مقاربة مختلفة للأزمة الراهنة في اليمن
الأحد, 31-مايو-2009
سقاف عمر السقاف - بعد قيام الوحدة اليمنية المباركة في العام 1990 والتي تمت بتوافق ورضا تامين من قبل قيادة الشطرين حينها، والأهم برضا وقوة دفع من قبل المواطنين في الشمال والجنوب، لم يكن أحد يتوقع أن الأوضاع السياسية والأمنية ستتدهور خلال مدة قصيرة نسبياً بذاك الشكل الدراماتيكي، وأن الفترة الانتقالية التي كان الهدف منها استكمال دمج أجهزة ومؤسسات الدولتين سوف تنتهي بحرب كارثية بين شريكي الوحدة كبّدت اليمن خسائر بشرية ومادية فادحة، ما زلنا نعاني من آثارها حتى اليوم.
وبعد انتهاء الحرب في العام 1994 بهزيمة مشروع الانفصال وانتصار خيار الوحدة وإرادة الشعب، لم يكن أيضاً أحدٌ يتوقع أنه بعد سنوات أو حتى عقود ستظهر مجدداً بوادر أزمة حقيقية وسيعود الجدل العقيم حول الوحدة والانفصال.
إن ما جرى خلال الأسابيع الماضية في المحافظات الجنوبية من اضطرابات أمنية وسياسية خطيرة شابها كثير من مظاهر العبث والفوضى، راح ضحيتها للأسف عددٌ من القتلى والجرحى من المواطنين ومن أفراد الأمن والقوات المسلحة، يُعبِّر بصورة أو بأخرى عن وجود أزمة سياسية حادة مسرحها ومجال عرضها الأساسي المحافظات الجنوبية.
فالأحداث الأخيرة ما هي إلا امتداد سلبي لحركة الاحتجاجات الحقوقية والمطلبية التي شهدتها تلك المحافظات قبل نحو عامين، ولكن هذه المرة تحولت واجهة ما يُسمّى "بالحراك الجنوبي" من المطالب المدنية والحقوقية إلى دعوات انفصالية وتقسيمية تذكر بتلك التي سمعناها قبيل حرب صيف 1994.
إن تطور الأحداث بهذا الشكل المقلق في الجنوب يعد مؤشراً واضحاً على أن الأزمات الداخلية تأخذ دائماً مساراً تصاعدياً، ليس في الجنوب فقط، ولكن حتى في المحافظات الشمالية؛ فالحرب مع المتمردين الحوثيين في صعدة شهدت عدة مراحل وكل مرة كانت أقوى وأخطر من التي سبقتها. والسؤال البديهي الذي نطرحه هنا، هو لماذا تتوالد الأزمات وتتضخم، ولماذا كلما خرجنا من أزمة ندخل في أخرى؟
في البداية علينا أن ندرك بأنه لا يمكن أن تدب مظاهر الفوضى وتظهر مؤشرات القلق والاضطراب السياسي والاجتماعي في أي بلد إلا إذا كان هذا البلد يعاني من أزمة حقيقية في أحد المجالات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، أو في كل هذه المجالات مجتمعة، والأخطر أن تتظافر العوامل الداخلية مع الخارجية، وحينها تصبح تحديات الداخل أشرس وأكثر خطورة لأنها تتلقى دعماً مزدوجاً، الأول ذاتي نابع من مكونات الأزمة الداخلية نفسها، والثاني مكتسب يتعلق بأهداف و"مصالح" سياسية لأطراف إقليمية أو دولية.
ولحسن حظ اليمنيين هذه المرة هناك شبه إجماع إقليمي ودولي - ظاهرياً على الأقل - يدعم الوحدة اليمنية ويؤيدها، وهذا لا شك نابع من إدراك هذه الأطراف لحجم الكارثة وانعكاساتها السلبية على المنطقة ككل في حال مُسّت الوحدة اليمنية بسوء أو تعرض البلد - لا سمح الله - إلى التفكّك والتشظي.
