الانفتاح الأميركي على إيران: موجبات التحوّل وعوائقه
الثلاثاء, 31-مارس-2009
سقاف عمر السقاف - خلال الأعوام القليلة الماضية شهدت العلاقات الأميركية- الإيرانية الكثير من المد والجزر، وكلما ارتفعت نبرة الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية حول الضربة العسكرية الأميركية المحتملة ضد إيران، سرعان ما نفاجئ بتطورات جديدة في الاتجاه المعاكس، وإذا بالحديث عن الضربة يتحول بقدرة قادر إلى البحث في معالم "الصفقة" القادمة بين الطرفين وهكذا.
أما اليوم، وتحديداً بعد الرسالة التاريخية التي وجهها الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما إلى الشعب والنظام الإيرانيين في عيد النيروز، فإن الوضع بات مختلفاً؛ والتغير في السياسة الأميركية تجاه طهران وعلى النحو الذي جاء في الرسالة يبدو غير مسبوق، وربما يؤسس لمرحلة جديدة في العلاقات تقوم على الاحترام المتبادل وتغليب لغة الحوار والدبلوماسية على ما سواهما لمعالجة كافة القضايا العالقة بين البلدين، وذلك كما جاء في مضمون رسالة أوباما الأخيرة، وبالتالي تجاوز مرحلة التهديد والوعيد والمناورات التكتيكية التي سادت طوال فترة حكم الرئيس السابق جورج بوش.
فيا ترى ما هي دوافع الانفتاح الأميركي على طهران في هذا الوقت بالذات، وهل هناك إمكانية لتحقيق هذا التقارب على الأرض، وأين العرب من كل هذا؟

أولاً: موجبات التحول
لاشك أن أي تبدل في السياسة الخارجية لدولة ما تجاه الأخرى يأتي بناءً لجملة من المتغيرات أو لنقُل لجملة من العوامل التي تقدرها هذه الدولة وفقاً لتصورها الخاص لأمنها القومي، وبما يتواءم مع المصلحة الوطنية العليا لها سواء كان هذا التبدل سلبي أم إيجابي، انفتاح أم انغلاق، سلم أو حرب.
والواقع أن الانفتاح الأميركي تجاه طهران في هذا الوقت تحديداً فرضته - كما نعتقد - موجبات عدة أهمها:
1- فشل سياسة القوة: من الواضح أن الإدارة الأميركية الديمقراطية الحالية والتي كانت تتابع عن كثب فشل معظم توجهات الإدارة الجمهورية السابقة في إدارة السياسة الخارجية، وصلت إلى قناعة تامة بعدم جدوى استخدام لغة القوة والتهديد والوعيد تجاه إيران وذلك لإملاء بعض المواقف أو السياسات عليها، بل على العكس ساهمت لغة القوة في زيادة تشدد الموقف الإيراني إزاء العديد من القضايا محل الخلاف بين الطرفين وفي مقدمتها قضية الملف النووي الإيراني، وهذا ما دفع الإدارة الحالية إلى تبديل السياسة المتبعة سابقاً وانتهاج سياسة الحوار والدبلوماسية كخيارين أساسيين يمكن من خلالهما تحقيق ما عجزت عنه سياسة القوة في الماضي.
2- الأزمة الاقتصادية: فرضت الأزمة المالية الخانقة التي حلّت بأميركا والعالم على الإدارة الحالية أجندة اقتصادية داخلية معقدة ومتشابكة إلى حدٍ يتطلب الكثير من التركيز وتوجيه الجهود لها بعيداً عن الضغوط الخارجية القادمة من بؤر التوتر والصراع خصوصاً في الشرق الأوسط، فالتهديد الناجم عن الأزمة الاقتصادية لا يقل عن التهديدات السياسية والعسكرية التي تواجهها أميركا في مواقع مختلفة من هذا العالم، وبسبب هذه الأزمة المتفحلة سيرتفع الدين الأميركي العام بحسب خبراء مع نهاية 2009 إلى 11 ترليون دولار، وهذه الديون الخارجية تشبه الكتل الثلجية وسوف تزداد بشكل دراماتيكي مع الوقت، وهذا يعني بكل بساطة أن الانهيار الاقتصادي بات يهدد أميركا بقوة بعد أن طالها الضعف السياسي والعسكري جراء الحروب الكبيرة التي خاضتها في كل من أفغانستان والعراق، وهذا لا شك يتطلب تهدئة الجبهات المتوترة خارجياً والتفرّغ للجبهة الاقتصادية الداخلية.
