الفلسفة والعنف: أية علاقة؟
الثلاثاء, 05-مايو-2009
عبد الله أزيكي -
" في ليلة غاب عنا الدليل
وانطمس القلب في صدفة أو حجر
موتا، أمطرت السمــــاء
أم كتابة من سلالات بادت، وعادت
بكل الشهوة الجسدية!
أم عاصفة أفلتت من قبضة إله الحرب
لتعود بالتاريخ إلى مرحلة الهمجية"

نستخلص من متضمنات هذا المقتطف الشعري أن الشاعر العراقي، صور لنا صورة كاريكاتورية و رمزية لوضعية هيمنة العنــف في عــصـر الإقـــرار بــمــشروعية القانون والقيم الأخلاقية والإنسانية، في عصر طرح فيه الإنسان أعقد القضايا للنقاش الأكاديمي سواء حول ذاته أو حول الآخـــر و الغــير أو حول المجال؛ كما تم تحديد المعطيات الأساسية لمتضمنات المقتطف في مفهوم الإنسان وكرامته، وفي مــدى مــساهمة العنف في صـــياغة علاقتـــهما صـــــياغة مضــادة ومتناقضة، باعتبار العنف، في هذه الحالة، يمس الإنسان في بنيته ووضعيته وقيمه مسا يشوبه نكران القيم الأخلاقية، والاعتبارات الإنسانية، انطلاقا من هذا الاستنتاج حددت موضوع مداخلتي في العلاقة بين الفلسفة والعنف، على اعتبار أن الفلسفة نسق فكري يدافع عن هوية الإنسان وكرامـــته، وأن الــعنف ظاهرة إنسانية خاصة تهدد هويته وكرامته.

** تطرح هذه الورقة السؤالين التاليين: إلى أي حد يمكن اعتبار الفلسفة طريقة تفكير تقوم ضد العنف؟ وإلى أي حد يمكن الإقرار بأن الفلسفة عبارة عن نظرية للعنف؟ وانطلاقا من هذين السؤالين، نستنتج إمكانية جوابين متناقضتين حول وضعية الفلسفة، وحول مستوى علاقتها بالعنف، نقول حسب الفرضية الأولى، بأن الفلسفة ضد العنف، بينما نعتقد، حسب الفرضية الثانية، بأن الفلسفة مع العنف، ولكن حينما نقوم بقراءة لتاريخ الفلسفة، نلاحـظ بأن الفـــلسفة تقول كلـــمتها جهرا في حق التسامح والجدل البناء، وفي حق كرامة الإنسان، وفي حق عقلنة القيم، كما تكشف نواياها الحقيقة، في معارضتها للعنف خاصة، ولجميع الظواهر التي تمس الإنسان سواء في معرفته وقيمه أو في جسده وفي مجاله؛ كما نلاحظ بأن الشروط التاريخية هي المتحكمة في نشأة الفلسفة ومذاهبها وأغراضها، وعليه تمثل الفلسفة في ظهورها تنظيرا معرفيا لمستجدات الواقع، إما لأجل تعميق الوعي بها( المستجدات) وإما لأجل تعديل بنياتها ومعطياتها( الفلسفة كخطاب)، وخصوصا تلك البنيات والمعطيات السائدة في حقبة تاريخية معينة، انطلاقا من هذا يمكن اعتبار نشأة الفلسفة مرتبطة بالبعدين التاليين: تعميق الممارسة النقدية حول المعطيات النظرية السائدة وفق اعتبارات عقلانية ومنطقية؛ وتفعيل العلاقة الجدلية بين البنيات الأساسية للاجتماع البشري وفق اعتبارات إنسانية، وعلى هذا الأساس عرفت الفلسفة أثناء نشأتها ظواهر متميزة بتميز طبيعة وضعيتها في الواقع، اجتماعيا وثقافيا وسياسيا،ولكن كيف يتم تحديد علاقة الفلسفة بالعنف؟ هل حددت في إطار علاقة الانفصال، وبالتالي تتحدد الفلسفة كخطاب معارض للعنف ؟ أم هل حددت العلاقة في إطار علاقة الاتصال، وبالتالي تتحدد الفلسفة كمعطى مساند لإجرائية العنف؟

سأعالج السؤالين السابقين على ضوء مقاربتين، الأولى سياسية، والثانية ابستمولوجية:

** المقاربة السياسية
حسب هذا المقاربة، يمكن الإقرار بأن المواجهة بين المعطى الفلسفي وبين المعطى الواقعي الرسمي قد تمت على أساس مواجهة بين معطيين متناقضين، بحيث يصعب جمعهما على شكل وحـدة كــلية، مما يفسر تحديد مظاهرهما في إطار مزدوج العقل / اللاعقل؛ الصدق/ الكذب؛ الصواب / الخطأ؛ المقبول / المرفوض؛ المرغوب فيه / غير المرغوب فيه، إلخ، ويتولد عن هذه الصيغة التقابلية سلوك سهل يتزعمه العنف، والنفي، والاغتيال، والكراهية، وهو نفس السلوك الذي ذهب ضحيته الفلاسفة، من سقراط إلى حسين مروة؛ وهو نفس السلوك الذي قال عنه أرسطو كلمته المشهورة: " إنني لن أسمح لأثينا، أن ترتكب الجريمة مرتين في حق الفلسفة"، وهو نفس السلوك الذي كان سببا في إحراق أو إتلاف مؤلفات المبدعـين سـواء في مجـال الإبداع الفلسفي أو في مجال الإبداع العلمي.

والواقع أن هذا السلوك لم يوجه سهام المطاردة والاتهام للإنتاج الفلسفي فحسب، وإنما وجهه لظاهرة التفلسف قصد تجميد فعاليتها وتقزيم قيمتها أو تـهـمـيـش فـعاليتــــــها وأهميتها، ولكن، لماذا يسكن هذا السلوك في الحقل المعرفي والفكري ؟

إنطلاقاً من قراءة للأسباب الفاعلة في مبدأ العنف ودوافعه الأساسية نسجل ملاحظتين: الأولى هي كالتالي:
يمكن الإقرار بأن هذا السلوك العنيف يجسد لنا اجرائيا العقليات والأخلاقيات المهيمنة على الساحة السياسية ( حسب النظام الديكتاتوري) ثم على الحقل الثقافي، مع العلم أن الطابع الالتزامي بمبادئ ثابتة أخلاقيا ومعرفيا وإيديولوجيا وعقائديا، يشرط الإكراهات والــضغوطات التي تمارس عــــلى مكونات وفعاليات المجتمع، على أساس مبدأ أناني أو مصلحي أو عصبي.

والملاحظة الثانية: وهي أن هذا السلوك يتحكم إجرائيا في تحديد استراتيجية العلاقات ومجالها وفق أبعاد ترسمها المعطيات الجاهزة والثابتة في العرف أو القانون أو النظام السياسي السائد أو الرسمي؛ في حين يحمل الإبداع الفلسفي حسب تصور أصحاب هذا السلوك حقائق معارضة، وعلى ضوء هذه الاستراتيجية تسند للفلسفة صفات دنيئة كتخريب العقول؛ العصيان؛ الفساد؛ الإلحاد؛ الرجعــية؛ الطوبــاوية؛ السفاهة؛ الثرثرة، إلخ.

وعلى ضوء هذه الدعاية الإعلامية يتم تحديد وضعية الفلسفة في وضعية يشوبها الاحتراس والشك والحذر، كما يتم تحديد طبيعة العلاقة في إطار علاقة الانفصال، وبالتالي يتم الإقرار بمشروعية العنف في النضال، والمقاومة، والمواجهة، والمطاردة لأجل إقصاء الحقيقة على حساب حقيقة مضادة، وفي هذا الــصدد يقول نيتشه: "في حالة ما إذا وصل بنا الجنون إلى اعتبار جميع آرائنا صائبة، حتى في هذه الحالة لن نتمنى مع ذلك وجود تلك الآراء لوحدها، وأنا لا أعرف، لماذا ينبغي أن نرغب في القوة الشاملة، وطغيان الحقيقة باعتبارها ثابتة مجهز، يكفيني القول، بأن الحقيقة تملك قوة عظيمة، لكن يـجب تمكينها في المصارعة، وأن تكون أمامها معارضة، وبدون ذلك ستصبح الحقيقة مزعجة لنا، عديمة القوة، فستجعل بدورنا مزعجين"، وفي هذه الحالة يسمح في إطار مشروعية العنف باستعمال السوط أو الاغتيال أو السيف كما في قول الشاعر:

لا يـــــــغرنك ما نرى من رجـال إن تحت الضلوع داء دويا

فضع السيف، وارفع السوط حتى لا ترى فوق ظهرها أمويـا

إنطلاقاً من هذا، يمكن الإقرار بأن الظاهرة، في إطار العلاقات والمعاملات، تتحكم فيها اعتبارات ذات صبغة تقريرية، وذات صبغة استبدادية، وذات صبغة منفعية مادية، كما يلاحظ بأن هذه الظاهرة تعتبر من أهم العوامل المساهمة في نشأة الفلسفة، وأحسن دليل على هذا المعنى الإجمالي لكلمة الفلسفة أو الترجمة اللفظية لمعطيات المفهوم، باعتباره يتكون عضويا من " محبة الحكمة"، فهذا يدل على اعتبار الفلسفة مصطلحا مركبا من متغيرين " الحب " و" الحكمة "، وذلك راجع للإقرار بالعلاقة المنطقية القائمة بين المحبة كعبرة أخلاقية ، والحكمة كعبرة معرفية، ويدل هذا على مدى ميل الفلسفة إلى الرغبة والتسامح، لا إلى الكراهية والعدوان، كما يدل على مدى مساهمة الفلسفة عبر تاريخها الطويل في الدفاع عن مبدأ التسامح ومبدأ العقلنة، ومقاومة مبدأ الإكراه والقوة والعنف قصد ضمان وصيانة كرامة الإنسان في إطار "الواجب الأخلاقي "، وهذا يعني انه لا ينبغي للإنسان أن يبحث عن غايته بطريقة منحطة ( … ) ولا ينبغي عليه أن يتخلى عن كرامته، بل يجب عليه دائما أن يحافظ على الوعي بالخاصية السامية لتكوينه الأخلاقي ( … ) ان هذا الاحترام للذات إذن هو واجب على كل إنسان اتجاه نفسه"، وفي إطار هذا الاعتبار المعرفي، يتم تحطيم وثن اليقين المزيف حسب كارل بوبر لإسقاط " إحدى دعائم التضليل الذي يقف عائقا في طريق التقدم العلمي، لان الاحترام الذي نكنه لهذا الوثن لا يقمع أسئلتنا فحــسب، بل يؤدي بصرامة اختباراتنا وأماناتها أيضا ( … ) أما رجل العلم الحقيقي، فليس همه هو امتلاك معارف وحقائق لا جدال فيها، بل البحث عن الحقيقة بصفة مستمرة اعتمادا على النقد"، للإقرار بمشروعية البحث عن الحقيقة كمشروعية يخولها الحق في التفكير وفي البحث والحق في النقد، ولكن على أساس حجة برهانية عقلانية وليـس بالإكراه والعنف، أو على أساس القياس العقلي حسب فلاسفة الإسلام العقلانيين، وفي هذا الصدد قال أفلاطون في محاورة جورجياس باسم سقراط : " أما الفلسفة فتقول دائما … الشيء نفسه … بان نبرهن لها على أن ارتكاب الظلم والعيش به، دون عقاب وتكفير ليس بأفدح الشرور، فاذا لم تبرهن على ذلـــك فمــستحيل ".

فهذا يعكس مستوى المواجهة بين الفلسفة والعنف رغم مساندة الاعتبار السياسي لهذه المواجهة إجرائيا لأجل:
1 ـ ضمان السيادة لإيديولوجيا أو نمط فكري معين.
2 ـ الإقرار بفعالية سلطة القوة على حساب سلطة العقل.
3 ـ رفض التغيير في البنيات الأساسية في المجتمع.
4 ـ عدم الإقرار إجرائيا بدمقرطة الأسس البنائية للمعرفة والبرهان والنقد.
5 ـ عدم التصديق بمبدأ الاختلاف، وبالتالي عدم التصديق بمبدأ الحوار والجدل على أساس منطقهما، وأخيرا اختتم هذه المقاربة بملاحظة لأدونيس: " فاعتقاد الإنسان، أنه يملك الحقيقة هو مصدر كل قمع، فهذا الاعتقاد يعتقل العقل عقل الذات، وعــــقل الآخـــر، ذلـــك أن كل اعتـــقاد من هذا الـــنوع هو بالضرورة إرادة سياسية وممارسة القوة المرتبطة به، إنما هي الإرهاب والطغيان، بل ربما أصح قتل الآخر.

