صراعات القوة والمصالح في المحيط الهندي .. مقاربات مختلفة
الثلاثاء, 07-يوليو-2009
كارن أبو الخير - قد لا يبدو للوهلة الأولي أن ثمة ما يجمع بين مشاكل عدم الاستقرار في جنوب شرق آسيا، والتورط الأمريكي والأوروبي في أفغانستان، وهشاشة الدولة في اليمن وانهيارها في الصومال. فكل هذه الأزمات منفصلة من حيث الأسباب والتطور التاريخي، ولكنها مرتبطة جغرافيا من حيث إطلالها علي شواطئ المحيط الهندي، واستراتيجيا من حيث صلتها الوثيقة بقضايا أمن الطاقة والعولمة الاقتصادية، وتنافس القوي في عالم يتجه نحو التعددية القطبية.

تتعدد المداخل النظرية لدراسة هذه الأزمات. فهناك من يعلي من أثر الجغرافيا السياسية علي تحديد قوة أو ضعف الدولة، ومصير علاقات القوة فيما بين الدول وبعضها بعضا(1). وهناك من ينظر إلي الأبعاد الاقتصادية لحركة العولمة، وما يتعلق بها من انهيار للحواجز والحدود، وحرية حركة الأموال، والعمالة، وزيادة معدلات التبادل التجاري، بوصفها المحرك الرئيسي للعلاقات الدولية في هذا القرن(2). ويركز مدخل الجغرافيا السياسية علي قضايا الأمن وعدم الاستقرار، وتنافس القوي، بينما ترتبط دراسة حركة العولمة بعلاقات التعاون والتكامل الاقتصادي، وبالمصالح المشتركة التي تضع قيودا علي تصاعد التنافس إلي درجة الصراع. وسوف نستعرض هنا نماذج من المقاربات التي تتناول العلاقة بين المدخلين، سواء من الناحية النظرية، أو من خلال التفاعلات علي أرض الواقع.

الدولة الفاشلة بين العوامل الداخلية والتأثير الخارجي
تجتذب مسألة الدول الهشة أو الفاشلة اهتمام العالم منذ تسعينيات القرن الماضي، حيث انتشرت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي النزاعات العرقية والإثنية التي هددت أو قوضت تماسك الدول في أنحاء مختلفة في العالم. وقد شكلت الحكومة الأمريكية في تلك الفترة فريق عمل لدراسة هذه الظاهرة، من أجل الوصول إلي 'نماذج' تسمح بالتنبؤ بانفجار مثل هذه الأزمات، قبل سنتين علي الأقل من وقوعها.

وقد أوضحت دراسة منشورة حديثا(3) عن النتائج التي توصل إليها فريق العمل المشار إليه، اختلاف عدد الدول التي يمكن أن يطلق عليها وصف الفاشلة، وفقا لاختلاف المعايير المستخدمة. فوفق التعريف الضيق للدول الفاشلة بأنها هي التي انهارت فيها بالكامل السلطة المركزية، مما ترتب عليه فوضي شاملة، فإن الصومال هي الدولة الوحيدة التي ينطبق عليها هذا الوصف. ولكن إذا اعتمدنا معيارا أوسع، وهو فقدان الإدارة المركزية للدولة سلطتها علي أجزاء غير قليلة من أراضي البلاد، فإن وصف الدولة الفاشلة ينطبق علي أفغانستان، والعراق، وباكستان، وميانمار، وسيرلانكا أيضا. في كل الحالات، تلعب العوامل الداخلية الدور الأساسي في عملية التفكك. ويعتبر ظهور الطائفية، أي التنافس بين مجموعات تعتمد مرجعيات مختلفة للهوية، عرقية أو إثنية أو غيرها، المؤشر الأهم علي إمكانية انهيار الدولة. ويرتبط ذلك بظهور أزمة في الولاء، حيث تري الفئات المستبعدة أو المهمشة في إسقاط الدولة طريقا للحصول علي حقوقهم.

تشير الدراسة أيضا إلي أن تفكك الدولة أو انهيارها يسبقه دائما فترات من الأزمات السياسية الأقل حدة، والتي لا تتميز بالخطورة الشديدة، ولكنها تتصاعد، عبر أبعاد متعددة، لتسبب عدم الاستقرار السياسي الذي يقود بدوره إلي تقويض الدولة. وهو ما يفسر اهتمام المحللين بالمشاكل السياسية في دول جنوب شرق آسيا، مثل إندونيسيا، وتايلاند، بوصفها قد تشكل مقدمات لانهيار هذه الدول.