3- أفغانستان: قبل يومين فقط أكد الرئيس الأميركي باراك أوباما أن الأولوية في السياسة الخارجية الأميركية ستكون أفغانستان. وأضاف أوباما أنه من الضروري أن تكون لدى واشنطن "إستراتيجية واضحة للخروج" من أفغانستان، ويجب إعطاء انطباع بأن ما يحصل هناك ليس تورطاً دائماً.
والحقيقة أن كلام أوباما يعكس مدى التورط الأميركي في أفغانستان، ويوماً بعد يوم يتكشف للأميركان حجم المأزق الذي وضعهم فيه الرئيس السابق بوش ومعه مجموعة المحافظين الجدد. فالقوات الأميركية هناك بالإضافة إلى قوات حلف الناتو لم تحقق النصر الموعود على حركة طالبان، والحرب المستمرة هناك منذ أكثر من سبع سنوات لا تُبشّر بنهاية سعيدة لهذه القوات. فحركة طالبان تحرز تقدماً مضطرداً، وقد استطاعت في الفترة الأخيرة إلحاق ضرر بالغ بالقوات الحكومية والدولية، كما تمكنت من السيطرة وبسط النفوذ على الكثير من المدن والمناطق الأفغانية، بينما حكومة الرئيس حامد كرزاي لا تفرض سيطرتها إلا على جزء من كابل وبحماية من القوات الأميركية والدولية. ومن هنا تأتي الحاجة الملحة للدور الإيراني من أجل مساعدة القوات الاميركية في أفغانستان، وذلك على غرار ما حصل مؤخراً في العراق، وتعوّل أميركا في هذا الشأن على الموقف السياسي والإيديولوجي لطهران الرافض لعودة طالبان إلى الحكم في أفغانستان مهما كان الثمن. ومن المعروف أن تعاوناً من هذا القبيل قد حصل بين الطرفين للإطاحة بحكومة طالبان في العام 2001، كما أن للطرفين مصالح مشتركة في أفغانستان يسعيان للحفاظ عليها.
إذاً يبدو أن التقارب مع إيران بات ضرورياً وملحاً، ليس من قبل الأميركان وحدهم، بل أيضاً من الأوربيين. وفي هذا الصدد قال الأمين لحلف الناتو ياب دي هوشيفر "إن الفشل في أفغانستان سيلحق ضرراً بالغاً بمصداقية الحلف ومن ثم الفشل.. وان أردنا تصحيح الأوضاع هناك فإننا نحتاج إلى روسيا كما نحتاج إلى إيران، باعتبارهما دول مجاورة لأفغانستان ويقوما بدور كبير في المنطقة". وهذا الكلام يتطابق بشكل كبير مع ما قاله أوباما أكثر من مرة حول ضرورة التعامل مع المشكلة الأفغانية في إطارها الإقليمي، لذا كان من المتوقع أن توجّه الدعوة لإيران من قبل الأميركان وحلفاءهم الأوروبيين للمشاركة في المؤتمر الدولي حول أفغانستان الذي يعقد في لاهاي.
4- العراق: باستثناء التحسّن النسبي في الأوضاع الأمنية في العراق مؤخراً، فإن مجمل الوضع العراقي لا يختلف كثيراً عن نظيره الأفغاني. فالأميركيون مازالوا متورطين هناك، ولكن المشكلة الحقيقية المطروحة الآن هي ماذا بعد الانسحاب المرحلي من العراق والذي يريدونه مشرفاً، وهذا لن يتأتى إلا بتنسيق مع الطرف الإيراني، وذلك لمنع المقاومة المسلحة الإسلامية والوطنية في العراق من استثمار هذا الانسحاب وتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية على الأرض تقلب ما يسمى بالمشروع التحريري على طاولة الاحتلال وشركائه المحليين والإقليميين. ومواجهة هذا السيناريو - كما يقول الكاتب مهنا عبدالعزيز الحبيل - "تتطلب توافقاً يبقى في موقعه الاستراتيجي من حيث خطة الاحتواء بين الطرفين ودعم حكومة المالكي لتثبيت المشروع السياسي وبرنامج الاتفاقية الأمنية، وهو ما دعمته بالفعل طهران بعد سلسلة من التصريحات المعاكسة التي لم تغير من واقع المواقف شيئاً، وهو أن الرهان على حكومة المالكي مزدوج حتى الآن بين القطبين للتمدد أو الاحتواء المستقبلي، وفي كل الأحوال لاتخاذه منصّة مواجهة وعرقلة للمشروع السياسي للمقاومة العراقية".