** المقاربة الابستمولوجية
يمكن، انطلاقا من تاريخ الإبداعات الفلسفية، تسجيل الملاحظات التالية:
أولاً- يقوم الـعمل الإبـداعي على أساس مشروع جديد، وهذا مايفسر إجرائيا تعدد المشاريع الفلسفية بتعدد الفلاسفة والمذاهب والمدارس؛ ثانيا، النقد ( نقد الخطابات الجاهزة والممارسات) هو أهم استراتيجية للعمل الفلسفي، ولكن وفق شروط أخلاقية ومنطقية ضابطة؛ ثالثا، تقوم مهام الفلسفة على تحديد المقاصد العامة في إثبات الحقيقة معرفيا، وفعالية المنطق استدلاليا، ومكانة الانسان أخلاقيا، فعلى ضوء هذه الاعتبارات يمكن تحديد طبيعة حركية التيارات الفلسفية في إطار علاقة ديالتكتيكية، ففي مجال الفلسفة اليونانية، مثلا، نجد نماذج لظاهرة الاختلاف والتعدد: المدرسة الايونية؛ المدرسة الفيثاغورسية؛ المدرسة الايلية؛ المدرسة السوفسطائية؛ المدرسة اللذية؛ المدرسة الرواقية؛ المدرسة التصورية المثالية.

وفي مجال الفكر الإسلامي نجد نماذج لذلك في التيارات الكلامية منــذ مرحــلة النـــــشأة، ونماذج من التيارات الفكرية العقلانية منذ الكندي إلى ابن رشد وابن باجة، ويمكن أن نجد نماذج كثيرة في الفكر الفلسفي الحديث وكذا المعاصر، وعلى أي يمكن الإقرار عبر هذه النماذج بان ظاهرة الاختلاف والتعدد في الفلسفة تعتبر من أهم الظواهر المساهمة في تحديد مميزات التفكير الفلسفي في الحــقــل الــمعرفي طــبيعة ووضعية وبعدا، ولكن كيف تم رسم معالم العلاقة الجدلية بين المشاريع الفلسفية ؟ وما هي الاعتبارات المنهجية المتحكمة في تفعيلها لتحقيق أهداف تخدم أغراض المشروع الفلسفي في مجاله الخاص وتخدم أغراض وأبعاد الفكر الفلسفي في مجاله الفكري، وتخدم الأغراض الإنسانية في مجالها الكوني؟ من هنا نتساءل عن طبيعة النوايا الأخلاقية الكامنة في المعطيات الفاعلة أو المساهمة في تفعيل العلاقة الجدلية بين مكونات الحقل الثقافي في مجاله الفلسفي ؟

حقا حينما نتكلم عن الفلسفة نتكلم عن بنية معرفية نسقية تتحكم فيها الاعتبارات الذاتية بجانب الاعتبارات الوضعية، وعلى هذا الأساس نتحدث في تاريخ الفلسفة عن فلسفات واتجاهات مذهبية؛ كما نتحدث عن فلسفات المجتمعات وفلسفات العصور التاريخية، ورغم هذا التصنيف التعددي للفلسفات، يمكن تحديد الخصلة الجوهرية والعامة للفلسفة باعتبارها نسقا فكريا متماسكا، ويمكن اعتبار هذه الخصلة جامعة بين الفلسفات، ومحددة لهوية الفلسفة؛ كما أنها تمثل المقياس الثابت لاكتساب أي مشروع فكري معين مصداقية حمل اللقب " الفلسفة" أو "الفلسفي "، ويدل، هذا، إجمالا على أن ظاهرة تعدد الفلسفات لم تؤد إلى تحقيق القطيعة المطلقة بين المذاهب، ما دامت كل فلسفة تحمل في طيّاتها خصلة جوهرية فلسفية، وما دامت كل فلسفة تمثل مشروع فعالية الروح الفلسفي، فكل هذا يدل على عدم رغبة الفلسفة في تحقيق القطيعة أو الانفصال بين مختلف الإبداعات الفكرية والفلسفية، رغم أنها تفضل بالضرورة صياغة العلاقة في إطار جدلي، وفق اعتبارات نقدية، مع العلم أن النقد في التفكير الفلسفي يعتبر الميكانيزم الأساس والمبدأ البنيوي، لأنه ساهم إجرائيا في نشأتها، وفي انتعاشها، وكذا في تطورها، مثلا يمكن اعتبار نشأة فلسفة سقراط من هذا الجانب وليدة القراءة النقدية السقراطية لفلسفة الطبيعيين وفلسفة السفسطائيين، وللمعطيات المعرفية والعقائدية في فترته التاريخية وما قبلها، هذا يدل إجمالا على أن أي مشروع فلسفي يتخذ من النقد المنطلق المبدئي للعمل الفلسفي، مع العلم أن النقد الفلسفي لم يؤد إلى تحقيق القطيعة المطلقة بين الاتجاهات الفلسفية المعارضة، وبالتالي ضمن الإقرار بالتكامل والتوافق بين الفلسفات من حيث البعد والمعطى الجوهري، وأقر بمشروعية الاختلاف من حيث العرض؛ لم يؤد إلى تحقيق القطيعة بين التيارات الفلسفية وفق الاعتبار التعسفي أو الوجداني الانفعالي لمراعاته الشروط المبدئية ذات الصبغة المنهجية والقيمية، ولم يؤد النقد إلى خنق مجال حرية الفكر أو التنظير أو الاعتقاد أو البحث، انطلاقا من اســــتراتيجية ثابتة ومعطى جاهز، وإنما يطمح إلى توسيع مجال الحرية ومجال الأفق المعرفي للإنسان، بل يطمح إلى ما هو أوسع وذلك لتحديد الآليات الضرورية لكي يتمكن الإنسان من اكتساب التحرر أكثر، ولكي تساهم الحرية في تحقيق التوازن بين مختلف المعطيات والاعتبارات الذاتية والوضعية، ولكي تكتشف الحقائق.