وبالعودة إلى الأحداث في الجنوب، فإنها كما أشرنا سابقاً تعبر عن أزمة حقيقية تتطلب إدارتها تشخيصاً دقيقاً ينفذ إلى عمق المشكلات، ويحاول استقراء الدوافع الكامنة والمحركة لمجرى الأحداث هناك، ومن ثمّ وضع الحلول التي تتناسب مع حجم الأزمة دون تصغير أو تضخيم. وباعتقادي أن بداية التشخيص تكمن في الإجابة على مجموعة من التساؤلات أهمها:
هل هذا "الحراك" ناتج عن أزمة إقصاء وتهميش سياسيين تعرض لها المواطنون في الجنوب بعد حرب 1994، أم إنها أزمة مرتبطة بحقوق ومطالب مدنية لم تلقَ استجابة من قبل السلطات، أم هي أزمة اندماج وتكامل وطني، أم هي أزمة أشخاص وقيادات هي نفسها مأزومة، ولا يطيب لها العيش إلا في ظل (ومن خلال) إثارة الفتن والأزمات؟!
والواقع أن هناك صعوبة في تفنيد كل هذه الأزمات والخوض في تفاصيلها وصولاً إلى نفيها أو إثباتها، ولكن الأكيد أن التفاعلات والأحداث الأخيرة والتي سبقتها في المحافظات الجنوبية تستمد قوة دفعها من خليط مركب من كل تلك الأزمات، وإن بنسب ودرجات متفاوتة. كما أن نظرة المواطنين الجنوبيين أنفسهم لهذه الأحداث ليست واحدة، فهناك فئة لديها تصور أيديولوجي خاص لمسألة الوحدة، وهي أصلاً لم تكن وحدوية ولا تؤمن بالوحدة وتعتبرها مفروضة بالقوة، لذا فإن الأحداث الأخيرة تروق لها، وهي لا تفوت أي فرصة يمكن من خلالها إثارة الفتن والقلاقل ظناً منها أن ذلك سيُسهِم في إعمال شرخ وطني يمكن العبور من خلاله لتفكيك عرى الوحدة، والعودة بالوطن إلى ما قبل الثاني والعشرين من مايو 1990.
الفئة الثانية، ولحسن الحظ، فهي تُشكِّل الضمير الجمعي والحيّ لمعظم أبناء جنوب الوطن وهي وحدوية حتى النخاع، وتنظر إلى المشكلات في إطار وطني عام؛ ولكن هذه الفئة الواسعة ترى أن هناك ظلماً وتهميشاً وقعا على المناطق الجنوبية وعلى المواطنين هناك، وقد اتخذا أبعاداً مختلفة. وهذه الفئة العريضة تتبنى وتساند مطالباً وحقوقاً مدنية وتسعى إلى تحصيلها بالطرق السلمية من السلطة، كما أن هذه الفئة ترفض كل أشكال العنف والعنف المضاد، لأنها تدرك أن العنف هو الطريق الخطأ لتصحيح الخطأ.
أما الفئة الثالثة فتنقسم إلى قسمين:
الأول: وحدوي ومرتبط بالسلطة المركزية عن قناعة تامة، بل إنه بات جزءاً منها وبالتالي فإنه ينظر إلى مشكلات الجنوب وأزماته من منظار واحد وهو منظار السلطة المركزية في صنعاء.
والثاني: عبارة عن قلّة من الانتهازيين الذين لا تهمهم الوحدة ولا غيرها، وهم لا يؤمنون سوى بمصالحهم وبما يكسبون من هذه الوحدة، وفي حال لم تستمر هذه الوحدة في توفير وتلبية مصالحهم الخاصة فإنهم أول من يتخلى عنها بحثاً عن توفير هذه المصالح من أي مكان أو موقع آخر.
وانطلاقاً من هذه الخلفية يمكن أن نقارب المدخل الحقيقي لمعالجة الأوضاع في الجنوب، وأزعم أن هذا المدخل يتكون من اتجاهين:
الأول: هو اعتراف الحكومة بوجود قصور بل أخطاء في إدارة الشأن العام، وهذا ما تجلى مؤخراً في الخطاب السياسي العام للحكومة إلا أنه يبقى عليها الانتقال إلى معالجة القصور والأخطاء.
