مسارات الحوار النقدي بين التيارات الإسلامية والعلمانية تعدد الخبرات واختلاف الخطاب
السبت, 09-مايو-2009
د. عمرو الشوبكي - أخذ الحوار بين التيارات الإسلامية والعلمانية منحنيات كثيرة، واختلفت نظرة كل تيار تجاه الآخر من عصر إلي آخر، حيث خاضت التيارات القومية والماركسية في الستينيات معارك فكرية وسياسية طاحنة مع التيار الإسلامي، واعتبرته تيار ظلامي ورجعي يتحالف مع القوي الاستعمارية للانقضاض على التجارب التحررية العربية وخاصة التجربة الناصرية. في الوقت الذي دفع فيه التيار الإسلامي ثمنا باهظا لهذه المواجهات نظرا لكون معظم النظم العربية المؤثرة على الساحة الإقليمية والدولية كانت تتبني الخط القومي بصيغته الناصرية أو البعثية، وكان الإسلاميون في "المعارضة" التي كانت تعني غالبا في ذلك الوقت السجون والمعتقلات.

والمؤكد أن اللغة الاستئصالية التي سادت في الستينيات والسبعينيات بين الإسلاميين والقوي العلمانية سواء مع النظم التقدمية (مصر عبد الناصر) أو اليمينية (تونس بورقيبة)، أو مع تيارات سياسية معارضة كالشيوعيين وغيرهم، تغيرت مع بداية العقد الماضي لأسباب كثيرة نذكر منها:

1 ـ انحسار بريق النظم العربية التقدمية خاصة بعد انكسارها في هزيمة 67، والتحولات الدرامية التي شهدتها المنطقة العربية منذ توقيع اتفاقية كامب دافيد بين مصر وإسرائيل وانتقال الصراع بين نظم أدعت أنها تنوي محاربة إسرائيل، وأخري ادعت أنها تبني سلام شامل بغرض تحقيق الرخاء والتنمية، وبدا أن فشل الاثنين كان واضحا، وأن صعود الإسلاميين كان في جانب منه نتاج لهذا الفشل.

2 ـ مع تعمق حالة العجز العربي منذ غزو إسرائيل إلي لبنان عام 1982، أمام التحديات الخارجية وخاصة تجاه الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين والأمريكي في العراق، بدا أن عجز النظام الرسمي العربي على مواجهة هذه التحديات، مثل عاملا وراء صعود الإسلاميين كبديل"لم يختبر" وظلت جمل من نوع "لقد جربنا الاشتراكية والرأسمالية وفشلنا، فحان الوقت لكي نجرب الإسلام" سائدة في خطاب كثير من التيارات الإسلامية في أكثر من بلد عربي. وأعطي انكسار النظم التقدمية في الماضي، وفشل النظم المعتدلة في الحاضر، قوة دفع فكرية وسياسية للإسلاميين ساعدتهم على السيطرة في كثير من المواقع على الشارع وتوجهاته.

3 ـ بات واضحا أن فارق القوة بين الإسلاميين وباقي القوي السياسية، هائلا لصالح الأول، وأن موضوع الحوار النقدي بين الإسلاميين والتيارات العلمانية سيظل قضية فكرية هامة سواء ترجمت على أرض الواقع السياسي في الوقت الراهن أم لا؟ وسواء كانت هي المحدد الذي من خلاله سيتطور خطاب الإسلاميين أم لا، فمن المهم النظر إلي السياقات والخبرات السياسية المختلفة داخل العالم العربي، والتي على ضوءها أيضا يمكن استشراف مستقبل التيارات الإسلامية.

ولعل السؤال الذي يمكن طرحة في هذا السياق، هل كان يمكن لهذا الحوار أن ينجح لو كان هناك تقارب في القوة بين الإسلاميين والعلمانيين ؟، وكيف سيكون شكله، وكيف ستتعامل الأطراف المختلفة معه؟.

إن الحوار النقدي بين التيارات الإسلامية والعلمانية لابد وأن يأخذ بعين الاعتبار مجموعة من السياقات والخبرات السياسية المختلفة داخل العالم العربي، والتي على ضوءها يمكن النظر إلي مسار هذا الحوار وتأثيره والغرض منه، كما إنه سيجعل وهذا هو الأهم نمط التساؤلات والإشكاليات المطروحة تختلف من حالة إلي أخري، دون أن يعني ذلك غياب هموم وتساؤلات عابرة لهذه السياقات، تتعلق بموقف الإسلاميين من قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والأقليات ودولة القانون وتداول السلطة مع القوى العلمانية، ولكن كل هذه التساؤلات لابد أن يضاف إليه تساؤلات أخري تتعلق باختلاف الخبرات السياسية العربية، والتي بدورها ستجعل هناك جوانب أخري تضاف للقضايا السابقة، وتجعل هناك أهمية للحوار حولها ومناقشتها تبعا لكل واقع.