ثانياً: معوقات التحول
بالرغم من أن رسالة أوباما الأخيرة لطهران تعد بنظر الكثيرين فرصة حقيقية لكلا البلدين من أجل بناء نمط جديد من العلاقات والتفاعلات إلا أن طهران حتى الآن ما تزال تتعامل بحذر مع الموقف الأمريكي الأخير، وتربط التعاطي الايجابي مع رسالة أوباما بمزيد من الخطوات الفعلية على الأرض لتعزيز الثقة، والواقع أن التركة الثقيلة من الخلافات بين البلدين والتي كادت أن تصل في بعض المراحل إلى حد الصدام العسكري المباشر تقف حائلاً أمام تغير سريع ودرماتيكي في العلاقات بين البلدين،.كما لا ننسى أن هناك أطرافاً متشددة سواء في الإدارة الاميركية أو في الداخل الإيراني لا يروق لهم هذا التحول الاستراتيجي في العلاقات، وكل طرف ينظر إلى الآخر كعدو حقيقي يجب القضاء عليه أو احتواءه على أقل تقدير. وفي هذا الإطار، يقول بعض المتشددين الإيرانيين أن بلادهم تعرضت للخداع سابقاً من قبل الاميركيين، وذلك بعد تعاونت معهم في إنجاح المؤتمر الدولي الأول حول أفغانستان الذي عقد في بون عام 2001، ولكن بعد شهر واحد من هذا المؤتمر أُدرِجت إيران ضمن قائمة دول "محور الشر". وفي المقابل، يرى بعض المتشددين في واشنطن أن الحوار لا يجدي مع النظام الإيراني، وأن ما تقوم به إيران من دعم لحركات المقاومة الإسلامية أو الإرهابية بحسب زعمهم في كل من فلسطين ولبنان، بالإضافة إلى التصريحات العدائية المتوالية ضد إسرائيل يدلل على أن هذا البلد لا ينوي تغيير سياسته في المدى المنظور وهو أصلا غير راغب في ذلك. والحال أن تجاوز هذه المعوقات يحتاج إلى مزيداً من الوقت وإلى تقديم تنازلات حقيقية من الطرفين لإزالة الشك وعدم الثقة المتبادلة، ومن ثم الانطلاق في حوار ايجابي يؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين.

ثالثاً: الموقف العربي
الغائب الوحيد في كل ما يجري في المنطقة هو العرب، فكل طرف أكان الأميركي أم الإيراني يبحث عن تحقيق مصالحه ولا يتردد كثيراً في محاورة الطرف الآخر للوصول إلى تلك المصالح وضمانها، ولكن أين مصالح العرب؟ وما هو مشروعهم الخاص الذي من المفترض أن ينطلق من بوابة مواجهة التحديات الداخلية والخارجية وبالتالي يخرجهم من التجاذبات الإقليمية والدولية ليكونوا، بما يمتلكون من مقدرات طبيعية واقتصادية كبرى، قطباً قوياً ومؤثراً ليس في الشؤون الإقليمية وحسب وإنما في الشؤون الدولية، ولكن للأسف أن الحاصل هو أن العرب منهمكون في خلافاتهم البينية ولديهم مشاريع داخلية ضيقة تدور في فلك المشروعين الاميركي والإيراني، ومن هنا كان لابد للضعف أن يستشري في جسد الأمة العربية وينالها الهوان بعد أن فقدت البوصلة وارتضت أن تكون مفعولاً بها لا فاعلا ًوصانعاً للقرارات التي تحدد مصيرها ومصير المنطقة برمتها.
كما أن العرب فشلوا في خلق أجواء من الثقة والتعاون مع إيران وإيجاد القواسم المشتركة معها بل إنهم في أحيان كثيرة حاولوا استعدائها استجابة للضغوط من الإدارات الاميركية المتعاقبة التي لم تُراعِ يوماً المصالح العربية وظلت دوما تدعم الكيان الإسرائيلي على حساب العرب وقضاياهم المركزية. والواقع أنه في حال استمر الوضع العربي على ما هو عليه، فعلينا توقّع الأسوأ والاكتفاء بما ستسفر عنه جولة المباحثات الجديدة بين أميركا وإيران، ومن ثمّ تنفيذ الشقّ المتعلق بنا في هذا الاتفاق، وفي حال لم يتفق الطرفان وآلت الأمور إلى المواجهة العسكرية، فعلى العرب أيضاً أن يدفعوا ثمن هذه المواجهة وأن يستعدوا ليكونوا ميدانها ووقودها الدائمين.