لم يؤد إلى تحديد الإطار المرجعي كإطار أحادى وفق اعتبار وحيد يراعي قداسة الاعتقاد، و إنما حدد حسب طبيعة البناء التكويني المفتوح للإنسان فكريا وعقديا وسياسيا، على هذا الأساس تخضع الفلسفة للتجدد والتطور عبر مسارين: مسار خاص بالمذهب ومسار خاص بتاريخ الفلسفة، ويأخذ النقد في المسارين أهمية إجرائية في تحديد وضعية الفلسفة، وفي تحديد الأهمية الوظيفية للفلسفة سواء في المجال المعرفي الفلسفي أو في المجال المعرفي الإنساني الكوني؛ كما يستند النقد الفلسفي على ربط علاقة النسق الفلسفي بنسق فلسفي آخر وفق شروط يتحكم فيها العقل والمنطق والأخلاق، لهذا لا يساهم النقد الفلسفي في إصدار أحكام ذات صبغة تقريرية ونهائية، وإنما يعتمد على معيار تقديري مفتوح من أجل ما يلي:
1-تجنب العنف ( المادي والمعنوي).
2-التحفيز على البحث والجدل إما لاستنباط حقيقة، أو للتحقق منها، أو لتحديد حقيقة مشروعة.
3- ضمان إجرائية وديمقراطية الحوار.
4- أنسنة وتنسيب مجال المعرفة والعلاقات الفكرية والحقل الثقافي، عموما.

كل هذه المعطيات تدل على أن الفكر الفلسفي يرفض، في مبادئه وفي مقاصده، العنف ويؤيد التسامح، بل يدافع على تكريسه في الواقع الإنساني ابتداء من العلاقات الفكرية، وانتهاء بالعلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

ولكن كيف يتم تفسير ظهور أسباب بعض الظواهر الشاذة في تاريخ الفلسفة، كالإقرار بمشروعية العنف والإقصاء في المواجهة الفكرية بين المذاهب الفلسفية، حيث يتم الدفاع عن العقل باللاعقل، والدفاع عن المنطق باللامنطق، وتسخير القوة لإثبات صلاحية المنهاج ومبادئه، وتحضر نماذج كثيرة عن هذه الحالات في مجال التفاعل الثقافي بين الأمم وبين المدارس؛ منها، مثلا، المواجهة اللاعقلانية التي تبناها بعض أنصار المعتزلة أثناء مجادلتهم المعارضين في مسألة خلق القرآن من أمثال احمد بن حنبل الذي تعرض للعنف المادي والمعنوي والنفسي( محنة)، لكونه تبنى أطروحة قدم القرآن.

ومنها أيضا، كنموذج ثاني، المحاكمة التعسفية التي تعرض لها بعض المبدعين لنظريات علمية جديدة أمثال كوبرنيك و جاليلي لا لشيء إلا لأنها تعارض الايديولوجية الرسمية للكنيسة حول مسألة مركزية الأرض في الكون.

ويمكن الاقرار بأن تاريخ الفلسفة والفكر، عموما، سجل انتشارا لمثل هذه الممارسات في مجال الصراع الفكري الفلسفي لصالح تيار على حساب تيار معارض، كما هو الشأن بالنسبة للطرح المدرسي المسيحي بعد سقوط الدولة العربية الإسلامية الأندلـسية؛ وبالنسبة للطرح الماركسي في فترة ستالين؛ وفي فترة الثورة الثقافية الماوية والطرح الشيعي بعد الثورة الخومينية في إيران؛ وكذا بالنسبة للطرح السني الأصولي في أفغانستان؛ والــطرح العلـــماني بعد ثورة مصطــفى أتاتورك، تقدم لنا هذه الحالات سياقات صراعية تاريخية واجتماعية يتم فيها إصدار فـــتاوى أو قرارات لإقصاء الاتجاه المعارض أو لإبادة أنصاره، وتقدم لنا هذه الوقائع حالات يتم فيها تحديد مصدر القرار في مـــصدر وحيد، أحادى المرجـــــع والبعد، كما يتم التركيز على القوة والقمع والإكراه في تنفيذ القرارات.

