثانية‏،‏ وهكذا‏.‏
والحاصل‏،‏ حقيقة الأمر‏،‏ أن المدافعين عن الديموقراطية الرقمية‏،‏ المؤمنين بطرحها‏،‏ لا تتراءي لهم‏،‏ في المدي القصير والمتوسط علي الأقل‏،‏ كأداة دمقرطة للنظم السياسية‏(‏ والاجتماعية والثقافية‏)‏ القائمة‏،‏ بل وأيضا‏(‏ وإن في المدي المنظور‏)'‏ المحطة النهائية‏'‏ للإشكالية الديموقراطية برمتها‏(9).‏

ودفوعاتهم في ذلك إنما الاعتقاد بأن الديموقراطية الرقمية‏،‏ حيث التباري افتراضي والمبارزة‏'‏ متكافئة‏'،‏ ستستنبت من جديد الديموقراطية‏'‏ الحقيقية‏،‏ المبنية علي اتخاذ القرار الجماعي في‏'‏ فضاء أثيني‏،‏ لا حاجة بداخله لانتداب ممثلين‏،‏ أو تعيين مفوضين‏،‏ أو التنازل عن السيادة الشعبية لفائدة أفراد‏،‏ كائنة ما تكن درجة نزاهتهم ومستوي التزامهم‏.‏

قد يسلم المرء بأن الشبكات الرقمية هي إلي حد ما مكمن‏'‏ ديموقراطية مباشرة‏'،‏ تقترب من الوجهة النظرية علي الأقل من النموذج الأثيني‏،‏ إذ الشبكات تلك لا تعير كبير اعتبار لطبيعة‏'‏ المنخرط‏'‏ فيها‏،‏ أو لجنسه أو لبشرته أو لدينه أو لانتمائه السياسي حتي‏،‏ بقدر ما تتعامل معه باعتباره مواطنا له حقوق وواجبات ومطالب‏..‏ وهو‏،‏ فضلا عن ذلك‏،‏ أداة إدارة الشأن العام ومكمنه في الآن ذاته‏.‏
قد يسلم المرء بذلك عموما‏،‏ لكنه لا يستطيع أن يسلم به إلا في حالة القياس مع باقي الشبكات‏،‏ سيما التلفزيونية منها‏،‏ التي استقطبت لعقود بعيدة‏،‏ الفاعلين السياسيين‏.‏ فإذا كانت شبكة الإنترنيت مثلا نموذجا لذات الاعتقاد‏،‏ بحكم انفتاحها‏(‏ ولو النسبي‏)‏ وتوفيرها لمنابر للحوار والتواصل والنقاش‏،‏ فإن التلفزة‏(‏ وإن في جماهيريتها الواسعة‏)‏ تبقي أحادية الخطاب‏،‏ فوقية الرسالة‏،‏ لا إمكانية لديها‏(‏ في ظل واقعها الحالي‏)‏ علي تمكين التفاعلية‏،‏ والتخاطب المتبادل بين السياسي‏'‏ المتوفر علي الحل‏'،‏ والمواطن المطالب بالمساهمة في صياغته‏،‏ وتكريسه‏،‏ وتنفيذه‏،‏ مادام هو هدفه نهاية المطاف‏(10).‏

‏3-‏ محدودية طرح الديموقراطية الرقمية‏:‏
بصرف النظر عن مصداقية هذا الطرح أو ذاك‏(‏ ومثالية البعض الآخر‏)،‏ فإن التعامل مع إشكالية الديموقراطية الرقمية يطرح مجموعة إشكالات‏،‏ لا نستطيع تثبيتها هنا كاملة‏،‏ حتي وإن اختزلناها في الثلاثة الآتية منها‏:‏