وقد انتبه محللون آخرون إلي أثر التطورات علي مستوي النظام العالمي ككل علي هذه الخلافات الداخلية. فمنهم من يري أن لها تأثيرا سلبيا علي تفاقم هذه الأزمات، وتصعيدها إلي درجة أكثر خطورة، ومنهم من يري أن الانخراط في عملية العولمة له آثار إيجابية. وفي هذا الإطار، يشير نيل فيرجسون إلي أنه قد ثبت تاريخيا علاقة الأزمات الاقتصادية العالمية بتفجير وتصعيد الأزمات الداخلية المرتبطة بالتنافس الطائفي بأنواعه(4). كما أن للتغيرات في ميزان القوي الدولي، المرتبط بمراحل 'الأفول الامبراطوري'، تأثيرا مماثلا. ولذلك، فهو يتنبأ بأن العالم مقبل علي مرحلة من الاضطرابات الشديدة، نتيجة للتداعيات الواسعة للأزمة المالية العالمية علي الدول في مختلف أنحاء العالم، والتي تواكبت مع مرحلة من التراجع في قوة الإمبراطورية الأمريكية المهيمنة، نتيجة للمشاكل التي واجهتها في العراق وأفغانستان. لذا، فمن المتوقع أن تزيد الأزمة المالية العالمية من الضغوط والتوترات الداخلية، كما أنها سوف تجعل الولايات المتحدة أكثر عزوفا عن التدخل لإرساء الأمن أو تسوية النزاعات حول العالم بسبب قلة الموارد المتاحة لها لتمويل مثل هذه العمليات.

ويربط توماس بارنيت أيضا، في كتابه الشهير 'خريطة جديدة للبنتاجون'(5)، بين قضية الدول الفاشلة وعملية العولمة. فحسب رؤيته، تنقسم دول العالم إلي مجموعتين، مجموعة القلب (Core) وهي التي تضم دول الغرب المتقدم، وربما أيضا اليابان، ومجموعة 'الفجوة' (GAP) وهي التي تضم الدول الفقيرة والمتخلفة، والتي يقع معظمها في أواسط إفريقيا والبلقان، بالإضافة إلي آسيا الوسطي، وجنوب غرب آسيا، وأجزاء كبيرة من جنوب شرق آسيا. وتتميز منطقة القلب بأنها تسود في أرجائها منظومة مستقرة من القواعد والقوانين التي تضمن الأمن، وحرية حركة الأفراد والأموال، وإمدادات الطاقة، في إطار شبكة العلاقات والاتصالات التي تشكل ما نطلق عليه عملية 'العولمة'. واقتصادات دول القلب مندمجة تماما في منظومة الاقتصاد العالمي، علي عكس دول مجموعة الفجوة، التي تقع خارج شبكة العولمة، والتي لا تعتمد هذه المنظومة من القواعد والقوانين، ولا تسود فيها القيم الغربية ولا الأمن، ولا ترتبط اقتصاداتها بعجلة الاقتصاد العالمي. إن انعزال هذه الدول - من وجهة نظر بارنيت - هو سبب فشلها وضعفها، ولا يكرس ذلك فقط تخلف هذه الدول إنسانيا واقتصاديا، وإنما يجعلها أيضا مصدر تهديد للأمن العالمي، حيث تصدر إلي دول القلب مشاكل الحركات الإرهابية، وتجارة المخدرات، والأوبئة، والكوارث الإنسانية. كما أن هناك جماعات داخل مجموعة الفجوة تسعي إلي عرقلة امتداد شبكة العولمة، بل وإلي تدميرها. وهذا هو تفسير بارنيت للدوافع وراء العمليات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001 . إن دمج هذه الدول في شبكة العولمة، وربط اقتصاداتها بالاقتصاد العالمي، يعد هو الحل - من وجهة نظر 'بارنيت' - لمشاكل التخلف بها، ولتحقيق الأمن والاستقرار علي المستوي العالمي. ويري بارنيت أن العراق تحت قيادة صدام حسين كان يشكل نموذجا لعرقلة امتداد العولمة، من قبل السلطة الحاكمة، ولذلك ساند الغزو الأمريكي للعراق من منطلق أن ذلك سوف يؤدي إلي انتشار منظومة القيم والقوانين العالمية فيها.