ولكن ما هو دور الفلسفة في هذا العمل التعسفي؟ هل تتحمل المسؤولية كاملة، وبالتالي يمكن القول إن الفلسفة تخدم العنف ؟ وهذا يعني وجود علاقة عضوية بين العنف من جهة أولى، وبين اختيارات ونوايا الفيلسوف، من جهة ثانية؟ أم يمكن الإقرار بـــأن الفلـــــسفة والفلاسفة أبرياء من مثل هذا الاتهام، لأن هذا السلوك لا صلة له بقصد الفيلسوف وإرادته، وبالتالي يمكن القول كانت الفلسفة ضد العنف وستبقى ضده؟ ولكن كيف نبرر هذا ؟ حـقا، تـــمارس الفلـسفة النقد لأجل إثبات ماهـــــيتها ووضــــعيتها؛ ولأجل عقـــلنة التــفكير ومبــادئه المنهجية والمنطقية؛ ولأجل عقلنة العلاقات الإنسانية؛ ولأجل تطوير الوعي الإنساني والرقي به من وعي ساذج إلى وعي عقلاني؛ ولأجل إثبات هوية الإنسان العاقل عبر تنشئته الفردية والاجتماعية؛ ولذلك فهي لم تمارس النقد لنفي أو للقضاء على مشروع فلسفي آخر، أو خاصية إنسانية جديدة، أو مكسب إنساني، بل مارست النقد لأجل إرساء مشروع فلسفي جديد لصالح المجتمع، كما أنها لم تمارس النقد عبر العنف والقوة، وإنما مارسته وفق قاعدة منهجية عقلانية، لأنها هي الطريقة التي، "يقود بها ( الانسان ) عقله لاكتشاف حقائق" حسب ديكارت، وهي التي تجعل معرفته معرفة استدلالية، وبها أيضا يتدرب الإنسان على تطبيق قواعد المنطق انـــطلاقا من حيـــاته الفكريــة وانتهاء بحياته اليومية، كما أن الفلسفة لم تمارس النقد كرد فعل مؤقت لتحقيق مكاسب مصلحية خاصة عوض مكاسب إنسانية عامة، وإنما مارسته لتوسيع مجال المكتسبات في المجال الإنساني والكوني، وبالتالي التزمت في نقدها مبدأ التسامح لأن به يتم التعايش بين الاتجاهات الفلسفية وبين الفلاسفة؛ وبه أيضا، يتم ضبط الحدود بين الحقوق والواجبات، بين المصالح الشخصية والمصالح العامة، وعن طريق النقد الفلسفي تم ضبط معالم العقد الاجتماعي حسب روسو وهوبر، وانطلاقا منه تم تحديد مبادئ وقواعد للتمييز بين مختلف أنواع الحرية، حسب سارتر، وانطلاقا من أهمية هذا المبدأ نفهم علاقة كارل ماركس مع المنهج الهيجلي، ونفهم قبل ذلك التعامل النقدي لأبي الوليد ابن رشد مع المبادئ المنهجية والقيمية الكلامية، ونجد نفس المبدأ تحكم في تعامل أبي حامد الغزالي مع المبادئ المنطقية الفلسفية( النزعة العقلانية )، كما تعامل الفارابي مع الطرح الانطولوجي الأفلاطونين، وكذلك تعامل الحبابي مع الطرح المسيحي الوجودي للفلسفة الإنسانية ومع الطرح الإسلامي لماهية الإنسان، ولا يأخذ النقد أبعادا منهجية فقط، بل يأخذ أبعادا منطقية وأخلاقية وحضارية.