ويمكن وضع الخبرات العربية في إطار أربع نماذج/ سياقات رئيسية: أولا ـ سياق الممارسة السياسية والاجتماعية في ظل دور مركزي للدولة هنا يمكن في الحقيقة وضع مقارنة بين مصر والمغرب، مع الأخذ في الاعتبار أن الهامش الديمقراطي في المغرب أكثر اتساعا من نظيرة المصري، كما أن الأحزاب السياسية الإسلامية الرئيسية مصرح لها بالعمل الشرعي والقانوني، في مقابل وضعها غير القانوني وبكل أطيافها داخل مصر.

ولعل ما يقرب بينهما هو وجود مؤسسات للدولة قديمة وراسخة، كما أن هناك تجربة سياسية ربما تكون هي الأقدم في المنطقة العربية، خاصة أن الجماعة الإسلامية الأكبر في العالم العربي وهي الإخوان المسلمين نشأت في مصر منذ أكثر من 80 عاما وهو الأمر الذي فرض نمط من التساؤلات خاص بها، يتعلق أولا بعلاقة الجماعة الدعوية بالتنظيم السياسي، وهل يمكن أن تثق التيارات العلمانية بجماعة دينية تمارس السياسة كالإخوان المسلمين، وهل أنها ستكون قادرة على احترام الديمقراطية والدستور ومدنية الدولة، أم لابد من الفصل الكامل بين الجماعة الدعوية والحزب السياسي حتى يمكن أن نتحدث على تيار قادر على قبول المبادئ الديمقراطية.

والمؤكد أن هذه الصورة قد تحققت في المغرب على يد حزب العدالة والتنمية (رغم انتماء جزء كبير من أعضائه إلي جماعة التوحيد والإصلاح)، ولم يحدث في مصر. وتصبح هناك قضايا أخري من المهم مناقشتها على طاولة الحوار: 1 ـ هل قدر الإخوان المسلمين التاريخي الاستمرار في هذا التزاوج بين الدعوي والسياسي، وماحجم تأثيره على موقف الإخوان من قضايا الديمقراطية وتداول السلطة والموقف من العلمانيين.

2 ـ تصنف كل من مصر والمغرب في خانة الدول المعتدلة عربيا، بما يترتب على ذلك من علاقات قوية بالغرب تبدو في الحالة المغربية أكثر قوة من الناحية الثقافية، لقربها الجغرافي من أوربا وعلاقاتها "الفرانكوفونية" بفرنسا، في حين تبدو مصر علاقاتها أكثر قوة من الناحية السياسية والإستراتيجية بالولايات المتحدة، كما أن لها علاقات دبلوماسية ومعاهدة سلام مع إسرائيل. ويصبح الموقف من الغرب ومن القوى العظمي موقفا مركبا فعلى المستوي العقائدي والسياسي يتبني الإخوان المسلمون خطاب شبه جهادي تجاه أمريكا وإسرائيل، وهو أمر وارد أن يحدث في بلدان أخري ليس لها حدود مع إسرائيل ويمكن أن يدخل في باب الموقف المجاني من القوى الكبرى الذي لا يرتب ثمنا سياسيا أو اقتصاديا وراء طرحه. ولكن في الحالة المصرية سيصبح أي "شعار جهادي" في مواجهة إسرائيل أو أمريكا خيار له ثمن سياسي واقتصادي باهظ، سيدفع في حال دخلت مصر "الإسلامية"، في مواجهة مسلحة مع إسرائيل.