وتلعب العولمة الاقتصادية دورا كبيرا أيضا في صعود الدول القوية إلي مصاف القوي الامبراطورية، كما يؤكد الباحث الهندي باراج كهانا في كتابه 'العالم الثاني'(6). فالاقتصاد اليوم يلعب الدور المحوري في قدرة الامبراطوريات علي مد نفوذها وهيمنتها خارج حدودها إلي ما يسميه دول العالم 'الثاني' و'الثالث'. ويوجد في العالم اليوم، حسب رؤية كهانا، ثلاث قوي إمبراطورية، وهي الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والصين. وتشكل العلاقات بينها المحور الأساسي الذي يدور حوله النظام العالمي. وتسعي كل امبراطورية لتشكيل منطقة نفوذ في محيطها الإقليمي عن طريق ضم دول 'العالم الثالث' (أي الدول الضعيفة أو الفاشلة) - والممثلة في آسيا بكل دول جنوب آسيا، مثل ميانمار، وباكستان، وبنجلاديش - كدول تابعة لها. ويقول كهانا إن الدول التابعة في عالم اليوم 'تشتري'، ولا تضم عن طريق الغزو، كما كان نهج الامبراطوريات تاريخيا. وتسعي الامبراطوريات أيضا إلي عقد صلات تحالف مع ما يسميه دول العالم الثاني، والتي من بينها إيران، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، والبرازيل، والتي تعد دولا في مرحلة تحول، تتميز ببعض عناصر قوة العالم الأول، وبعض عناصر ضعف العالم الثالث. وترتكز هذه التحالفات أساسا علي منح هذه الدول مزايا اقتصادية. وتلعب دول العالم الثاني - وفقا لرؤية كهانا - دورا محوريا في العلاقات الدولية، حيث تقف علي نقاط التماس بين الامبراطوريات المتنافسة، ويمكنها أن تلعب دورا في ترجيح كفة امبراطورية علي الأخري. وهي من ناحيتها، تحتفظ بعلاقات جيدة مع أكثر من امبراطورية من أجل الحصول علي أكبر قدر من المزايا الاقتصادية.

ولا تزال القضايا المتعلقة بتأمين الطاقة والمواد الأولية، وحركة التجارة والعمالة، هي المحاور الرئيسية لتنافس وتعاون كل هذه الدول.

الصراع علي المحيط الهندي
يشكل المحيط الهندي، كما أشار روبرت كابلان في مقاله 'التنافس في المحيط الهندي'(7)، شريانا رئيسيا من شرايين شبكة العولمة، وساحة محورية لتنافس الامبراطوريات ودول 'العالم الثاني'، أو القوي الإقليمية، علي النفوذ الاستراتيجي والمصالح الاقتصادية. ويمر من خلال المحيط الهندي نحو 50% من حركة النقل البحري بالحاويات، ونحو 70% من التجارة العالمية في المواد البترولية، حيث تأتي من منطقة الشرق الأوسط في طريقها إلي منطقة المحيط الهادي. وتقع بالمحيط الهندي ثلاث نقاط اختناق شديدة الخطورة بالنسبة لحركة التجارة والطاقة العالمية، هي باب المندب، مضيق هرمز، ومضيق 'ملقا'. وتمر 40% من حركة التجارة العالمية كلها من خلال مضيق 'ملقا'، بينما تمر 40% من تجارة النفط الخام العالمية عبر مضيق هرمز. ولذلك، يمثل عدم الاستقرار في مناطق الخليج والقرن الإفريقي وحول مضيق ملقا تهديدا مباشرا لمصالح أطراف عديدة، يأتي في مقدمتها القوتان الصاعدتان: الصين والهند.