ويعتبر النقد الفلسفي نقدا عقليا بامتياز، لأنه يتبنى المبدأ العقلي الذي بفضله يتم إبعاد جميع الاستراتيجيات المبنية على المصلحة سواء كانت شخصية أو فئوية أو قائمة على الأهواء والانفعالات، ويتم تعويض الخطابات المغالطة باستراتيجيات يتحكم العقل في مبادئها وأصولها وأبعادها حتى تكون قادرة على خدمة المعرفة والقيم الإنسانية كلية؛ وحتى تستنبط الحقيقة الجوهرية وقيمها؛ وحتى يتم تقنين قواعد المنهاج على أساس العقل والمنطق، فانطلاقا من هذين المبدأين يمكن الإقرار بأن النقد الفلسفي تتحكم فيه الشروط التقنية والأخلاقية والمعرفية عامة، وبالتالي تتجاوز من خلاله صياغة السلوك النقدي وفق اعتبارات انفعالية أو مصلحية أو مادية أو أنانية، وإنما تتم في مجال تداولي تنفتح فيه الفلسفة على الآخر والغير عبر تلقي نقدي لفلسفتهما ولخطاباتهما، لذا يمكن الإقرار بأن التهمة الموجهة للفلسفة وللفلاسفة، لم تكن إلا دعاية مغلوطة أو شعارا وهميا ومزيفا يخفي وراءه أهدافا محددة، يمكن التعرف على بعضها:
1- تشويه ماهية الفلسفة / التفلسف / الفلاسفة من طرف التصور العام أو الرأي العام. 
2 ـ تسخير الفلسفة ومبادئها من أجل:
أ) ضمان السيادة لاختيارات سياسية وإيديولوجية.
ب) ضمان وحدة التصور والاعتقاد واقعيا وبالفرض.
ج) ضمان تقديس المبادئ والاختيارات الرسمية المهيمنة.
د) ضمان المكتسبات السياسية وعدم مسها بالنقد.

لضمان هذه الضمانات اجرائيا تتم مواجهة كل تيار فكري وفلسفي حامل لنوايا أو لتصورات معارضة بشتى الوسائل بالسيف، وباستخدام معين للعقل، بالقوة، وبالإقناع أحيانا أخرى، وفي هذه الآليات يجد العنف مكانه كأداة وكفعالية وكميكانيزم.

** ولكن من هو المسؤول الأخير عن هذا السلوك؟
إن هذا السلوك الشاذ في طبيعته، وفي مبادئه، وفي أبعاده يتعارض مــع طبـــيعة الفلسفة ومبادئها وأبعادها، وبالتالي فإن تفعيله الحقيقي يتم داخل مجال الممارسة السياسية وليس داخل مجال الفكر الفلسفي، ويتم تفعيل آليات العنف من طرف الانتهازيين والمصلحين وغير الفلاسفة وليس من طرف الفلاسفة، والتاريخ لم يشهد، حسب معرفتنا، على أن فيلسوفا قتل فيلسوفا آخر لأنه يعارضه أو يختلف معه، ولكن نفس التاريخ يشهد على ذهاب فلاسفة ضحية العنف القائم على التعصب الإيديولوجي والعقدي لا لشيء إلا لأن فلسفتهم تحرج النوايا الرسمية، وتقر بدمقرطة تفسير المبادئ، وتنمية الوعي الإنساني؛ وهكذا حوكم سقراط ظلما؛ وأبعد ليون تروتسكي إلى المكسيك، وقتل بعد ذلك؛ واغتيل حسين المروة؛ وأحرقت مؤلفات.

إن الفلسفة ضد العنف لكونها تتبنى الحوار على أساس المنطق والبرهان والحجة والعقل والنزعة الإنسية، وفي هذا الصدد يقول ابن رشد في كتابه فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال: " فقد يجب علينا إن ألفينا لمن تقدمنا من الأمم الســـالفة نـــظرا في الموجودات واعتبارا لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وأثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافق للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان مــنها غير مـــوافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم ... " وبالفعل فقد قام ابن رشد بفصل الفلسفة عن العنف ما دامت الأولى تتبنى التسامح والعقل في النقد وإثبات الذات كما جعلها المرحوم الحبابي: " توتر تعبيري ينبثق من واقع الحياة، حياة الانسان، هذا الكائن الذي يعيش في التاريخ، ويجعل من أناه تاريخا، يكون الإنسان من نفسه تاريخ تحرره "، قصد تحقيق الكينونة المتوازنة، بين أهـمية الاعتبارات الذاتـية للانا والاعتبارات الغيرية للآخر والغير في إطار علاقة تفاعلية وتكاملية في آن واحد، وبالتالي فإن الفيلسوف حسب ميرلوبونتي هو ذلك الذي " لا يفكر حسب ما هو صادق فقط، ولا حسب ذاته فحسب، ولا حسب الغير وحـده، وذلك لان كل عنصر من هذه العناصر الثلاثة يحتاج بالضرورة إلى العنصرين الآخرين بالضرورة "، وبالتالي لا يراهن إلا عليها، لأنه في حياته الفكرية واليومية يراعي أهمية هذه العناصر أثناء صياغتها في بنية متناسقة من جهة، وفي بنيات متفاعلة، من جهة ثانية.