-‏ الأولي وتكمن في القول بأن الشبكات البانية لهذه الديموقراطية‏،‏ هي‏'‏ سيف ذو حدين‏'‏ كما يقال‏.‏ فبقدر ما هي أداة تواصل واتصال وتحاور‏(‏ ورافعة حرية تعبير‏،‏ يقول البعض‏)،‏ فهي أيضا وبالآن ذاته‏،‏ أداة مراقبة ورقابة وتجسس علي مراسلات الأفراد وتراسلهم‏.‏ إذ بقدر ما قد يجر تصريح لمواطن بالتلفزة المحاصرة والمتابعة‏،‏ فقد تجر عليه رسالة بالبريد الألكتروني ويلات لا بداية لها ولا نهاية‏،‏ كما هو الشأن بداية هذا القرن‏(11).‏

-‏ الثانية وتتمثل في الإعاقة الموضوعية التي من شأن هذه الشبكات أن تقيمها أمام الأفراد والجماعات‏(‏ بالدول الديموقراطية‏،‏ كما بدول العالم الثالث‏)‏ والتي يغدو البلوغ‏(‏ بلوغ الشبكات‏)‏ أقواها وأهمها‏.‏

التلميح هنا لا يطاول إمكانات وسبل التجهيز لتكريس ذات البلوغ‏،‏ ولكن أيضا وأساسا العوائق اللغوية والتكوينية والثقافية وغيرها‏،‏ والتي من شأنها أن تحول دون ذلك‏،‏ حتي بتوفر الأداة وإزاحة عوائق البلوغ‏...‏والقياس في ذلك أن‏'‏ توفير‏'‏ الديموقراطية الرقمية‏،‏ لا يعني تلقائيا‏،‏ القدرة علي الاستفادة منها أو علي تجذيرها‏(12).‏

-‏ أما الثالثة فتكمن‏،‏ في حالة تحقق الديموقراطية الرقمية‏(‏ كما يتطلع إلي ذلك المتبنون لذات الطرح‏)‏ ويبرز في قابلية ذات الديموقراطية علي الانتكاس الموضوعي‏،‏ إذ فتح المجال‏(‏ يقول هؤلاء‏)‏ للجماهير لحسم أمر ما‏،‏ بواسطة الشبكة قد يكون من شأنه تهديد الديموقراطية‏،‏ سيما لو كان مبنيا علي العواطف المتأججة والمتسرعة‏،‏ لا علي التفكير المتزن والخابر بحال الأمور ومآلها‏..‏ وهكذا‏(13).‏

بالمقابل‏،‏ وعلي الرغم من الطبيعة الليبرالية‏،‏ التي تدعيها النظم الديموقراطية‏،‏ فإنه لا تزال هناك ممانعة قوية من لدنه لتوسيع مجال الفضاء العام‏:‏ حالة محاكمة نابسطير لمنع تحميل الموسيقي من خلال إم‏.‏ب‏.3،‏ ورفض السلطات تحرير البلوغ للبرامج المعلوماتية التي صممت من الميزانيات العامة‏،‏ وتزايد نفوذ اللوبيات لمنع تقنين البرمجيات‏،‏ ومحاكمات متعددة حول الملكية الفكرية‏...‏الخ‏.‏

من ناحية ثالثة‏،‏ فثمة مخاطر كبري من بين ظهراني الشبكة‏،‏ سيما عندما تتكون مجموعات عرقية أو طائفية أو غيرها‏،‏ منغلفة‏،‏ ولا تتواصل إلا فيما بين بعضها بعضا‏،‏ وهو ما يتناقض مع فلسفة الشبكة‏،‏ التي غايتها إفراز رأي عام مرتبط‏،‏ لا يأبه كثيرا بتمثلات السياسة السائدة‏،‏ أو بالتعاقدات الجانبية‏،‏ ناهيك عن الاصطفافات الإثنية أو العرقية أو اللغوية أو ما سواها‏.‏