فالصين، من ناحيتها، تعاني معضلة مضيق 'ملقا'، الذي يشكل نقطة اختناق لحركة التجارة الصادرة منها، بالإضافة إلي وارداتها النفطية. ويشير كابلان إلي أن أحد أهم دوافع الصين لتسوية خلافاتها مع تايوان هو إمكانية أن توفر إمكانيات أكبر لمراقبة حركة الملاحة في هذا المضيق. ومن ناحية أخري، فإن الهند تشعر بالتهديد، لأن وارداتها النفطية تمر عبر مضيق هرمز بالقرب من سواحل غريمتها باكستان، حيث أنشأت منافستها الصين أيضا نقطة ارتكاز لأسطولها في ميناء جوادار، الذي ساعدت علي تطويره. ولتفادي التهديدات لمصالحهما الحيوية، تعمل كل من الهند والصين في اتجاهين، يتعلق الأول منهما بتطوير قدراتهما البحرية، وتطوير أساطيل لها القدرة علي العمل لمسافات واسعة من شواطئها. وبينما لا تزال الولايات المتحدة هي القوة البحرية الأولي في العالم حتي الآن، فإن كلا من الصين والهند قد قطعتا شوطا لا بأس به في هذا المجال. فخلال العقد القادم، سوف يكون عدد السفن في الأسطول الصيني أكبر من عددها في الأسطول الأمريكي. كما أن الصين تزيد من عدد غواصاتها بسرعة تتجاوز بكثير زيادتها في الأسطول الأمريكي. وتطور الصين أيضا من قدراتها التكنولوجية القادرة علي التشويش علي الأجهزة الأمريكية، وتحرص علي اقتناء الصواريخ الباليستية التي يمكنها أن تصيب أهدافا متحركة في البحر(8).

أما الهند، فيعد أسطولها من أكبر الأساطيل البحرية في العالم، حيث تمتلك 155 بارجة بحرية، ومن المنتظر أن تضم إليه 3 غواصات نووية، و 3 حاملات طائرات بحلول عام 2015 . وبينما يمكن النظر إلي هذا التطوير في القدرات البحرية علي أنه يشكل قاعدة لانفجار نزاعات مستقبلية، وتهديدا للهيمنة الأمريكية، فإن كابلان يري فيه أساسا للتعاون في مواجهة أخطار القرصنة، ولرفع العبء عن الأسطول الأمريكي عن طريق إشراك الآخرين في المهام الأمنية. ويعد هذا نموذجا لأثر العولمة في خلق مصالح مشتركة تشجع التعاون حتي بين أطراف تعتبر في حالة تنافس استراتيجي.

الاتجاه الثاني الذي تسعي من خلاله كل من الهند والصين لتأمين وارداتهما النفطية يتمثل في خلق مسارات برية بديلة، عبر شبكة من الطرق وخطوط الأنابيب لتفادي نقاط الاختناق البحرية. ويشمل ذلك - علي سبيل المثال - مد خطوط الأنابيب من إيران إلي الهند عبر باكستان، ومد خطوط الأنابيب من حقول النفط في إيران إلي ميناء شاه باهار، الذي طورته الهند علي ساحل إيران الجنوبي لتفادي مضيق هرمز، ثم ينقل النفط بعد ذلك إلي الهند عبر المحيط الهندي. وتسعي الصين أيضا إلي مد خطوط الأنابيب لنقل النفط والغاز إليها من جمهوريات آسيا الوسطي الإسلامية مباشرة. كما يمكن أن تمد هذه الخطوط عبر أفغانستان وباكستان إلي الهند، أو إلي منافذ بحرية علي ساحل باكستان، ومنها إلي دول أخري. بل إن هناك من يري إمكانية نقل النفط والغاز من منطقة بحر قزوين عبر آسيا الوسطي وباكستان إلي موانئ علي شاطئ المحيط الهندي، ومنها إلي مختلف أنحاء العالم. وتعتبر خطوط نقل الطاقة وتطوير الطرق والبنية التحتية ضرورة ملحة لتطوير اقتصادات جمهوريات آسيا الوسطي المعزولة جغرافيا، وتنشيط علاقاتها التجارية مع جيرانها. ولذلك، فإن الاستقرار في آسيا الوسطي وجنوب آسيا ضرورة ملحة للمصالح الاقتصادية لكل دول المنطقة.