والمفارقة أن خطاب حزب العدالة والتنمية في المغرب كان أكثر عقلانية في هذه النقطة من خطاب الإخوان وبدا إنه تيار يحسب ثمن خياراته السياسية، وأن قربه من أوربا ساعده على تجاوز بعض المفردات التي لازال يستخدمها الإخوان المسلمون في موقفهم من الغرب وأمريكا، دون أن يعني ذلك أن الحزب المغربي تحول إلي حليف لأمريكا، إنما ظل على موقفه الرافض للاحتلال الأمريكي والإسرائيلي ولكن بلغة سياسية حديثة. وعلية يصبح هناك تساؤل مهم هل التيارات الإسلامية في كلا البلدين تطرح مشروع ثقافي وديني وسياسي بديل للمشروع الغربي و في مواجهة معه، أم إنها تقترب من تقبل قيم الديمقراطية الغربية، وتؤمن بعالمية مبادئ حقوق الإنسان، وتختلف مع الغرب والقوي الكبرى لكونها "تخون" تلك المبادئ، وليس لكون هذه القيم غربية غير نابعة من خصوصيتنا الحضارية والثقافية، كما حسم حزب العدالة والتنمية في تركيا هذه المسألة؟.

ثانيا ـ سياق الممارسة السياسية والاجتماعية في ظل غياب أو ضعف الدولة 
هنا في الحقيقة يظهر في الأفق ثلاث خبرات عربية هي تجارب فلسطين والعراق ولبنان، رغم ما بينها من تباينات كبيرة، إلا أنها شهدت في الفترة الأخيرة انتخابات ديمقراطية حرة ولو بالمعني النسبي، وهناك مساحة للحركة السياسية للتيارات الإسلامية غير متحققة في أقطار عربية أخري، ولكنها موجودة في ظل سياق سياسي يعاني من ضعف مؤسسات الدولة، ففي العراق هدمت مؤسسات الدولة وحل الجيش عقب الاحتلال الأمريكي، وتداخلت الأجهزة الأمنية مع الميليشيات الطائفية، وصار من الصعب الحديث عن جهاز دولة بالمعني الإداري والقانوني والأمني محايد ومهني كما هو موجود في بلدان العالم الديمقراطي. أما في لبنان فظل ضعف الدولة اللبنانية أمرا مسلما به أمام هيمنة الانقسامات الطائفية والمذهبية التي صارت قوة الحزب/ التجمع الطائفي أقوى من هيبة الدولة ومؤسساتها. أما فلسطين فلا توجد دولة من الأساس، ولازال الشعب الفلسطيني يرزح تحت وطأة الاحتلال، في حين أن السلطة الوطنية فشلت في أي مرحلة من أن تبني مؤسساتها بشكل مهني ومستقل عن الفصائل المختلفة.

ومن هنا يصبح الحوار النقدي بين التيارات والفصائل السياسية المختلفة في هذه الخبرة يتجاوز مسألة قبول الحوار مع القوى العلمانية والالتزام بالانتخابات الديمقراطية، ليصل إلي نقاط أخري مثل:

1 ـ لا زال موقف التيار الإسلامي في فلسطين ( حماس والجهاد) غير واضح من قضية الدولتين، وهل ستقبل التيارات الإسلامية بوجود دولة إسرائيل بجوار الدولة الفلسطينية المتعثرة ولادتها في الضفة الغربية وغزة؟ والحقيقة أن هذا التساؤل لا يجب أن تكون الإجابة علية بأن سياسة الاحتلال الإسرائيلي لا تدل على أي نية للاعتراف بهذه الدولة الفلسطينية المستقلة، وبالتالي لا يوجد مبرر لإعطاء إسرائيل اعتراف مجاني بوجودها، لأن هذا الفهم مبرر من الناحية السياسية، ولكنه غير مبرر من الناحية الفكرية والعقائدية حيث أننا سنكون أمام مفهومين للتعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي: الأول مفهوم وطني ديمقراطي تقدمي تبنته حركات التحرر العربية وقبلت فيه بالدولتين كحل مؤقت دون أن تتخلى عن نضالها من أجل تغيير طبيعة الدولة الصهيونية العنصرية في إسرائيل، حتى يتم تحويلها إلي دولة ديمقراطية يعيش فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون جنبا إلي جنب.

وهناك المفهوم الإسلامي والقومي التقليدي الذي يتحدث عن ضرورة إزالة الكيان الصهيوني من فلسطين، واعتبار الصراع مع إسرائيل هو صراع ديني بين يهود اغتصبوا أرضا إسلامية في فلسطين ويجب قتالهم حتى يوم الدين. والحقيقة أن الحركات الإسلامية لازالت في معظمها سواء في صورتها الإخوانية أو الجهادية ترفض فكرة الدولتين، ولم تنفتح على أي أدبيات مدنية تذكر تساعدها ولو على المستوى الفكري في المساهمة في النضال ضد عنصرية الدولة العبرية عبر قيم ديمقراطية ومدنية حديثة، كان يمكن في أن تمثل غطاءا سياسيا للمقاومة المسلحة في الأراضي المحتلة، وأدي غيابها إلي عزلة خطاب حركة المقاومة الإسلامية عن قوى التحرر في العالم كله.

