الوحدة اليمنية.. حتمية تاريخية ومواجهة مصيرية
الأحد, 31-مايو-2009
د. مصعب حسون الراوي - العرب أمة واحدة في النسب واللغة والأرض والتاريخ والثقافة، ثم أتم الله نعمته على هذه الأمة بالإسلام فتعززت وحدتهم ، وقويت شوكتهم، وبنوا دولتهم ، ونهضوا برسالتهم لتنير وجه الإنسانية، إلا أن الأعداء والسياسة كانوا السبب في فرقتهم، وتمزق دولتهم المركزية إلى دويلات وكيانات، وشواهد التاريخ على ذلك أكثر من أن تحصى، فيما ظل أبناء الأمة، بوصفهم أصحاب المصلحة الحقيقية بوحدتها، يجاهدون السياسة المفرقة، والأعداء، من أجل استعادة تلك الوحدة كلاً أو جزءاً .

ولأن المجال لا يتسع في مثل هذا المقال الموجز لاستعراض شواهد التاريخ القديم والوسيط مما يتصل بعوامل وحدة الأمة ومظاهرها، وبمؤثرات الفرقة والتشرذم والتمزق وآثارها، فسأكتفي بالحديث عما يتصل بأوضاع العرب بعيد انهيار الدولة العثمانية وما تبعه من توسع استعماري للغرب تمثل في تجزئة الوطن العربي على وفق اتفاقية سايكس بيكو، واغتصاب فلسطين وإعطائها لليهود ليقيموا عليه دولتهم المسخ على وفق وعد بلفور المشؤوم.

لقد قسم الوطن العربي بضوء تلك السياسة الاستعمارية إلى دويلات قطرية ورسمت لها حدود وهمية لتكون حائلا أمام وحدة الأمة وتوحدها، غير أن روح التوحد المعبرة عن أصالة هذه الأمة والمجسدة لحقيقة وجودها التاريخي ظلت المحرك الأكثر تأثيراً وأهمية في نضالها ضد التخلف والاستعمار والتجزئة، وهكذا فقد شهدت الساحة القومية منذ منتصف القرن الماضي ظهور مشاريع وتجارب وحدوية نظرت لها الأمة على أنها تعبير أصيل عن هذا التطلع المشروع لاستعادة الكيان القومي الموحد، أو بناء نواة وحدوية يمكن أن تكون بؤرة استقطاب قومي لتوحيد العرب، فكانت وحدة مصر وسوريا (الجمهورية العربية المتحدة) عام 1958، وهي أول تجربة وحدوية قومية في تاريخ العرب الحديث، غير أن هذه التجربة تعرضت للانتكاس والفشل وحلت جريمة الانفصال التي أعادت العرب إلى المربع الأول .

وبعد فشل وحدة مصر وسوريا طرحت مشاريع وحدوية كثيرة في مشرق الوطن العربي وفي مغربه، في هلاله الخصيب وفي خليجه العربي، بعضها يرتبط بتوجه قومي وحدوي تاريخي أصيل، وبعضها يرتبط بتوجه تكتلي سياسي أو اقتصادي يحاكي ما يشهده العالم المعاصر من تكتلات اقتصادية مثل السوق الأوربية المشتركة، أو تكتلات سياسية إقليمية مثل منظمة الوحدة الأفريقية، لكن هذه المشاريع والتجارب العربية للوحدة والتكتل ذهبت أدراج الرياح، وكان نصيبها الفشل، لأسباب كثيرة لا مجال للخوض فيها في مثل هذا المقال .

ولم تكن اليمن، وهي موضوع مقالتنا هذه، بمعزل عن هذا التطلع القومي المشروع نحو التحرر والاستقلال والوحدة، فتاريخها السياسي الحديث يشير إلى احتلال بريطانيا لجزئها الجنوبي، فيما كان الجزء الشمالي يرزح تحت جبروت نظام رجعي محلي تمكن أبناء اليمن الأشاوس من التخلص منه في عمل ثوري رائد في 26 سبتمبر 1962، وجهاد بطولي في الدفاع عن الثورة ومكاسبها ونظامها الجمهوري، وكان لهذا الانتصار صداه في نضال الشعب اليمني من أجل تحرير الجزء المحتل من أرضه فكانت ثورة 14 أكتوبر، ومن ثم انتصار 30 نوفمبر، وصولا إلى بزوغ فجر الوحدة في 22 مايو 1990، فاكتملت حرية الوطن، واستعاد الشعب اليمني وجوده التاريخي الموحد .