والثاني: - وهو الأهم - العمل بمنطق سلطة الدولة التي تساوي بين كل المواطنين دون تمييز، وتفرض هيبة القانون وسيادته في كل مكان، فلا يجوز أن يتم دعم أشخاص أو فئات تحت أي ظرف، ومهما كانت حيثياتهم ومواقعهم، على حساب شريحة واسعة مهملة. وعلى الحكومة الانحياز للفئة الوحدوية التي تمثل معظم أبناء الجنوب، والنظر بعين المسؤولية لمشكلاتهم ومطالبهم، والعمل على معالجة المُحِق منها دون إبطاء أو تأخير في إطار قانوني وطني شامل. وعندها سنجد أن هذه الفئة هي أول من سيتصدى لكل الدعوات الانفصالية، وهم الذين سيدافعون عن الوحدة ويقفون في وجه كل الانتهازيين وأصحاب المشاريع والمصالح الضيقة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب إيلاء مسألة الاستقرار والتوافق السياسيين أهمية بالغة. فالاستقرار السياسي يحِدّ من نشوء الأزمات، كما أن غيابه يعمل على تأجيجها. وفي هذا الصدد، علينا أن نشير إلى أن الخلافات المستمرة وعدم التوافق بين السلطة والمعارضة حول العديد من القضايا المصيرية التي تتعلق بإدارة ومستقبل البلد؛ كلها أمور تُسهِم في تأزيم الأوضاع. فعلى سبيل المثال، تعد مسألة تأجيل الانتخابات البرلمانية لعام 2009، وبالرغم من أن قرار التأجيل جاء بناءً على توافق السلطة والمعارضة، وربما جنّب البلد ما هو أسوأ، ولكن مسألة التأجيل نفسها وعدم وجود رؤية واضحة لما بعد التأجيل، دليل على وجود الأزمة التي شعر المواطنون معها باليأس والإحباط وبانسداد الأفق السياسي، وهذا انعكس بصورة أو بأخرى على أمن البلد واستقراره.
إذاً على القوى السياسية كافة، وفي مقدمتها المؤتمر الشعبي العام وأحزاب اللقاء المشترك، إدراك أن مسألة الاستقرار السياسي منوطة بالجميع، وعلى هذه الأحزاب الاستفادة من فترة تأجيل الانتخابات لمدة عامين في ممارسة نقد ذاتي وتقويم موضوعي لكل المراحل السابقة والسياسات المتبعة، ومن ثمّ الإسراع في تلبية دعوة رئيس الجمهورية لخوض حوار وطني موسّع بروح منفتحة على شتى الأفكار والرؤى الإصلاحية، بعيداً عن التشنج ولغة التخوين والمماحكات السياسية. كما أن على هذه الأحزاب أن تستعد لتقديم تنازلات حقيقية، ليس للطرف الآخر وإنما لمصلحة الوطن ككل، فلا يجوز أن يتمسك كل طرف برؤيته الخاصة للحل، فهذا وحده كفيل بإفشال أي حوار قبل انطلاقه وبالتالي إعادة إنتاج الأزمة مُجدداً.
ختاماً، لا بد من القول إن أوضاع البلد وأزماته بحاجة إلى استجابة سريعة وقدرة فائقة على قراءة الأحداث والتنبؤ بمآل الأمور؛ فالأزمات إذا ما تمت معالجتها، وهي في طور النمو، فإن الخيارات تكون متعددة ومتاحة والتكلفة تكون أقل، أما إذا تفاقمت واقتربت من حافة الكارثة فإنها لا تنتهي إلا في حالتين:
الأولى: عندما تفقد الأزمة قوة دفعها والعوامل المحفزة لها، وذلك مؤشر على نجاح الدولة في إدارة الأزمة واستعادة النظام لفاعليته.
والثانية، وهو السيناريو الأخطر، أن تكون الأزمة قد استفحلت وتمكّنت من تدمير الدولة، سلطةً وكياناً، وبالتالي تختفي معها.