وأدى خطاب "الصراع الديني" الذي تبنته الحركات الإسلامية في فلسطين إلي جعل ما يعرف بقوى الاعتدال العربي جسر الحوار الوحيد مع الغرب وأمريكا، ولم تبذل هذه الحركات الجهد الكاف من أجل تقديم خطاب سياسي جديد، قادر على التفاعل النقدي مع النظام العالمي، بحيث يصبح " التشدد الحماسي " جزء من لغة يفهما العالم حتى لو اختلف معها.

ويصبح من الصعب أن نجد مساهمات حقيقية لحركة حماس في فلسطين في مسائل تتعلق بالتفاعل مع القيم المدنية الحديثة، ولم تحاول "اكتشاف" أدبيات سياسية ونضالية جديدة تعتمد على المقاومة السلمية، والعمل على بناء حيز إنساني في التعامل مع أبناء الديانات والثقافات الأخرى، وبصورة تفتح الباب أمام ميلاد خطاب إسلامي إنساني يسعى إلي استقطاب حلفاء جدد على أسس غير دينية ولا تقوم على تقسيم العالم بين المسلمين وغير مسلمين، إنما على أساس العدالة والمساواة والحرية، وهنا سيكون خطاب المقاومة السلمي الديمقراطي أكبر مصدر قلق أمام الدولة العبرية القائمة على التمييز بين مواطنيها اليهود والعرب.

وقد صعبت هذه الخلفية العقائدية من قدرة حماس على التفاعل مع العالم الخارجي، ومع كثير من القوي السياسية ومنظمات المجتمع المدني العالمي المناهضة للسياسات الأمريكية، وبدت في عزلة دولية عن دوائر صنع القرار الأمريكي ، والقوي المناهضة لهذه الدوائر على السواء، مما سهل من عملية حصارها وربما نجاح إسرائيل في إيجاد غطاء دولي لحربها العدوانية في غزة، حين ربطتها بالحرب الأمريكية على الإرهاب. ورغم أن الإجابة المؤكدة أن واقع الاحتلال في غزة، والسياسات العدوانية الإسرائيلية لم تعط فرصة للتيارات الإسلامية لمراجعة جوانب من خطابها، وهو أمر مفهوم من الناحية السياسية، ولكنه من الناحية الفكرية سيظل أمرا من المهم طرحة على طاولة الحوار حتى يكون الطريق إلي دحر الاحتلال الإسرائيلي هو نفس طريق بناء الديمقراطية في فلسطين. 2 ـ فيما يتعلق بالساحة اللبنانية، من المؤكد أن هواجس كثير من القوى العلمانية والمذهبية الأخرى في لبنان، لا تتوقف فقط عند مناقشه موقف حزب الله من قضية الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وتداول السلطة، إنما تمتد لمسألة سلاحه، واقتصار عضويته عمليا على طائفة واحدة، وهنا هل يمكن من حيث المبدأ وفق أي رؤية ديمقراطية أن يقبل بوجود سلاح خارج سلطة الدولة؟، وبالتالي هل يصبح سلاح حزب الله المقاوم مقبولا من حيث المبدأ وتحت كل الظروف، أم إنه وضع استثنائي فرضه وجود دولة استثنائية أخري لا تحترم القوانين الدولية ولا قرارات الشرعية الدولية أي إسرائيل؟. وعلية ستصبح مناقشة قضية سلاح حزب الله أو ما يعرف بسلاح المقاومة بعيدة عن السجال اللبناني الداخلي، ومناقشه مسألة نزع سلاحه أو بقائه، إنما فقط لمناقشة هذه الدوافع: هل هي بسبب التهديدات الإسرائيلية الحالية وغياب أي أفق للتسوية السلمية، أم إنها دوافع عقائدية ومذهبية تجعل تمسك حزب الله بسلاحه مسألة دائمة بعيدا عن طبيعة الظرف السياسي المحيط بها؟.