فانطلاقا من هذا التحليل نستخلص الدرس من الممارسة النقدية كما تتم بين الفلاسفة، يشهد تاريخ الفلسفة بأن جميع الفلاسفة المعاصرين لهيجل أو غير المعاصرين له قد حملوا لهيجل قيمة تقديرية محترمة سواء من طرف ماركس أو سارتر أو راسل، الخ، كما نجد أن هيجل نفسه سلك نفس المسلك الأخلاقي مع فلاسفة عصره وغيرهم كديكارت وكانط وهوبر وروسو، رغم صياغته لمفهوم المطلق ولمفهوم الصيرورة صياغة قابلة لخدمة الغرض النظري الخاص بنسقه.

إذن فالسمة الخاصة للفلسفة تحتم على الفيلسوف الدفاع عن الفضيلة والتسامح والتوازن والانفتاح والنقد البناء والعقلاني والمنطقي، وتجنب العنف والعصبية والسذاجة وردود الفعل التلقائية وغير المفكر فيها.
من خلال تمثل هــذه السـمة في سلوك الفيلسوف إجرائيا، يــتم تجــاوز المشهد الذي صوره ذ. حميش بنـــسالم في كتــابــه: الجرح والحكمة: "في منفاي رفعت حارسي على كتفي ليرى، وليبلغني أخبار المدينة، قال: أرى رجلا صار دمه هدرا، وعرضه مباحا، وملكه منتزعا، لأنه أبى أن يغتال عليا، وأرى رجلا آخر مدججا بالسلاح، قد خندق على نفسه في صومعة، محتجزا الحاجب والجلاد ... وأرى الأهالي يمارسون العصيان المدني وشتى المقاطعات ".

إن هذه الأوصاف هي التي تساعدنا على فهم اللوحة المشهورة لريفائيل مدرسة أثينا، لأنها لوحة تعبر عن وضعية الفلاسفة والفلسفات في تاريخ الفلسفة، وعن الواقع الإنساني المبني على الاختلاف والتفاعل والتكامل، وعن فعالية الاعتبارين الشخصي والكوني، وعن وضعية يتحكم فيها القانون والعقل والمنطق، وعن وضعية تتحكم فيها الذات والغير والمحيط .

ولهذا يتم تحديد وضعية الفلسفة والفلاسفة حسب سليم رضوان: " على شكل مملكة الأقلية، أقلية فوق الزمان والمكان، ومن تم فالفكر الفلسفي، لا يمكن أن يكون إلا إنسانيا، فالذي لا يؤمن بشــمولية مبادئ الإنسانية، وحقوق الإنسان المطلقة ( ... ) محاولا إياه ممارسة الأحكام كحكم عمليات الإقصاء والنبذ والتعذيب والاعتقال ويصدر الأحكام المسبقة والتفسيرات المتعالية والتأويلات الجاهزة (...) لا يمكن أن يكون مواطنا في مملكة الأقلية.

نعــم، تتميز هذه المملكة بديمقراطية الثـقافة والفكر والمعرفة، وبقداسة الإنسان وكرامته، وبتقدير مبادئ الأخلاق والقانون العادل. وهذا ما يدل، أخيرا، بأن هناك تعارض بين الفلسفة كوعي وكسلوك وكمبدأ وكضمير وكمعطى بنيوي فكري، من جهة أولى، وبين العنف باعتباره مظهرا من مظاهر أخلاقية وإيديولوجية معينة، وبالتالي، وعلى ضوء هذه الاستنتاجات يمكن الإقرار بأن العنف لم ولن يشكل معلمة للفلسفة، كما يمكن الإقرار أيضا بأن العنف لم ولن يؤدي إلى موت الفلسفة، لأن موت هذه الأخيرة مرهون بموت الإنسان ككينونة وكفكر، لا كجسد، كما يمكن الإقرار، أخيرا، بأن إشكالية العلاقة بين الفلسفة والعنف لها أبعادا أخلاقية وإيديولوجية أكثر مما لها أبعاد معرفية مما يدل على أن موضوع العنف يرتبط بالإنسان في ماهيته، في قيمته، في بعده السياسي والاجتماعي والنفسي والتاريخي والفلسفي والطبيعي والثقافي، وبالتالي فوضعية الفلــسفة قد حــددت حســب الفرضيــة الأولى، وليست الثانية، إن الفلسفة ضد العنف، وليست مع العنف.