أفغانستان بين لعبة القوة والصفقة الكبري
تمثل الأزمة المتصاعدة في أفغانستان وجارتها باكستان نموذجا يكاد يكون مثاليا لتفاعلات القوي بين الامبراطوريات، ودول العالم الثاني والثالث، كما وصفها كهانا. فالامبراطوريات الثلاث: الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والصين، كلها حاضرة بشكل أو بآخر. وتبرز الأدوار التي تلعبها الهند وإيران والمملكة السعودية في الأزمة أهمية ما يسميه بدول العالم الثاني في هذه 'اللعبة'. وبالنظر إلي الأطراف الدولية والإقليمية المتعددة التي تتقاطع مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في هذه البؤرة، فقد دعا بعض المحللين إلي ضرورة التوصل إلي 'صفقة كبري'(9)، لإنهاء لعبة القوة في هذا المكان من العالم، والذي يراه زبجينو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي الأسبق كارتر، نقطة الارتكاز التي يمكن أن تنطلق منها نزاعات عالمية عديدة.

وتشكل التعددية القومية والإثنية والعرقية والمذهبية في أفغانستان القاعدة الأساسية لضعف الدولة، حيث لا تتمتع أي مجموعة واحدة بالأغلبية. كما تشكل هذه التعددية المدخل الأول للتدخل الخارجي(10). فالجارة 'إيران' - علي سبيل المثال - تعتبر نفسها حامية للأقلية الشيعية المتاخمة لحدودها، وقد استقبلت أعدادا كبيرة من المهاجرين الأفغان الفارين من دورات الصراع المتعددة في هذا البلد عبر العقود الماضية. وتمثل المنطقة الحدودية بين البلدين مصدر قلق لإيران، حيث تنشط عبرها عملية تهريب المخدرات، كما تشكل مدخلا محتملا لدخول عناصر تسعي للقيام بعمليات تخريبية أو إرهابية داخل إيران.

وتعتبر إيران طالبان عدوا حقيقيا، ولذا تنظر بعين القلق إلي علاقات المملكة العربية السعودية، منافسها التقليدي، بطالبان وغيرها من الجماعات الإسلامية المتطرفة في أفغانستان وباكستان. وبرغم التوتر الذي يسود العلاقات الإيرانية - الأمريكية، فقد تعاونت إيران مع الولايات المتحدة في القضاء علي نظام طالبان عند بداية الحرب الأمريكية عليهم في 2002، كما أثبتت استعدادها مجددا للتعاون في هذا الصدد. وتعد رغبة إيران في تفعيل مشاريعها لمد خطوط أنابيب لنقل النفط والغاز من أراضيها عبر أفغانستان إلي جنوب وشرق آسيا دافعا آخر للتعاون من أجل تحقيق الاستقرار هناك.

من ناحية أخري، فالهند، رغم أنها ليست جارة مباشرة لأفغانستان، إلا أن حضورها القوي مرتبط بعداوتها التاريخية مع باكستان، حيث تنظر الأخيرة إلي أفغانستان بوصفها عمقا استراتيجيا في مواجهة الهند. ولذلك، فإن لباكستان علاقات وثيقة بأطراف أفغانية، ووجودا مكثفا في المجالين الأمني والعسكري. وقد دعا ذلك الهند إلي تدعيم صلاتها بأطراف أفغانية، وتقديم المساعدات الاقتصادية من أجل الحصول علي نقاط ارتكاز داخل أفغانستان، وبذلك أصبحت أفغانستان 'أداة' في الصراع بين الطرفين. وقد استدعت المنافسة التقليدية بين الهند والصين الأخيرة أيضا إلي الحضور إلي الساحة، خشية من أثر التقارب الهندي مع الوجود الأمريكي في أفغانستان علي تطويقها استراتيجيا، ومنعها من مد نفوذها الامبراطوري إلي المنطقة. ولذلك، وثقت الصين لدرجة كبيرة من علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع باكستان، واستثمرت فيها أموالا ضخمة، وأصبحت نقطة ارتكاز استراتيجية للأسطول الصيني. ومن خلال ذلك كله بدأت أيضا في مد نفوذها واستثماراتها إلي أفغانستان. كما أن روسيا بدت حاضرة أيضا في المعادلة الأفغانية المعقدة، حيث تعتبر الجموريات الإسلامية المجاورة لأفغانستان منطقة نفوذ تقليدية وفناء خلفيا له أهمية استراتيجية لأمنها القومي(11). وتخشي روسيا من استغلال الجماعات الإسلامية المتطرفة في الجمهوريات الإسلامية لأفغانستان كنقطة انطلاق، كما تخشي أيضا من التهديد الاستراتيجي للوجود العسكري الأمريكي بها. وفي هذا الإطار، تصبح أفغانستان مرشحة لأن تكون نقطة لتصعيد التوترات الأمريكية - الروسية علي غرار الوضع في جورجيا. وقد أصبح واضحا أن تحقيق الأمن في أفغانستان، بما يحقق حياة أفضل للشعب الأفغاني، ويجنب المجتمع الدولي مخاطر عديدة، يتعدي قدرات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وأنه من مصلحة كل هذه الأطراف التوصل إلي توافقات فيما بينها في هذا الصدد.