ومن المهم أيضا الإشارة إلي أن مسألة تداول السلطة الواردة في حال حدوث تحول ديمقراطي كامل في كل من مصر والمغرب، ليست بالضرورة واردة في الحالة اللبنانية، فالمؤكد أن "الديمقراطية التوافقية" تظل ملمح رئيسي للخبرة اللبنانية، أو بمعني آخر فأن إدارة الصراع السياسي على أسس الانتصار الديمقراطي الكامل لطرف أو لتجمع سياسي، على حساب طرف أو تيار آخر ليست هي التي حكمت التوافق اللبناني في الفترة الأخيرة، وأن حكومة الوحدة الوطنية التوافقية بين كل الأطياف السياسية والمذهبية ظلت حاضرة بصورة كبيرة في الخبرة اللبنانية، بحيث من الصعب تصور تداول كامل للسلطة قائم على أن هناك طرف يحكم منفردا وآخر يعارض، كما هو الحال في البلدان الديمقراطية التي تمتلك مؤسسات راسخة ومستقلة للدولة لا تتأثر بلون الحكومة السياسي.

وتبدو أن "حكومات الوحدة الوطنية" التي ربما لا تكون نتاج لعلاقة أغلبية أو أقلية انتخابية في كل من لبنان وفلسطين مؤشر على أن فكرة تداول السلطة بالمعني الذي يمكن أن تتواجد في خبرات أخري تتمتع بوجود مؤسسات قوية للدولة من الصعب التسليم بها بصورة كاملة في خبرات عربية أخري.

3 ـ من المؤكد أن جانب من مفردات السجال السياسي في كل من لبنان وفلسطين هو الاتهام بالارتباط بأجندات خارجية وأحيانا التخوين المتبادل، والسؤال الذي يطرح إلي أي حد، ووفق أي شروط يمكن أن يقبل التيار الإسلامي بشكل عام، وفي حالتي المقاومة في لبنان وفلسطين بوجود قوى يمينية تصل في اعتدالها إلي حد الإيمان بديمقراطية المشروع الأمريكي (في لبنان) والتسوية الأمريكية (في فلسطين)، هل يمكن اعتبار تيار14 آذار في لبنان وسلطة محمود عباس في فلسطين ومدرسة السادات في مصر هم تيار يميني موجود وجزء من نمط تفكير سياسي مؤثر داخل العالم العربي وله أنصار ومريدين (رؤية ليبرالية في الاقتصاد والسياسة، حل الصراع العربي الإسرائيلي بالحوار والتسوية السلمية)، وبات صوتهم أحيانا أكثر علوا من تنظيمات الممانعة العربية؟ أم أنه يجب أن يجري التعامل معهم باعتبارهم تيار غير وطني يجب محاربته؟.

وبصرف النظر ما إذا كانت الساحة اللبنانية أو الفلسطينية قادرة على "دمقرطة" هذا النمط من الصراعات أم ساحات أخري؟ فأن السؤال المطروح يأتي في إطار كيفية تعاطي الإسلاميين مع تيارات سياسية متناقضة في التوجه الداخلي وفي رؤيتهم للعالم الخارجي.

ثالثا ـ سياق غياب الممارسة السياسية والاجتماعية في ظل دور مركزي للدولة 
تبدو هنا الخبرتان التونسية والسورية معبرتان بصورة كبيرة عن هذا السياق، حيث يمكن القول أن المجال العام مغلق لأي نشاط سياسي يقوم به أي تيار سياسي وخاصة التيار الإسلامي، بل أن عقوبة الانتماء إلي جماعة الإخوان المسلمين في سوريا لازالت هي الإعدام.
في ظل هذا السياق خرج إعلان دمشق في سوريا الذي يمثل منعطفا تاريخيا في علاقة القوي العلمانية بالإسلامية، وفي تأسيس حوار أو تنسيق لم تعرفه الساحة السورية من قبل، كذلك ظهرت حركة 18 أكتوبر للحقوق والحريات في تونس وأعلن عنها في ديسمبر 2005، أي بعد حوالي شهرين من نظيرتها السورية. ولعل المسار الذي بدأه الإخوان المسلمون في سوريا حين أعلنوا في مايو 2001 ما أسموه "مشروع ميثاق شرف وطني للعمل السياسي" أعلنوا فيه تمسكهم بالحوار و"آليات العمل السياسي الديمقراطي ووسائله" و "نبذ العنف" والعمل على "حماية حقوق الإنسان والمواطن الفرد".
ويلاحظ هنا كما ذكر د.رضوان زياد تحولاً واضحاً في آليات التفكير السياسي بالنسبة للحركة الإسلامية السورية الأبرز التي كان لها دورٌ في أحداث العنف في الثمانينات من القرن الماضي في تاريخ سورية ،خاصة فيما يتعلق بقبولها بمبدأ الديمقراطية.