من هنا يصح القول إن نضال شعبنا اليمني من أجل وحدة اليمن إنما هو تعبير أصيل عن حتمية تاريخية ترتبط بالأرض والإنسان، وهي في الوقت نفسه تطلع مشروع نحو الرقي والتقدم، ذلك أن الوحدة تمثل وكما قال الأخ الرئيس علي عبد الله صالح، (ترجمة لأهداف ثورتي سبتمبر وأكتوبر)، بل هي، ومن وجهة نظر المشروع القومي الوحدوي التحرري، تمثل آخر التجارب الوحدوية العربية الحديثة، وتعبر عن تطلع الأمة المشروع نحو هدفها التاريخي الخالد.

ولأن الأعداء لا يرتضون لهذه الأمة أي شكل من أشكال التوحد، ولأن الأمة تعيش حالة قلق، بل خوف دائم على التجارب الوحدوية الحديثة يصل إلى حد الفزع بعد سلسلة التجارب الفاشلة للمشاريع الوحدوية، وبعد الذي منيت به المشاريع والتجارب السابقة، فقد مثلت الوحدة اليمنية في قيامها ومسارها بؤرة صراع وترقب وأمل. فهي بؤرة صراع مع الأعداء أيا كان وصفهم، وهي بؤرة ترقب من أهلها وأعدائها على حد سواء لنتائج هذا الصراع مرحلياً واستراتيجياً، وهي بؤرة أمل حقيقي لأبناء اليمن والأمة في أن تكون هذه الوحدة نواة توحد الأمة، ومنطلق استعادة مجدها الحضاري .

والوحدة اليمنية على وفق هذا الفهم تحول تاريخي لمسار الصراع ضد قوى الشر والتخلف والتشرذم، ولهذا فهي كما وصفها الأخ الرئيس علي عبد الله صالح، نصره الله، (ثمرة وطنية غالية لنضال شعبنا وتضحيات شهدائه الأبرار)، ولأنها كذلك فقد غدت في وجهها الوطني تعبيراً عن مواجهة مصيرية بين اليمن وأعدائه، كما غدت في وجهها القومي تعبيراً عن الصراع بين الأمة وأعدائها، ولهذا الصراع أوجه وأبعاد أساسية نوجزها فيما يأتي:

البعد الأول: البعد السياسي المحلي
لقد خلقت الوحدة اليمنية ومسيرتها الظافرة واقعاً سياسياً جديداً في التاريخ اليمني المعاصر تمثل في التفاف جماهير الشعب وراء القيادة السياسية التي صنعت الوحدة وحافظت عليها بوصفها مكسباً عظيماً للشعب اليمني وصفه الأخ الرئيس علي عبد الله صالح بأنه (عنوان عزة وكرامة وقوة شعبنا ومستقبل أجياله)، وهذا هو الذي أثار ويثير حقد شراذم من مخلفات التشطير فراحت تتآمر على الوحدة وقيادتها التاريخية مرة تحت شعارات طائفية مذهبية، ومرة تحت شعارات مناطقية أو جهوية، ومرة تحت شعارات سياسية وإعلانية تظهر، في نفاق سياسي وفكري، الحرص على الوحدة، وتبطن العداء لها والسعي المحموم للنيل منها، وبذلك يكون النضال ضد هذه الشراذم، وفضحها وعزلها، نضالاً وطنياً من أجل اليمن مجسداً في وحدته الجغرافية والسياسية، وتمسكاً بهذه الوحدة ومحافظة عليها لتحقق أهدافها المرحلية والإستراتيجية.

البعد الثاني: البعد السياسي الإقليمي والدولي
لقد خلقت الوحدة اليمنية كياناً وطنياً وسياسياً موحداً في إطار منطقة تتطلع إلى التوحد والنهوض، وهي في الوقت نفسه تمثل موقعاً جغرافياً واقتصادياً مهماً، بل هي من أكثر مناطق العالم حيوية وتأثيراً في مجريات صراع الأيدلوجيات والقوى السياسية الدولية وتكتلاتها الكبرى، ولأن هذه القوى الوريثة للاستعمار القديم لا ترضى بوجود مثل هذه الكيانات الوحدوية التي تعزز الوطن، وتبني نواة فاعلة لوحدة الأمة وتحررها ونهضتها، فهي تسعى ليل نهار في تآمر محموم متعدد الاتجاهات والمسارات للنيل من هذه الوحدة لضمان سيطرتها على المنطقة، وتحقيق ما يسمى بأمن الكيان الصهيوني، الذي يعني تفوق هذا الكيان وهيمنته على مقدرات المنطقة، فيما يكون الدفاع عن الوحدة اليمنية، والحفاظ عليها، ودفع مسيرتها نحو تحقيق أهدافها كاملة، مظهراً معبراً عن انتصار إرادة الأمة في هذه المواجهة المصيرية الحاسمة، وشرطاً من شروط ديمومة نضالها من أجل التحرر والوحدة والتقدم الحضاري.