التكامل الإقليمي وإحياء 'طريق الحرير'
لا تشكل المخاطر الأمنية، وقضايا انتشار الإرهاب وتجارة المخدرات، وما إلي ذلك، الدوافع الوحيدة وراء سعي الأطراف الإقليمية والدولية للتعاون في هذه المنطقة. بل إن هناك دوافع اقتصادية وعلاقات مكثفة، شاع في الأدبيات وصفها 'بإحياء طريق الحرير القديم'، تقف أيضا وراء الرغبة في إنهاء التوترات. ويشير ذلك الوصف إلي شبكة العلاقات المتزايدة الكثافة فيما بين دول شرق آسيا المتقدمة، وفي مقدمتها الصين، مع دول جنوب شرق وغرب آسيا، مرورا بآسيا الوسطي، ووصولا إلي منطقة الموارد النفطية في الخليج.

ويعد الصعود الصيني القوة الدافعة الرئيسية 'لطريق الحرير'، وتعد الاتفاقيات التجارية، وحركة العمالة، ورءوس الأموال، والإمدادات النفطية، والمواد الأولية الأخري، الإطار الأساسي الذي يتشكل من خلاله(12).

وتمثل العلاقات الوثيقة بين الصين وجيرانها المباشرين نقطة البدء لهذا الطريق. ويقسم 'كهانا' هؤلاء الجيران إلي عدة أقسام، فمنهم دول العالم الأول، مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، وهي الدول المتقدمة اقتصاديا وصناعيا، والتي لها علاقات وثيقة، سياسيا واستراتيجيا واقتصاديا، بالغرب. وقد سعت الصين إلي توثيق علاقاتها مع هذه المجموعة، رغم عدائها التقليدي مع اليابان مثلا، من أجل خلق مصالح اقتصادية مشتركة تضع سقفا علي التنافس، وتقلل من إمكانية انفجار الصراع بينهما مرة أخري. وبرغم احتفاظ هذه الدول بعلاقاتها القوية مع الغرب، إلا أنها استجابت للمبادرات الصينية، فأصبحت تأخذ مواقف أكثر 'توازنا' إزاءها. المجموعة الثانية من الدول هي باقي دول مجموعة الآسيان، والتي عقدت الصين معها، كل علي حدة، مجموعة من الاتفاقيات، بحيث أصبحت العلاقات التجارية والاقتصادية بين هذه الدول والصين، ربما، أكثر قوة من علاقاتها ببعضها بعضا. وخلقت الصين بذلك مجالا واسعا لحركة العمالة والتجارة والمواد الخام، وربطت أقاليمها الداخلية، عبر شبكة من الطرق والسكك الحديدية، بهذه الدول المختلفة. وقد سهل ذلك من تدعيم الجاليات الصينية، المنتشرة أصلا في هذه المنطقة، بوفود جديدة من العمالة الصينية، مما عزز من النفوذ الصيني فيها. ورغم أن هذه الدول أيضا لها علاقات قوية بالغرب، إلا أن الموقف الغربي من أزمة النمور الآسيوية في تسعينيات القرن الماضي ترك آثارا سلبية علي هذه العلاقة، خاصة وقد بادرت الصين بمنح هذه البلاد تسهيلات ومعاملات تفضيلية، ساهمت في تخطيها لتداعيات هذه الأزمة. ولا تزال تايلاند وإندونيسيا، علي سبيل المثال، تحتفظان بعلاقات قوية مع الغرب، إلا أن الإغراءات الاقتصادية الصينية تدفعها أكثر فأكثر لتصبح جزءا من مجال نفوذ الصين.