والسؤال الذي يطرح في هذا الإطار هل هناك مشكلات أو تحديات خاصة يثيرها نمط من التحالفات السياسة ليس لدية قدرة (أو لم ينجح في انتزاع تلك القدرة) على ممارسة عمل سياسي في الشارع وترجمه حواراته الجبهوية على أرض الواقع السياسي المعاش، بكل ما يمكن أن تؤديه هذه الممارسة في خلق خبرة أخري، قد تدفع الأطراف الموقعة على إعلان دمشق وحركة 18 أكتوبر، إلي مراجعة مواقفها من بعض القضايا أو إدخال قوى وإخراج أخري من دائرة هذه التحالفات.

صحيح أنه في كلا الحالتين، فأن المشاركة في هذه التحالفات يعد تطورا كبيرا في مسار هذه القوى السياسة، إلا إنه سيظل السؤال المطروح هل أن موقفها من قضايا الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان هو موقف نظري فقط لم يختبر على أرض الواقع؟ وهل هذا الموقف يعد أكثر أم أقل تقدما من تجارب بلدان أخري خاصة التي جاءت في السياق الأول، وتعرف هامش من الممارسة السياسية والاجتماعية؟.

المؤكد أن موقف حزب العدالة والتنمية في المغرب من القضايا الديمقراطية المطروحة يبدو أكثر تقدما وانفتاحا من باقي القوى الإسلامية في كل من سوريا وتونس، وهو ربما يعني أن وجود الحزب بشكل شرعي وقدرته على الممارسة السياسية والاجتماعية ساعدته إلي أن يصبح أكثر انفتاحا من نظراءه في هذا السياق، ومع ذلك يبدو أن خطاب الإخوان في مصر أقل انفتاحا وأكثر محافظة ولو بالمعني النسبي من الإخوان في سوريا، ومن حزب النهضة في تونس رغم تمتعها بمساحة من الحركة أتاحت لها وجود 88 نائبا في البرلمان المصري. والمفارقة أن خطاب الإخوان المسلمين في مصر (وبدرجة أكبر في الأردن) يتخذ مواقف أكثر تشددا من الغرب والولايات المتحدة من "إخوانهم" السوريين، وهنا هل يصبح سياق التبعية لأمريكا في مصر والأردن عاملا وراء هذا التشدد في حين أن سياق "الممانعة الكاذبة" لأمريكا في سوريا، دافعا وراء هذا الانفتاح النسبي على الغرب وأمريكا.

رابعاـ سياق ضعف الممارسة السياسية وحداثة الدولة وارتباطها بالإسلام 
هنا يصبح النموذج الخليجي في مجملة معبرا عن هذا السياق، وخاصة السعودي الذي ارتبطت نشأة الدولة الحديثة بالوهابية والفكر الوهابي، وإجمالا لم تعرف دول الخليج خبرة سياسية صنفت إنها مناهضة للإسلام، حتى لووجه لها النقد باعتبارها لا تطبق بصورة كاملة مبادئ الإسلام، أولا تناهض الغرب وأمريكا بصورة كافية، ودار الجدل في معظم هذه البلدان حول قضايا سياسية واجتماعية، وإن كانت القضايا الثقافية والاجتماعية أخذت مساحة اكبر من القضايا السياسية المباشرة (إلا في وقت الأزمات)، كقضايا حقوق المرأة، وحقها في الانتخاب كما جري في الكويت وغيرها. وهنا سيصبح مناقشة الموقف من كثير من القضايا الثقافية والاجتماعية مسألة محورية حين يتم فتح باب الحوار النقدي بين التجمعات السياسية والفكرية المختلفة في دول الخليج العربي إجمالا.

ويمكن أيضا إضافة سياق آخر يتعلق بوصول الإسلاميين إلي السلطة بغير الوسائل الديمقراطية، أو من خلال وسائل انقلابية كما جري في السودان مثلا، وهنا تبدو هذه الخبرة "درسا" مهما لكل القوى السياسية يجب عدم تكراره، ويثير سؤالا بحثيا وسياسيا ظل محل جدل بين النخب العربية. هل إخفاق الإسلاميين في الحكم وإدارة شئون الدولة يرجع لكونهم إسلاميين أم لأنهم وصلوا إلي الحكم بطرق انقلابية وغير ديمقراطية؟.