مراجع‏:‏
‏(1)‏ يحيي اليحياوي‏،'‏ كونية الاتصال‏،‏ عولمة الثقافة‏'،‏ منشورات عكاظ‏،‏ الرباط‏،‏ ديسمبر‏2004.‏
‏(2)‏ تتحدد الثورة أو الطفرة الرقمية‏،‏ بالاحتكام إلي تقنية الرقمية‏(‏ أو الرقمنة‏)‏ التي من شأنها تحويل كل المعلومات والبيانات والمعطيات‏،‏ المكتوب منها كما المرئي كما المسموع‏،‏ إلي سلسلة من البتات المتتالية‏،‏ المكونة حصرا من الأصفار والآحاد‏،‏ تعمل علي خفض ضجيج الشبكات التشابهية التقليدية‏،‏ وترفع من قدرة الشبكات علي تحميل وإرسال أحجام ضخمة من ذات المعلومات‏.‏ راجع لتحديد تقني أوسع‏:‏
‏-Thry.G،Lesautoroutesdel'information،LaDocumentationFranaise،Paris،.1994‏ ‏(3)‏ هناك طروحات عديدة تتساءل عمن ستكون له الغلبة في المستقبل‏،‏ هل الحاسوب أم التلفزة‏.‏ وخلفية ذات التساؤل إنما تتأتي من واقع تمرير الحاسوب المرتبط بالشبكات‏،‏ لما تمرره التلفزة‏،‏ وبتفاعلية شبيهة بأكثر من جانب‏.‏
‏(4)‏ عن أطروحة الاستخدام والاستعمال‏،‏ راجع‏:‏ ‏-Del'accsl'usage:lmentsdedbat،CommunicationauSymposiuminternationalLelibreaccs:
dfisetenjeux،tenuenmargeduSommetmondialsurlasocitdel'information،
CentreNationaldeDocumentation،Rabat،11-12Dcembre،.2003‏
‏(5)‏ هناك العديد من شركات تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال التي غدت بحق شركات متعددة الجنسيات‏،‏ لعل أشهرها علي الإطلاق شركات مايكروسوفت‏،‏ وهاوليت باكارد وآي‏.‏بي‏.‏إم وموطورولا وما سواها‏،‏ لدرجة أن رقم معاملات بعض منها‏،‏ يتجاوز بكثير‏،‏ مجموع النواتج الداخلية الخام للعديد من دول العالم‏،‏ بما فيها الدول المتقدمة‏.‏
‏(6)‏ يقول جون فيرنون بافليك‏،‏ مدير مركز الإعلام الجديد بجامعة كولومبيا‏:'‏ إن النفاذ للمعلومات الشاملة‏،‏ والتفاعلية والمضامين المتعددة الأقطاب‏،‏ هي مصدر التحولات الجوهرية الكبري التي عرفها الإعلام بالقرن التاسع عشر‏'.‏ راجع في ذلك‏،‏ كتابه‏:‏
‏-PavlikJ.V،Journalismandnewmedia،ColumbiaUniversityPress،New-York،.2001‏
‏(7)‏ راجع كتابه المرجعي‏:‏ ‏-Wolton.DetAlii،L'espacepublic،CNRS،Paris،.2008‏
‏(8)‏ انظر بخصوص أطروحة الفضاء الرقمي الجديد‏:‏ ‏-NicolasVanbremeersch،Deladmocratienumrique،Seuil/PressesdeSciencePo،Paris،.2009‏ ‏(9)‏ للتفصيل في هذه النقطة‏،‏ راجع‏:PascalJosphe،Lasocitimmdiate،CalmannLevy،Paris،.2009‏
‏(10)‏ راجع بشأن هذه الجزئية‏:‏
‏-Bourdieu،Surlatlvision،Ed.Raisonsd'Agir،Paris.‏
‏(11)‏ راجع للتفصيل في ذلك‏:‏ يحيي اليحياوي‏،'‏ الإرهاب وأممية الاحتجاج علي العولمة‏'،‏ منشورات عكاظ‏،‏ الرباط‏،‏ يوليو‏2002.‏
‏(12)‏ يقول هوبير بوف ميري‏:'‏ المواطن المسؤول هو المواطن الذي بمقدوره الحصول علي المعلومة‏'.‏
‏(13)‏ راجع بهذه النقطة‏:‏ ‏AlanSokaletJeanBricmont،Imposturesintellectuelles،Ed.OdileJacob،Paris،.1997‏