أما دول جنوب آسيا، ميانمار، وباكستان، وسيرلانكا، أو دول العالم الثالث - حسب توصيف كهانا - فقد أصبحت إلي حد كبير دولا 'تابعة' للصين. ورغم أن علاقة التبعية اقتصادية بالأساس، إلا أن موقع هذه الدول علي المحيط الهندي جعل منها نقاط ارتكاز استراتيجي للسياسة الصينية المسماة 'بعقد اللؤلؤ'، وهي عدد من الموانئ والقواعد البحرية والاستراتيجية، أنشأتها الصين علي امتداد شواطئ المحيط الهندي، والتي تعتبر نقاط ارتكاز متقدمة لمد النفوذ الصيني إلي المحيط الهندي ومنطقة جنوب آسيا ككل.

وتمتد علاقات الصين غربا إلي منطقة الخليج وشرق إفريقيا(13)، وتعد المصالح المتعلقة بالطاقة بالطبع أهم ركائز هذه العلاقة. واستجابة للمطلب المتزايد من آسيا ككل، أصبحت الصادرات النفطية من دول الخليج تتجه بصورة متزايدة إلي الشرق. ومن المتوقع أن تتجه 65% من هذه الصادرات شرقا خلال السنوات القليلة القادمة. وللصين علاقات عسكرية قوية مع إيران، والمملكة السعودية، واليمن، وإسرائيل أيضا. وقد أصبحت تصدر العمالة إلي الكويت وإيران، وتقوم بتنفيذ مشاريع بنية تحتية ضخمة في إيران، وعمان، والمملكة العربية السعودية، والسودان، واليمن.

وتقوم شركة البترول الوطنية الصينية بعمليات تنقيب عن البترول في منطقة الربع الخالي في المملكة العربية السعودية، ولها اتفاقيات طويلة الأجل لاستيراد الغاز من إيران. وليست الصين الطرف الآسيوي الوحيد في هذا الصدد، فللهند أيضا علاقات عسكرية مع إسرائيل، وهي سوق مهم لصناعاتها العسكرية، ولها اتفاقيات نفطية مع إيران، ومشاريع لمد شبكة أنابيب لنقل الغاز عبر إيران، وباكستان، والهند إلي باقي جنوب آسيا.

وهناك حركة كبيرة للعمالة من باكستان والهند، بالإضافة إلي بنجلاديش وسيرلانكا إلي بلاد الخليج العربية، وأيضا إيران، وتشكل عوائدها مصدر دخل مهما، مما يعزز من حرص هذه الدول علي الحفاظ علي علاقات جيدة مع دول المهجر. ولا يعني ذلك أن دول الخليج العربية قد أنهت أو قلصت علاقاتها مع الغرب، لكنها أصبحت هي أيضا تحتفظ بعلاقات متوازنة بين الطرفين من أجل الحصول علي أفضل المكاسب.

العولمة والتعددية القطبية
خلقت العولمة، من وجهة نظر كهانا، نظاما دوليا تعجز أي دولة واحدة عن السيطرة عليه. ولم يعد تعدد القوي الاقتصادية أمرا مفروغا منه وحسب، بل إنه يعتبر أمرا إيجابيا حتي من قبل القوي القديمة. فلا يري بارنيت، علي سبيل المثال، في صعود الصين إلي مصاف القوي العالمية ما يهدد مكانة الولايات المتحدة أو أمن منظومة دول القلب، بل إنه يري في الصين وغيرها من الاقتصادات الصاعدة، أعضاء جددا في هذه المجموعة، سوف يكون لها إسهام إيجابي(14).

ويري بارنيت أن الصين، في سعيها للنمو الاقتصادي المتواصل، وما يتطلبه من إمدادات الطاقة والمواد الأولية، وفتح أسواق خارجية لتصريف المنتجات، سوف تسهم عمليا في انتشال أعداد كبيرة من الفقر، ليس فقط داخل حدودها، ولكن أيضا في الدول الفقيرة، أو كما يطلق عليها دول الفجوة. وسوف يؤدي نشاط الصين في هذه الدول ، من اتفاقيات اقتصادية ومشروعات البنية التحتية، وما ينتج عنها من انتقال للعمالة والأموال، إلي ربط هذه الدول المنعزلة أكثر فأكثر بدائرة الاقتصاد العالمي.