خاتمة: 
أولا ـ إجمالا يمكن القول أنه كلما زاد الانفتاح السياسي والهامش الديمقراطي في أي مجتمع عربي، ينفتح التيار الإسلامي على القوى الأخرى ويبدي اهتماما أكبر بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، دون أن يعني ذلك عدم وجود تفاوت في مواقف هذه التيارات تبعا للسياق الاجتماعي والسياسي الذي تتحرك بداخله.

ثانيا ـ من المهم التأكيد أن خبرة الدولة الوطنية الحديثة تفاعلت بدرجة أو بآخري مع المفاهيم العلمانية، وأن جانب من القوى العلمانية يشعر إنه جزء من خبرتها ولو في مرحلة من المراحل ( التيار الناصري في مصر مثلا)، على عكس التيار الإسلامي في معظم الأقطار العربية، فهم قادمون من خارج تراث الدولة الوطنية الحديثة من مصر إلي الجزائر، ومن سوريا إلي المغرب مرورا بتونس وغيرها.

والمؤكد أن التيار الإسلامي ظل خارج تراث هذه الدولة الحديثة outsider، بل كانوا نقيض لها في بعض الفترات، ترتاب فيهم أجهزة الدولة ولا تعرف عنهم إلا صورة نمطية سلبية صنعتها مبالغات الأجهزة الأمنية وأخطاء التيارات الإسلامية. وبالتالي فأن عملية " التطبيع " هذه بين النظم العربية والتيار الإسلامي لن تكون بالمسألة السهلة، لكن لا بديل عنها لنجاح مشروع "الدمج الآمن "، لأن تراث الإسلاميين وخاصة جماعة الإخوان المسلمين صنع خارج النظام والدولة والحركة الوطنية بل ومتصارعين معهم في كثير من الأحيان. إن تاريخ الحركة الوطنية المصرية في الثلاثينيات والأربعينيات كان الإخوان خارجه، وتاريخ عصر التحرر الوطني والقومي في الخمسينيات والستينيات كان الإخوان متصارعين معه، وحان الوقت لكي يصبح مشروع المستقبل هم جزء منه.

والمؤكد أن هذه مشكلة عميقة وممتدة في كل الساحة العربية، فحماس هي الأخرى خارج تراث حركة التحرر الوطني الفلسطيني متمثله بمنظمة التحرير ولا بد أن تجد صيغة للاندماج فيها بالمعني الفكري قبل السياسي، خاصة بعد المجازر الإسرائيلية التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، وبعيدا أيضا عن السجالات الدائرة بين فتح وحماس. ثالثاـ اتسم التيار الإسلامي في كثير من تجاربه بتبني خطاب سياسي شديد العمومية، ولذا فأن أهمية الحوار النقدي بين الإسلاميين والتيارات والقوى العلمانية المختلفة إنه سينقل المناقشات من العام الفضفاض إلى الجزئي المحدد، فحين يتحدث الإخوان المسلمين عن المشروع الحضاري الإسلامي، وشعار الإسلام هو الحل، يظلوا بعيدين عن طرح رؤى تعالج المشكلات التفصيلية من إدارة العلاقة مع أمريكا والغرب، والموقف من اتفاقات كامب دافيد، وهموم المسيحيين وهواجسهم، وقلق العلمانيين وتخوفهم وغيرها، كل هذا لا يمكن التعامل معه بخطاب العموميات، وبالإحالة إلي الإسلام هو الحل، وغيره من الشعارات.

رابعاـ هل عناصر التيار الإسلامي لديها حصانة خاصة لكونها "إسلامية" أم أن جانب كبير منها تحول إلي سياسيين محترفين (بالمعني الإيجابي للكلمة)، مثلهم مثل باقي القوي السياسية والحزبية الأخرى، وهل ستتغير تركيبة الجماعات الإسلامية التي لازالت تربط بين الدعوي والسياسي حين تتحول إلي حزب سياسي مدني يفتح أبوابه للمواطنين مسلمين ومسيحيين ملتزمون دينيا وغير ملتزمون؟

والمؤكد أن "الكادر الإخواني" لا زال ينشط في المجال العام ليس فقط من أجل الإصلاح السياسي والديمقراطي، إنما أيضا ابتغاء رضا الله، ولا يذهب للاقتراع في الانتخابات من أجل اختيار تياره السياسي إنما أيضا وربما أساسا من أجل عدم كتمان الشهادة، وأن تكون كل خطوة يخطوها من أجل دعم مرشح الإخوان هي خطوة تقربه إلي الله بحسنه، وهي كلها قيم قابلة للتحول في حال تحولت الجماعة إلي حزب مدني، وهو التحول الوارد، وإن لم تتوافق علية بعد النخبة المدنية في كثير من الأقطار العربية.