البعد الثالث: البعد الاقتصادي
لا خلاف في أن عالم اليوم هو عالم التكتلات الاقتصادية الكبرى والشركات الدولية العملاقة، وهذا يعني أن المكونات الاقتصادية الصغيرة في عالم اليوم ليست إلا حراشف من السمك الصغير التي يسهل ابتلاعها من هذه الحيتان الضخمة، وهذا ما دفع الكثير من المكونات الجغرافية الإقليمية لتكوين كتل اقتصادية تكون قادرة على التعامل مع حقائق الاقتصاد العالمي المعاصر .

ومع أن العرب من أكثر أمم الأرض حاجة لمثل هذا التكتل الاقتصادي، ومن أكثرها تأهيلا لإقامته، لما تمتلكه الأمة من مقومات بناء هذا التكتل في السكان والثروات والموقع الجغرافي إلا أن واقع العرب اليوم لا يبشر بظهور مثل هذا التكتل رغم مضي عقود طويلة على طرح مشروع السوق العربية المشتركة، ولهذا فإن اشتراطات ديمومة البقاء الاقتصادي للمنطقة عموماً، ولبعض أقطارها على وجه الخصوص، تستوجب قيام كيانات اقتصادية في أطر أقل شمولاً من الإطار القومي لكنها يجب أن تصب في مجرى إقامة التكتل الاقتصادي القومي، وهذا ما تمثله الوحدة اليمنية في بعدها الاقتصادي، إذ إن ما يمتلكه اليمن الموحد من مظاهر التكتل الاقتصادي القابل للنمو، ولموقعه الإستراتيجي الإقليمي والدولي، كفيل ببناء نواة اقتصادية ستكون بإذن الله قادرة على التأثير الإيجابي لبناء تكتل اقتصادي على مستوى الخليج العربي أو على صعيد دول المشرق العربي، بل سيمتد تأثيره ومداه ليضم الدول الأفريقية العربية المحاددة للبحر الأحمر.
وبذلك تكون الوحدة اليمنية خلقاً لظروف إقليمية تخدم الوطن والأمة، وتؤمن الممكن من المكاسب الاقتصادية لصالح الشعب اليمني ولصالح الأمة على المدى الإستراتيجي، وإن التآمر على هذا الكيان الوحدوي إنما هو تآمر على تطلع المشروع لليمن وللأمة على حد سواء نحو بناء النفس في عالم التكتلات الاقتصادية، فيما يكون الحفاظ على هذه الوحدة التاريخية منطلقاً لاقتدار اقتصادي واعد يمكن اليمن من أداء رسالته على مستوى الأمة والمنطقة والعالم، إلى جانب ما سيتحقق للشعب اليمني أولاً وللأمة ثانياً من مكاسب اقتصادية عظيمة تكفل الرقي والازدهار، وإن مقارنة بسيطة بين واقع الاقتصاد اليمني في ظل التجزئة والتشطير وواقعه اليوم في ظل مسيرة الوحدة كفيلة بإدراك ما للوحدة من أثر عظيم على رقي اليمن وازدهاره الاقتصادي والسياسي والاجتماعي .

واليوم إذ تحل ذكرى هذه الوحدة المباركة في ظل تصعيد محموم لمظاهر التآمر عليها بشعارات ومسميات مختلفة هي في المآل النهائي تنطوي تحت وصف العداء السافر لمصالح الشعب وإرادته في بناء مستقبله الزاهر، يكون من أقدس معاني الاحتفال بهذه المناسبة التاريخية الخالدة أن يزداد إصرار الشعب والقيادة على التمسك بالوحدة بوصفها الخيار الوطني الوحيد لبناء حاضر اليمن ومستقبله، وما يعنيه هذا الإصرار من التزام واع باليمن أرضاً وتاريخاً، حاضراً ومستقبلاً، قيادة وشعباً، وأن ما يحصل هنا أو هناك من تصرفات ومظاهر تتقاطع مع هذا الخيار التاريخي، وبالضد منه، ليست إلا خروجاً سافراً على مصالح الشعب اليمني وإرادته، وتآمرا واضح الخطورة على حاضره ومستقبله، فيما تمثل المواجهة المبدئية لمثل هكذا توجهات معادية للوحدة ضرورة تاريخية للحفاظ على اليمن ووحدته، ولدفع مسيرة الوحدة إلى الأمام .

* ورقة قدمت إلى ندوة "الوحدة اليمنية.. أبعاد التاريخ والمستقبل" التي نظمتها جامعة إب.