كل ذلك سيسهم في تقليص هذه الفجوة، وزيادة المسافة التي تنتشر فيها المنظومة العالمية من القواعد والقيم والقوانين، مما سيعزز من الأمن والاستقرار في العالم كله. ويعتمد الدبلوماسي والأكاديمي السنغافوري، كيشور ماهبوباني، أيضا هذه النظرة المتفائلة(15). وينظر إلي الصعود الصيني بوصفه 'زحفا إلي الحداثة' سوف يتيح للملايين في مختلف أنحاء آسيا، وليس فقط داخل الصين، الخروج من دائرة الفقر، وتحسين أحوالهم المعيشية والمادية.

ومن هذا المنطلق، فإن المصالح الاقتصادية المشتركة التي تخلقها عملية العولمة الاقتصادية، بشبكتها الممتدة معنويا عبر الاتفاقيات التجارية وثورة الاتصالات، وماديا عبر شبكة الطرق والسكك الحديدية وحركة العمالة وخطوط نقل الطاقة، سوف تدفع القوي المتنافسة إلي خلق التوافقات، وتكبح ميلها إلي الصراع، وتزيد من تقبل الجميع فكرة عالم متعدد الأقطاب الاقتصادية والاستراتيجية.

ولكن لا يزال السؤال مثارا عن مقدرة هذه الشبكة من العلاقات علي حل النزاعات الداخلية الأساسية التي تسبب هشاشة وانهيار الدول في كثير من أنحاء العالم. فلم تؤد علاقات الصين الوثيقة بميانمار، علي سبيل المثال، إلي تحسين أوضاع سكانها العاديين، أو إنهاء معارضتهم للحكم العسكري. ولم تلعب الصين دورا ملموسا في إنهاء النزاعات الداخلية في السودان. وإذا كان تحليل فيرجسون صحيحا، فإن العولمة سوف تزيد من تفاقم هذه المشكلات الداخلية، مما يضع عبئا كبيرا علي النظام العالمي للتعامل معها ومع الكوارث الإنسانية التي تنشأ عنها من جهة، ولمنع تصاعدها إلي مستويات أعلي، نظرا لتهديدها المصالح الاقتصادية والاستراتيجية المتشابكة للقوي الإقليمية والدولية من جهة أخري.

* مدير تحرير مجلة ' السياسة الدولية'.


الهوامش:

1- انظر علي سبيل المثال:
- Robert D، Kaplan، زThe Revenge of Geography،س Foreign Policy، May/June 2009.

2- ومنهم:
- Paraag Khanna، The Second World، How Emerging Powers are Redefining Global Competition in the 21st Century، London: Penguin Books، 2008.

3- فريق العمل المشار إليه هو:
Political Instability Task Force والدراسة هي:
Monty G. Marshall، Instability، Fragility and the Failure of States. Council for Foreign Relations، October 2008.

4- Niall Ferguson، زThe Axis of Upheaval،س Foreign Policy، March/April 2009.

5- Thomas P.M. Barnett، The Pentagonصs New Map، New York: Berkley Books، 2004.

6- Khanna، op.cit.

7- Robert D. Kaplan، زRivalry in the Indian Ocean،س Foreign Affairs، March/April، 2009.

8- Kaplan، Ibid.

9- Barnett Rubin and Ahmed Rashid، زFrom Great Game to Grand Bargainس، Foreign Affairs، Nov./Dec. 2008.

10- United States Institute for Peace، Afghanistan and its Neighbours. Special Report 152، October 2005.

11- انظر في تداعيات الأزمة الأفغانية:
Ahmed Rashid، The Descent into Chaos، The Worldصs most Unstable Region and the Threat to Global Security، London: Penguin Books، 2009.

12- Khanna، op.cit.

13- Anoushiravan Ehteschami، Globalization and Geopolitics in the Middle East. London: Routledge، 2007، pp. 94-104.

14- Thomas P.M. Barnett، Great Powers، America and the World After Bush. New York: C.P. Putnamصs Sons، 2009، pp. 320-324.

15- Kishore Mahbubani، The New Asian Hemisphere، The Irresistible Shift of Global Power to the East. New York: Public Affairs، 2008. 


المصدر: مجلة السياسة الدولية، يوليو 2009.