خامساـ من المؤكد أن النظم السياسية الديمقراطية تتسم بقدرتها على تحويل المفاهيم والرؤى الأيديولوجية الشاملة إلي رؤى جزئية تتسم بالنسبية والتحول، وهو أمر يختلف مع طبيعة الأيديولوجية التي تتبناها كثير من التيارات الإسلامية، وتستند على مفهوم العقيدة الإسلامية الشاملة والكلية، في الوقت الذي انتقل العالم منذ انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية، من عصر الأيديولوجيات الكبرى والشاملة إلي عصر الأيديولوجيات الجزئية والناعمة. فالعقائد السياسية الكبرى استندت على أفكار سعت إلي بناء الإنسان وتكوين الفرد الثوري أو الاشتراكي وهندسة المجتمع والأفراد داخل قوالب جامدة سابقة الصنع، انهارت جميعها وانهار معها هذا النمط من التفكير قبل أن تنهار خيارات هذه الأيديولوجيات نفسها.

ومن المؤكد أن جانب مهم من أدبيات الإخوان المسلمين الفكرية ينتمي إلي هذا النوع من الأيديولوجية الشاملة والكلية التي اعتبروا لفترات طويلة أنهم مختلفون عن الأيديولوجيات الأخرى لأنهم يستندون إلي الدين والعقيدة الإسلامية المقدسة، ولكن في الواقع السياسي يتحول هذا الاستناد إلي فكر وممارسات سياسية، وليس إلي نصوص مقدسة، لأن الإيمان "بالإسلام الشامل"، لا تصلح لبناء نظم سياسية حديثة وديمقراطية، إنما ربما إلي أفراد "طيبين". وهنا يصبح التساؤل إلي أي حد وعت التيارات الإسلامية بالعصر الجديد وأنهم يتحركون في عصر رسخ من قيم الديمقراطية ومبادئها، وهو الأمر الذي لم يكن مطروحا بنفس الدرجة في عصر التحرر الوطني والقومي في الستينيات، وصار أمامهم فرصة تاريخية أن ينفتحوا على ما يعرف "بالأيديولوجيات الناعمة" التي تعني بمرونة بتفاصيل الواقع المعاش وفق رؤية نسبية، وتفرض فهما واقعيا للبيئة الدولية ولتوازنات القوي العالمية، دون أن تتخلي عن حساسيتها الفكرية ومرجعيتها السياسية.

سادسا ـ يمكن إجمالا اعتبار التيارات الإسلامية عامة والإخوان المسلمين خاصة جماعة معارضة وليست جماعة حكم على امتداد الساحة العربية، بكل ما يمثله ذلك من تحديات ومعاني، فعنصر الإخوان الذي رباه الإمام حسن البنا أحيانا على الزهد، وعلى المبادئ والقيم الدينية من الوارد أن يبقي في ظلال هذه المبادئ، طالما بقي في المعارضة، تؤثر فيه وتساهم في صياغة جانب كبير من مواقفه وسلوكياته، ولكنها في كل الأحوال لن تؤثر كثيرا في حال إذا وصل الإخوان للسلطة بما تمثله من "غواية " وبريق وسطوة، بحيث لا يمكن أن يكون للعامل الديني أو الأخلاقي الدور الوحيد أو الأساسي في الحفاظ على نزاهة الحكام، إنما في وجود نظام ومؤسسات ديمقراطية قادرة على القيام برقابة قانونية ودستورية على عمل السلطة السياسية القائمة.

ويمكن القول أن القيم الداخلية التي تربي عليها إخوان التأسيس الأول للجماعة، ظلت فعاله ومؤثرة خارج السلطة، وأنها لن تكون كذلك بعد الوصول إلي السلطة، ولا يمكنها أن تصلح في إدارة الحكم وفهم طبيعة التحديات الدولية والإقليمية، على أساس أن الرادع الديني قادر على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية بالدعاء أو بالنوايا الطيبة.

من المؤكد إنه لا توجد أسباب هيكلية أو " جينية " تحول دون إيمان التيارات الإسلامية بالديمقراطية، وبالاندماج النقدي في المنظومة العالمية بل وتقديم مساهمة عربية ذات بعد إنساني قادرة على التأثير في العالم.

د. عمرو الشوبكي: خبير بمركز الدراسات السياسية بالأهرام; مدير برنامج الدراسات العربية الأوربية.